من "التغريبة" إلى "الندم".. المثقف مرآة لهواجس الكتّاب

في القضايا المركزية، تلجأ الأعمال التلفزيونية لشخصيات الكاتب والمثقف والأكاديمي لتقول مقولتها السياسية بوضوح لتفسير الحدث الفني.

Share
من "التغريبة" إلى "الندم".. المثقف مرآة لهواجس الكتّاب
يستخدم مؤلفو المسلسلات شخصية الكاتب في طرح الأسئلة | تصميم خاص بالفراتس

"إلى أينَ وصلنا يا الله؟ وماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كلّه؟".

يلقي الروائي عُروة هذا السؤال وسط صورةٍ باهتةٍ وألوانٍ رماديةٍ ووجوهٍ مُتعبة، ليفتتح أول مشاهد مسلسل "الندم" المعروض سنة 2016. تضع العبارة، الملقاة على لسان الكاتب، المتفرّجَ في موقع المتورط منذ الثانية الأولى للتلقي. فالسؤال كأنه موجَّهٌ إليه مباشرةً، ويمكن فهمه على أنّه صوت كاتب المسلسل نفسه حسن سامي يوسف، وإن جاءَ على لسان شخصية الكاتب عروة.

تحضر في الأعمال الفنية السورية طائفة من الشخصيات التي طالما اعتمد عليها الكتاب في توصيل رسائل معينة، خصوصاً إذا كان العمل عن قضايا سياسيةَ الطابع تتصل بالداخل السوري أو بقضايا في المنطقة العربية مثل القضية الفلسطينية.

من بين تلك الشخصيات شخصية المثقف. إذ وظفت الأعمال الفنية السورية شخصياتِ المثقف والكاتب والشاعر والأكاديمي، بغرض تقديم رسائل سياسية وثقافية حيال بعض القضايا عبر الحوار. فمثل هذه الشخصيات لديها المبررات الكافية لتقديم مقولاتٍ جامعةٍ تمثل رسالة المسلسل نفسه. وبهذه الشخصيات يضع الكتّابُ أنفسَهم في مركز العمل الفني، فشخصية المثقف في العمل التلفزيوني هي إحدى تمثلات مؤلف العمل ذاته، والناطقة بلسانه من خلال الأحداث. 

تتجلى تنوعات استخدام شخصية المثقف في الأعمال السورية لأداء دور حامل الرسالة في مسلسلات عدة، من بينها "التغريبة الفلسطينية" الذي عرض سنة 2004، و"قلم حمرة" إنتاج سنة 2014، و"غداً نلتقي" إنتاج سنة 2015، و"الندم" من إنتاج سنة 2016. مثلت شخصيات الكتّاب والمثقفين في هذه المسلسلات لسان حال صانع العمل ورؤيته بشأن القضايا السورية والعلاقة بالنظام والمعارضة والثورة والحرب.


تُبنى الأعمال الفنية على الفعل وخلق الأحداث. وتخلق هذه الأحداث من مواقف تشتمل على حوارٍ منطوقٍ أو غير منطوق، تستبطن به الشخصيات رسائل العمل الفني. ونادراً ما تُقال تلك الرسائل مباشرةً في الأعمال الجيّدة. يُستثنى من ذلك الأعمال التعليمية أو الوعظية، وهي نوعٌ يقصد صنّاعه توجيهَ المتلقي مباشرةً لتبنّي توجهاتٍ سياسيةٍ أو اجتماعية أو غيرها.

يوضّح المخرج الروسي كونستانتين ستانيسلافسكي في كتابه "إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية" الذي صدر بالعربية سنة 1997 أنّ المعنى يتولد مما يحدث في العمل الفني. بمعنى أنّ المتفرّج عندما يشاهد مسرحيةً لا يسمع رسالتها المباشرة، وإنّما يتمثّلها في نفسه ووعيه مما يحدث أمامه. ويتفق معه كاتب النص الأمريكي دوايت سوين الذي يقدّم في كتابه "كتابة السيناريو للسينما"، المترجم للعربية سنة 2010، إرشاداتٍ وتوجيهاتٍ يحتاجها القارئ لكتابة فيلمه الخاص. يقول سوين إن على الكاتب ألا يدع أياً من شخصيات العمل تنطق بالرسالة. ويزيد: "لا تدع أياً من شخصياتك تعرف تلك الرسالة". ويؤكد ستانيسلافسكي في منهجه على أهمية الصدق الفنّي القائم على تصديق المتفرّج أنّ ما يحدث أمامه يحدث فعلاً، الآن وهنا وفي الظرف المُعطى من الكاتب. لا يتحقق الصدق ببناء حدثٍ قابلٍ للتصديق وحسب، وإنّما من العلاقة الحيّة والحقيقيّة بين الحدث والشخصيات المتفاعلة معه. وهذا يستوجب بناء شخصيةٍ صادقةٍ تؤثر وتتأثر بالحدث أكثر مما تفسّره أو تخرج بمقولاتٍ جاهزة عنه.

يحافظ المسرحيون على فكرة عدم البوح بالرسالة، حتّى أولئك الذين يسعون للتغيير الاجتماعي عبر الفن. نذكر منهم المسرحيّ البرازيليّ أوغستو بوال الذي يؤكّد على الدور الاجتماعي والسياسي للمسرح، ومع ذلك يؤكد في معظم كتبه ولقاءاته أنّ مسرحه ليس تعليمياً بالمعنى المباشر. بمعنى أنّه لا يجعل شخصياته تنطق بتعاليمه، وإنّما هو تربويّ يقوم على الحوار الجدلي.

في سوريا ارتكزت الأعمال التلفزيونية على المسرح ونظرياته كما تدرَّس في المعهد العالي للفنون المسرحية. وتنوّعت النظريات والتوجهات المستخدَمة في الأعمال التلفزيونية، وإن اعتمدت معظم المسلسلات على توجهات ستانيسلافسكي. فنجد الأعمال السورية واقعيةً وأحداثها قابلة للتصديق، والشخصيات تبدو صادقة وحقيقية وعفوية. لكنها تلجأ أحياناً لمناهج ونظرياتٍ مسرحيةٍ أخرى، لعلّ أبرزها توجّه يُنسب للمسرحيّ برتولد بريخت. يعمد هذا المنهج إلى المباشرة الساخرة وما يُسمّى بكسر الحائط الرابع أو كسر الإيهام، عبر التوجّه المباشر للجمهور وتوريطه في أحداث المسرحية. اتجهت كثير من الأعمال الساخرة السورية لهذا المنهج كما في مسلسلات المخرج السوري هشام شربتجي ومنها مسلسل "بطل من هذا الزمان" المعروض سنة 1999، ومسلسلات "عيلة خمس نجوم" و "عيلة ست نجوم" و "عيلة سبع نجوم" المعروضة في تسعينيات القرن العشرين.

في المسلسلات المتأثرة ببريخت نجد خطاباً مباشراً من الممثلين مع الجمهور بالحديث إلى عدسة المصور أو المخرج مباشرة، أو إلقاء عبارات تُعلن أنّ ما يحدث مجرّد تمثيل، مثل قول ممثل ما: "الممثلة مرضانة" أو "نزّل الشارة يا مخرج". هذه الطريقة تستند إلى طريقة المسرحيّ السوريّ سعد الله ونوس، الذي تأثّر بمنهج بريخت وكشفَ اللعبة المسرحية بعباراتٍ شبيهة، منها: "نحن نلعب" و"المسرحية لعبة"  و"أنا سأمثل دور السيّاف".

تخالف هذه الأعمال النصيحةَ الأكثر تكراراً في الكتب والمناهج التعليمية للتمثيل، وهي عدم تحميل مقولات الكاتب على ألسنة الشخصية الفنية. لكن بعض الكتاب ينطلقون من رؤيتهم، التي تتلخص في أن التعرّض للقضايا المركزية يحتاج من العمل الفني أن يكون أوضح وأكثر صرامةً بشأن مقولته السياسية. وهنا يلجأ صنّاع الفن إلى عدة تقنيات، أبرزها توظيف شخصيةٍ لديها مبرِّرٌ دراميٌ يخوّلها إلقاء عباراتٍ واضحةٍ في توجّهها السياسي أو القيمي. وتأتي شخصيات المثقف أو الأكاديمي أو الكاتب على رأس تلك الشخصيات التي يظن الكتاب أنها تملك مبرراً فنياً بهدف التوعية أو التوجيه المباشر، وأن المتفرِّج لن يشعر بالغرابة فيما لو سمعَ منها عباراتٍ طويلةً تقدّم خلاصاتٍ فكريةً لما حدث. ونجد ذلك في حضور شخصية الكاتب والشاعر والمثقف في مسلسلات "التغريبة الفلسطينية" و"قلم حمرة" و"غداً نلتقي" و"الندم".


احتلت القضية الفلسطينية موقعاً مهماً في الخطاب السوري، قبل الثورة السورية وأثناءها، والتي صارت صراعاً  عسكرياً انتهى إلى إسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024. أنتجت سوريا عبر أجهزة إنتاجها الرسمية أعمالاً عدة تناولت موضوع فلسطين وتاريخها. من أشهر تلك الأعمال مسلسل التغريبة الفلسطينية للمؤلف وليد سيف والمخرج الراحل حاتم علي، وقد عرض سنة 2004 ووردت به شخصيتان لكاتبٍ وشاعرٍ حملا رسائل مؤلف العمل وألقياها مباشرةً على مسامع الجمهور.

أُنتج مسلسل التغريبة الفلسطينية بعد أربع سنوات من إنتاج النص نفسه في عملٍ دراميٍّ آخر، حمل اسم "الدرب الطويل" وعُرض سنة 2000 في فورة الانتفاضة الثانية التي اشتهرت باسم "انتفاضة الأقصى". وفي نسختَيه، حقق النص نجاحاً كبيراً، وإن تجاوز النجاح الذي حققه الإنتاج السوري "التغريبة" ما حققه نظيره الأقدم من إخراج صلاح أبو هنود.
في الإصدار السوري كان صوت شخصية "علي" ظاهراً في الخلفية، وهو الابن الأصغر للعائلة والسارد الرئيس للمسلسل. ولمباشرته الواضحة، يسهل تصوّر أن صوتَ علي يرد في الأحداث تعليقاً صوتياً وحسب. لا يحضر هذا الصوت إلّا في الخلفية، ويغيب عن الإنتاج الأول "الدرب الطويل". برّر مسلسل التغريبة الفلسطينية السوري الصّوتَ منذ البداية، في عبارة "فمن يحمل عبء الذاكرة، ومن يكتب سيرة من لا سِيَر لهم في بطون الكتب". ومع استمرار المسلسل، يتّضح أنّ علياً أخذ على عاتقه أن يروي سيرة فلسطين من سيرة عائلته.

تأخذ عبارات علي في المسلسل شكلَين. الأول سرد الحدث، والثاني التعليق عليه. وفي الحالين، يستدرج المُشاهِد نحو وجهةٍ محددةٍ للتلقي. فمع بداية المسلسل، نسمع صوته على خلفية مشاهد من الريف يقول إنّ "القرية لم تكن في يومٍ من الأيام كما يحلو لنا أن نتخيّلها الآن". لم تكن هذه العبارة تفكيكاً للنظرة الرومانسية للريف الفلسطيني وحسب، وإنّما تأخذنا إلى جانب السرد النقدي. يفكّك علي القرية أثناء سرد قصتها، ويصل التفكيك ذروته من عباراته التي تأتي وكأنها موضوع إنشاءٍ كتبه طالب في الصف الخامس، ينتهي بعبارة "ما أجمل الريف وما أقسى حياة الفلاح".

ينتقل علي بسرده النقديّ من القرية إلى الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، مروراً بالنكبة والتهجير سنة 1948، وصولاً إلى هزيمة حزيران سنة 1967. لم تكد تمرّ عبارة سردية بلا مقولاتٍ يلقي فيها تعليقاً شديدَ المباشرة حتّى في أبسط الأمور، مثل حديثه عن عالم الطفولة القاسي في المدرسة الذي يتحسن فيه واقع الطفل الذي انخرط أخ له في الثورة. يقول علي ما معناه إنّ الثورة لم تغيّر فقط واقع الصراع وإنّما واقع العائلة ووضعها. يأتي التعليق على خلفية صورةٍ نرى فيها علياً الطفل يجلس على سريرٍ مرتدياً ملابس نظيفةً لأوّل مرة.

لا يوكل المؤلف مهمة السرد وبناء الموقف منه للأحداث والشخوص وحركتهم، بل يسند مهمة بناء المواقف على عاتق التعليق الصوتي الذي يتخذ منحى توجيهياً حيال الواقع الفلسطيني. فيعلّق عليّ على نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى وآثارها، والظروف الموضوعية والذاتية وراء انتهائها، فيما الأحداث تظهر لنا تلك التبعات. في نكبة فلسطين وواقع اللجوء والتهجير، تجتمع المعاناة الإنسانية الكامنة في خسارة فلسطين سياسياً وعسكرياً، مع انتظار العائلة المستمرّ عودةَ الابن حسن بعد نهاية الحرب. بالتالي تتباين تعليقات علي بين النقديّ والشاعريّ ويمتزج فيها الشخصيّ بالسياسيّ. يتمسك علي في هذه المرحلة بالأمل والانتظار، لكن الحرب التي انتهت بالهزيمة واللجوء، ينهدم معها قدر من الأمل، لكنه يبقى متعلقاً بحلم عودة الأخ الغائب، كما يظهر في قوله: "شعرتُ أنّ عقلي قد وصل إلى حالةٍ من الشلل، ما الذي جاءَ بنا إلى هنا؟ ما الذي أفعله هنا؟ ومع ذلك كانَ لا بدّ أن أحتفظ بالأمل". ويصل إلى الشخصيّ والذاتيّ متسائلاً عن الأمل وكيفية المضي قدماً في الحياة، دون أن يفرغ من عبء الماضي المتمثل بانتظار حسن، واحتمالية ظهوره في المستقبل.

في المرحلة نفسها، يصل إلى أعلى كثافة شعرية محمّلة السياسيّ والشخصيّ والفكريّ، فيقول:

نهارٌ آخر، ولم يعد حسن

وسأحاول عبثاً أن أصطادَ نجمةً ضلّت طريقها إلى خيمة

عبثاً أحاول

فالنجوم لا تزور الخيام

وفي النهاية، يؤطّر كلّ هذه المرحلة برثاءٍ شعريٍّ لأخيه حسن. وهو رثاءٌ شخصيٌّ وإنسانيٌّ قابل للتعميم على أيّ مناضلٍ عرفَ طريقه وذهبَ إليه، ولم يعد.

مع أنّ شخصية علي طوال الوقت "تُخبِر" المتفرِّج بالمقولات السياسية والاجتماعية النقدية، عبر السرد أو التعليق، إلّا أنّ المسلسل يقدّم نقداً لشخصية علي المثقف والكاتب المؤرّخ، وإن لم يبدُ ذلك واضحاً أو مصرّحاً به. يتمثّل هذا النقد خاصّةً في قصّة حسن وجميلة. في هذه القصة، يغيب تماماً صوت علي في الخلفية، ونتعرّف على موقفه من الحدث نفسه وردود فعله عليه.

يقع حسن، وهو شقيق علي المتمرّد من صغره، في حبّ جميلة. وجميلة فتاة جاءت مع أمّها إلى القرية، وحدهما دون أقارب أو حمولة في القرية. تنظر القرية إلى جميلة وأمّها على أنّهما في منزلةٍ اجتماعيةٍ دُنيا بلا حسبٍ ولا نسبٍ ولا رجال. كانَ حسن في حبّه يعرف تماماً الضغوط الاجتماعية التي سيعاني منها، ومع هذا يقرّر الاستمرار، وكانَ يراهن على وقوف علي إلى جانبه. حسن، الشاب البسيط والعاشق والمتمرّد، يستنجد بالمثقف والثقافة ليسانداه في معركته مع المجتمع والقرية والعائلة. إلّا أنّ علياً لم يتجرأ على معارضة أخيه الكبير والقائد والمجتمع والقرية، رغم اتّفاقه الداخليّ مع حسن وانحيازه للمرأتين المستضعفتين.

في مشهدٍ يتيم، يرى المثقف والمتعلّم علي أهلَ القرية يضربون أخاه حسناً. فيدافع عنه ولو كذباً، ليتّضح بعد أقلّ من دقيقةٍ أنّ دفاعه عنه كان انتصاراً للقرابة وحمايةً له من الضرب. في الوقت نفسه يلومه متسائلاً: "كيف رح يكون احترام الناس إلي بعد الآن؟". بمعنى أنّ المثقف والمتعلّم يهتمّ بصورته في المجتمع، ولو على حساب موقفه. حسن كانَ ينحاز للمرأتين المستضعفتين والمظلومتين في قريةٍ تقوم على الحسب والنسب وملكية الأراضي من جهة، وكانَ واقعاً في حبّ البنت من جهةٍ أخرى. بينما ينظر علي إلى حسن على أنّه عاشقٌ وحسب. تجاهلَ المثقف والمتعلّم البعدَ الاجتماعي والمتمرد في الحكاية.

في اللحظة التي ماتت فيها جميلة، وأدركَ كلّ الذين وقفوا ضدّها وضد حسن أنّهم مخطئون، يعجز المثقف والمتعلّم أمام حسن "شو أقول أنا المتعلّم؟". بعد هذه اللحظة تماماً، يقطع المخرج المشهد ويذهب بنا إلى مشهدٍ نرى فيه الأستاذ علي مع المختار وكبار القرية، ونسمعه يقترح بناء مدرسةٍ في وقف الولي أبو نار. في اللحظة التي بنى فيها حسن وقفاً لجميلة، قرّر علي أن يهدم وقفَ الولي. وفي اللحظة التي عجزَ فيها علي عن اتخاذ موقفٍ منسجمٍ مع ذاته مخالفاً المجتمعَ، قرّر أن يبدأ معركته الخاصة مع المجتمع نفسه انتصاراً للعلم. كأنّ المعركة الثانية هي نفسها التي لم يخضها إلى جانب حسن، مع فارق أنّ المعركة الأولى كانَ ثمنُها قلبَ حسن وانكساره، ودم جميلة وحياتها، وخسارة أم جميلة لآخر رابطٍ لها بالحياة. أمّا معركة علي، فتبدو باردةً باهتةً بين العلم والدين. ومع هذا، نجده يجلس إلى حسن ليستمع منه ويأخذ منه القوة على استكمال معركته.


يتساءل وليد سيف في كتابه "الشاهد والمشهود سيرة ومراجعات فكرية"، المنشور سنة 2016، عمّن هو وليد نفسه في مسلسل التغريبة الفلسطينية. ويجيب بأنّ بعضَه في شخصية صلاح، الابن الثاني لعائلة أبي صالح، العائلة المركزية للمسلسل. ويوضّح أنّ الكتب التي رأيناها على طاولة صلاح في المسلسل هي نفسها التي كان يقرؤها في صباه. يقول سيف إنه كان مثل صلاح، يتقمّص الأزمات الوجودية التي تثيرها الكتب المترجمة ويسقطها "قسراً على بيئة طول كرم البسيطة الريفية التي تنام مع غروب الشمس، ولا تملك ترف التفلسف حول أزمة الإنسان المعاصر".

قدّم مسلسل التغريبة الفلسطينية نقداً جريئاً لشخصية صلاح أحدَّ من نقده شخصية علي. ولعلّ هذه الجرأة تأتي من كون وليد سيف يقدّم نقداً ذاتياً بشخصية صلاح، الشاعر والمثقف الوجودي.

في الفترة التي يظهر فيها صلاح بقوّةٍ، يغيب علي عن الأحداث، فنرى المخيّم واللجوء عبر صلاح وتعليقاته وقراءاته. قدّم الكاتب شخصيةَ صلاح صاحبَ المعرفة وعين الطائر، فهو أقدَر من غيره على فَهم قضايا فكرية وثقافية متداخلة. وعدا عن الكتب التي نراها على طاولته، نراه أقدرَ على الاتصال بالعالم الأوسع من القرية. يتّضح ذلك من بعض المواقف، لعلّ أبرزها زيارة الوفد الأجنبي للمخيّم. فعندما يأتي الوفد إلى المخيّم ليتعرّف على الواقع الإنساني الصعب ومشاكل البنية التحتية، يواجههم صلاح ويلقي في وجههم أسئلته الفلسفية والفكرية والسياسية. ينتقد صلاح تسطيح القضية الفلسطينية واللاجئين ضمن إطارٍ إنسانيّ منزوع السياسة، ويسخر من جولات الرجل الأبيض في المناطق المضطهَدة حول العالم.

لكن في المقابل، يبدو الشاعر صلاح أقلّ قدرةً من غيره على فهم الحقائق البسيطة المباشرة، فقد عبّر عن أزمة جيله بأنّها أزمة مخيّم ومدينة. كتبَ قصةً عن الإنسان الذي يبحث عن ذاته ويحاكي من خلالها شخصيات الكاتب والمفكّر الفرنسي جان بول سارتر ونصوصه. لن نحتاج إلى مقارناتٍ لتقصّي هذه المحاكاة، فقد صرّح بها وليد سيف في كتابه.

في المسلسل، وُجهت انتقاداتٌ لصلاح على لسان صديقه المقرّب وزميل الدراسة خليل، وابن عمّته رشدي الذي انفصلَ عن أمّه في النكبة. فرشدي أقرب إلى الواقع المباشر سواء في العمل أو التعليم، ويخوض حواراتٍ متوترةً مع الشاعر الوجوديّ صلاح. يقول رشدي إنّ صلاحاً — واللاجئ إجمالاً — مأزوم فعلاً، ولكنّ الوهم في اعتبار الأزمة أزمة أبطال سارتر. ما يبيّن انفصال صلاح، الذي يمثل الكاتب في مرحلةٍ مبكرةٍ من حياته، عن واقعه وواقع قضيته. يزور المسلسل هذا الانفصال عبر تمثلاتٍ متعددة، منها علاقة صلاح بالشعر بما يحمله من دلالاتٍ تتصل بالمخزون الثقافي التاريخي العربي. فصلاح يصف الشعر الموزون بأنّه كلاسيكيّ "وراح وقته"، وهنا يتلقّى درساً في الشعر من الأستاذ والمثقّف علي. الثاني، باستعراضه أفكار الفلسفة الوجودية وأهمية أن يقاوم الإنسان سيطرة الآلة عليه، وينتهي بدرسٍ غير مباشر من ابن عمته رشدي. الموقف الثالث يتمثل باستعراضه قصةً قصيرةً تعتمد على النجوى أو حديث النفس، وقد كتبها عن الإنسان الضائع في جوّ المدينة الخانق. وينتهي الاستعراض باستخفاف صديقه خليل، المستمِع للقصة.

كانَ على هذا المركّب الفلسفي والفكري أن يصطدم بقصة حبٍّ فاشلة، قوامها التمرّد على حياة المخيم. لا لأنه حضور لسلطة الاستعمار، بل لأنه سجنٌ قوامه الموروث القروي. يوظف مسلسل التغريبة الفلسطينية قصة الحب ويجنّدها ليناقش مسؤولية المثقف وفهمه قضيتَه وأزمته.

يأتي ذلك أولاً بتضخيم صلاح غضبَ عائلة حبيبته، ابنة المدينة التي لا تعرف المخيّم ولا ترتبط به، وتأطير هذا الغضب والرفض في سياق لاجئ ومدنيّ. يبسّط صديقه خليل المشكلة ويردّها إلى واقعها الحقيقيّ، وهو بذلك يفكّك كلّ تمرّد صلاح. يوضّح خليل أنّ القضية ليست قضية لاجئين، وأنّ خسارة حبّه وقعت لأسبابٍ شخصيةٍ تعبّر عن مجتمعٍ محافظ، وغير ذلك من إيضاحات تشكل ضربة في وعي الشاعر الوجوديّ. تستكمل شخصية رشدي تفكيك فلسفة صلاح، حين يتهمه رشدي بأنّه يريد الخروج بأسرع وقتٍ من المخيّم ولو وحده. ويصفه كما وصفه خليل سابقاً بأنّه يلعب دور اللاجئ الضحية الذي يتخذ من بقية الناس أعداءً وخصوماً.

يناقش رشدي، اللاجئ البسيط الذي لا يحمل لافتة المثقف، سؤال الحب من منظورٍ ثقافيٍّ أعمق حين يواجه شخصية الشاعر المجدّد والوجوديّ صلاح بحقيقة المشكلة. يوضّح رشدي أنّ أزمة صلاح تقع بالدرجة الأولى في أنّ معرفته أكثر من حاجته ومن ظروفه، فتتعالى الثقافة والأفكار على الواقع نفسه. يضع رشدي المثقف صلاحاً في مواجهة مسؤوليته حيال قضيته ومجتمعه وواقعه الماديّ. يعمّم بعد ذلك الأزمة على أنها أزمة الفلسطينيين إجمالًا، ولكنها ليست مسألة ثقافية. فيفكّك تفسير صلاح للمأزق الذي يعيشه لاجئ يعيش على حافة المدينة ويسعى للتحرّر والانعتاق من سجن المخيّم دون الالتفات إلى القضية الأكبر.  

يظنّ المثقف أن أزمة الفلسطينيّ هي نفسها أزمة أبطال سارتر. بينما يؤكد اللاجئ، المنخرط في مجتمعه غير المغترب عنه (رشدي)، الحقيقة البسيطة المباشرة: "قضيتنا قضية وطن مسلوب ومجتمع بعاني من التخلّف". يؤكد رشدي ختاماً أنّ كلّ سؤال الثقافة ومسؤوليته يجب أن يرتبط بسؤال التحرر من الاستعمار، لا الانعتاق الفردي من حياة المخيّم.

يتوِّج المسلسل انفصال الشاعر الوجوديّ عن واقعه في حرب حزيران 1967، التي يتابع كافة أحداثها من وراء المذياع ويحتفي بأخبارها التي تصله عبر إذاعة صوت العرب من القاهرة. ومع الهزيمة، يغرق في اليأس. وفي الحالتين، يبدو منفصلاً عن الواقع لا يملك سوى تأمّل أخباره بين نشوة النصر المزعوم ومأساة الهزيمة المروّعة. أو كما يقول علي في تعليقه النقديّ على الهزيمة: "لم يكن لهم (الفلسطينيون) من الأمر غير التعليق على ما كان، فقط بعد أن كان".


تبدو أزمة شخصية الكاتب والشاعر في سياق القضية الفلسطينية أقلَّ إرباكاً من أزمات الكتاب والمثقفين حين يحضرون في الأعمال التي تتناول الوضع الداخلي السوري. ففي حالة تناول قضية فلسطين، تُطرح شخصيات الكتّاب والشعراء في إطار معالجتها القضية، ولا يكون موقف صانع العمل موضعاً للمساءلة. أما عند تناول القضايا السورية في الأعمال الفنية، فعادةً يترصّد الجمهور والنّقاد والفنانون المسلسلَ بهدف معرفة موقفه من النظام. فتأتي شخصية المثقف أو الكاتب محمَّلةً مسبقاً بكونها معبّرة عن الموقف الشخصي للمؤلف، وبالتالي هي موقف العمل وكلّ من شارك فيه.

يُنتظر من العمل الفني الجيد أن يذهب إلى تحليلٍ أعمق من مجرّد إبداء موقفٍ من النظام أو المعارضة. وظهر هذا التوجّه في عددٍ من الأعمال الفنية السورية التي استخدمت شخصية الكاتب والمثقف حاملاً رسالة العمل. فظهرت تلك الشخصيات وقد اتخذت أبعاداً إنسانيةً وسياسيةً وفكريةً لمناقشة أسئلةٍ تطرحها الأزمة المتناولة. أسئلة من شأنها أن تربك المتلقي في علاقته بالسلطة والحرب والعلاقات الإنسانية. من هذه الأعمال التي نجحت في التناول الجيد والعميق لأسئلة السياسة والمجتمع السوريين، مسلسلات "قلم حمرة" و"غداً نلتقي" و"الندم".

يقدّم مسلسل الندم، من تأليف الراحل حسن سامي يوسف وإخراج الليث حجو، شخصيةَ روائيٍّ ضمن أبطال العمل. وتأتي أسئلة المسلسل الأساس عن الحرب السورية التي أعقبت ثورة 2011 على مقطوعاتٍ أدبيةٍ نسمعها في الخلفية على طريقة التعليق الصوتي. تتشابه تلك المقطوعات إلى درجة التطابق مع عبارات من رواية "عتبة الألم"، وهي الرواية التي بُنِيت عليها أحداث المسلسل للمؤلف نفسه. وبالتالي يمكن فهم الأسئلة والمقطوعات الأدبية والمقولات على أنّها أسئلة مؤلف المسلسل.

من اللحظة الأولى، وعلى خلفية صورةٍ رماديةٍ وكئيبةٍ، نسمع صوت عروة يسأل "إلى أينَ وصلنا يا الله؟ وماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كلّه؟". ثمّ يعدّل صيغة السؤال: "ما دامَ الجني هذه الكوارث كلّها، فما طبيعة الشرور التي زرعنا؟". فنفهم أنّ نقطة انطلاق عروة هي تأمل مأساوية مصير سوريا، متهماً في سؤاله الجميع.

يبدو الكاتب والمثقف في نقده وكأنّه في خلفية ما يحدث، أو لنقل يقف على مسافةٍ من الحدث ومن الجميع. في الحرب، نجد هذه المسافة من مراقبته إياها وتعليقاته عليها دون أن ينحاز لطرفٍ دون الآخر. في الحوارات القليلة التي يخوضها عن الواقع السوري نجده متردداً حياله، يُسأل عما يحدث من البقّال ولا يقدِّم إجابةً محددة. المثقف هنا يشبه شخصية نزار في مسرحية "فيلم أمريكي طويل" لزياد الرحباني. نزار الذي يُسأل عن البلد بعد الحرب الأهلية، ويجيب "ما حدا عارف شي من شي". يقارب الكاتب شخصية عروة بنزار في هذه الجزئية. ربّما ليقول إنّ الكاتب والمثقف والسياسيّ لا يعرفون ما يحدث، ولا دور لهم بما يجري، ولا يمكنهم التنبؤ بحربٍ اشتركَ فيها الجميع. يمكن القول كذلك إنّ عروة يرى أنّها حربٌ أهلية، وفي موقعٍ آخر يشبّهها بحرب البسوس. وهي حربٌ دامت أربعين عاماً بين قبيلتين عربيتين قبل الإسلام، واندلعت بعد مقتل ناقة.

سياسياً، تظهر المسافة التي يأخذها الكاتب الروائي من الحرب وأطرافها من ترميز أفراد عائلته، أو ما يسمّى أدبياً المعادل الفني، أي تجسيد الفكرة وتصويرها عبر شخصية ما. نرى الأب "أبو عبدو الغول" يمثّل النظام القديم، بينما يمثّل الابن الأكبر "عبدو" النظام السوري ما بعد سنة 2003 وسقوط بغداد، وتمثّل شخصية الأخ "سهيل" فكرة رفض النظام. يترك سهيل سوريا كي لا يضطرّ إلى قتل أخيه انتقاماً من أبيه، إشارةً إلى رفض الدموية والقتل في سبيل مواجهة الأب (النظام). ويقع الروائيّ في المنتصف، ينحاز فكرياً وعاطفياً لأخيه سهيل الذي تركَ البلد، بينما يبقى إلى جانب أخيه وأبيه في سوريا. ولاحقاً يصبح معارضاً لأخيه الأكبر (النظام الجديد)، ولكن من داخل سوريا.

في نهاية المسلسل صار الروائي عروة على قطيعةٍ مع الأخ الأكبر الذي يمثّل النظام. يعود سهيل إلى أرض الوطن وقد أحسّ بندم خسارة أبيه والوطن، ولكنّ له موقفاً نقدياً من النظام المتمثل بأخيه الأكبر. ينحاز الروائيّ لسهيل عاطفياً ويعانقه بصورةٍ تبعث على الحب والأمل، ولكن ضمن صورةٍ قاتمةٍ وكئيبة.

ينتهي مسلسل "الندم" بالاقتباس الذي وضعه في البداية أيضاً: "قد أكون على خطأ ولكن هذا لا يعني بعد أنّك على صواب". هي محاولةٌ للقول إنّ أيّ نقدٍ يقدّمه عن الحرب لا يعني أنّ النظام على صواب، والعكس صحيح. بمعنى أنّ كلّ نقدٍ قدّمه تجاه النظام والمسؤولين، لا يعني أنّ المعارضة على صواب. 

بالعودة إلى التحليل القائل بأن شخصية الكاتب والمثقف في العمل الفني تعكس موقف كاتب العمل نفسه، يمكننا أن نقرأ أن مؤلف "الندم" اختار أن يقدّم نفسه لمشاهدي مسلسله على أنه المثقف المراقب، الذي لا يتخذ موقفاً قاطعاً يميل صوب النظام أو المعارضة. بل اكتفى بالرصد، وربما التعاطف، دون أن ينطق بموقفٍ حاسم.


يتكرر اعتماد الكتاب السوريين في سردهم الفني على رافعة الراوي العليم التي تظهر في شكل تعليقٍ صوتيٍّ على الأحداث. وتؤدي شخصياتُ الكتاب والمثقفين هذا الدور في المسلسلات التي تستعرضها هذه القراءة. تَجسَّد هذا في شخصية علي في "التغريبة الفلسطينية"، ثم عروة في "الندم". وقد استخدمتها الكاتبة يم مشهدي في مسلسل "قلم حمرة" من إخراج حاتم علي (مخرج التغريبة الفلسطينية). هذه المرّة، تلعب دور الراوي العليم كاتبة النص، ورد. 

من مهنة بطلة العمل، تظهر التشابهات بين شخصيتها وشخصية كاتبة المسلسل الفعلية. وهناك خيطٌ آخر يدلل على أن الكاتبة تتخذ من بطلتها تمثيلاً لذاتها، وهو الأسئلة المطروحة منذ البداية عن الحب والعلاقات. وهي الموضوعات نفسها التي تطرحها الكاتبة يم مشهدي في أعمالٍ أخرى، مثلما ظهر في مسلسلها "تخت شرقي" المعروض سنة 2010. ويتضح من صوت ورد في الخلفية، وكلماتها وطريقة حديثها مع المتفرّج، أنّها تطرح أسئلة الكاتبة مباشرةً على المتفرِّج. فتستخدم كلماتٍ واضحةً بهذا الشأن، مثل "أنتَ مالل، ولهيك قاعد قدام التلفزيون".

عدا عن التعليق الصوتي والخطاب المباشر الذي تقدّمه ورد للمتفرِّج، ترد مقولات ورد وآراؤها في الجدالات والنقاشات التي تخوضها في مشاهد المسلسل، وتبدو أميل لأسئلة السياسة في فترة سجنها. ومن صوتها في خلفية المشاهد، تطرح يم مشهدي على لسان ورد أسئلةً وجوديةً تأمليةً وفلسفيةً عن الذات والهوية وعلاقتها بالعالم، إضافةً إلى العلاقات والحب.

تتراوح أسئلة ورد في مسلسل "قلم حمرة" من أعلى درجات التجريد والعبث أحياناً، إلى أعلى درجات الواقعية وطرح أسئلة مباشرة من واقع الطبقة الوسطى في دمشق سنة 2010. وتصطدم بما هو أكثر قسوةً ومباشرةً ممثلاً في السجن، حيث تواصل ورد (ومن ورائها يم مشهدي) الأسئلة الوجودية والفلسفية، ولكن من واقعها سجينةً.

ينتقل سؤال ورد الذي حضرَ مراراً في المسلسل من "معقول بس هاي هي الحياة؟" إلى سؤال "نحنا على شو كنّا عم نكتئب؟". لا يعني هذا أنّ ورداً تفنّد أسئلتها قبل السجن التي كانت تعبّر عن واقع الطبقة الوسطى في دمشق سنة 2010، وإنّما تأخذ مستوىً أكثر ارتباطاً بتجربة الاعتقال. تسائِل الاكتئاب، ولكنّها لا تكفّ عن الأسئلة الفلسفية. فتسأل مثلاً عن تصرّفات الإنسان الأوّل حيال الجوع والبرد وفقدان الحرية. تؤطّر سؤال الحرية بغياب الفوط الصحية، وتتساءل إذا كانت ضريبة الحرية هي ذلك الغياب.

فلا تكفّ ورد عن الأسئلة التأملية والوجودية التي لا تخلو من العبثية، وإنّما تضعها في سياق السجن. تشترك أسئلة مرحلتَي السجن وما قبله بالشّك الذي يراود ورداً طوال الوقت. تحمل أسئلتها إجابات مرتبكة، ثمّ تعيد طرحها لتخلق نوعاً من الشك حولها، وأسئلة ليس لها إجابات مباشرة.

عدا عن التعليق الصوتي، تتمثل مواقف ورد داخل السجن من نقاشاتها وجدالاتها مع السجينة صبا. بعد أيامٍ من العزل، تلتقي ورد صبا وتخوض معها عدة جدالاتٍ نعرف منها موقفها الشخصيّ. ومن ورائه يمكن فهم موقف الكاتبة يم مشهدي ورؤيتها وطريقة تفكيرها. تختلفان، ورد وصبا، على مفاهيم الحرية والدين والحجاب. ترفض ورد مصادرة الحرية بقولها "القصة مش قصة حجاب، القصة قصة حدا بدّه يقمع التاني". ترى ورد نفسها بجانب صبا لأنهما خرجتا في مظاهراتٍ ضدّ النظام، ولكنّها تنتقد المعارضة وتسأل صبا "هل بتقدري تكوني إنتِ في المناطق المحرّرة؟".

تقف ورد إلى جانب العلاقات والحرية والحب والمثلية الجنسية، وغيرها من القيَم والهويات والأفكار التي تقف على التضاد فيها مع النظام والمعارضة معاً. وترفض ورد استبدال النظام المستبدّ بالهيئة الشرعية، مناقضةً صبا التي تنحاز إلى وجود الهيئة الشرعية. ومع الاختلاف فكراً وتوجهاً طوال فترة السجن، إلّا أنّ الحبّ بين ورد وصبا يأتي تأكيداً من الكاتبة على أنّهما في الجهة نفسها. إلّا أنّ الحبّ بين ورد وصبا يمكن فهمه على أنّه تأكيد من الكاتبة أنّهما على نفس الجهة.

الحبّ الذي يتجلّى فنياً على أنّه حاجة السجين دائماً إلى آخر، وإن كانَ يمثّل نقيضاً أو جحيماً بمفهوم جان بول سارتر، وقد اقتبسَته ورد "الجحيم هو الآخر". يمكن فهم الحب من جهةٍ نقيضةٍ إلى أنّ ورد (ومن ورائها يم مشهدي) تقول إنّ كلّ من خرجَ في مظاهراتٍ هم على طرفٍ واحد ويشكّلون شعباً واحداً، ولا يجب أن يسمحوا للخلافات مهما كانت أن تفكّكهم. 

بعد السجن، تصبح ورد أقلّ قدرةً على النقاش والكلام والثرثرة كما كانت قبله، وتصبح أقلّ تجريداً وعبثية. وكأنّ قسوة واقع السجن حالت دونها ودون كلّ ما هو مجرَّد. لا يأتي التحوّل منطلِقاً من ظروف السجن وحسب، وإنّما لما يحدث في سوريا، كما عبّرت في الحلقة الأخيرة من مسلسل قلم حمرة. تتألّم ورد لما آلت إليه الثورة "كنا نحلم بدولة مدنيّة، اليوم بأحسن الأحوال بنلاقي الهيئة الشرعية في وجهنا". تحاول أن تنهي بصورةٍ أقلّ ألماً وسوداوية، وتتساءل عن إمكانية الفعل وليس الكلام، حالمةً بتحوّل خيال الكاتب الحالم إلى واقعٍ معيش.

السوداوية والألم في مصير ورد وُجدا في بداية مسلسل "الندم". تختلف بداية "قلم حمرة" عبر  صورة حيوية ومليئة بالألوان، ولكنّه يصل إلى نفس القتامة والسوداوية في النهاية. تحاول ورد أن تغيّر شيئاً في النهاية، تضع "قلم حمرة" لأوّل مرة، ولكنّ خطابها عن الحب والحياة يختلف وتصرّ أنّ الحب لا يغيّر الواقع السوري. الأمل في نهاية المسلسل يأتي عبر الخيال. يمكن فهم مصير ورد بهذا المعنى على أنّه الأمل الذي جاءَ مع الثورة وحُطّم مع مآلاتها في الحرب، بينما الندم يبدأ من المآلات نفسها، أي الحرب.


في حين تستمد شخصيتا الكاتب والكاتبة في مسلسلَي "الندم" و"قلم حمرة" سماتهما من مؤلفَي العملين، نجد تركيباً مغايراً لشخصية الكاتب في مسلسل "غداً نلتقي"، من تأليف إياد أبو الشامات وإخراج رامي حنّا.

قدّم المسلسل شخصيةَ الشاعر محمود الذي لا نسمع قصائده ولا أشعاره، وبالتالي لا نسمع رسالته عبر صوتٍ ما في الخلفية، وإنّما نجده يلقي قصائد لشعراء عرب، من أمثال محمود درويش ويوسف الخال. وهذا يعني أننا لا نجد مقولات أو رسائل واضحةً ومحددةً للشاعر محمود لنقارنها مع مقولات المؤلف الفعلي إياد أبو الشامات. إذ لا يستخدم مسلسل "غداً نلتقي" طريقة إسقاط صوت المؤلف على شخصية الكاتب المتخيّل لإعطاء مقولاتٍ مباشرةٍ للمتفرّج.

يوظّف المسلسل شخصيتين متناقضتين، الشاعر محمود الذي يمثّل المعادل الفني للثورة، وأخوه جابر الذي يمثّل المعادل الفنّي للنظام. تأتي مقولات مسلسل "غداً نلتقي" عبر جدالات الأخوين معاً، ثمّ عبر رحلة الشخصيتين. أما رسالة المسلسل فيحملها مصير شخصية الشاعر الذي يرمز إلى مصير الثورة.

في العمل الفني تأتي أهمية الجدالات في نقل ما يُسمى في البناء المسرحي، المنطق والمنطق المضاد، والذي يتمثّل فنياً وحياتياً بالأهداف المضادة. يُشتَرط فنياً أن يكون لكلّ منطقٍ وهدفٍ مبرّراته وقوّته. نجد تقاطعات بين الجدالات في "غداً نلتقي" و"قلم حمرة". الفارق الجوهري بين تقديم المسلسلين الجدالاتِ يأتي في طبيعة العلاقة بين المتحاورين.

في "قلم حمرة"، تجادل شخصية ورد صبا من داخل السجن بحرية، إضافةً إلى أنّ صبا وورد تبدوان على نفس الجهة وإن اختلفتا في توجههما السياسي. جدالات محمود وجابر في "غداً نلتقي" تجري أيضاً بحريّة وفق موقعهما في مدرسة نازحين في لبنان. الجدالات في الحالتين صريحةٌ وجريئةٌ، وكلّ شخصية من الشخصيات الأربع تقول ما تريد دون تبطين ولا خوف. لكن في حين تطرح ورد مقولاتها على التضاد مع النظام ومع المعارضة، كان محمود يبدو أقلّ جدليةً وتركيباً من موقف ورد، فهو ينتمي للثورة بوضوح.

يخوض محمود عدة جدالاتٍ وصراعاتٍ مع أخيه جابر، ويمثلان معاً منظورَي النظام والمعارضة. يختلط الشخصيّ بالسياسيّ انطلاقاً من حبّهما الفتاةَ نفسها، وردة التي تمثّل المعادل الفني للبلد. تتطور الجدالات وصولاً إلى سؤال من الذي دمّر البلد، يختلف الشقيقان فكرياً وسياسياً ويذهب كلٌّ إلى الأقصى في كلّ طرف. فيطرح محمود أفكاره عن القمع والنفي والقتل أثناء التعذيب في سجون النظام، وفي المقابل يردّ جابر بمشاهد قطع الرؤوس والخطف التي تمارسها جماعات "داعش" وجبهة النصرة وغيرهما من الجماعات المتبنية التوجهاتِ المشابهة.

يمكن تلخيص مقولة الشاعر عندما يقول بوضوح إنّ كلّ مطلبهم كان في دولةٍ مدنية، ويرفض استبدال النظام بتنظيم "داعش" قائلاً: "الناس مانن مجانين حتى يثوروا عالنظام ويبدلوه بداعش". بينما يؤكد جابر أنّهم فعلاً كذلك، والتجأوا إلى "الدواعش" لإسقاط النظام.

مقولة مسلسل "غداً نلتقي" حيال واقع الثورة ومآلاتها تأتي في رحلة تتبع الشخصيات ومصائرها، بالتوازي مع الجدالات بين الأخوين. تبدو الرسالة واضحةً من مصير شخصية الشاعر في تضاده مع أخيه وفي حبّه وردة. يتصاعد الصراع بين الأخوين بشكله الشخصيّ، مع تصاعد حدة الخلاف الفكري والسياسي، ويجتمعان معاً الشخصي الفني والسياسي في صراعٍ واحدٍ مرتبط بحبّهما جارتهما وردة.

تُقدَّم وردة بصورةٍ شاعريّةٍ وبسيطةٍ، هي تحبّ الحب، كما تصف نفسها، وتجد نفسها واقعةً في حبّ محمود. مع تصاعد الصراع بين الأخوين، نجدهما متورطَين في إشعال غرفة حبيبتهما، في محاولةٍ للقول إنّ النظام والمعارضة شريكان في إشعال البلد، ويتهرّب كلاهما من تحمّل المسؤولية.

تحتاج وردة محموداً طوال الوقت، ولكنّه متعب ولا يستطيع أن يفعل أيّ شيء لحبيبته أو حتّى جسده ونفسه. لاحقاً، تظهر أعراض مرض السكّري على محمود فينزف أنفه ويستمرّ  في النزيف طوال المسلسل. في كلّ مرةٍ يدخل فيها المشفى أو ينزف فيها أنفه، يقدّم المسلسل ذلك على أنّه تقصيرٌ منه، أو عدم قدرته على تحمّل مسؤولية نفسه. يساعده أخوه، نقيضه الموالي للنظام. وتساعده أيضاً وردة التي تمثّل سوريا، وإن شاركَ في حرق بيتها وآذى مشاعرها. تسعى وردة بكلّ ما تستطيع إلى إنقاذه، حتى لو باعت جسدها لليلةٍ واحدة. تحتاج وردة (ومن ورائها سوريا) إلى محمود (الثورة)، ولكنّه متعَب ومرهَق ومريض وعاجز،  يتآكل ويضعف. في المقابل، نراه رومانسياً وشاعرياً، يعود ثملاً في أوقاتٍ متأخرةٍ من الليل منفتحاً على العلاقات والأجواء الفنية والأوساط الشبابية المتحررة. كلّها تبدو رموزاً للثورة التي يريدها محمود، تؤدي إلى الحرية والدولة المدنية والفن والحب كما يؤمن ويعتقد.

يستمرّ نزيف محمود إلى آخر يومٍ وآخر حلقة، وفي ذلك إشارة إلى تراجع الثورة مقابل صعود الحرب وجبهات المعارضة التي يرفضها محمود كلّها. ينجو محمود من احتمالات الموت الطبيعي، وإن تراجعت حالته وكادَ أن يهلك في المشفى. ومع إنقاذ جابر ووردة إياه للمرةِ الأخيرة، ينتحر محمود. يشارك بدايةً في فعالياتٍ واحتفالاتٍ داخل المدرسة التي ينزح فيها مع عائلاتٍ ونساء وشبابٍ سوريين، ثمّ يخرج ويقف. وفي خلفيته المقاطع الأخيرة من قصيدة "جدارية" لمحمود درويش، وتحديداً عند عبارة "ولي ما كانَ لي"، ينتحر.

لعلّ في انتحار الثورة اتفاق مع مقولات جابر على مدى مسلسل "غداً نلتقي" أنّ الثورة انتهت ويجب الاعتراف بذلك. وفي المقابل، لا ينتصر المسلسل لجابر وإنّما يقتل الشخصية في سياقٍ آخر لم يعلن عنه، بل يخبرنا به في لحظةٍ من المستقبل عبر شاهد قبره.


عادةً يشاهد المتفرِّج المسلسل ويتابع أحداثه، يندمج فيها ويترقّب مصائر شخصياته. إذا كان المسلسل يناقش سؤالاً سياسياً، يتعرّض له المتفرج منشغلاً باكتشاف رسائله السياسية ليكشف بها توجهات صناعه. لكن يلجأ مؤلفو المسلسلات إلى تقديم شخصية الكاتب أو المثقف، ليطرحوا على لسانها رسائل وأسئلة مباشرة على المتفرج، بدلاً من صياغة أحداث فنية تُثير هذه الأسئلة أو تُعبّر عن الرسائل بطريقة غير مباشرة.

من جهةٍ أخرى، يُنظَر عادةً إلى المثقفين والكتاب على أنّهم طبقة بذاتها لها مواقفُ وآراء. فلا نستغرب عندما نسمع شخصية صبا تقول إنّ النظام لا يسجن المثقفين والفنانين، بينما تعمل الدراما الجيّدة على تقديم المثقف جزءاً من المجتمع ولديه أسئلته عن واقعه.

يستخدم مؤلفو المسلسلات شخصية الكاتب في طرح الأسئلة، لكنهم لا يصيغون تلك الشخصيات أبطالاً يمكن للمتفرج "التوحُّد" معهم، أي أن يشعر المتفرج أنهم يشبهونه ويعبرون عنه. ففي "التغريبة الفلسطينية"، يجد المتفرِّج نفسه منحازاً لعليّ تارةً، ومختلفاً معه تارةً أخرى، وكذلك مع صلاح، الأكثر جدلاً. في الحالتين، يجد المتفرِّج نفسه أمام أسئلة تأملية ونقدية وثقافية وسياسية مهمة. قد لا نتفق مع صلاح في تأطيره الفلسفيّ سؤالَه الفلسطينيّ، ولكنّ أسئلته إجمالاً تبقى مع المتفرِّج في كلّ الأحوال. صورته أمام الوفد الأجنبيّ ونقده الرجلَ الأبيض نجدها في مخّيمات الفلسطينيّن إلى اليوم،كذلك الأمر مع أزمات الثقافة مثلما قدّمها علي.

سورياً، ومع سقوط نظام الأسد، تبقى أسئلة ورد وعروة ومحمود أبعد من الوقوف هنا أو هناك. أسئلة توجَّه إلى المتفرّج إنساناً فاعلاً في سياقه السياسيّ، وليس متلقياً ومستهلكاً المواقفَ الجاهزة والمسبقة. عدا عن ذلك تبدو شخصيات المثقفين في الأعمال الفنية، إمّا منفصلة عن الواقع وتنظّر على المتفرّجين، وإمّا متماشية مع السوق لتفرّغ عنه وتُريحه. حتّى في المسلسلات التي ناقشت القضية الفلسطينية، تُطرَح أسئلة الثقافة ضمن مدى تفاعلها مع الواقع والقضية.

اشترك في نشرتنا البريدية