الكتابة مساراً للتشافي.. نساءٌ واجهنَ الألم بالسرد

كيف تصبح الكتابة وسيلةً لمواجهة الصدمات، وكيف يتحوّل الأدب النسائي من سردٍ ذاتيٍّ إلى مساحةٍ للتشافي الجماعيّ؟

Share
الكتابة مساراً للتشافي.. نساءٌ واجهنَ الألم بالسرد
الرواية النسائية مساحة مقاومةٍ واستعادة صوت | تصميم خاص بالفراتس

جدّتي لأمّي امرأةٌ لطيفةٌ وغفيرةٌ بالخرافات. بعد أسابيع من مشاهدتها بكائيَ المتواصلَ، وضعَتْ كفّي بين كفَّيها وهمسَت بصوتٍ أنعم من المخمل: "طفلتي العزيزة، عليكِ أن تستجمعي قِواك. ألا تعرفين أن كلَّ دمعةٍ تذرفها الأمّ الجديدة تجعل حليبها أكثر حموضة؟". لم أكن أعلم ذلك.

بعد أشهرٍ من الاكتئاب والتقوقع ومحاولات العلاج الفاشلة، استيقظتُ مدفوعةً للكتابة مجدداً وجلستُ في مكتبي. ذعرتُ وما برحتُ أبكي. ما كان بيدي أن أكتب وأمارس الأمومة معاً. لم يكن حليبي أبيض كالثلج. لا بأس في ذلك أيضاً. لو بدأتُ عن الكتابة عن تجربتي هذه، لاستطعتُ ربما أن أجعل من حليبي المسودّ حبراً. فللكتابة دوماً تأثيرٌ ساحرٌ يشفي روحي وبها أقدر أن أشقّ طريقي خارجةً من هذا الاكتئاب.

بهذه الكلمات عبَّرتْ الكاتبة التركية إليف شافاق عن تعاملها مع اكتئاب ما بعد الولادة. وجدَتْ نفسها في نفقٍ مظلمٍ يجمع بين لحظات الأمومة وثقل الاكتئاب، حتى بدت غير قادرةٍ على ترتيب ما تشعر به أو وضع حدودٍ فاصلةٍ بين الألم والكتابة. ليس واضحاً إن كانت الكتابة طريقها للخروج من الاكتئاب، أم أنها بدأت بعد خروجها منه. لكن ما يبدو جلياً أن كتاب "حليب أسود" لم يكن مجرّد عملٍ أدبيٍّ، بل عملية إنقاذٍ بطيئةٍ كتبَتْها شافاق بمزيجٍ يجمع بين التوهان والأمومة. فحوَّلت الكتابة وسيلة شفاءٍ ومَعْبراً تدريجياً للخروج من العتمة.

الأدب النسائي لم يعد مجرّد مساحةٍ للتعبير عن الذات، بل أصبح أداةً لتفكيك الصمت في مساحاتٍ شديدة الخصوصية. ويمكن للأدب تحويل الآلام الناتجة عن تجارب الانفصال العاطفي واكتئاب ما بعد الولادة، وتجربة الأمومة بأكملها بعيداً عن الصورة المثالية لها، إلى طاقةٍ للمقاومة وإعادة بناء الذات. ثمّة أعمالٌ، مثل "تشريح الرغبة" لريم نجمي و"حليب أسود" لإليف شافاق و"كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" لإيمان مرسال، تُبرِز كيفية تطوير الكاتبات أدواتٍ سرديةً تمكِّنهن من مواجهة الألم واستعادة الذات الأنثوية. لا لأنهن ضحايا، بل لأنهن فاعلاتٌ يصنعن ما يشبه التعافي بالكتابة في حين تخوض القارئات رحلةً موازيةً نحو ما يُشبه التشافي بالقراءة.


تبدو الكتابة سبيلَ المرأةِ الوحيدَ لئلّا يلتهمها الألم. تنطلق هذه الرؤية من فلسفة الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف. فوفقاً لدانيلا أنيسيي وميهايلا كوليا في مقالتهما "تروما آند ليتريتشر [. . .]" (الصدمة والأدب: إسهام فيرجينيا وولف في دراسة اضطراب ما بعد الصدمة) المنشورة سنة 2024، ترى وولف الكتابة أكثر من ممارسةٍ أدبية. فهي فضاءٌ لكسر صمت النساء عن الصدمات التي يعشنها ويتحمّلن آثارها النفسية والجسدية، وتمريناً نفسياً على التحرر الذاتي والسعادة واستعادة الوجود الكامل. يساعد تصوّر الكتابة هذا على تسمية الألم ثم مواجهته، وترميم الجراح الداخلية بالكلمات. فيتحوّل الأدب والرواية النسائية وسيلةً للتطهير النفسيّ وسبيلاً للشفاء.

وهنا تتضح أهمية منح النساء فضاءاتٍ آمنةً للبوح. إذ تحوّلت الرواية النسائية إلى حقلٍ إبداعيٍّ تستعيد فيه الكاتبات أصواتهن، ويكتبن أوجاعهن عبر كشف التفاصيل الخفية وغير المسموعة للتجارب التي ظلّت طويلاً حبيسة الصمت.

وإذا كانت وولف وضعت الأساس العالمي لفكرة الكتابة مساحةً لمقاومة الصمت والألم، فإن هذا التصوّر يجد امتداده العربي في أعمال الناقدة المغربية زهور كرام. إذ ترى زهور الكتابة النسائية وسيطاً نقدياً يفتح باب إعادة التفكير في وضع المرأة داخل السرد العربي الراهن. ففي مقالتها "الكتابة النسائية: من الموضوع إلى الوسيط النقدي" المنشورة سنة 2019، توضح زهور أن المرأة حين تكتب الرواية أو السيرة الذاتية تنطلق من إحساسها بالذات. فتقدِّم رؤيةً مغايرةً تعيد الانتباه إلى الذات النسائية خارج الصور الجاهزة والتمثلات السطحية التي فرضتها الثقافة السائدة. وعندما تضع المرأة تجاربها الحياتية أمام القارئ تمنح النصّ بُعداً مزدوجاً سردياً يكشف عمّا يُعاش، وعلاجياً يرمّم ما خلّفه الصمت والتشظّي.

يمكن مقاربة الكتابة النسائية مساراً للتشافي من قراءة إسهامات الفيلسوفة والمحللة النفسية البلغارية الفرنسية جوليا كريستيفا في فهم علاقة الألم باللغة. في كتابها "قوى الرعب" المترجم للعربية سنة 1982، تحاجج كريستيفا بإمكانية تحويل التجارب القاسية — مثل الفقد والانكسار والرفض — مادةً لغويةً قادرةً على ترميم الذات. وتوضّح بأن السرد يساعد المرأةَ على تسمية ما كان صامتاً ومخيفاً.

هذا التصوّر الأدبي يجد صداه أيضاً في علم النفس العلاجي الذي يقترب من الأدب في نظره للكتابة أداةً لإعادة بناء التجربة الداخلية وترميم أثر الصدمات. من منظور العلاج النفسي، يشبه هذا الأسلوب ما يُعرف بالعلاج الكتابي بالتفريغ العاطفي. ما يُتيح للكاتب إعادة صياغة التجربة من منظورٍ خارجيٍّ وفهم انفعالاتها، ومعالجة الألم النفسي بطريقةٍ أكثرَ وعياً وسيطرةً على الذات. بهذا تتحوّل الرسائل إلى أدواتِ مواجهةٍ، ليس للآخرين وحسب، بل للذات أيضاً. فتصبح الكتابة متنفساً آنيّاً وطريقةً للتعبير عمّا كان مستحيلاً قوله.

في العلاج النفسي تُرى الكتابة جزءاً من العملية العلاجية. فكسر الصمت بالكتابة لا يُعَدّ فعلاً تحررياً فحسب، بل يدخل ضمن الخطوات العلاجية وفقاً لحديث الأخصائي والمعالج النفسي سفيان أطراسي لمجلة الفراتس. يقول أطراسي إن الكتابة تتيح للفرد أن يخرج من حالة التداخل بين ما يشعر به وما يفكر فيه، وتمنحه مساحةً آمنةً لإعادة تنظيم تجربته الداخلية. عندما تُكتب الأفكار تصبح مرئيةً قابلةً للتحليل وأقلَّ تهديداً لصاحبها وسلامه الداخلي ممّا كان غامضاً ومخيفاً. وهو ما يُعرف في العلاج المعرفي السلوكي بإعادة البناء المعرفي، حين يُعاد تشكيل معنى التجربة الشخصي الذي يخفّف من وطأة ألمها النفسي. فالعلاج النفسي، وخصوصاً العلاج المعرفي السلوكي، يفرِّق بين الأفكار والمشاعر والسلوك. وهو ما يسمح بفهم كيفية تأثير الأفكار على المشاعر، وكيفية انعكاس هذه المشاعر على السلوك لتصبح الكتابة أداةً فعالةً لترتيب الأفكار وتفكيكها.

يصف أطراسي الكتابة العلاجية بأنها الملاذ الداخلي حين يغيب الدعم الخارجي. وفي بعض الحالات تكون الكتابة الوسيلةَ الوحيدة المتاحة للبوح، فتُمارَس فعلاً ذاتياً لترميم ما تصدَّع في الداخل. تتيح الكتابة للفرد رؤيةَ أفكارِه وصدماته من الخارج، بهدف التصالح مع الماضي وليس تغييره. ويضيف: "يمكن اعتبار الكتابة قطاراً رمزياً نركبه لا لنصل إلى وجهةٍ خارجيةٍ، بل لنصل إلى الذات المتصالحة. وهذا ما يجعلها أداةً علاجيةً، خاصةً حين تُدمج لاحقاً في مسارٍ علاجيٍّ منظم".


في كتابها "تشريح الرغبة" الصادر سنة 2020، تخوض الكاتبة المغربية ريم نجمي تجربةً سرديةً تقوم على تفكيك آثار الانفصال العاطفي وما يخلّفه من اضطرابٍ داخليٍّ واستعادةٍ مؤلمةٍ للذات. ريم، المولودة في الدار البيضاء والمقيمة في ألمانيا، تمزج في كتابها بين السرد الذاتي والتحليل النفسي.

يدور الكتاب حول يوليا، وهي امرأةٌ تستعيد تجربتها مع زوجها السابق في الرسائل التي تكتبها له بعد الانفصال. تتتبع يوليا عبر هذه الرسائل تطوّر العلاقة بينهما وأسباب انهيارها، وما تركته من أثرٍ نفسيٍّ وعاطفيٍّ داخلها. يتوقف الكتاب عند تفاصيل الحياة الزوجية وذكريات الحب والخلاف، إلى جانب محاولات البطلة فهم مشاعرها وتفسير ما حدث بالعودة إلى الماضي وإعادة قراءة الأحداث.

لا يقدّم كتاب "تشريح الرغبة" روايةً فحسب، بل مساحةً للتشريح النفسي للعواطف والجسد والذاكرة. فيصبح السرد فعلَ مواجهةٍ واستحضارٍ وتفريغٍ معاً. الكتاب قائمٌ على تقنية التراسل. فرسائل يوليا إلى زوجها السابق تخلق مساحةً لمواجهة الذات والآخر، وهو ما يمنح النصّ بُعداً علاجياً. لا يكتفي السرد بوصف الألم، بل يحاول تفكيكه وفهمه وإعادة صياغته من جديد.

ترى ريم نجمي كتابها علاجاً بالسرد، يتقاطع البوح فيه مع محاولة إعادة بناء الذات بعد الصدمة. في لقاء الفراتس مع ريم، شبَّهت لحظة دخولها عالم "تشريح الرغبة" بفتح بوابةٍ داخليةٍ نحو جرحٍ لم يُشفَ بعد. وأضافت أنها لم تكتب من موقفٍ نظريٍّ، إنما دخلت النصّ من تجربةٍ عاشتها ولمستها في نساءٍ كثيراتٍ، خصوصاً اللاتي ارتبطن برجالٍ من ثقافاتٍ مختلفةٍ بحثاً عن حبّ. فوجدن أنفسهن جسوراً لأوضاع قانونية كالإقامةٍ أو الجنسيةٍ، لا نحو شراكةٍ إنسانية. شعرت ريم أن هذا الشرخ الداخلي ليس حكايةً عابرةً، بل رواسب مؤلمةً من حياتها الشخصية. فكانت كتابتُها مواجهةً واستحضاراً وتفريغاً في الوقت نفسه. في الكتاب يظهر المتن مساحةً لاستعادة توازنٍ نفسيٍّ اختلّ بعد الانفصال العاطفي.

تُظهر الرسائل فكرة الكتابة مساراً علاجياً تدريجياً. في الرسالة الخامسة عشرة، تصف يوليا قضاءها شهراً في المغرب متنقلةً بين جنوبه وشماله. وتروي كيف كتبت كثيراً من النصوص تمريناً علاجياً، مستجيبةً لإرشادات معالجتها النفسية، وكيف انضمّت لمجموعةٍ نسائيةٍ تديرها المعالِجة وتتكوّن من نساءٍ يواجهن المرحلة ذاتها. تسمّيهن "المتروكات والمطلقات والباحثات عن بدايةٍ جديدة". كان هدف الانضمام أن تدرك أنها ليست وحدها في مواجهة الانفصال. ومع الوقت تحوّلت الرسائل جسراً للخروج من العزلة النفسية، ومساحةً آمنةً يمكن التعبير فيها عن الألم بدل كتمانه.

ومع توالي الرسائل، يتضح البوح ويقلّ الخوف. ففي الرسالة الثامنة والعشرين، تقول يوليا: "كان من الضروري أن أتكلم حتى لا يتعفن الكلام بداخلي". وهي الجملة التي تلخّص الانتقال من الصمت السلبيّ إلى الاعتراف الواعي، في إشارةٍ إلى أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على مواجهة الألم، وليس كتمانه.

وتبلغ الرسائل ذروتَها حين تتحرر اللغة نفسها من سلطة الجرح. ففي الرسالة الثلاثين الأخيرة، يتغيّر نداء الزوج السابق من "زوجي الحبيب" إلى "العزيز عادل" ثم إلى "زوجي السابق"، وصولاً إلى مخاطبته دون اسمٍ أو صفةٍ، علامةً على انفصال اللغة عن الألم واستعادة الذات استقلالَها تدريجياً. في نهاية الرسالة تقول يوليا: "لقد تحوّل فعل الكتابة إلى رياضةٍ روحيةٍ يومية. أكاد أقول إن الكتابة أنقذتني. فقد كانت الكلمات المسكوبة على شاشة اللابتوب بمثابة مهدئاتٍ أو مضادات اكتئاب". وبذلك تعلن يوليا أن السرد لم يكن وصفاً للمأساة، بل إعادة بناءٍ داخليةً تسمح للذّات أن تقف على قدميها من جديد.

ما ترويه يوليا يمثل جزءاً من وعيٍّ سرديٍّ أوسع لدى الكاتبة، عن دور الأدب النسائي في تفكيك الصمت. تقول ريم نجمي إن ثمة وعياً متنامياً لدى الكاتبات بأن الكتابة ليست ترفاً، بل مساحة مقاومةٍ واستعادة صوت. وأن الجسد والرغبة والانفصال والأمومة ليست موضوعاتٍ محرّمةً، إنما جزءاً أساساً من التجربة الإنسانية الكاملة. تستحضر الكاتبة في هذا الإطار العمل الروائي "باولا" للتشيلية إيزابيل ألّيندي. اشتهرت ألّيندي بمزج السيرة الذاتية مع التاريخ والبوح. فنجحت في تحويل فقدان ابنتها إلى عملٍ أدبيٍّ يمزج بين الألم والتأمل، دون أن يفقد بُعده الجماليّ أو عمقه الإنسانيّ. ومن هنا تبرز الدلالة على أن النساء وهنّ يكتبن عن الألم، يفعلن ذلك من موقع الفاعلات الباحثات عن النجاة والسلوى والعزاء، لا الضحايا الغارقات في الانكسار.

وإذا كانت الكتابة فعلَ تعافٍ فردياً، فإنها في التجربة النسائية العربية تتحوّل أيضاً مشروعَ مقاومةٍ للخطاب السائد عن الجسد والذات. ومع كلّ محاولةٍ للحديث عن جِراح النساء بصوتٍ واضحٍ، يتّسع المجال أمام كتابةٍ جديدةٍ تُنصت إلى جسد المرأة وذاكرتها. فتتّضح ملامح كتابةٍ متحررةٍ من القوالب الاجتماعية، تعيد للمرأة حقها في أن تحكي نفسها كما هي: ضعيفةً وقويةً وراغبةً ومتألمةً وحيّةً بكلّ تناقضاتها.


لا يتخذ الألم شكلاً واحداً ولا يأتي من مصدرٍ واحد. فكتاباتٌ أخرى تنطلق من منطقةٍ مختلفةٍ من الفقد، لا من انفصالٍ عاطفيٍ بل من غيابٍ مختلف. ومثال ذلك تجربة الكاتبة إليف شافاق، الروائية التركية البريطانية التي تُرجمت أعمالها إلى أكثر من خمسين لغةً، وتُعدّ من أبرز الأصوات الأدبية في تركيا.

في كتابها "حليب أسود" المترجم للعربية سنة 2016، تحكي إليف تجربتها مع اكتئاب ما بعد الولادة، وتَحوُّل الأمومة من وعدٍ بالامتلاء إلى مساحةٍ من الوحدة والارتباك والبحث العسير عن معنىً جديدٍ للحياة. يتناول الكتاب تجربة إليف الشخصية مع الولادة، ويسرد ما عاشته من ترددٍ بين رغبتها في مواصلة الكتابة والتفرّغ للأمومة. تعرِض إليف مع السرد حالتها النفسية حينئذٍ، بما في ذلك شعورها بالانفصال عن ذاتها وصراعها مع التغيّرات الجديدة في حياتها.

تصف إليف شافاق رحلة ما بعد الولادة بأنها "اختلالٌ طفيفٌ في المشاعر يحدث فوراً بعد الولادة". كأنها إشارةٌ مبكرةٌ إلى اكتئابٍ يبدأ اضطراباً عابراً، ثم يكشف تدريجياً عن وجهه الأثقل. وبين متابعة هذا التحوّل وتحليله، يتشكّل الكتاب مساحةً يتعرّف فيها القارئ إلى هشاشة المرأة وصلابتها معاً.

في مقدّمة النسخة العربية من الكتاب، تقول الكاتبة السعودية بدرية البشر إن كثيراً من النساء سيجدن في هذا العمل الإبداعي ما يوازي جروحهن العميقة وصراعاتهن الخفية، كما وجدتْ هي فيه شفاءً لجروح الأمهات والمبدعات. هذا العمل، كما تصفه بدرية البشر، لا يحوِّل صراع المرأة بين الأمومة والكتابة إلى معركةِ خسارةٍ أو فوزٍ، بل إلى شغفٍ بالحياة نفسها. ولا ترى البشر كتاب "حليب أسود" مجرّد قصةٍ عن اكتئاب ما بعد الولادة، بل تجربةَ وعيٍ عميقةً تكشف ما يحدث حين تتصارع الأنثى التي تلد الكلمات مع الأنثى التي تلد الأطفال. تساند شافاق هذا الطرح حين تقول "مضت شهورٌ وأنا أخوض الاكتئاب. وددتُ لو أموت لأعرف السبب وراء حالتي. الآن أريد أن أفهم لماذا حدث لي؟".

وصفت إليف شافاق اكتئاب ما بعد الولادة في كتابها بأنه حالةٌ من الانفصال عن الذات، وفقدان القدرة على الفرح أو التواصل مع الطفل. نوبات بكاءٍ غير مبررةٍ وشعورٌ دائمٌ بالذنب والارتباك، وخوفٌ من مسؤوليات الأمومة وتشتت التركيز وإحساس بالعجز عن الكتابة وعدم القدرة على العودة إلى الحياة السابقة. تعاملت إليف مع اكتئاب ما بعد الولادة بالاعتراف به أولاً، ثم مراقبة التغيّرات التي تحدث داخلها وتجسّد صراعها بين الأمومة والكتابة. مع الوقت تحولت الكتابة وسيلةً لفهم هذا التشظّي. فبدأت في تدوين أفكارها وقلقها ومحاولة وضع تجربتها في سياق تجارب كاتباتٍ أخرياتٍ مررن بصراعاتٍ مشابهة. هذا التدوين المستمر ساعدها على وضع المسافة بين نفسها وبين مشاعرها، وعلى رؤية ما تمرّ به بوضوحٍ أكبر.

ومن هذا التشقق الداخلي، تنقسم إليف شافاق إلى أصواتٍ متعددة. وكلّ صوتٍ منها يكشف عن جانبٍ من التيه والحيرة، حتى تحولت الكتابة تدريجياً إلى خيط النجاة الذي تنتشل به نفسها من النفق المظلم. كلّ ذلك من دون أن تعلم ما إذا كانت الكتابة هي التي أنقذتها، أم الخلاص هو الذي حرّر قلمها.


إذا كانت إليف شافاق جعلت من حليبها الأسود حبراً كتبتْ به خلاصها من صراعات الأمومة، فقد وضعت إيمان مرسال الأمومة في مواجهة صورتها المثالية في الأرشيف الإنساني. ذلك المتن الذي يقدّم الأمومة في صورةٍ واحدةٍ، حبٌّ مطلقٌ وعطاءٌ بلا حدودٍ وذوبانٌ كاملٌ بين جسد الأم وروح الطفل دون أيّ صراع.

إيمان مرسال شاعرةٌ وكاتبةٌ مصريةٌ تعمل في جامعة ألبرتا بكندا، كشفت في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" الصادر سنة 2017، عن الهامش المطموس خلف خطاب الأمومة. إذ تظهر شظايا الأمومة في الكتب الطبية وفي النصوص الأدبية وفي قصص الجرائم الأسرية، بينما تتكلم أصواتٌ قليلةٌ عن الرعب والاضطراب والمرض النفسي داخل علاقةٍ يُفترض أنها أكثر العلاقات نقاء.

تبدأ مرسال من لحظة وفاة والدتها بتفكيك الصورة النمطية والمثالية المفروضة على الأم. مثقلةٌ بعدّة أسئلةٍ على غرار هل كانت أمّها سعيدةً أَمْ ضحّت بكلّها في سبيل أبنائها. بدأت مرسال رحلتها بمحاولة فهم أمومتها من إعادة قراءة حياة أمّها الراحلة ومعاناتها. كلّ ذلك هدفه محاولة إعادة بناء صورة الأمّ بعيداً عن التقديس أو التجاهل.

في الكتاب تُخصّص إيمان مرسال مساحةً للحديث عن صورةٍ وحيدةٍ تجمعها بوالدتها قبل وفاتها، شاهداً ناقصاً لا يستحضر الأمّ بقدر ما يحوّلها شبحاً، لتكشف حدود التصوير في استعادة الغياب. تنطلق الكاتبة من علاقتها الملتبسة بهذه الصورة لتفكّر في معنى مجموعات الصور العائلية فعلاً انتقائياً يقوم على الاختيار والاستبعاد، مستحضرةً نماذج من أمهاتٍ حُذِفن عمداً من صور العائلة لأسبابٍ اجتماعيةٍ أو دينية. وتخلص إلى أن استبعاد الأمّ من الصورة، أو حضورها جزئياً داخلها، لا يمحوها من الذاكرة بل يجعل وجودها أكثر إلحاحاً. ويحوّل الصورة من ذكرى إلى عبءٍ يكشف عن العنف الكامن في السرد البصريّ للتاريخ الشخصي.

تستعيد إيمان مرسال في كتاب "كيف تلتئم" لحظة معرفتها بالحمل الذي رغبت فيه بإرادتها الكاملة، لكنها لم تستقبله بالفرح. وتقول: "لم أشعر بالفرح الذي توقعته، سيطر عليَّ طوفانٌ من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالحٍ للقيام بهذه المهمة. كنت في الثانية والثلاثين، واكتشفت فجأةً أنني لم أهتمّ بصحّتي قطّ". قبل الوصول إلى الأمومة تستحضر إيمان ذاكرة جسدها، كأنها تفتح أرشيفاً شخصياً. جسدٌ دخَّن السجائر سنواتٍ واستهلك أدوية الاكتئاب والمنوّمات والمسكّنات. لكن بمجرد الحمل، "ظهرت مؤسساتٌ شتّى تعمل ليل نهار على تنويري بكل المخاطر الممكنة التي قد يسببها هذا التاريخ الشخصي للجنين". وتضيف: "الشعور بالذنب كان أسبق في أمومتي من كل المشاعر الأخرى".

في لحظة الولادة بدأت إيمان مرسال أمومتها من الشعور بالوحدة، لا من الفرح. استقبلتْ طفلها الأول في كندا بعيداً عن الأهل وفي عزلةٍ شبه كاملة. بدأت علامات الاضطراب الداخلي تظهر في جسدها وصوتها وحركتها اليومية، فالتقت طبيبتها التي شخَّصت حالتها اكتئابَ ما بعد الولادة. من هنا بدأت مرحلةً جديدةً من الأمومة، أُحيلت فيها إلى جلساتِ علاجٍ جماعيٍّ امتدّت ستة أشهر.

تتحول الأمومة عند إيمان مرسال إلى تجربةٍ بين زمنين، ماضٍ كانت فيه ابنةً لأمٍّ غائبةٍ، ومستقبلٍ صارت فيه أمّاً مغتربةً لطفل. تتساءل: ماذا لو ماتت الأمّ قبل أن تتكوّن أيّ ذاكرةٍ عنها؟ وكيف تمارس امرأةٌ أمومتها في غياب مرجعيةٍ شخصيةٍ تتماهى معها أو تتمرّد عليها؟ ثم تضيف سؤال الغربة: هل يجعل غيابُ الوطن الأمَّ أكثر حريةً في أمومتها، أَمْ يزيد من شعورها بالضياع؟

ولدت مرسال طفلها في عالمٍ متطورٍ، لكن الولادة في النهاية فعلٌ فرديٌّ بغضّ النظر عن الأطباء والمساعدين ودعم الزوج والمحاليل والمسكّنات. المرأة وحدها هي من تلد، وهي من تتحرر مما بداخلها، لأنه بحسب وصفها "الألم أصبح لا يحتمل، لأن حياة المولود أصبحت مرهونةً بالانفصال عنه ولأن وجودك أصبح موقوفاً على هذا الانفصال". لتبدأ بعد الولادة رحلةً مع كائنٍ يُفترض أنه جزءٌ منها، ولكنه قد يبدو غريباً عنها أحياناً. مع كل خطوةٍ في هذه الرحلة، سيواجه الأمَّ سؤالٌ جديد. وكأن عليها اختراع أمومتها من البداية، كما لو لم تحدث لأحدٍ من قبل. وكأن الأمومة اختبارٌ أبديٌّ لوجودها الشخصيّ وعلاقتها بجسدها.

يمتد هذا القلق إلى تجربة الفطام، التي تسمّيها إيمان مرسال "رعب الفطام"، مستحضرةً قصائد الشاعرة السورية سنية صالح وعلاقتها بابنتيها. لا ترى مرسال الفطام في تجربة سنية صالح عنفاً ولا قسوةً، بل خوفاً عميقاً من الانفصال ورغبةً في إلغاء المسافة بين الأمّ وطفلتها. كأن الأمّ تطلب عكس فعل الولادة، عودة الابنة إلى الرحم. يصبح الفطام لحظةَ مواجهةٍ مع العالم الخارجي. عالمٌ خَبِرَتْه الأمّ وكان فضاءً قاسياً، وتخشى أن تلقي ابنتها فيه بلا حماية.

تتعرّض مرسال في كتابها لانشغال كثيرٍ من الحركات النسوية، خاصةً الغربية، بمعارك المساواة في العمل والقانون والفضاء العام مقابل ضعف إنصاتها لتجارب الأمومة الفردية. مع دفاع هذه الحركات عن حقوق الأمومة مثل إجازة الوضع ورعاية الأطفال، إلا أنها تميل إلى تعميم فكرة المرأة جماعةً في مواجهة الرجل. وتتجنب الخوض في خصوصية تجربة الأمومة، لأنها متعارضةٌ مع خطاب المساواة. ونتيجةً لذلك، تهمِّش مشاعر العنف والغضب والإحباط داخل الأمومة. فتبقى المرأة مدعوةً إما إلى سرد تجربتها بنفسها، أو إلى الاحتماء بسردياتٍ أخرى تذكّرها بأنها ليست وحدها.

قد تتقاطع تجربة إيمان مرسال مع تجربة إليف شافاق. فالأمومة حين تُعاش في عزلةٍ داخليةٍ أو خارجيةٍ قد تتحوّل مساحةً هشةً تحتاج إلى صوتٍ يسعفها. واجهت إليف شافاق اكتئاب ما بعد الولادة، وخاضت إيمان مرسال تجربةً مشابهة ًفي غربة كندا. أما ريم نجمي فتنطلق من جرح الانفصال العاطفي وما يتركه من اضطرابٍ داخليٍّ وأسئلةٍ مؤجلة. ومع اختلاف هذه التجارب في مساراتها ومنابع الألم فيها، إلا أن الكاتبات يلتقين عند نقطة الألم الذي لا يُقال إلا حين يجد لغةً تحمله. الكتابة في لحظات الانكسار ليست ترفاً، إنما وسيلة بقاء. هكذا تصبح الكتابة عند كلٍّ منهنّ شكلاً من أشكال التعافي ومساحةً لاستعادة علاقة المرأة بذاتها بعد أن تغيّرت ملامح الحياة من حولها، ليبدو السرد وكأنه تمرينٌ بطيءٌ للعودة إلى النفس من جديد.


في الانتقال من التشافي الفردي إلى الجماعي، يكشف الأدب النسائي أن الكتابة لم تعد ممارسةً فردية. هي فضاءٌ مشتركٌ تتجاوز فيه التجربة الفردية حدودَ النصّ لتخلق فضاءً تتقاطع فيه التجارب وتتجاوب فيه الجراح فتجد النساء فيه صوتهنّ المشترك. ما يبدأ حكايةً شخصيةً ينفتح بالكتابة والقراءة معاً، ومن ثمّ تتحول المعاناة الفردية إلى وعيٍ جماعيّ.

برز هذا التحول في حلقات العلاج النفسي الجماعي التي حضرتها يوليا، بطلة كتاب "تشريح الرغبة". كان لكلِّ مشاركةٍ صداها بين النساء، لتتحوّل الكتابة والقراءة تدريجياً إلى وسيلتين تدعمان تحويل الألم الفرديّ مساحةً مشتركةً للتعافي والمواجهة. وهو ما يترجمه علم النفس بحاجة الفرد لأن يستند إلى شيءٍ خارج ذاته، سواءً كان شخصاً أو تجربةً أو حتى نصّاً مكتوباً، ليخفف من وطأة مشاعره. عندما تكتب امرأةٌ عن ألمها ويقرأ كتابتها شخصٌ يتقاسم المعاناة نفسها، فإن هذا القارئ يجد فيها مرآةً لتجربته ويستند إليها لتخفيف ألمه أو إعطاء معنىً لمعاناته. يسرّع هذا الأمر العملية العلاجية لأنه يُخرج الفرد من عزلته النفسية، ويمنحه شعوراً بالانتماء والتشارك. هنا تتحول الكتابة من تجربةٍ فرديةٍ إلى أداةٍ للتشافي الجماعي.

خير دليلٍ على هذا التحوّل ما حدث بعد صدور "تشريح الرغبة". إذ تلقت ريم نجمي رسائل كثيرةً من قارئاتٍ وجدن في كتابها مرآةً تعكس دواخلهن بحسب قولها. بعضهن قلن إن الكتاب لامس فيهن وجعاً كنّ يعتقدن أنه خاصٌّ بهنّ وحدهن. لكنهن اكتشفن منه أن الألم أحياناً جماعيٌّ، وأن الحكايات التي تبدو فرديةً تتشابه في جوهرها عند كثيرٍ من النساء، وإن اختلفت تفاصيلها. شعرتْ ريم أن الكتابة لم تعد تخصّها وحدها، بل أصبحت مساحة تشافٍ جماعيّ.

من بين الرسائل التي وصلتها تتذكر ريم نجمي رسالةً من قارئةٍ قالت إنها قرأت الكتاب في حالة تماهٍ كاملٍ مع شخصية يوليا المتروكة. فكانت تنتظر أن يمنحها الخيال ما حُرمت منه في الواقع، أن يعود الزوج وأن يندم وأن يختارها أخيراً. لكنها عندما وصلت النهاية، كتبت بمرارة: "حتى الخيال لم ينصفني، لم يمنحني أملاً". تقول ريم إن الكلمات كانت مؤلمةً، لكنها جعلتها تدرك أن الكتاب في جوهره لا يقدِّم وعداً بالخلاص، بل يضع القارئة أمام الحقيقة كما هي.

لا يبتعد هذا التصوّر عما قدمته الباحثة في جامعة سان دييغو آي هوا في دراستها "غاذرينغ أَور سيجِز، مِنتورز أند هيلرز [. . .]" (الحكيمات والمرشدات والمعالجات: الكاتبات ما بعد الاستعمار وسرديات الشفاء، المنشورة سنة 2014. تبرز الدراسة إمكانية تحويل الكتابة الإبداعية، خصوصاً عند النساء المنتميات لأقلياتٍ عرقيةٍ وثقافيةٍ، إلى صورةٍ من الطب الروحي يسمح بفهم الألم الفردي وتفكيكه، وبناء وعيٍ جماعيٍّ يضادّ العزلةَ والهيمنة. تشير الباحثة إلى أن التشافي لا يكتمل إلا حين تتشكل سرديةٌ مشتركةٌ تنتجها النساء تستند إلى حبّ الذات والرعاية المتبادلة، والتعافي الجماعي فعلاً سياسياً واجتماعياً، لا مجرد حالةٍ عابرة.


أصبحت الرواية النسائية أداةً لإعادة تعريف علاقة المرأة بنفسها، وعلاقتها بالعالم من حولها. تبدأ الكتابة من الذات، لكنها تتحوّل مع القراءة إلى فعلٍ مشترك. فالتجربة التي وُلدت في مسارٍ فرديٍّ لم تعد ملك الكاتبة، إذ عرفتها نساءٌ أخرياتٌ في وجوهٍ مختلفةٍ من حياتهن.

ربما لا تمنح الكتابات السردية هذه خلاصاً نهائياً، لكنها تؤكد أن مواجهة الحقيقة – لا الهروب منها — أحد أشكال النجاة. الكتابة من عمق التجربة ليست ترفاً إبداعياً، بل شكلاً من أشكال البقاء. فالكلمات لا تعالِج الجرح، لكنها تمنحه اسماً وتجعل العزلة أقلّ قسوةً، وتعيد للمرأة الحقّ في أن تعرّف نفسها بنفسها بعيداً عن الصور الجاهزة التي فُرضت عليها طويلاً.

اشترك في نشرتنا البريدية