كيف استحوذت المؤامرة في "خالي العزيز نابليون" على الخيال السردي اللاحق في إيران

تنتشر بنية المؤامرة والشك في الرواية الإيرانية بأشكالٍ مختلفة، من أدب السخرية للحرب والمنفى إلى أدب النسوية.

Share
كيف استحوذت المؤامرة في "خالي العزيز نابليون" على الخيال السردي اللاحق في إيران
تجاوزت رواية "خالي العزيز نابليون" مكانتها عملاً فنياً لتصبح مرجعاً معرفياً | تصميم خاص بالفِراتْس

في تاريخ الأدب الإيراني الحديث، لا تكاد توجد روايةٌ تجاوزت حدودَ كتابتها إلى استعارةٍ وطنيةٍ كما فعلت "دايي جان نابلئون" (خالي العزيز نابليون) للكاتب إيرج بزشك زاده، المنشورة سنة 1970. وقعت هذه الرواية في قلب الخطاب الثقافي الإيراني شكلاً متماسكاً، وساخراً، للذهنية المؤامراتية التي طالما حضرت في الوعي الشعبي. ومع أن التفسير القائم على الشك وانعدام الثقة وشيطنة الآخر سابقٌ على الرواية، إلا أن جماليتها السردية كانت تأصيلاً لما كان مبعثراً، وتكثيفاً روائياً لما كان هاجساً مجتمعياً غير معرَّف. برع بزشك زاده بتشكيل شخصية "الخال" تمثيلاً مكثفاً لعقلية الشك العميق، والتفسير التآمري للعالم، ورفض الاعتراف بالمسؤولية الذاتية. إذ تفسّر هذه العقلية كلَّ فشلٍ أو خسارةٍ أو اضطرابٍ بمخطَّطٍ خارجيٍّ، يُنسب غالباً إلى بريطانيا، القوة الاستعمارية الأرسخ في المخيال الإيراني. وهي التي فرضت على إيران في العهد القاجاري، من نهايات القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين، معاهداتٍ واتفاقياتٍ توسّعت إلى سيطرةٍ استعماريةٍ على مفاصل الاقتصاد الإيراني. فاستمرت نفوذاً وتدخلاً في الشأن الإيراني بعدها حتى نهاية عهد الشاه محمد رضا بهلوي، مع اندلاع الثورة الإسلامية في 1979.

تجاوزت الرواية مكانتها عملاً فنياً لتصبح مرجعاً معرفياً يُستدعى كلّما تجدَّد خطاب المؤامرة في إيران، سواءً في الخطاب السياسي الرسمي أو وعي الناس العاديين، أو حتى في المتخيَّل الأدبي نفسه. ومنذ ذلك الحين، أصبح حضور المؤامرة في الرواية الإيرانية أكثر تجذراً، سواءً في الأعمال التي كرّرَته، أو في تلك التي حاولَت فضحَه. أو حتى التي وقعت فيه دون وعيٍ، حتى بعد الثورة، في أدب الحرب والسرد النسوي والمنفى.


كانت إيران حين نشرِ الرواية تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي، الذي حكم من 1941 إلى 1979، تعيش حالةً من "الاستقرار الاستبدادي" – الأمن والحاجات الأساسية بلا حرّياتٍ فعليةٍ – وتُنفق فيه السلطة بسخاءٍ على مشاريع التحديث. وفي هذا الوضع، لم يكتب الدبلوماسي السابق تحت إدارة الشاه بزشك زاده روايةً سياسيةً مباشرةً، بل اختار أن يبني سرديةً اجتماعيةً تتخذ من السخرية وسيلةً دون أن تتخلّى عن الرؤية النقدية.

حجر الأساس في هذه البنية الساخرة النقدية هي شخصية "الخال العزيز"، وهو رجلٌ عجوزٌ ينتمي إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ عليا آخذةٍ في الانحسار. عملَ شرطياً برتبة بكباشي (مقدّم) في زمن الشاه محمد علي القاجاري في بداية القرن العشرين. تُيّم هذا الخال منذ شبابه بشخصية نابليون بونابرت، فجمع ما طالته يده عنه من كتبٍ بالفارسية والفرنسية. وكذا تخيّل حروبَ نابليون تجسيداً لما خاضه هو من معارك. وقد امتهن قصَّ هذه المعارك والمغامرات العسكرية على أفراد أسرته الكبيرة. يعيش الخال في بيتٍ تقليديٍّ كبيرٍ مع هذه الأسرة. ويبدو عليه الوقار الظاهري والسلطة الأبوية. ولكنه حبيس جنون ارتيابٍ عن مؤامرةٍ بريطانيةٍ أبديةٍ تُحاك ضدّه وضدّ إيران.

تميّز هذه الشخصيةَ الطريقة التي تعيد فيها تفسير كلّ حدثٍ يوميٍّ، من أبسط النزاعات العائلية إلى التغيّرات الاجتماعية والسياسية. فهو يفسّره جزءاً من مخطّطٍ معقدٍ تديره بريطانيا التي لا تُرى، لكنها حاضرةٌ في كلّ شيء. لا شيء يحدث عفوياً في عالم الخال نابليون. فالخيانة الزوجية وفشل قصة الحب وموت أحدهم، حتى الحمّى وقطع المياه، كلّها مؤشراتٌ على يدٍ خفيّةٍ تدير المشهد.

الشخصيات الأخرى في رواية "خالي العزيز نابليون"، على اختلاف ظروفها وسِماتها، تتصرف ضمن منظومةٍ اجتماعيةٍ تترنح بين التقليد والحداثة وبين الرغبة في التغيير والخوف من نتائجه. منهم الشابّ العاشق والجار وضابط شرطة المنطقة. ومنهم أيضاً "مش قاسم"، الخادم الذي يختلق القصص لتصديق روايات الخال في قتاله البريطانيين. كلّهم يتحرّكون ضمن فضاءٍ مشحونٍ بالريبة.

لم تكتفِ الرواية بالسخرية من هذا النمط الذهني، بل وضعته داخل نسيجٍ اجتماعيٍّ حيّ. فالمؤامرة تُختبر في البيت والشارع والعائلة والحبّ، لا في دهاليز السياسة والخطاب العقائدي فقط. وذهنية المؤامرة هنا لا تحتاج إلى جيوشٍ وأجهزة مخابراتٍ، بل يكفيها منزلٌ تقليديٌّ ورأس عائلةٍ مهووسٌ ليُعاد إنتاج منطق الشكّ وفرضه حقيقةً لا مراء فيها. في مشهدٍ تتحوّل فيه نظرية المؤامرة إلى شكلٍ من الوعي الوجودي، أيْ نمطٍ يحدّد منظور الفرد والجماعة لأنفسهم ومحيطهم والعالم.

لَم يَنتقدْ بزشك زاده هذه العقلية أو يُدِنْها مباشرةً، بل جعلها تتحدث عبر شخوص الرواية وأحداثها، ليتهافت منطقها الداخلي أمام القارئ. فهذا الخال ليس شريراً أو مجرماً، بل ضحية تراكمٍ من الإذلال التاريخي والهزائم الوطنية التي حوّلت الشكّ إلى درعٍ نفسيٍّ، ثم عقيدةٍ ذهنية.

أسّس بزشك زاده في رواية "خالي العزيز نابليون" نموذجاً ذهنياً يبدو صالحاً لتفسير كثيرٍ من التحوّلات في المجتمع الإيراني وغيره من المجتمعات، وخصوصاً في الأزمات. إذ يعود الخال متخفياً بأشكالٍ مختلفةٍ في خطاب النخبة وتحليل الإعلام ومرويات الشارع والخطاب السياسي، وحتى في الأعمال الأدبية التي ظنّت أنها تحررت من سلطته. وهكذا لم يقدِّم الكاتب مجرّد هجاءٍ اجتماعيٍّ، بل كشف عن البنية العقلية التي تجعل من نظرية المؤامرة ملاذاً آمناً وأسهل من الحقيقة. فكان لها أثرٌ بعيد المدى على شكل الرواية الإيرانية لاحقاً، سواءً في إعادة إنتاج المتلازمة ضمن سرديات الحرب والمنفى والنسوية، أو في محاولات الهروب منها، والتي غالباً ما كانت تسقط في فخ إعادة تأكيدها.


حين ظهرت الرواية، لم تكن ذهنية المؤامرة غريبةً على القارئ الإيراني، فقد كانت تتسرّب في الروايات دون أن تُسمّى. تظهر ظلّاً لا يُرى، أو إحساساً داخلياً بالتهديد، أو ارتباكاً وجودياً أمام عالمٍ عصيّ فهمه.

في رواية "بوف كور" (البومة العمياء) التي كتبها صادق هدايت سنة 1937، نجد أقدم تجلٍّ سرديٍّ متماسكٍ لذهنية الشكّ مأزقاً وجودياً لا سياسياً فقط. تتكوّن الرواية من جزءين مترابطين يرويهما راوٍ مجهولٌ يعمل رساماً لأغطية علب الأقلام، ويخاطب ظلّاً على الحائط يشبه بومةً، كاشفاً هواجسه وأفكاره المظلمة.

في الجزء الأول من "البومة العمياء"، يصف الراوي رؤىً متكررةً لامرأةٍ جميلةٍ وغامضةٍ، ورجلٍ عجوزٍ غريب. وتتداخل الأحداث بين الواقع والخيال انعكاساً لاضطرابه النفسي. أما الجزء الثاني، فيقدَّم بأسلوبٍ أكثر واقعيةً يظهِر تدهور حالة الراوي العقلية. إذ يختلط الواقع بالهلوسة، ما يعمّق شعورَه باليأس والانفصال عن العالم. يتحدث الراوي من عزلةٍ خانقةٍ، غارقاً في الهلوسة وذكرياتٍ غير موثوقةٍ، ويواجه عالماً لا يستطيع تفسيره. كلّ حدثٍ يبدو له محلّ شكٍّ، وكلّ علاقةٍ مثقلةٌ بالخيانة.

ليس ثمة مؤامرةٌ محددةٌ في الرواية، ولكن إحساسٌ دائمٌ أن شيئاً ما يُحاك. وأن الحقيقة مخفية، وأن الراوي هو ضحيةٌ لعالمٍ أعظم منه لا يدركه ولا يستطيع اختراقه. لم تصف "البومة العمياء" إيران سياسياً، لكنها أسّست علاقةً جديدةً بين الذات والعالم. علاقة لا تقوم على التفسير العقلاني، بل على الانهيار الداخلي القائم على الريبة وفقدان الثقة. وسيصبح هذا التفسير لاحقاً القاعدة النفسية للمتلازمة التآمرية في الروايات الإيرانية. وهذه المتلازمة لا تقوم على خوفٍ عقلانيٍّ من الآخَر فحسب، وإنما على رفض حدوث شيءٍ في هذا العالم عفوياً أو منطقياً. فكلّ شيءٍ وراءه يدٍ وأهدافٌ خفيّة.

نشر الكاتب جلال آل أحمد رواية "نفرین زمین" (لعنة الأرض) سنة 1967. وهي عملٌ اجتماعيٌّ عن تحوّلات الريف الإيراني تحت ضغط التحديث المفروض والمتسارع من الدولة في أوج حكم الشاه محمد رضا بهلوي. تتتبّع الرواية حكاية معلّمٍ شابٍّ يرسَل إلى قريةٍ نائيةٍ، فيكتشف أن وظيفته التعليمية جزءٌ من مشروع تغييرٍ أكبر يصطدم فيه المثقف بالواقع الريفي المقاوم كلّ سلطةٍ خارجية.

لا تظهر المؤامرة هنا هلوسةً فرديةً كما في رواية صادق هدايت "البومة العمياء"، بل مقاومةً مجتمعيةً لكلِّ مشروع تحديثٍ أو تغيير. يقابل سكان القرية المعلّمَ بالشكّ وتكذيب نيّاته التنويرية، ويشتبهون في أنه أداةٌ للسلطة أو الثقافة الغريبة التي تحاول زعزعة ثقافتهم ونمط حياتهم.

يغذّي هذه الريبةَ تاريخٌ طويلٌ بين السلطة والريف وبين التحديث والمحافظة، بشقّيها الاجتماعي والديني، أو كليهما معاً. لا يدين آل أحمد هذا الشك، وإنما يفسّره. فالمجتمع الريفي في رواية "لعنة الأرض" لا يعاني من الجهل والسذاجة، بل من فائض ذاكرةٍ ديدنها القمع والتهميش والخديعة. جعلت هذه الذاكرة من الثقة عملةً نادرةً، ومن النيّات الحسنة محلَّ توجّس. والمعلّم هنا مجرد واجهة نفوذٍ خارجيٍّ لا يمكن الوثوق به، ولو حمل في داخله نيّاتٍ طيبة. بهذا أصبحت المؤامرة آليّة دفاعٍ في مجتمعٍ خائفٍ من التغيير ومتعَبٍ من الخداع. مجتمع يجد الأمان فقط في بقائه على حاله أمام محاولات السلطة (الآخَر) إخراجَه من خانة الأمان هذه وفق ما تراه تحديثاً.

وبين الروايات التي سبقت رواية بزشك زاده "خالي العزيز نابليون"، كانت رواية "سَووشون" للكاتبة سيمين دانشور، المنشورة سنة 1969. وهي أول روايةٍ إيرانيةٍ معروفةٍ كتبتها امرأة. وقد بيع منها ما لا يقلّ عن نصف مليون نسخة. الرواية هي الأكثر تمثيلاً للتحوّل المؤامراتي من الريبة السياسية إلى الحياة اليومية. كانت دانشور أول من قدّم تصوراً متكاملاً عن واقع الاحتلال والهيمنة نظاماً يُعاد إنتاجه داخل تفاصيل الحياة اليومية.

يشير اسم الرواية "سَووشون" إلى طقوس حدادٍ قديمةٍ في الثقافة الإيرانية على مقتل البطل الأسطوري سياوش غدراً على يد أعداء إيران. وسياوش هو الشخصية الرئيسة في ملحمة الشاهنامه (كتاب الملوك) التي نظمها الشاعر الفارسي الفردوسي عرضاً لتاريخ فارس من العصور الأسطورية القديمة حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي. تجري أحداث رواية دانشور "سَووشون" في مدينة شيراز، إبّان الاحتلال البريطاني السوفييتي إيرانَ في الحرب العالمية الثانية. في وقتٍ كان المجتمع خاضعاً لسلطةٍ خارجيةٍ، والدولة أداةً تنفيذيةً لمصالح أجنبيةٍ، بينما الشعب مسحوقٌ بين الخوف والرغبة في النجاة.

العالم في "سَووشون" مسرحٌ للقلق الاجتماعي الدائم. الجار قد يكون مُخبِراً والصديق قد يتحوّل إلى عدوٍّ، فتصبح المؤامرة واقعاً يُعاش. بطلة الرواية زري تتحوّل من امرأةٍ تقليديةٍ إلى وعيٍ متنامٍ بالقهر والمقاومة. فوسط صمت الجيران ومراقبة الدولة، يَقتل مجهولون زوجَها يوسف الذي رفض بيع الطعام للجيش البريطاني. بهذا يصبح الحدث مؤامرةً بلا دليلٍ أو أثر. أيْ أن القاتل معروفٌ لوجود الدوافع، ولكنه في الوقت ذاته غير معروفٍ لغياب دليلٍ ماديٍّ يدينه، ناهيك عن عدم توافر آليّة تحقيق العدالة. المؤامرة هنا قادرةٌ على إعادة تشكيل المعنى وتكريس التبعية اجتماعياً على أنها خيارٌ عقلاني.

تمثل "سَووشون" نقطة التحوّل التي سبقت "خالي العزيز نابليون" مباشرة. فبينما قدَّمت الروايات السابقة ملامح متفرقةً لذهنية التآمر، رسمت سيمين دانشور أول مرّةٍ شبكة العلاقات التي تسمح لتلك الذهنية أن تتغلغل في النسيج الاجتماعي، من رغيف الخبز إلى غرف النوم، وتُسحق فيها المقاومة داخل بنيةٍ مجتمعيةٍ لا تملك أدوات الدفاع عن نفسها.


في أعمال ما بعد الثورة الإسلامية سنة 1979، وخصوصاً في أدب الحرب الإيرانية العراقية التي استمرّت بين 1980 و1988، عاد منطق المؤامرة ولكنه تجرّد من السخرية والنقد. تحوّل إلى سرديةٍ مأساويةٍ قلقةٍ ومشحونةٍ بتجربة القتال والموت والخذلان. في هذه النصوص ما يحدث ليس عشوائياً، وليس نتاج خياراتٍ داخليةٍ خاطئةٍ، بل خطّةً أكبر لا يعلَن عنها.

في رواية "شطرنج با ماشین قیامت" (الشطرنج مع آلة القيامة) للكاتب حبيب أحمد زاده، المنشورة سنة 1996، يتجلّى منطق المؤامرة مضمراً في السرد. يصوّر أحمد زاده ثلاثة أيامٍ من حياة فتىً (17 سنة) ضمن قوات الباسيج الإيرانية (القوة الشعبية شبه العسكرية) يقاتل في مدينة آبادان (عبادان) الإيرانية، المحاذية للعراق، والتي تحاصرها القوات العراقية. توغّلت القوات العراقية في بداية الحرب سنة 1980 داخل إيران ووصلت لعبادان، ولكنها جوبهت بمقاومةٍ دفعتها للانسحاب. غيّر الجيش العراقيُ الخطّةَ. وبدلاً من احتلال المنطقة بسرعةٍ، آثَر عزلَ القوات الإيرانية فيها وفَرْض حصارٍ عليها. نجح الإيرانيون في كسر الحصار بالقوة العسكرية في سبتمبر 1981.

لكن خلف هذا الحدث الظاهري في رواية "الشطرنج مع آلة القيامة"، تكمن حبكةٌ خفيّةٌ محورها "آلة القيامة". وهو اسمٌ عنى به منظومة رصد "رادار" البريطانية "سيمبلين"، التي زوّدت بها بريطانيا الحكومةَ العراقية. استُخدم هذا الراصد لتحديد مواقع المدفعية الإيرانية، وقد تحوّل إلى رمزٍ لتفوّق العدوّ التقني المدعوم من قوةٍ استعماريةٍ كانت ذات يومٍ الحاكمَ غير المباشر في إيران.

تصوِّر الرواية الحربَ صراعاً بين إرادة الشعوب ومؤامرات القوى الكبرى. فتصبح التقنية البريطانية التي تعمل عن بُعدٍ، والمشغَّلة بواسطة ضابطٍ أجنبيٍّ غامضٍ، أداةً للموت في مدينةٍ محاصرة. لا يظهر هذا الضابط إلّا بإشاراتٍ مقتضبة. لكنه يحمل دلالةً رمزيةً على حضورٍ خارجيٍّ يتحكم في آلة القتل عن بُعدٍ، ويُبقي الشعبَ في مواجهة دمارٍ لا يمكنه فهم أسبابه. وهنا يكمن جوهر المؤامرة التي تفسّر التفوّق التقني بذاكرة الاستعمار البريطاني وعقلية الخال نابليون.س

في رواية "سفر به گرای ۲۷۰ درجه" (رحلة نحو درجة 270) للكاتب أحمد دهقان، المنشورة سنة 1996، يتغلغل الاضطراب في اللغة نفسها. كلّ شيءٍ يُقال بتردّدٍ وتوجّسٍ، وكأنّ الراوي يخشى أن يكون ما عاشه ليس سوى تمثيلٍ خادع. تغيّرت عبادان منذ انتهاء المعارك مع العراق، وفقدَ المجتمع صِلتَه بالذاكرة، ويبدو الوطن بلا أثرٍ للحرب. لا تُطرح المؤامرة حدثاً منظّماً أو سرديةً مكشوفةً، بل إحساساً خفيّاً يخترق وعي الجندي بأن هناك من قرّر ماذا يُقال، وماذا يُنسى. وأن الرواية الرسمية تخفي أكثر مما تفصح.

تبلغ المفارقة ذروتها في رواية "دا" (أمّاه) المنشورة سنة 2008، وهي ذكريات الكردية زهراء حسيني عن الحرب الإيرانية العراقية. تبدو "دا" نصّاً نقيضاً لرواية "خالي العزيز نابليون". فلا سخرية فيها ولا تشكيك في الرواية الرسمية، ولا تلاعب بلغة السلطة. بل على العكس، تمثّل "دا" ذروة التماهي بين السرد الروائي والخطاب الرسمي، وخصوصاً في تصوير الحرب مؤامرةً دوليةً كبرى على "الثورة الإسلامية الفتيّة" في إيران.

تُطرح المؤامرة هنا حقيقةً سياسيةً مطلقة. فكلّ القوى الغربية الكبرى كانت متواطئةً ضدّ إيران في الرواية، وكلّ كارثةٍ نتيجة مؤامرةٍ، وكلّ نصرٍ معجزةٌ إلهية. الشخصيات في "دا" لا تشكّ، بل تتيقّن. لا تتساءل، بل تكرّر ما قيل لها. تغيب المسافة النقدية وتتحوّل الرواية نصاً تعبوياً والمؤامرة عقيدةً وطنية.

تذهب رواية "دا" أبعد من ذلك في تجذير هذه النظرة. فتصوِّر الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر خائناً ومسؤولاً عن الإخفاقات المبكرة في الحرب. فقد كان أوّل رئيسٍ للجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد الثورة بين 5 فبراير 1980 و22 يونيو 1981. ويُذكر أنه قبل الإقالة بشهورٍ قليلةٍ، اتَّهَم رئيس البرلمان الأيراني بني صدر بالتقصير بحججٍ، منها أن له تحركاتٍ معاديةً لرجال الدين في السلطة. ويُظنّ أن آية الله الخميني نفسه هو من حرّض على إقالته. انتهى المطاف ببني صدر هارباً لتركيا ثم فرنسا برفقة مسعود رجوي، زعيم منظمة مجاهدي خلق المعارِضة النظامَ الإيراني. وفي فرنسا عاش بني صدر بقيّة حياته حتى وفاته سنة 2021.

وتدين رواية "دا" المعارضين الداخليين، وخصوصاً منظمة مجاهدي خلق. تأسست المنظمة ضدّ نظام الشاه قبل عقدٍ ونصفٍ تقريباً من الثورة الإسلامية، قبل أن تعود فتنقلب على النظام الإسلامي الوليد في البلاد بعد الثورة. تصف الرواية أعضاءَ المنظمة بالنفاق والعمالة للعدوّ الخارجي. وتشير إلى وجود أسرى حربٍ من جنسياتٍ غربيةٍ كانوا في الجيش العراقي.

ولكن مع التباين الظاهري مع "خالي العزيز نابليون"، ثمّة خيطٌ خفيٌّ يربطهما. فكلاهما، "دا" و"خالي العزيز نابليون"، يقدّم بطلاً غارقاً في نظرةٍ أحاديةٍ ضيّقةٍ للعالم. ولكن حين يسخر بزشك زاده من تلك النظرة ويفككها، فإن زهراء حسيني تعتنقها وتحوّلها إلى منبعٍ للبطولة واليقين.

لم يخرج أدب الحرب الإيراني من عباءة بزشك زاده، بل غاص أعمق فيها. فبينما قدّم زاده شكّاً ساخراً يفضح نفسه من الداخل، قدّمت روايات الحرب الإيرانية العراقية شكّاً مظلماً وإيماناً مطلقاً بالخطر الخارجي، تُبنى عليه الرواية الذاتية والوطنية معاً. كلا المسارين يتّفق ضمناً على أن الفاعل الداخلي غائبٌ أو مغلوبٌ على أمره، وأن التفسير لا يأتي من الداخل، بل من خارجٍ لا يمكن التحكّم فيه. صاحبت هذه الذهنية بعضَ أدباء إيران حتى في منفاهم خارجها.


في فضاء المنفى، يتغيّر موقع المؤامرة ولا تختفي. تتحرر الرواية من الرقابة المباشرة ولا تتحرر من الشكّ. وبدلاً من أن يكون المنفى فضاءً لتفكيك البنية التآمرية، باعتباره نظرةً قد تكون من خارج الدائرة، فهو يعيد إنتاجها. تستبطن رواية المنفى المؤامرةَ وتكتب من داخلها، وكأن الخروج المادّي من الوطن لم يرافقه خروجٌ رمزيٌّ من منطق التفسير التآمري.

في رواية "رازهای سرزمین من" (أسرار بلادي) للكاتب رضا براهني، المنشورة سنة 1987 بعد لجوئه إلى كندا، نجد رواية صوتٍ مجروحٍ غاضبٍ يكتب في دوائر من الانكسار والريبة. الرواية لا تسلسل تقليدياً فيها، ولا بناء سردياً مستقرّاً أو شخصيات تُبنى تدريجياً. ولكن يسيطر عليها الهجوم المستمر على الذاكرة والسلطة واللغة. لا يُذكر النظام الإيراني بوضوحٍ في "أسرار بلادي"، وإنما يشار إليه بالرمز والضمير الغائب. وفي هذا الغياب المقصود، يصبح ما لا يُقال هو مركز الثقل. هنا يتشابه عالَما رضا براهني وبزشك زاده بفهمهما الأحداثَ قوةً أكبر تعيد تشكيل الواقع. ولكن، في حين أن بزشك زاده يعرّي هذا الوعي بالسخرية ويضعه موضع الشكّ، يضخّمه رضا براهني ويمنحه بعداً مخيفاً. فالسلطة بعيون براهني لا تقتلك، بل تفقدك القدرة على السيطرة ومن ثم الفِهم.

براهني في روايته لا يصدّق السلطة ولا يصدّق الشعب، فكلاهما موضع شكّ. ليس موقفاً سياسياً، وإنما حالةٌ إدراكيةٌ تشبه حالة "خالي العزيز نابليون"، ولكن بلا سخريةٍ أو مرحٍ أو عائلة.

تصل المتلازمة التآمرية قمّتها في رواية "سانسور یك داستان عاشقانه ایرانی" (الرقابة على رواية حب إيرانية) للكاتب شهريار مندني‌ بور، المنشورة سنة 2009. تنتمي هذه الرواية إلى "ما وراء السرد"، حين يكون النص الروائي على درايةٍ بذاته ويشير لنفسه روايةً لا عالماً حقيقياً. يتحدث الراوي منذ البداية للقارئ أنه يحاول كتابة قصةٍ تنجو من مقصّ الرقيب. إنه أسلوبٌ روائيٌّ لا يتحدث فقط عن الشخوص والأحداث موضع الحبكة في الرواية، ولكن عن كيفية سرده هذه الشخوص والأحداث. كأنه نصٌّ واعٍ بذاته.

يتصارع الكاتب هنا مع نصّه ومع الرقيب الحكومي ومع نفسه، فالمؤامرة تُحاك ضدّ القصة ذاتها. تتحول الرواية وكأنها كتابةٌ داخل قفصٍ زجاجيٍّ، حيث اللغة والمشاعر مراقَبةٌ ومقيَّدةٌ من مقصّ الرقيب وسطوة رقابة الكاتب على ذاته. ومع أن الرواية مكتوبةٌ خارج إيران، إلّا أنها تتحرك في الفضاء نفسه الذي يجعل كلّ شيءٍ يُفهم عبر ما لا يُقال. يلتقي هنا مندني‌ بور مع بزشك زاده في أن المؤامرة لا تحتاج دليلاً، لأنها منطقٌ نتحرك منه وفي داخله. يضع بزشك زاده المؤامرة في شخصيةٍ يمكن مساءلتها، أي الخال نابليون. ولكن مندني‌ بور يضعها في النص نفسه. فتصبح الكتابة ضحية مؤامرةٍ رقابيةٍ تخنق التعبير الحرّ وتدمّر المعنى قبل أن يولد.

لم تكن رواية المنفى عند براهني ومندني‌ بور تحرراً من المؤامرة، ولكنها استعادتها حقيقةً سرديةً تفرض شروطها على الكتابة نفسها. وكما أسبغ أدب الرواية الإيرانية في المنفى بعداً جديداً على متلازمة المؤامرة، كذا فعل الأدب النسوي.


في الأدب النسوي الإيراني بعد الثورة، وُضعت السلطوية الأبوية مكان المؤامرة التقليدية عن القوى الاستعمارية الخارجية. وتجعل هذه السلطة التفسيرَ التآمري جهازاً لحماية النظام الاجتماعي القائم. وينتقد الأدب النسوي استعمالَ الحكومةِ الخطابَ التآمري سلاحاً لإسكات النساء عبر وصم حريّتهن بالمؤامرة، وتصوير مطالبهنّ فعلاً تخريبياً خارجياً.

في رواية "زنان بدون مردان" (نساء بلا رجال) للكاتبة شهرنوش بارسي‌ بور، المنشورة سنة 1990، تقدَّم صورةٌ مركّبةٌ لعلاقة المرأة الإيرانية بالسلطات المختلفة، الدولة والأسرة والدين والتقاليد. تستعيد الرواية طهرانَ الأربعينيات خلفيةً لعالمٍ مقموعٍ تتحرك فيه خمس نساء. كلٌّ منهنّ تحمل روايةً من الانكسار والبحث عن ذاتها. تحضر المؤامرة في الخلفية التي تتحرك فيها الشخصيات. فكلّ امرأة تحاول التغيير تواجَه باتهام الثقافة الغربية الدخيلة أو كونها أداةً لمشروعٍ خارجيٍ، والمتّهِمون ليسوا السلطة وحدها، وإنما المجتمع عموماً.

تتحوّل نظرية المؤامرة إلى آليّةٍ داخليةٍ لإعادة ضبط السلوك الاجتماعي وفق معايير الطاعة، وإلى جهازٍ يعيد إنتاج القمع بأيدٍ محليةٍ تحت لافتاتٍ وطنية. فما يُقال عن "المؤامرة الأخلاقية" يخفي تحته السلطةَ التي ترفض حرية النساء، حسب ما تحاول الكاتبة نقله للكاتب.

ولفتح فجواتٍ في هذا المنطق، توظّف بارسي‌ بور الواقعية السحرية، وهو أسلوبٌ أدبيٌّ يجعل من العناصر الخيالية جزءاً طبيعياً من القصة على واقعيتها. تتحوّل إحدى بطلات الرواية "مهدخت" مثلاً إلى شجرةٍ، أو تنتقل "مونس" البطلة الأخرى بين الواقع والموت والبعث. في هذه الاستعارات الجمالية إشارةٌ لتمرّد تلك النساء على القالب الرسمي الذي حصرهن بصورةٍ وقالبٍ جامدين.

أما في رواية "سمفونی مردكان" (سمفونية الموتى) للكاتب عباس معروفي، المنشورة سنة 1989، فالبنية التآمرية تطرَح منطقاً داخلياً لأبٍ سلطويٍّ يسقِط كلّ فشلٍ عنده على مؤامراتٍ خفيّة. يقود الأب العائلة بقبضةٍ محكمةٍ، ويرى في تمرّد أبنائه أو أفكارهم المختلفة عنه خطراً على النظام الأسري، ويلوم الأعداء الخارجيين والتغريب الفكري. تتحوّل نظرية المؤامرة إلى لغةٍ عائليةٍ لتبرير القمع. فيصبح البيت هو الوطن المصغّر والأب هو الدولة، والخوف من الانهيار ذريعةً لمصادرة قرار الأضعف (الأبناء والزوجة) بِاسم ما يراه الأب "الصالح الأكبر".

كشف بزشك زاده في رواية "خالي العزيز نابليون" المتلازمة التآمرية بنموذجٍ شخصيٍّ مكشوفٍ ومفتوحٍ للسخرية والضحك عليه. أما في روايات الأدب النسوي والرمزية الأبوية، فنحن أمام شخصياتٍ مضطهَدةٍ – في الأسرة والحبّ والجسد وليس بالضرورة في السياسة – لا تملك حقّ السخرية حتى لا توصم بالخيانة.


تجاوزت البنية التفسيرية التآمرية المتخيَّلَ الروائي لتحضر في الحقول الاجتماعية والسياسية، ولتغدوَ جزءاً من المجتمع في إيران، سواءً في الحوارات اليومية أو الخطابات الرسمية. وإذا كانت متلازمة الخال نابليون قد بدأت لغةً ساخرةً تسكن وجدان الطبقات الوسطى، وشقّت طريقها إلى الرواية الإيرانية. فإنها تجسّدت سياسياً مع الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، الذي أعاد إنتاج منطقها داخل جهاز الدولة.

حكم أحمدي نجاد إيران في ولايتين، من أغسطس 2005 حتى أغسطس 2013. صعد من الهامش إلى المركز، ثم تكلّم ضدّ منطق المركز نفسه وتحالفاته. استعار أحمدي نجاد عقلَ الخال نابليون الشكّاك، ولكنه جلس في القصر لا في بيتٍ معزول. تحدّى اللغة السياسية التقليدية وتحدّث مثل راوٍ شعبيّ. ألحق كثيراً من الأزمات الداخلية بمؤامراتٍ خفيّةٍ وشبكات تهديدٍ غير مرئيةٍ ولا محدّدة. امتدّ هذا الفكر ليشمل النظرة خارج إيران، من نكرانه المحرقةَ اليهودية معتبراً إياها أسطورةً خُلقت لتبرّر قيام إسرائيل، وتلميحه – أمام الأمم المتحدة في 2012 – أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت مؤامرةً أمريكيةً داخلية. وفي هذا الغموض المنظّم، أصبح الشكّ هو طريق التفسير الوحيد.

في خطاب الشكّ، أظهر نجاد أن الدولة نفسها لا تفهم ما يجري داخلها. فقد أصبح هو الراوي الوحيد الذي يدّعي المعرفة بما لا يُقال، وحوّل كلّ تفصيلٍ في الدولة إلى علامةٍ على سرٍّ لا يبوح به. أعاد أحمدي نجاد إنتاج المتلازمة التأمرية خطّةَ تفكيكٍ، لا وسيلةَ تفسير.

بلغ هذا الخطاب ذروته بعد انتخابات 2009، حين بدأ يحاصر المؤسسات التي هو جزءٌ منها، يشكّك في البرلمان والقضاء والحرس الثوري. ومثل "الخال" الذي يعاني الارتياب، لم يقدّم نجاد خلاصاً، بل نشر الشكّ وقصص المؤامرات وغادر. وهكذا أصبح المركز السياسي في عهد نجاد مثل بيت "الخال نابليون"، مغلقاً يشكّ بكلّ ما هو خارجه.

انتشر التفسير المؤامراتي في النقاش السياسي داخل إيران، حتى بعد خروج أحمدي نجاد من الحكم سنة 2013. شاعت في الحوارات الإعلامية والشعبية عن السلطة أحياناً عباراتٌ، مثل "کار کار خودشونه" (هذه من فعلهم)، أو "هیچ چیز اتفاقی نیست" (لا شيء يحدث بالصدفة)، أو "اونا همیشه یه نقشه دارن" (هم دائماً يملكون خطّة). واستندت إلى افتراضٍ مركزيٍّ بأن ما يُقال كذبٌ، وما لا يُقال هو الحقيقة.

وبهذا لم تَبْقَ الذهنية التآمرية مجازاً أدبياً أو اتهاماً سياسياً. فقد تحوّلت آليّةً اجتماعيةً لإعادة إنتاج الشكّ، في الشارع أو سوق العمل أو العائلة. لا يتعامل هذا المنطق مع الأحداث وقائعَ، بل واجهاتٍ لسرٍّ مخفيٍّ أكبر.


استطاع بزشك زاده في "خالي العزيز نابليون" خلق استعارةٍ مركزيةٍ استحوذت على الخيال السردي اللاحق. وتحوّلت المؤامرة من موضوعٍ ساخرٍ إلى بنيةٍ مهيمنةٍ في الرواية الإيرانية حتى اليوم. ففي أدب الحرب، كانت طريقاً لفهم الخراب غير المفهوم. وفي أدب المنفى، لغةً للشكّ في السرد الرسمي والذاتي معاً. وفي الأدب النسوي والرمزي، أداةً لتفكيك السلطة الأبوية. ومع هذا التنوّع، كان القاسم المشترك هو غياب الثقة بالمعنى والذات والآخَر والسببية. فالزمن لا يتقدّم، والحكايات لا تحسَم، والراوي متردّد أو مهدَّد. المؤامرة هنا ليست كذبةً سياسيةً، بل طريقةً في فهم الوجود نفسه.

ربما تكون رواية بزشك زاده الساخرة "خالي العزيز نابليون" هي آخِر "رواية خارج المؤامرة". فقد كشفت هذا المنطق من داخله من غير أن تستسلم له، وعرّت المؤامرة بالضحك. بينما عجزت كثيرٌ من الروايات اللاحقة عن تجاوزها، لأن صوت الضحك فيها قد خفت وحلّ مكانَه صوتٌ مكسورٌ لا يثق بنفسه ولا عالمه.

اشترك في نشرتنا البريدية