بدأ كلّ شيءٍ قبل ذلك بأيامٍ قليلةٍ، تحديداً في الثاني من أبريل 2025، حين فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوماً جمركيةً غير مسبوقةٍ على واردات عشرات الدول للولايات المتحدة. خطوةٌ وإن وَصَفَها الرئيسُ بأنها ستُضاعف إيرادات الحكومة الأمريكية، لكنها أشعلت اضطراباً واسعاً في الأسواق. ففي غضون أسبوعٍ خسر مؤشر ستاندرد آند بورز (المعروف اختصاراً إس آند بي)، وهو الأوسع تمثيلاً لأداء كبرى الشركات الأمريكية المدرجة في سوق الأسهم، ما يقرب من 5.8 تريليون دولار. لم تكن الخسائر رقماً مجرّداً، فعشرات الملايين من الأمريكيين ممّن تُدار أموالهم عبر صناديق التقاعد خسروا جزءاً من مدخراتهم، وكنتُ أحدهم.
ومع أول بوادر التعافي، بعد تراجعٍ مفاجئٍ من ترامب عن تطبيق الرسوم بعدها بأيام، بدأتُ أحصي خسائري. 10 بالمئة من مدخرات سنوات عملي في واشنطن تبخّرت في أسبوعٍ واحد. عزّيت نفسي حينها بأن الجميع قد خسر، إلى أن بدأت بعض التقارير الصحفية تلمّح إلى أن هناك من لم يخسر، بل ربح. كانت البداية مع النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين، التي استغلّت انهيار السوق لتوسيع محفظتها بشراء أسهمٍ بأسعارٍ متدنّية، قبل أن تجني أرباحاً سريعةً مع أول انتعاشٍ للسوق. ثم ما لبث أن ظهر اسمان آخَران من الحزب الجمهوري حصدا أرباحاً، في وقت عانت مدخراتي ومدخرات أمريكيين كثيرين خسائر كبيرة.
سيطر عليَّ تساؤلٌ فيما إذا كان أعضاء كونغرس آخرون قد ربحوا بينما خسر غيرهم. ولم تكن خساراتي وحدها هي ما دفعني إلى التحقّق، بل فضولي الصحفي أيضاً. تساءلتُ فيما إن كان هؤلاء تحرّكوا في التوقيت المثالي، أو كانت قراراتهم الاقتصادية نابعةً من حدسٍ ذكيٍّ، أو ربما من معلوماتٍ لم تكن متاحةً لعامّة الناس. وفي بلدٍ يلزِم فيه القانون أعضاءَ الكونغرس بالإفصاح الماليّ الدوري، بحثتُ في قواعد البيانات العامة. ومن هناك بدأتُ أتتبع الخيوط الخفيّة بين القرار السياسي والتحرك المالي، باحثاً عن إجابةٍ لتلك التساؤلات.
مدفوعاً بهذا المبدأ، قضيتُ أسابيع أفتّش في قواعد بيانات الإفصاحات البرلمانية. وهي عادةً معلوماتٌ يفصَح عنها وتبيّن أنشطة البرلمان من نفقاتٍ وتمويلٍ واجتماعاتٍ وتشريعاتٍ، وكذلك أنشطة المشرّعين الاستثمارية. وبدأتُ أفكّك الأرقام والصفقات المدرَجة فيها، محاولاً تتبّع من تحرّك، متى وكيف. ما كشفته السجلات كان لافتاً. أربعةٌ وثلاثون مشرّعاً عقدوا ما يزيد على ألفٍ ومئة صفقة تداولٍ في أسبوع أزمة سوق الأسهم، بقيمةٍ تقديريةٍ تراوحت من اثنين وثلاثين إلى سبعةٍ وستّين مليون دولار. في قلب هذه التحركات برزت النائبة مارجوري تايلور غرين من ولاية جورجيا. ففي أوان انهيار أسعار الأسهم، نفّذت غرين صفقات شراءٍ في أكثر من أربعين شركةً بقيمةٍ بلغت ستمئة ألف دولارٍ، لتُصنَّف ضمن أفضل أعضاء الكونغرس أداءً في السوق أثناء الأزمة.
وكما أسلفنا، غرين لم تكن الوحيدة. الجمهوريان الآخران اللذان حصدا أرباحاً، محسوبان على الدائرة المقرّبة من ترامب. أوّلُهما النائب مايكل ماكول من تكساس، الذي نفّذ ثلاثين صفقة شراءٍ بقيمةٍ تقارب ثلاثة ملايين وسبعمئة ألف دولار. والثاني رجل الأعمال السيناتور ديف ماكورميك من ولاية بنسلفانيا، الذي عقد ثلاث عشرة صفقةً في الأسبوع ذاته.
على الضفة الأخرى، لم يكن أداء النواب الديمقراطيين على وتيرةٍ واحدة. فقد تصدّرت النائبة من ولاية تكساس جولي جونسون قائمة الأفضل، بتنفيذها ستّاً وأربعين صفقة شراءٍ في فترة تذبذب أسعار الأسهم مع فرض ترامب الرسومَ الجمركية. في حين جاء النائب رو خانا في ذيل القائمة، إذ نفّذ 246 عملية بيعٍ أثناء انهيار الأسعار، في ما بدا تحرّكاً خاطئاً في أسوأ توقيتٍ ممكن.
الصفقات التي جاءت في ذروة التقلّبات أثارت أسئلةً عن المعرفة المسبقة. أرباحٌ سريعةٌ تحققت في حين خسر السوقُ كلّه. فهل تمتّع أصحابها ببصيرةٍ استثنائيةٍ كما قالت غرين، أم أنهم استندوا إلى معلوماتٍ داخليةٍ غير متاحةٍ للعموم، مثل أن ترامب يعتزم التراجع عن قراراته.
هذا ما ألمح إليه السيناتور الديمقراطي والمحامي من ولاية كاليفورنيا آدم شيف، الذي دعا إلى تحقيقٍ رسميٍ في ما وصفه أنه "تلاعب محتمل". ففي النظام الأمريكي "التداول الداخلي" (تداول الأوراق والمعلومات المالية بين أفرادٍ يمتلكون معلوماتٍ خاصةً عن شركةٍ أو كيانٍ اقتصاديٍ ما) ليس مجرد مخالفةٍ ماليةٍ. هو وجهٌ من أوجه استغلال السلطة حين تُستخدم المعلومات غير المعلنة لتحقيق أرباحٍ شخصية. تكرّر ذلك مراراً في تاريخ الكونغرس، إذ تضاعفت ثروات بعض أعضائه أثناء أزماتٍ وطنيةٍ أو لحظاتٍ سياسيةٍ حاسمة. فمنذ التسعينيات تزايدت في الولايات المتحدة تساؤلاتٌ بشأن استفادة بعض أعضاء الكونغرس من معلوماتٍ غير متاحةٍ للعامة في قراراتهم الاستثمارية، ما يثير شبهة تضارب مصالح بين أدوارهم التشريعية ومكاسبهم الشخصية.
تفاصيل الصفقة كانت دقيقةً، فمقابل كلّ انخفاضٍ بنسبة 1 بالمئة في مؤشر ناسداك – الذي يقيس أداء شركات التقنية الكبرى – كان استثماره يُدرّ عائداً مضاعفاً بنسبة 200 بالمئة. وجاءت النتائج كما توقع تماماً، ليجني أرباحاً ضخمةً في مدّةٍ قصيرة.
ما لفت انتباهي لم يكن فقط حجم العائد، بل درجة الثقة التي بدا عليها باكِس في رهانه. فقد شارك في الاجتماع عضواً بارزاً في لجنة الخدمات المالية، واستمع فيه إلى إفادةٍ سرّيةٍ من وزير الخزانة ورئيس الاحتياطي الفيدرالي. أكّدت الإفادة أن البلاد تتجه نحو أزمةٍ ماليةٍ حادّةٍ، وهي الأزمة التي سُمّيت لاحقاً "الأزمة المالية العالمية". كانت هذه الأزمةَ الاقتصادية الأكبر منذ الكساد الكبير سنة 1929، وقد بدأت بعدما انخفضت أسعار العقارات بشدّةٍ في النصف الأول من سنة 2007. أدّى الانخفاض إلى تعثّر المقترضين وامتناعهم عن السداد، ما سبّب للأسواق المالية الدولية، خصوصاً الأمريكية منها، صعوباتٍ في تسديد الالتزامات المالية. عزّزت حالة الشكّ التي سادت بعدها إلى زيادة طلب المودِعين سحبَ الودائع خوفاً من حدوث أزمة سيولة.
ومع ما أثارته الواقعة من جدلٍ، لم يُدَن باكِس قانونياً. ومع أن القانون الأمريكي يحظر التداول الداخلي منذ سنة 1934، حين أُقرّ أول تنظيمٍ شاملٍ للأسواق المالية، لكنه لم يكن يشمل صراحةً أعضاء الكونغرس. دفعني هذا التناقض القانوني إلى سؤال أستاذة قوانين الأوراق المالية في جامعة "واشنطن ولي"، كارين وودي، التي أوضحت لي جذور الإشكال.
استعرضت وودي ورقتها البحثية المُعَنْوَنة "ذا نيو إنسايدر تريدينغ" (التداول الداخلي الجديد) المنشورة سنة 2020، مشيرةً إلى أن المفهوم القانوني المسمّى "التداول الداخلي أو المستنير" تطوّر عبر عقودٍ ليشمل ثلاثة أنماطٍ رئيسة. النمط الأول الكلاسيكي، وهو عندما يتاجر شخصٌ بأسهم شركةٍ يعمل بها أو يمتلك فيها حصّةً، بناءً على معلومةٍ داخليةٍ غير معلنة. أما الثاني فنمط المُخبِر والمُخبَر، إذ يتلقى شخصٌ معلومةً سرّيةً من موظفٍ في شركةٍ ويتاجر بناءً عليها، مقابل منفعةٍ أو نسبةٍ من الأرباح تعود على مصدر المعلومة. وحدّدت وودي النمط الثالث في نظرية اختلاس المعلومات، وهو الأهم في السياق التشريعي، ويَفترض أن المسؤول العام يتداول تداولاً مستنيراً إذا استثمر بناءً على معلوماتٍ سرّيةٍ حصل عليها من منصبه. ويعد هذا العمل خيانةً للأمانة وتعدّياً على الحقّ العام.
لا يندرج أعضاء الكونغرس، بشقّيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ، تحت النمطين الأول والثاني. فهم لا يعملون في الشركات ولا يتلقّون معلوماتٍ مقابل مكافآت. إنما يحصلون على المعلومات من جلساتٍ مغلقةٍ أو إحاطاتٍ سرّيةٍ ضمن عملهم التشريعي. وهكذا ظلّ نمط التداول هذا في المنطقة الرمادية، شائعاً وغير مجرَّم.
سنة 2004 جاءت الأدلّة أوضح. فقد أظهرت دراسةٌ لجامعة واشنطن أن أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بين سنتَي 1993 و 1988 حققوا عوائد تَفُوق متوسط السوق بنحو 10 بالمئة سنوياً. ولعلّها نسبةٌ يصعب عزوُها إلى الحظّ أو الذكاء الفردي.
ساهمت تلك النتائج لاحقاً في بلورة ضغطٍ سياسيٍ وشعبيٍ قاد سنة 2012 إلى إصدار قانون "منع التداول بناءً على المعلومات التشريعية"، والمعروف اختصاراً بِاسم "قانون ستوك"، بضغطٍ من إدارة الرئيس باراك أوباما. ألزم القانونُ أعضاءَ الكونغرس وعائلاتهم وكبار موظفيهم بالإفصاح عن الاستثمارات التي تتجاوز قيمتها ألف دولارٍ، وذلك في مهلةٍ أقصاها خمسةٌ وأربعون يوماً من تنفيذ الصفقة.
وفي سنة 2020 نشرت جامعة دارتموث دراسةً بعنوان "ريليف رالي" (تجمّع الإغاثة)، أشار إلى أن أعضاء مجلس الشيوخ ليسوا أفضل من الناس العاديين في انتقاء الأسهم. وخلصت الدراسة إلى أن أداء تداولات المشرّعين في الفترة ما بين 2012 و 2020 تراجعت لأقلّ من متوسط السوق. تواصلتُ مع أحد مؤلّفي الدراسة، أستاذ الاقتصاد السلوكي في جامعة دارتموث في ولاية نيو هامبشير، بروس ساكردوت، سعياً لفهم هذا التراجع. نَسَبَ ساكردوت الأمرَ إلى الشفافية المفروضة بموجب قانون ستوك، الذي سهّل على الصحفيين والباحثين تتبّع الصفقات، وقيّد قدرة المشرّعين على الاستفادة من المعلومات السرّية.
لكن هذا الرأي لا يقنع الجميع، لأن القانون لم يطوِ الصفحة بل غيّر أسلوب الممارسة فقط، تاركاً الباب موارباً أمام تحرّكاتٍ ماليةٍ تبقى في جوهرها متشابكةً مع القرار السياسي. وبحسب دراسةٍ أعدّها فريقٌ بحثيٌ من جامعتَيْ ممفيس وشمال تكساس سنة 2023، حقّقت تلك الصفقات عوائد استثنائيةً تجاوزت متوسط السوق بنحو 5 بالمئة. الدراسة المعَنْوَنة "بيهايند كلوزد دورز" (خلف الأبواب المغلقة) أكّدت وجود علاقةٍ إحصائيةٍ تشير إلى أن تلك المكاسب لم تكن مجرد صدفةٍ، بل ناتجةً عن نفاذٍ إلى معلوماتٍ لا تُتاح لعامّة المستثمرين.
دعمت هذه الدراسةَ دراسةٌ ثانيةٌ بعنوان "كونغريشينال ستوك تريدز آند إيكينوميك بوليسيز آنسيرتنتي" (تداول المشرّعين وعدم اليقين في السياسات الاقتصادية) نُشرت سنة 2023. امتدّ تحليل الدراسة ليشمل أعضاء الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ بين 2014 و 2022. وجدت الدراسة أن بعض البرلمانيين حققوا أرباحاً مرتفعةً في فترات التقلّب الاقتصادي أو السياسي، مشيرةً إلى ميزةٍ معرفيةٍ عند صانعي القرار، تتيح لهم التحرّك بثقةٍ في أوقات ارتباك السوق.
رغم نفيها أن تكونَ لها يدٌ مباشرة في هذه الاستثمارات، تبدو رئيسةُ مجلس النواب السابقةُ من الحزب الديمقراطي نانسي بيلوسي، واحدةً من أبرز الأمثلة على تنامي ثروات بعض المشرّعين في فترات الانهيار الاقتصادي. فقد ارتفعت ثروتها من واحدٍ وثلاثين مليون دولارٍ سنة 2008، إبان الأزمة المالية العالمية، إلى مئةٍ وسبعة ملايين في مدّةٍ قصيرة. ثم قفزت مجدداً بعد تفشّي جائحة كورونا، لتصل إلى 171 مليون دولار.
بيلوسي أكّدت مبرّرةً أن من يتولّى إدارة استثماراتها هو زوجها رجل الأعمال بول بيلوسي. ومع نفيِها وتبريرها، لم أستطع تجاهل سؤالٍ ظلّ يراودني حينها. كيف يمكن تفسير هذا التباين بين دراساتٍ تؤكد استمرار التداول المستنير داخل الكونغرس، وأخرى تؤكد تراجعه؟.
طرحتُ هذا السؤال مجدداً على بروس ساكردوت، الذي تمسّك بنتائج فريقه، مؤكداً أن الاختلاف الظاهري يعود إلى تفاوت فترات الدراسة أو المنهجيات المستخدمة وليس بالضرورة إلى تعارضٍ جوهريٍ في الوقائع. وقال لي بثقةٍ: "النتائج لم تتغير كثيراً، حتى عند استخدام نماذج تحليلٍ بديلة".
لكن الواقع، كما بدا لي، لا يزال يعكس صورةً مقلقة. فمع إقرار قانون ستوك، تشير بياناتٌ جمعتها منظمة "أوبن سيكرِتس" — المعنيّة بتتبّع تأثير المال في السياسة الأمريكية — إلى أن ثروات كثيرٍ من أعضاء الكونغرس واصلت النمو بوتيرةٍ لافتةٍ في سنوات عملهم النيابي. وبحلول سنة 2018 تضاعفت ثروات بعض المشرّعين بنسبٍ متفاوتة، ومنهم نانسي بيلوسي، بنحو 3.6 مرّاتٍ مقارنةً بما كانت عليه في 2008. وتشمل هذه الثروات أسهماً وسنداتٍ وصناديقَ استثماريةً وأصولاً عقارية.
فهل يعكس ذلك قصوراً في القانون. كان هذا هو السؤال الأول الذي طرحتُه على المديرة التنفيذية في "أوبن سيكرِتس"، هيلاري براسيث. وقد ردّت بأن "إجراءات الإفصاح التي نصّ عليها القانون، لم تكن كافيةً لردع استغلال المنصب. الولايات المتحدة بحاجةٍ لقانون أكثر صرامةً، يُقلّص قدرة المسؤولين المنتخبين على تحقيق مكاسب خاصةٍ من مواقعهم، ويحدّ من تضارب المصالح المحتمل".
وبتحليل تداولاتهم في المدّة من يناير 2012 وحتى ديسمبر 2020، توصّل الباحثون في الدراسة إلى دليلٍ إحصائيٍّ يدعم فرضية أن تلك الأرباح الفائقة قد تكون نتيجة معلوماتٍ داخليةٍ وصلت للمشرّعين من عملهم التشريعي. وهو ما يعزّز الشكوك بوجود تضارب مصالح ممنهج.
هذا الاستنتاج وجد صداه لدى أستاذة القانون والاقتصاد كارين وودي، التي أكّدت لي أن أخطر أنواع التداول المستنير، هو المرتبط باختصاص اللجنة نفسها. وقالت: "إذا كنتَ رئيسَ لجنة البنوك في الكونغرس، فمن الطبيعي أن تعرف مسبقاً كيف ستتأثر أسهم البنوك، لأنك تشرف مباشرةً على صياغة التشريعات التي تنظّم هذا القطاع".
دفعتني ملاحظتها إلى العودة إلى إفصاحات المشرّعين المالية، التي نصحَتني وودي بتحليلها، قائلةً إنها "توفّر مدخلاً مهمّاً لتتبّع ما إذا كان أعضاء الكونغرس يتداولون في شركاتٍ تقع ضمن نطاق إشراف لجانهم التشريعية". على مدار أسابيع راجعتُ ما لا يقلّ عن 28,400 معاملةٍ ماليةٍ نفّذَها أعضاء الكونغرس بين يناير 2023 ومنتصف يونيو 2025. استعَنتُ ببياناتٍ من منصّتَيْ "كابيتول تريدز" و"كويفر كوانتِتِيف" المختصّتَيْن برصد تداولات المشرّعين الأمريكيين وأفراد أسرهم وتوثيقها.
وبتحليل تفاصيل المعاملات وربطها بلجان الكونغرس التي ينتمي إليها أصحابها، تبيّن أن ما لا يقلّ عن سبعةٍ وسبعين مشرّعاً — بينهم عشرون عضواً بمجلس الشيوخ وسبعةٌ وخمسون نائباً بمجلس النواب — تداولوا أسهماً في شركاتٍ تخضع لرقابة لجانهم التشريعية، أو تتأثر بتشريعات تلك اللجان. ولم تقتصر هذه الظاهرة على حزبٍ دون آخَر. توزّع هؤلاء بين سبعةٍ وأربعين جمهورياً وثلاثين ديمقراطياً، في نمطٍ يبيّن التداخل بين التشريع والمصالح المالية.
لكن جانباً آخَر من تلك الصفقات أثار تساؤلاتٍ إضافيةً، إذ بدا أن بعض المعاملات تزامنت بدقةٍ مع أنشطةٍ تشريعيةٍ قد تؤثّر مباشرةً على أسهم تلك الشركات.
فبين فبراير وأبريل 2024، أفصح النائب الجمهوري مايكل ماكول عن ثماني عشرة معاملة بيعٍ وشراءٍ على أسهم شركة ميتا (فيسبوك سابقاً). بلغت قيمة صفقات الشراء فيها أكثر من مليون دولارٍ، والبيع نحو ثمانمئة ألف. وفي الشهور التالية، ارتفعت قيمة سهم ميتا من 395 إلى 735 دولاراً، ما عنى أرباحاً كبيرةً للنائب ماكول. اللافتُ أنّ هذه الصفقات عُقدت في حين كان ماكول يكتب مشروع قانون "حظر تيك توك"، الشركة الصينية، في النصف الأول من 2024، والذي يُفهم ضمناً أنه يدعم الشركات (الأمريكية) المنافسة، وعلى رأسها ميتا.
لم توجَّه لماكول تهمٌ رسمية. ومع محاولتِي التواصلَ مع مكتبه للتعليق، إلّا أنني لم أتلقّ رداً. أما ماكول، فقد سبق أن قال إن تلك المعاملات تخصّ أسرته ويديرها وسيطٌ ماليٌّ، دون تدخل منه.
ومثله أفصحت السيناتورة الديمقراطية تينا سميث عن صفقتين في شركة "تاكتايل" للأنظمة الطبّية، إحداهما بعد انخفاض سعر السهم، والثانية قبل أن يقفز السهم إلى عشرين دولاراً. ومع أن الصفقة عقدت حين كانت سميث عضوةً في لجنة الصحة في مجلس الشيوخ، إلّا أنها نفت أيّ علاقةٍ مباشرةٍ بالصفقات، مؤكدةً أن الوسيط يديرها نيابةً عنها دون علمٍ مسبق.
سألتُ أين يختبئ الدليل القاطع. فأجاب ساكردوت بأن الأمر يتطلب اتباع نهجٍ معقّدٍ يشبه ما تقوم به هيئة الأوراق المالية وأسواق الأسهم الأمريكية في تحقيقاتها الرسمية، والتي لا تكتفي بمجرد تتبّع توقيتات التداول. بل تخوض في تفاصيل دقيقةٍ تشمل مراجعة البريد الإلكتروني وسجلات المكالمات والرسائل النصّية للمشرّع، بحثًا عن إشارةٍ تُثبت أنه تصرّف بناءً على معلوماتٍ سرّيةٍ لم تُعلَن بعد.
وهنا تكمن المعضلة، كما تشير أستاذة الاقتصاد كارين وودي: "حتى عندما تظهر قرائن قويةٌ، تبقى المسألة قانونياً معقدة. إذ يتعين إثبات أن المسؤول خرق واجبه في الحفاظ على سرّية المعلومات، وبطريقةٍ لا تحتمل الشكّ".
ويُستشهد في هذا السياق بقضية السيناتور الجمهوري من ولاية كارولينا الشمالية، ريتشارد بور، التي تعود إلى بدايات جائحة كورونا. فبحسب تحقيقاتٍ أجرتها "هيئة الأوراق المالية" سنة 2021 ونشرت تفاصيلها صحيفة "بروبابليكا" في سبتمبر 2022، حضر بور في 24 يناير 2020 اجتماعاً مغلقاً مع مسؤولين صحّيين أبلغوه بأن تفشّي الفيروس "سيخرج عن السيطرة". وبعد أيامٍ فقط، أرسل رسالةً نصّيةً بمعلومةٍ من الاجتماع، ثم بدأ ببيع أسهمٍ بمليونٍ وسبعمئة ألف دولارٍ في ثلاثٍ وثلاثين صفقة. وباع صهرُه أسهماً بمئتين وثمانين ألف دولارٍ عقب مكالمةٍ قصيرةٍ بينهما، قبل أن تنهار الأسواق بفعل الجائحة. ومع تلك الوقائع، لم تُوجَّه لبور أيّ تهمةٍ، وأُغلقت القضية دون إدانة. فيما عُدّ قراره بعدم الترشح مجدداً لعضوية مجلس الشيوخ "قراراً شخصياً".
ولم تكن هذه الحالة الوحيدة. فأثناء ذروة الجائحة في 2020، وثّق مركز "كامبين ليغال" المدافع عن الشفافية والقيم الديمقراطية في الولايات المتحدة في أبريل ذلك العام، شراء تسعةٍ وأربعين مشرّعاً أسهماً قيمتها الإجمالية 158 مليون دولار. هذا قبل التصويت على خطّة إنقاذٍ اقتصاديٍ بقيمة 2.8 تريليون دولار. لكن مع الاشتباه بوجود تضارب مصالح، لم يُدَن أيٌّ من المشرّعين.
أما السبب فيحدّده المسؤول السابق في الكونغرس جايسون ستاينباوم، إذ قال إن هيئة الأوراق المالية نفسها لا تملك صلاحية محاسبة أعضاء الكونغرس، بل تعود مسؤولية ذلك إلى وزارة العدل أو إلى لجان الأخلاقيات داخل المؤسسة التشريعية. تفتقر معظم هذه اللجان إلى الإمكانات اللازمة للتحقيق في مثل هذه القضايا الحساسة. ويستثني ستاينباوم لجنة الأخلاقيات، التي يرى أنها الوحيدة القادرة على العمل بسرّيةٍ ومن دون تحيّزٍ حزبي.
حادثة بور شكّلت ما يشبه الصدمة لبعض النواب الرافضين لمبدأ التداول المستنير. إذ أدرك كثيرون وجود "ثغرة في قانون ستوك" تمنح المشرّعين هامشاً واسعاً للمناورة، دون أن يُحاسَبوا. وتشير هيلاري براسيث، المديرة التنفيذية لمنظمة "أوبن سيكرتس"، إلى أن أحد أوجُه القصور الرئيسة في القانون ضعفُ العقوبات المفروضة، التي لا تتجاوز مئتي دولارٍ، ما يُفرّغ القانون من محتواه الردعي.
وقد دفع هذا التراخي بعض النواب إلى المماطلة في الإفصاح عن تداولاتهم لفتراتٍ طويلة. وفي حالةٍ وثّقتها أوبن سيكرِتس، باع النائب الديمقراطي عن المقاطعة الثالثة في ولاية بنسلفانيا، دوايت إيفانز، أسهماً في شركتَيْ "أمازون" و"تسلا" قبيل انتخابات 2024. لكنه لم يفصح عن المعاملة إلّا بعد خمسة أشهر.
وإيفانز ليس استثناءً. فبين يناير 2023 ومنتصف يونيو 2025، تأخّر أربعةٌ وثمانون مشرّعاً عن الإبلاغ في الوقت المحدد عن 1565 صفقةً. أيْ ما لا يقلّ عن 5.5 بالمئة من إجمالي التداولات البالغ عددها أكثر من ثمانية وعشرين ألف صفقة. وكانت أطول مدّة تأخيرٍ 825 يوماً، سجّلها النائب الجمهوري من ولاية فلوريدا بايرون دونالدز. فيما تصدّر النائب مايك ماكول عن المقاطعة العاشرة في ولاية تكساس قائمة المتأخرين بتسجيله خمسمئةٍ وخمسين صفقةً خارج الإطار الزمني القانوني. تلاه دونالدز بعدد 128 صفقةً، والنائب الديمقراطي عن المقاطعة الثالثة والعشرين في فلوريدا جاريد موسكوفيتس، بنحو مئة معاملة.
ومع هذه المؤشرات، لا يعتقد ساكردوت أن الإفصاحات الحالية عديمة الجدوى. إذ قال لي: "هي ليست مثاليةً، لكنها واسعة النطاق. التداولات المشبوهة غالباً ما تكون مدفونةً بذكاءٍ وسط آلاف المعاملات التي لا تنطوي على شبهة".
تصف هيلاري براسيث هذا القصور أنه ثغرةٌ خطيرةٌ في منظومة المساءلة تهدّد الثقة بين المواطن وممثّليه. تقول: "الناخبون باتوا يشككون في دوافع من انتخبوهم، وأعضاء الكونغرس من الحزبين، يدركون اليوم أن إعادة بناء الجسور مع الجمهور لن تتحقق إلا بمزيدٍ من الشفافية".
تجاوباً مع هذه الضغوط، قدَّم مشرّعون من الجمهوريين والديمقراطيين معاً سلسلةً من مشاريع القوانين تهدف إلى معالجة نقاط الضعف في قانون ستوك. ومع اتفاقهم على ضرورة كبح التداول داخل الكونغرس، إلّا أن المقترحات تتباين في آليات التنفيذ ودرجة الحزم.
وجاء أحدث هذه المقترحات في أعقاب أزمة التعريفات الجمركية من النائب الديمقراطي جون أوسوف من ولاية جورجيا في مايو 2025 بصيغة مشروع قانونٍ بعنوان "حظر تداول المشرعين". وشاركه في إعلان المشروع النوابُ الديمقراطيون غاري بيترز من ميشيغان، وجوش هاولي من ميزوري، و جيف ميركلي من أوريغون. ويقترح المشروع منع أعضاء الكونغرس وأفراد أسرهم من امتلاك الأسهم الفردية أو تداولها، وإلزامهم إما ببيع ما يملكون أو نقل ممتلكاتهم إلى "صناديق عمياء"، على أن يكون ذلك تحت طائلة فرض غراماتٍ ماليةٍ كبيرة.
وتوضح كارين وودي أن "الصندوق الأعمى" محفظةٌ استثماريةٌ يُديرها طرفٌ مستقلٌّ، غالباً ما يكون وصيّاً مرخّصاً من هيئة الأوراق المالية، دون أيّ تدخلٍ من صاحبها في قرارات الشراء أو البيع. وبالتالي، لا يَحرِم هذا الإجراءُ المشرّعين من الاستثمار، لكنه يُقيّد قدرتهم على اتخاذ قراراتٍ بناءً على معلوماتٍ داخلية.
وقد حظي مشروع "حظر تداول المشرعين" بدعمٍ علنيٍّ من رئيس مجلس النواب مايك جونسون في مايو 2025، بعد تزايد انتقاداتٍ وُجّهت لبعض الأعضاء الذين جنوا أرباحاً عقب انهيار السوق على خلفية فرض التعريفات. ويرى المسؤول السابق في الكونغرس، جايسون ستاينباوم، أن هذا التأييد ربما يكون "خطوة حاسمة لإنهاء التداول السياسي في الأسهم نهائياً".
ومع الزخم الذي واكب المشروع، إلّا أنه ليس الأول من نوعه. فقد طُرحت في السابق مشاريع مشابهةٌ، مثل "قانون الثقة في الكونغرس" في يناير 2025 وقبله "قانون الأخلاقيات" في نهاية 2024. وكلاهما يمنع امتلاك الأسهم الفردية، ويضيف مستوياتٍ أعلى من الشفافية والعقوبات. مع ذلك، يبدو أن تمرير هذه القوانين يواجه تقليدياً مقاومةً غير معلنةٍ داخل الكونغرس، إذ يشيع تداول الأسهم بين النواب. وتعلّق كارين وودي أن كثيراً من الأعضاء يَعدّون هذا النوع من المقترحات "انتهاكاً لحقهم المشروع في إدارة أموالهم". وينسجم هذا الموقف مع تصريحاتٍ قَبلاً من رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، التي رفضت تقييد تداول الأعضاء بالأسهم وعَدّته منافياً مبادئ السوق الحرّة.
تروّج تلك المقاطع لتطبيقاتٍ ماليةٍ تَعِد المستثمرين الهواةَ بأرباحٍ هائلةٍ، بنسخِ تداولاتِ مشرّعين نجحوا في توقيت تعاملاتهم بدقّة. وتَعرض شعاراتٍ لافتةً من قبيل "تداول كأنك مشرّع"، "ضارِب على طريقة بيلوسي"، أو "إن لم تستطع إيقافهم [. . .] قلّدهم". وتعتمد هذه المنصّات على جمع بيانات الإفصاح المالي لأعضاء الكونغرس، وترسل تنبيهاتٍ لحظيةً للمستخدمين مقابل اشتراكاتٍ شهريةٍ، بهدف استنساخ قرارات تداول من يُعتقد أن لديهم معلوماتٍ ذات أثرٍ مباشرٍ على السوق. غير أن بروس ساكردوت يرى أن هذه الخدمات "لا تنفع كثيراً"، لأن الإفصاحات البرلمانية تأتي غالباً متأخرةً، بعد فوات فرصة الربح الحقيقي.
وتختلف هذه المنصّات الترويجية عن مثيلتها الرقابية الجادّة، مثل "كابيتول تريدز" و"أنيوجوال ويلز" و"كويفر كوانتِتيف"، التي تُعنى بتوثيق بيانات التداول في الكونغرس وتحليله لأغراضٍ بحثيةٍ ورقابية. أما منظمة أوبن سيكرتس، فقد توقفت مؤخراً عن تتبّع معاملات النواب، بحسب ما أفادت به مديرتها التنفيذية هيلاري براسيث. ومع ذلك لا تزال المنصات الترويجية تجذب جمهوراً واسعاً من المضاربين الصغار. وتقدّر شركة "آيبِس وورلد" قيمة هذه الصناعة الناشئة بأكثر من اثني عشر مليار دولار. لكن الخبراء يحذّرون من أن بعض المنصات قد تضلّل المستخدمين، عبر ترويج تداولات محفوفةٍ بالمخاطر أو إيهامهم بوجود معلوماتٍ داخليةٍ لم تثبَت قانونياً.
ومع اقتراب المهلة النهائية التي حدّدها الرئيس ترامب لإعادة فرض الرسوم الجمركية، عادت شاشة حاسوبي للعمل بوضع التشغيل الدائم، وسط ترقّب موجةٍ جديدةٍ من الخسائر. لكن هذه المرّة، لم أعُد واثقاً أن الجميع سيخسر بالقدر ذاته.
