ومع بدء التهدئة في قطاع غزة صباح التاسع عشر من يناير 2025، بدأت تتكشف معالم انهيار القطاع الصحي في غزة والواقع الكارثي الذي صنعته إسرائيل، فصار عيش الفلسطينيين وبقاؤهم في غزة شبه مستحيل. وإلى أن تتعافى منظومة العمل الصحي بعد أجلٍ غير معلوم، تزيد احتمالات تفشي الأمراض المعدية والأوبئة والإصابات من مخلفات القصف الإسرائيلي العسكرية، بحسب تصريحات جهاز الدفاع المدني والمنظمات الدولية.
منذ الأيام الأولى لحرب السابع من أكتوبر، اتهمَ الساسةُ والعسكريون الإسرائيليون القطاع الصحي في غزة وحرّضوا عليه مدّعين أن المقاومة الفلسطينية المسلحة تتخذ من المستشفيات مقراتٍ لعملياتها وأنفاقها ومخازنها، وأنها تضمّ مطلوبين يتسترون بين المرضى والجرحى، وأن أسرى إسرائيليين احتُجزوا فيها. وبعد نفي مسؤولي وزارة الصحة والمنظمات الدولية العاملة في القطاع هذه الاتهامات، اضطر مكتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للتراجع أكثر من مرة عن هذه الادعاءات. تحديداً بعد تفتيش المراكز الصحية أثناء عمليات الاقتحام، خصوصاً بعد محاصرة مجمع مستشفى الشفاء المركزي واقتحامه ثم تدميره في مدينة غزة في أكتوبر 2023 ومارس 2024، بلا العثور على أدلة.
الاعتداءات العسكرية طالت معظم مستشفيات القطاع الستة والثلاثين، من إصدار أوامر عسكرية بإخلائها أو تطويقها ثم احتلالها ونسفها وحرق أقسامها، أو قصفها وتفجيرها بعد الخروج منها، أو اعتقال الكوادر الطبية والمرضى والجرحى ومرافقيهم والنازحين المقيمين فيها، أو العبث في سجلات المرضى والجرحى ومصادر الأرشيف الطبي. صعّبت هذه الاعتداءات عودة الأقسام والمستشفيات للعمل، حتى المباني الناجية منها، في ظلّ ضعف التمويل الخارجي لإعادة التشغيل. وارتكبت إسرائيل هذه الانتهاكات بلا مراعاة خصوصية هذه المرافق في القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة ومواثيق الأمم المتحدة التي تحظر الاقتراب من المستشفيات في أوقات الحروب والتصعيد العسكري.
كان بين الضحايا 125 طبيباً ونحو ثلاثمئة ممرض وتسعةٍ وأربعين ضابط إسعاف وأربعة وسبعين طبيباً صيدلياً وتسعة أكاديميين في العلوم الطبية وستة وستين طبيباً وفني أسنان وخمسة عشر أخصائياً بصرياً وثلاثمئة وأربعة من إداريي المرافق الصحية والمستشفيات.
كثير من ضحايا الطواقم الطبية من أصحاب التخصصات الدقيقة من جامعات غربية، وبعض التخصصات اقتصرت على طبيب أو اثنين في غزة، ما يعني أن فقدانهم سبّب شللاً كاملاً للأقسام الطبية التي عملوا فيها لصعوبة تعويضهم. قال المدير العام لوزارة الصحة في غزة الطبيب منير البرش للفِراتس: "فقدنا في وزارة الصحة نخبة من الأطباء في أقسام أساسية، منها القسطرة والقلب المفتوح والسرطان وجراحة الدماغ والأعصاب والحروق والمسالك البولية وجراحة العيون والشبكية، وتعويضهم قد يستغرق خمس عشرة إلى عشرين سنة".
لم يكن مقتل كثير منهم نتيجة تطاير شظايا عشوائية أو انفجارات في المحيط، ولكن يُرجح أنهم استُهدفوا عمداً في منازلهم أو نقاطهم الطبية وهم على رأس عملهم، وهذا وفقاً لشهادات وتقارير ميدانية ورسمية، منها لجنة مستقلة تابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. ومن بين الأسماء البارزة الطبيب أحمد الدلو، أستاذ علم الأدوية السريري الذي عمل محاضراً في جامعتَي الرباط الوطني في السودان والطائف في السعودية قبل عودته إلى القطاع، حيث أصبح عميد كلية الطب والعلوم الصحية في جامعة فلسطين. قصفت إسرائيل منزله وقتلته مع عائلته في 13 أكتوبر 2023.
قصف الطيرانُ الإسرائيلي منزلَ الطبيب مدحت صيدم في حي تل الهوى جنوب شرق مدينة غزة في 14 أكتوبر 2023، فقُتل هو وعائلته. كان صيدم أستاذ طب الحروق ورئيس قسم الحروق التخصصي في مجمع الشفاء الطبي. وفي تل الهوى أيضاً في اليوم التالي، قصفتْ إسرائيل منزل الطبيب عمر فروانة، عميد كلية الطب في الجامعة الإسلامية في غزة، فقتلته وزوجته وابنه وابنته الطبيبة وحفيدتيه. يُنسب لفروانة تأسيسه أول مركز لزراعة الأجنة وعلاج العقم في غزة منذ التسعينيات. وبعد أسبوعين قصفت إسرائيل منزل الطبيب عميد مشتهى وقتلته، وكان رئيس قسم المختبرات وبنك الدم في وزارة الصحة في غزة منذ سنة 2015.
أما الطبيب همام اللوح، المتخصص الوحيد في زراعة الكلى في القطاع، فقد قتلته إسرائيل بقصف منزله شمال غزة في 12 نوفمبر 2023. وقصفتْ منزل الطبيب رأفت لبد، رئيس قسم الباطنة في مجمع الشفاء الطبي والمدير العام لمستشفى حمد للتأهيل والأطراف الصناعية والمحاضر في كلية الطب في الجامعة الإسلامية، فقتلته وزوجته وبناته الثلاث في 18 نوفمبر 2023. وفي اليوم نفسه، قتلتْ إسرائيل الطبيب محمد دبور مع بعض أفراد عائلته أثناء محاولته النزوح من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، وكان دبور رئيس قسم الأمراض في الجامعة الإسلامية واستشاري علم الأمراض في مجمع الشفاء الطبي ومؤسس أول مختبر لفحص الخزعات في غزة. وفي 23 يناير 2024، قتل الطيران الإسرائيلي المسير الطبيبَ حسام حمادة، رئيس قسم الباثولوجي (علم الأمراض) في مجمع الشفاء والمحاضر في الجامعة الإسلامية، وهو يحاول الانتقال من منطقة أنصار غرب مدينة غزة إلى مكان آمن.
قصفت إسرائيل في 20 نوفمبر 2023 منزل الطبيب أيمن صالحة، رئيس قسم الجراحة في مستشفى شهداء الأقصى، فقتلته وزوجته وأبناءه الخمسة ووالديه. وقتلت إسرائيل كذلك رئيسَ قسم الطوارئ في مجمع الشفاء الطبيب هاني الهيثم مع زوجته الطبيبة سميرة الغفاري وأطفالهما بقصف منزلهم في 17 ديسمبر 2023. وفي أول يوم من 2024 قتلت إسرائيل الطبيب المختص بجراحة العظام والمفاصل محمد مطر أثناء عمله في مستشفى الخدمة العامة. وقُتل الطبيب ناصر أبو النور الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أكرون في ولاية أوهايو الأمريكية وعميد كلية التمريض في الجامعة الإسلامية، بقصف منزله في مدينة رفح في نهاية فبراير 2024.
استهداف الطاقم الطبي لم يقتصر على القصف الجوي، بل استمر بعد إطلاق إسرائيل عملياتها البرية في قطاع غزة نهاية أكتوبر 2023. كان من ضحاياها الطبيب الاستشاري أحمد المقادمة الذي قُتل مع كامل أفراد عائلته بقصف القوات الإسرائيلية منزلهم أثناء اجتياح مجمع الشفاء الطبي في أبريل 2024. كان المقادمة جراحاً تجميلياً وزميلاً سابقاً في الكلية الملكية في المملكة المتحدة، ورئيس قسم الحروق في مجمع الشفاء.
وقُتل أثناء الاجتياح البري الطبيب عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مجمع الشفاء، وكان البرش غادر مجمع الشفاء بعد انسحاب القوات الإسرائيلية واتجه شمالاً لمستشفى كمال عدوان في جباليا، لكنه انتقل لمستشفى العودة في منطقة تل الزعتر شرق مخيم جباليا بسبب تعقد الوضع الأمني في جباليا. اعتقلت القوات الإسرائيلية البرش في ديسمبر 2024 وقادته لسجن عوفر، ويُقال إنه نُقل إلى معتقل سدي تيمان سيء الصيت، حيث عُذِّب حتى الموت بحسب "هيئة شؤون الأسرى" و"نادي الأسير الفلسطيني"، وقد أعلنت وفاته في 19 أبريل 2024. اكتفى الناطق العسكري الإسرائيلي بنشر خبر وفاة البرش، ولم يُعلن عن سبب الوفاة، ولم تُفرِج إسرائيل عن جثمان البرش حتى اللحظة. عُذِّب حتى الموت أيضاً الطبيب إياد الرنتيسي، الذي مات بعد أسبوعٍ واحد من اعتقاله في أحد مراكز التحقيق في سجن عسقلان نهاية سنة 2023، لكن إسرائيل أخفت المعلومة عن عائلته حتى يونيو 2024.
قُتل الطبيب حسن حمدان أيضاً مع اثني عشر فرداً من عائلته في مدينة دير البلح في الثاني من يوليو سنة 2024، وكان أحد جراحي التجميل المعدودين في قطاع غزة ومؤسس أول قسم للحروق وجراحات التجميل في مجمع ناصر الطبي الذي أداره بين سنتَي 2019 و2022. وفي 12 ديسمبر 2024 اغتالت الطائرات المسيرة الإسرائيلية الطبيب سعيد جودة، آخر طبيب عظام كان يعمل شمال القطاع بينما كان متوجهاً من مستشفى كمال عدوان إلى مستشفى العودة لإجراء عملية جراحية طارئة.
أدى نقص الكوادر الطبية والخدمات الصحية إلى أزمةٍ حادة تهدد مستقبل آلاف الجرحى والمرضى. وتعليقاً على هذا قال مدير المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة بغزة الطبيب مروان الهمص للفِراتس: "يموت يومياً عشرون مريضاً بأمراضٍ قابلة للشفاء، توفي حتى اللحظة 40 بالمئة من مرضى غسيل الكلى البالغ عددهم ألفاً ومئتي مريض، وقد يتمادى سوءُ الأحوال لذوي الأمراض المزمنة كالضغط والسكري وأمراض القلب والجهاز العصبي، الذين يزيد عددهم عن ثلاثمئة ألف مريض، ومرضى السرطان البالغ عددهم أحد عشر ألف مريض، إلى جانب خمسة وعشرين ألف إصابة حرجة يحتاجون سفراً عاجلاً خارج القطاع".
قال الطبيب منير البرش للفِراتس إن المستشفيات استعانت ببطاريات الليثيوم والبطاريات السائلة، التي بيعت بأسعار مضاعفة في الأسواق، لتشغيل أقسام محددة لا تحتمل قطع الكهرباء وتحديداً العناية المشددة وغرف العمليات وحضانات الأطفال وأقسام الحروق. ولكن الطواقم الفنية والإدارية كانت دائماً في حالة طوارئ وسباق مع الزمن لاحتساب جهد الكهرباء في البطاريات، ومحاولة توزيع الأحمال على الأقسام لضمان أطول وقتٍ زمني للتشغيل.
وأضاف البرش أن "مئات العمليات الجراحية، وعشرات آلاف حالات الانعاش، أجراها الأطباء في مستشفى الشفاء في غزة والمعمداني في شمال القطاع وشهداء الأقصى في وسطه وناصر في خان يونس جنوبه، على أضواء الهواتف وأجهزة التنفس والإنعاش اليدوي. رغم أن البروتوكول الطبي لا يفضل التعامل معه إلا في حالات خاصة ونادرة جداً لمخاطرها والجهد المضاعف فيها، لكن الأطباء تعاملوا ضمن هذا البروتوكول طيلة شهور الحرب".
في التاسع من أكتوبر 2023، أي بعد يومين من بدء حملة القصف المكثف على القطاع، أصدر الجيش الإسرائيلي قراراً عسكرياً بإخلاء مستشفى بيت حانون شمال القطاع، ليكون أول منشأة صحية في القطاع تتوقف عن الخدمة. ترافق التحذير الإسرائيلي مع القصف المدفعي والجوي الذي استهدف مرافق المستشفى ومبانيه وساحاته الخارجية، فاستحال تحركُ الأطباء والعاملين، ما اضطر إدارة المستشفى لإخلائه ونقل الجرحى والمرضى إلى مستشفيات مدينة غزة. تبع ذلك في 11 نوفمبر 2023 إصدار الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء شملت كل المستشفيات والمرافق الصحية في مدينة غزة وشمال القطاع، ومطالبة جميع العاملين الاتجاه نحو جنوب القطاع، ما بدا للفلسطينيين تنفيذاً لمخطط تهجير الفلسطينيين من شمال القطاع إلى جنوبه، والعمل على تحويل شمال القطاع إلى منطقة غير صالحة للسكن.
سرعان ما تُرجمت التهديدات الإسرائيلية إلى أفعالٍ عسكرية، فبدأ استهداف المستشفيات يتصاعد من استهداف محيط المستشفى إلى قصف المستشفى وتدميره. تضررت أقسام الحضانة وغسيل الكلى في مجمع الشفاء الطبي منذ الشهر الأول للحرب. وفي الشهر التالي زادت وتيرة الاستهداف، فقصفت إسرائيل سيارات الإسعاف على بوابات المستشفى وقسمَ العناية المشددة. وفي العاشر من نوفمبر 2023، بدأ حصار مجمع الشفاء الطبي لأول مرة بالدبابات والآليات العسكرية. استمرّ أسبوعين، وانتهى باعتقال جميع الباقين فيه من إداريين وأطباء وجرحى ومرافقين وصل عددهم خمسة آلاف معتقل، بينهم مدير المستشفى الطبيب محمد أبو سلمية ورئيس قسم جراحة العظام الطبيب عدنان البرش. أعلنت بعدها وزارة الصحة خروج أكبر مستشفيات قطاع غزة عن الخدمة.
بعد انسحاب القوات الإسرائيلية وإعادة ترميم بعض أجزاء المستشفى، استأنف مجمع الشفاء الطبي عمله جزئياً. إلا أن القوات الإسرائيلية عادت إليه وحاصرته مرة أخرى في 17 مارس 2024. اقتحمتْ أقسامَه واحتجزت مئتين وأربعين مريضاً والعشرات من الكوادر الطبية، وفجرت مبنى الجراحة التخصصي وأحرقت مبنى الباطنة والاستقبال وأقساماً أخرى، ونبشت قبور الموتى المدفونين في فناء المجمع الخارجي. ومن داخل مجمع الشفاء الطبي قال رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي إن الاقتحام هَدف إلى إلحاق ضررٍ جسيم بحماس وتفكيكها وقتل قيادتها العسكرية وإلى الضغط على حماس في المفاوضات.
يضمّ الشمال مدينة غزة ومحافظات شمال القطاع، جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون. ويضم الجنوب معسكرات وسط القطاع، الزهراء والمغراقة والنصيرات والبريج والمغازي والزوايدة ودير البلح ومدينتَي خان يونس ورفح. وكان في شمال القطاع ثلاثة وعشرون مستشفى ومرفقاً صحياً، منها سبع مستشفيات عامة مثل مجمع الشفاء الطبي ومستشفى القدس والأهلي العربي المعمداني. في حين ضمّ الجنوب ثلاثة عشر مستشفى ومرفقاً صحياً، منها سبعة مستشفيات عامة مثل مجمع ناصر الطبي في خان يونس وأبو يوسف النجار في رفح.
تعاملت إسرائيل بعنف مع شمال القطاع، فكثّفت القصف وحالات الاقتحام واغتيال الأطباء والعاملين، إذ لم ينجُ أي مستشفى من اقتحام أقسامه وتفجيرها وتفخيخها. كانت واحدة من أهم مظاهر هذه الوحشية ما سُمّي "مجزرة المستشفى المعمداني" التي وقعت في السابع عشر من أكتوبر 2023. حينما استُهدف المستشفى بهجوم جوّي على ساحته الخارجية تسبّب بمقتل أكثر من خمسمئة فلسطيني حسب وزارة الصحة في غزة، وأصيب آلاف آخرون بحروق من درجات متقدمة. في حين نفت إسرائيل مسؤوليتها وألقت باللائمة على الفصائل الفلسطينية المقاتلة، وساندها بهذا الادعاء الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، أثناء زيارته إسرائيل بعد المجزرة بيوم.
كان استهداف مستشفى المعمداني نقطة تحوّل في نفق انهيار القطاع الصحي في غزة. فقد بدأ الرعب في صفوف الأطباء والكوادر الصحية، وقرّر كثيرون النزوح نحو وسط القطاع وجنوبه في "المنطقة الإنسانية" المزعومة التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، ليعملوا في مرافق وزارة الصحة هناك. هكذا تراجعت أعداد الكوادر الطبية شمال غزة إلى نحو ألف موظف فقط بعد أن كانوا اثني عشر ألفاً قبل الحرب، حسب تصريحات الوكيل المساعد لوزارة الصحة في غزة ماهر شامية لوسائل الإعلام.
لم يتوقف الفصل بين شمال وجنوب غزة، بل امتد إلى عزل محافظات شمال القطاع، جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون عن مدينة غزة في نوفمبر 2024، ما عُرف بمحور "مفلاسيم". كانت هذه المحافظات تضمّ أربع مستشفيات رئيسة، المعمداني وبيت حانون والاندونيسي وكمال عدوان، تقدّم خدماتها لنحو ثلاثمئة ألف مواطن تقلّصوا إلى عشرين ألفاً وقت الحصار. وتحولت هذه المحافظات إلى منطقة معزولة كلياً عن باقي القطاع وباتت حركة الكوادر الطبية وحتى المنظمات الدولية شبه مستحيلة، ما بدا مقدمةً لتنفيذ الجيش الإسرائيلي عملية تصفية لما تبقى من مراكز صحية في شمال القطاع والتعامل معها منطقةَ عمليات عسكرية، فارضاً حصاراً مطبقاً عليها. ومع منع وصول أي إمدادات طبية إلى المستشفيات، انهارت منظومة القطاع الصحي سريعاً وتُرك المصابون ينزفون حتى الموت، لتعذّر وصول طواقم الإسعاف إليهم، واقتحمت القوات الإسرائيلية جميع مستشفيات الشمال وفجَّرت أقسامها.
مع تكرار القصف تقلّصت قدرة المستشفى المعمداني لأقل من ثلث قدرته التشغيلية. وبات اعتماده على المتطوعين والمتدربين، بعد أن غادره معظم الأطباء والممرضين الذين اعتُقلوا أو نزحوا لجنوب القطاع، أو نَقلوا عملهم لمستشفيات أقل خطراً. وفي 19 ديسمبر 2024، اقتحم الجيش الإسرائيلي المستشفى بعد حصاره أربعة أيام، واعتقل فيها العشرات من الكادر الطبي ومئات المرضى والجرحى. أما مستشفى بيت حانون، المرفق الصحي الوحيد في بلدة بيت حانون، فقد خرج عن الخدمة منذ اليوم الثاني للحرب واضطرت الكوادر الطبية إلى مغادرته نحو مستشفيات أخرى في شمال القطاع وجنوبه.
استُهدف المستشفى الإندونيسي في حي تل الزعتر بمخيم جباليا من اليوم الأول للحرب، وفي الثالث من نوفمبر 2023 أعلنت وزارة الصحة توقف مولداته لنفاد الوقود، فصار يعمل بنظام الطوارئ، وهو جدول كهرباء أربع ساعات يومياً. وفي السابع من الشهر نفسه، بدأ الجيش الإسرائيلي حصاره بقصف محيطه بالأحزمة النارية. استمر الحصار أسبوعين حتى دخل أول رتل عسكري ساحاته لتعلن وزارة الصحة خروجه عن الخدمة. عاد المستشفى للعمل بطاقة استيعابية محدودة، ثم حاصره الجيش الإسرائيلي للمرة الثانية في أبريل 2024 بعد تحذير لإخلاء مربعات سكنية في حي تل الزعتر بمخيم جباليا كان المستشفى ضمنها. وبين أكتوبر ونوفمبر 2024 طوّقه الجيش الإسرائيلي للمرة الثالثة، وأخلاه من المرضى والجرحى والطواقم الطبية، فحرق بعض أقسامه وفجرها.
كان مستشفى كمال عدوان الصورة الأوضح، ولربما الأكثر رمزية، لمدى وحشية استهداف إسرائيل مستشفيات محافظة شمال غزة. تلقت إدارته في 14 أكتوبر 2023 أول تحذير من إسرائيل لإخلائه، وبعد أسبوع قُصف فقُتل العشرات من المرضى والجرحى ومرافقيهم والنازحين. عاد الطيران والمدفعية الإسرائيلية لقصفه في الرابع من ديسمبر 2023 مخلفاً عشرات القتلى. كان ذلك تمهيد أول عملية اقتحام لمستشفى كمال عدوان استمرت اثني عشر يوماً، وانتهت باعتقال مديره الطبيب أحمد الكحلوت وسبعين آخرين من العاملين في المستشفى.
ينقل الممرض أسامة البوجي شهادته للفِراتس أثناء حصار مستشفى كمال عدوان، ويقول إن القوات الإسرائيلية بدأت حصارها بتمهيد ناري استمر ليلتين في محيطه، حين كان يبيت في فناء المستشفى الخارجي نحو ثلاثة آلاف نازح، هرب معظمهم وأصيب بعضهم وبقوا ينزفون حتى الموت. كان عدد المحاصرين نحو ثمانين موظفاً ومئتي مصاب وأضعافهم من المرافقين. يضيف البوجي إن القوات الإسرائيلية قطعت المياه أثناء الحصار وقتلت ستة مواطنين كانوا يبحثون عن الطعام والمياه في الطوابق العليا.
وفي اليوم الخامس لحصار مستشفى كمال عدوان، بحسب البوجي، استدعت القوات الإسرائيلية مدير المستشفى ورئيس قسم الطوارئ، وأمرتهما بخلع ملابس الطواقم الطبية وغطت أعينهما وكبلتهما وحققت معهما. ضُرب البوجي أثناء التحقيق معه، ونُقل غالبية الأطباء إلى مراكز اعتقال ثم أُفرج عنهم في جنوب القطاع، مما بدا محاولةً للتهجير القسري وفصلهم عن أماكن إقامتهم في شمال غزة.
طوّق الجيش الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان مجدّداً في مايو 2024، وقتل تمهيده الناري أربعين شخصاً فيه. دخلت الدبابات الإسرائيلية ساحاته المرة الثانية في 19 مايو، واستمر حصاره حتى الرابع من يونيو، لتعلن وزارة الصحة خروجه عن الخدمة.
جاءت الطامة في الثامن من أكتوبر 2024، في خضم عملية الجيش الإسرائيلي الكبرى في محافظات شمال غزة وفي ظل أخبار عن اعتبار العملية محاولة تهجير بالقوة لإفراغ الشمال من أهله. أصدر الجيش الإسرائيلي أمراً بإخلاء مستشفيات شمال القطاع كافة، بما فيها كمال عدوان، وأطلق عشرات الطائرات المسيرة فوق ساحاته. بدأ الجيش حصاراً استمر حتى السادس والعشرين من الشهر ذاته. سُمح خلالها للنساء بالخروج إلى مدينة غزة عبر فتح ممر آمن لهن، أما الرجال فأجبروا على خلع ملابسهم وحُقق معهم واعتقل أغلب الكادر الطبي والمرضى والجرحى والمرافقين. تطور الأمر في مطلع نوفمبر 2024، إذ حاصر الجيشُ مستشفى كمال عدوان أكثر من ثمانين يوماً، وبدأ الجيش الإسرائيلي قصف محيطه بأحزمة نارية وأرسل عشرات الآليات المفخخة لتفجير بوابات المستشفى وما تبقى من أقسامه. أعدم الجنود الإسرائيليون عدداً غير معلوم ممن بقي داخله، واعتقلوا مديره الطبيب حسام أبو صفية في 27 ديسمبر 2024. وفي حين تسرّبت رسائل عن تعذيبه وتدهور وضعه الصحي داخل المعتقل، تمكن المحامي محمد جبّارين من زيارة أبو صفية بعد أسابيع من المصير المجهول، وأكّد أنه تعرّض للتعذيب بعد احتجازه أربع وعشرين يوماً في زنزانةٍ انفرادية، بعدما أُحيل إلى الاعتقال المباشر بموجب ما يُعرف بقانون "المقاتل غير الشرعي" من دون أن يخضع للمحاكمة. وقد ظهر أبو صفية بالصوت والصورة للمرة الأولى منذ اعتقاله، حليق الرأس بِيَدين ورجلين مكبّلين من داخل زنزانته، في مقابلةٍ بثّتها القناة 13 الإسرائيلية في 19 فبراير 2025. ولا يزال معتقلاً حتى تاريخ نشر المقال.
انهيار المنظومة الحكومية والصحية عنى عجزها عن دفع الرواتب، وهو ما ساهم في خدمة الهدف الإسرائيلي ببث الشلل في جميع أرجاء القطاع الصحي في غزة. كانت حكومة غزة التي تتولى إدارتها حركة حماس تدفع رواتب غير منتظمة للكوادر الطبية كل خمسة وأربعين يوماً، بمبلغ يتراوح بين مئتين وثلاثمئة دولار، مقابل رواتب المنظمات الدولية التي تصل نحو ثلاثة آلاف دولار للطبيب وألف وخمسمئة دولار للممرض وألف وثلاثمئة دولار للإداريين ومبالغ أقل لباقي الموظفين.
أصبحت المستشفيات خاضعة لإدارة مشتركة بين وزارة الصحة والمنظمات، لكن المنظمات اشترطت كامل الصلاحيات في إدارة المجمع الطبي. فلم تسمح بنزوح السكان في محيط المستشفى، ومنعت استخدام أي سرير مرضى داخل المستشفى إلا بشروطه صحياً، بمعنى أنه لا يحق لأي نازح أو مصاب تراجعت خطورة إصابته أن يستخدم سريراً شاغراً. وبات لهذه المنظمات كامل الصلاحيات في إعادة تقييم التقارير الطبية، وتحديداً التقارير التي يمنحها الأطباء للجرحى والمرضى من الحالات المستعصية ليُسمح لهم السفر لتلقي العلاج في الخارج. وكانت أذون الخروج ضمن ما جرى التوافق عليه في اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل.
واستُحدثت المستشفيات الميدانية والنقاط الطبية المتنقلة بهدف الإبقاء على الخدمات الصحية بما هو مُستطاع بعد تدمير القطاع الصحي الرسمي. وتعمل اليوم في القطاع عشرُ مستشفيات ميدانية بقدرة استيعابية تبلغ ستمئة سرير موزعة على مدن دير البلح وخان يونس ورفح، وفي منطقة السرايا وسط مدينة غزة. يشير أحد المديرين التنفيذيين في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني للفِراتس أن الجمعية ومنظمة أطباء بلا حدود هما المسؤولتان حصراً اليوم عن إدخال المستشفيات الميدانية. تُنشأ المستشفيات بتقديم توصية للجانب الإسرائيلي، وفورَ الموافقة تُشترى قطعةُ أرض أو تُستأجر لتجهيزها وإدخال عربات متنقلة وأجهزة طبية.
وإلى جانب المستشفيات الميدانية تعمل ثلاث مراكز صحية لوكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، من أصل اثنين وعشرين مركزاً في الماضي. وكانت الوكالة استحدثت أربعاً وخمسين نقطة طبية متنقلة داخل مراكز الإيواء المنتشرة من شمال القطاع إلى جنوبه. وقال الوكيل المساعد بوزارة الصحة في غزة الطبيب ماهر شامية للفِراتس إن خسائر القطاع الصحي في غزة بلغت بتقدير أولي ملياري دولار، وإن ما يعمل في القطاع حالياً نحو سبعة وخمسين مركزاً صحياً من أصل 142، وثمانية عشر مستشفىً من أصل خمسة وثلاثين، أي نحو 50 بالمئة. وعدد الأسرّة المتاحة للمرضى والجرحى بلغت تسعمئة وخمسين سريراً، عدا المستشفيات الميدانية التابعة للهلال الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود. تحاول الوزارة، بحسب شامية، إحياء القطاع الصحي في غزة عبرَ التواصل مع المنظمات الدولية والجهات المانحة في دول الخليج العربي ومصر والأردن وتركيا وماليزيا، وتسعى إلى استقطاب ثلاثمئة من أفراد الكوادر الطبية عاجلاً لتعويض القتلى من الأطباء.
