تفرّجَ روادُ المَقهى علينا حتى أنهم شاركونا النقاش. قال أحدُهُم وكأنه ينوبُ عن بقية المُتفرّجين: "صحيح. هُمَّ مين المحبظاتية دُول يا جماعة؟". لكن خيَّبَ الدارسُ الجنوبي ظنَّ الجميع في المقهى، وأولهم أنا. لا يعرفُ عن المحبظاتية إلا ما سَمعهُ من أستاذه في معهد الفنون المسرحية. انقلب النقاش إلى ندوة فُكاهية قدّمَ فيها الجالسون كلّ إجابة خياليّة ومعقولة عن "الناس الحَبَابيظ دُول"، وفقاً لتَسْمِيَة بديلةٍ راجتْ على ألسنة جمهور المقهى.
عُدْتُ إلى البيت في أواخر الليل ودوّنْتُ في دفتر كبير استغرابَ الناس في المقهى حكاية المحبظاتية. كتبتُ أسئلة مؤجلة من نوع: مِحَبَّظون أم مِحَبَّظاتيّة؟ ومن أين جاء المقهى بتَسْمِيَة حَبَابيظ؟ وكيف كانت حياتُهم في زمن المماليك والعثمانيين، بدءاً من القرن الثالث عشر؟ ولماذا اختفى ذِكْرُهُم فجأة؟ تلاشتْ مَضْحَكَة المقهى من عقلي خمس سنوات، إذ أنني بعد أسبوع من تلك الندوة الفُكاهية تعبتُ تَعَباً شديداً في إيجادِ مراجع عربيةٍ أو أجنبيّةٍ عن المحبظاتية. "أُحْبِطْت؟"، سألتُ نفسي ثم قلتُ إن حكاية الفنانين الجوّالة الذين اختفوا، أوْلَى لها أن تنامَ في دفاتري حتّى يمرّ ذاك الشتاءُ الباردُ.
أيْقَظَ عامودٌ مَعدِنيٌّ في الشارعِ كلَّ شيء في أول أكتوبر سنة 2024، واستيقظتْ أسئلةُ المحبظاتية التي سَكَنَتْني ودَفاتري سنواتٍ من دون إجابات. فعندما نَزِلتُ نهاراً إلى مسرح الجيزويت وسطَ القاهرة، أسألُ عن برنامج عروضٍ مسرحي مُحتمل، فوجئتُ بورقةٍ مُلصقةٍ فوقَ عامودِ كهرباء عن فرقةٍ مسرحيّةٍ اسْمُها "المحبظاتية"، كُتِبَتْ هكذا بلا تشكيل. هزّتْني المُصادفة مثلما هزّتْني ندوةُ المقهى. استعدتُ في الليل دفترَ المحبظاتية الذي كاد يختفى مثلُهُم. قرّرْتُ اسْتقصاءَ آثارِهِم في مخطوطات المؤرخين والمُستشرقين الأجانب. اِعْتَزَمْتُ لقاءَ مُمثلينَ مسرحيين ومؤرخينَ ودارسينَ تاريخَ المسرح، فقد أقتربُ في لحظةٍ من البحث من ملامحَ حاوطتْ حياةِ المُهرّجين المصريين الذين أخْفَتْهُم شَوارعُ القَاهرة.
بحثتُ عن الفرفور الطبّال فعثرتُ عليهِ مكتوباً "إمحاب" في كتاب "الموسيقى والمجتمع في مصر القديمة" المنشور سنة 2017 للدكتور خيري الملط، أستاذ التربية الفنية بجامعة حِلوان. يُورِدُ الكاتبُ أنّ "هذا الطَبّال كان من أشهر عازفي الطبول ذات الشكل البيضاوي في عصره، وكان يُرافقُ الملوكَ في المُناسبات العسكرية والمواكبيّة" في الأسرة السابعة عشرة التي حَكمَت مصر ثلاثينَ عاماً بين عامي 1580 و1550 قبل الميلاد. وتُبيِّنُ لوحة معبد إدْفو أن المُمثّلينَ الجوّالة وُجِدوا في مصر، وأن اثنَيْنِ منهم كانا يمثلان دوري الملك والإله، وقد عاين المُنَقِّبُ الأثري المصري سليم حسن اللوحة وَنَقَلَ ما فيها في "موسوعة مصر القديمة" المنشورة سنة 1945، فيقول سليم حسن: "وَهَاكَ الجملة [على لسان مُمثّلٍ جَوّال] التي تشير إلى ذلك في اللوحة: 'لقد رافقتُ سيدي في جولاته دون أن أُخفِق في الخَطَابة، ولقد جاوبتُ سيدي على كل خُطْبة: فإذا كان هو [يُمَثّلُ] إلهاً كنت أنا ملكاً، وإذا كان يقتلُ كنت أُحْيِى'".
لم تنقطع بعد ذلك عروضُ المحبظاتية طيلة حِقَبِ الحكم الأجنبي الطويلة لمصر، بتَسْمياتٍ كالفَرافير أو الكَتاكيت أو تَسْمياتٍ أخرى. فشُوهِدَ المُهرّجُ الجوّالُ الذي يركبُ فوق حماره في عيدَي النّيْروز واحتفالية فيضان النيل كل عام في زمن المماليك في القرنيْن الثالث عشرَ وبدايات السادس عشر. وكان المُهرّجون راكبو الحمير يمثّلُونَ دورَ الحاكم المجنون فيُضحِكون المُتفرّجين في الشوارع، ولا يتورّعُ المُهرّجُ منهم عن رشِّ الضاحكين المُفْلِسينَ بالماء إن لم يعطوه مالاً. ويذكرُ المؤرحُ المصري ابن إياس الحنفي نهاية القرن الخامس عشر سيرة المحبظاتية في سياقِ آخرِ نُزهةٍ نيليّةٍ للسلطان المملوكي الناصر محمد بن قايتْباي قبل ثلاثة أيام من مقتله. نقرأُ في الجزء الثالث من كتابه الموسوعي "بدائع الزهور في وقائع الدهور" المنشور مُحَقَّقاً سنة 1984: "فلمّا كان يوم الاثنين ثالث عشرة ربيع أول 904 للهجرة [1498 ميلادي] نزل السلطان من القلعة وتوجه إلى نحو قناطر العشرة، وكان ذلك في أواخر النيل، فعدَّى إلى برّ الجيزة، وسبقه الخام والمطبخ . . . فأرسلَ أحضرَ أحمد أبو الخير بعدّة خيال الظل، وجوق مغاني العرب، وبْرِّيوَه ريّس [رئيس المحبّظين]، وأقام هناك ثلاثة أيام، وهو في أرغد عيش، وقد خرجَ عن الحدّ من اللهو والخلاعة والانشراح".
ولم يسلم المحبظاتية من هجومِ بعضِ من كتبوا عنهم أمثال المؤرّخُ تقي الدين المَقريزي الذي عاشَ بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر. يهاجم المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" مُهرّجي عيد النّيروز الذين يركبون فوق الحمير، عندما يقولُ: "يوم النوروز [النّيْروز] القبطي هو مستهلّ تُوتْ، وتُوتْ أول سنتهم وقد كان بمصر في الأيام الماضية والدولة الخالية من مواسم بَطَالاتهم [إجازاتهم] ومواقيت ضَلَالاتهم فكانت المُنكرات ظاهرة فيه والفواحش صريحة فيه ويركبُ فيه أميرٌ مَوْسومٌ بأمير النوروز ومعه جمعٌ كثيرٌ ويتسلّطُ على الناس . . . ويَقْنَعُ بالمَيْسور من الهبات . . . ويتراشُّ الناسُ بالماء، وبالماء والخمر، وبالماء ممزوجاً بالأقذار فإن غَلِطَ مَسْتورٌ [شخصٌ غافلٌ] وخرجَ من داره لَقِيَهُ من يرشُّه ويُفسدُ ثيابَه، فإما فَدَى نفسَه [وَهَبَ هِبَة] وإمّا فُضِح".
يُرَجّحُ المؤرخ المسرحي عمرو دوّارة أنّ المحبظاتية عاشوا في أزمنة أقدم من زمن المماليك. يقول عمرو للفِراتسْ إنّ "التحبيظ كلمة عاميّة مصريّة صافية وهي قديمة، ونجدُ الآن على وزنها 'مِضَحَّكَاتي' لكن لا يُعرَفُ من أطلقَها. من المُرجح جداً أنّ متلقياً عابراً أعْجَبَهُ عرضاً للمِحَبَّظاتيَّة فأطلق عليهم التَسْمِيَة التي لازَمَتْهم عدّة قرون". مثّلَتْ فِرَقُ المحبظاتية، حَسب عمرو دوّارة، اتجاهاً فنيّاً شعبيّاً يعتمدُ على الفكاهة المسرحية الموسيقية المُرتجلة والتقليد والسخرية والقَافِيَة. والقَافِيَة نوع من المزاح، يقولُ واحدٌ كلمة فيردّ عليه الآخر بكلمة تثير الضحك. كأن يقول أحدُهُم للآخر:"جَنابَكْ وِسْطِ الرِجَّالَة؟"، فيردّ عليه: "إشْمِعْنَى"، فيُقَفِّي السائل، أو يُجيبُ ساخراً: "مَكْسور الجناح". نقلَ المحبظاتية هذه القافِيَة الشعبيّة إلى الموالد والمواكب والاحتفالات، وأصبحت فَقْرَةً فكاهية مطلوبة من المتفرّجين والمَارَّة. ونقل إسماعيل ياسين في بداياته الفنيّة نفس القافيَة في فصولِ ضحكٍ، وفي أعمالٍ سينمائية كفيلم "حَمَاتي قُنْبُلة ذريّة" سنة 1952.
سَكَنَتْ فِرَقُ المحبظاتية في أحياء فقيرة تحاوطُ حيّ الأزبكية وسطَ القاهرة، حيث قصور الأمراء والأغنياء وبيوتهم والمسارح وميادين الاحتفالات الشعبية. كانوا فرقاً شتّى كفرقة "أولاد رابية" التي استمرّت تعملُ حتّى السنوات الأولى من القرن العشرين. وتتألفُ الفرقة، حسب عمرو دوّارة، من خمسة ممثلين يسترزقون القليلَ من إضحاك الناس في الشوارع. عاشتْ فرقٌ منهم في وضع اجتماعي أعلى من فرقٍ أخرى فقيرة في زمن المماليك والعثمانيين، إذ اعتمدوا على عطايا حفلات الأغنياء. يتفاوضُ رئيس فرقة المحبظاتية على مصاريفِ الحفلة وبرنامجِها الذي يجب أن يتضمن اللحمَ والفواكه في الغداء والعشاء لكل الممثلين. سألتُ عمرو عن نظرة الجمهور إلى فرق المحبظاتية، فقالَ: "كانت نظرة استهزاء خصوصاً من النُخبة المتأثرة بالثقافة الأوروبية، بينما كانت علاقة الجمهور بالفرق التمثيلية الجوّالة علاقة تسلية لا أكثر، إذ انتمى أغلب المحبظاتية إلى الغَجَرِ الذين يعيشون على هامش القاهرة، كان الجمهور العابرُ يحبُّ لحظة الفُرجة لكن لم يهمّه يوماً إن نامَ هذا الفنّان الشعبي وبطنُهُ فارغة من طعام".
يظلّ الرحّالة والجُغرافي الدنماركي كارستن نيبور أول من قدّم تدويناً أوروبياً مكتوباً عن حياة المُهرجين المصريين الجوّالة في كتابه "رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وبلاد أخرى مجاورة لها" المنشورة ترجمتُه سنة 2007. زارَ نيبور مصر سنة 1761 ضمن بعثة علمية وشاهدَ عروضاً مسرحيّة شعبيّة فَكَتَبَ: "قد تعتقدُ أنّهُ لا وجود للحفلات المسرحيّة في مصر إلا أنّ في القاهرة فرقة كبيرة من الممثلين مؤلفة من مسلمين ويهود ونصارى. من مظهر هؤلاء نعرف أنهم لا يحصلون على أجور جيدة. وهم يُقبِلونَ على التمثيل أمام أيٍّ كان مهما كان الأجر زهيداً، ويستعملونَ باحَةَ المنزل أو يُمثّلون في الهواء الطلق، وفي جزء من مكان التمثيل هناك ستار يُغيّرون ثيابَهم خلفه".
لم يشاهد كثيرٌ من الأوروبيين مسرحيات مصرية حسب المصادر. أثناء زيارة نيبور اتفقَ الرحّالة مع فرقة من الممثلين الجوّالة أن يعرضوا تمثيلهم في منزل رجل إيطالي متزوّج، إلا أنّ نيبور لم يُعجَبْ لا بالموسيقى ولا بالممثلين، ولم يكن من الأصل يجيدُ اللغة العربية. أغضبتْ المسرحية الرحالة الدنماركي والمُتفرجين الإيطاليين لأمرٍ آخر إضافي، إذ أنّ أحداثَها تدور حول رجلٍ مِحَبَّظاتي يرتدي ثياب امرأة ويمثّلُ أنها تدعو المُسافرين الأجانب إلى خيمتها، فتسلبُهُم مالهم ثم تطردُهُم منها. "أحدُ التجار الشبّان [مُتفرِّج أوروبي] ملَّ من رؤية هذه السخافات فأيّدهُ بعض المُشاهدين وطلبوا من المُمثلين إنهاء المسرحية التي لم تكن قد بلغتْ مُنتصَفَها"، حسب ما كتب نيبور.
كان المُستشرقُ الإنجليزي إدوارد وليام لين صديقاً مُقرّباً من محمد علي باشا، الذي حكمَ مصر بين 1805 و1849، فشاهدَ عروضاً مسرحية لفرقة من المحبظاتية في منزل الوالي أثناء حفل خَتْن أحد أولاده سنة 1834. تركَ صديقُ الوالي انطباعاتٍ لافتة في كتابه "عادات المصريين المُحدِّثين وتقاليدهم" المنشورة ترجمتُه سنة 1999. يستنتجُ أنّ مسرحية "ديْنُ عَوَض" التي أدّتها فرقة محَبَّظاتيَّة كانت احتجاجاً على مَسْلَك المسؤولين في جمع الضرائب في مصر، إذ اقتصرتْ الشخصيات على العُمدَة وشيخ البلد وخادِمِهُ وكاتب قبطي وفلاح مدين للحكومة وزوجته وخمسة أشخاص آخرين، مثَّلَ اثنان منهم دور طبّالَيْن وثالث عازف مزمار وظهر الاثنان الباقيان في دور راقصَيْن.
يُقلّلُ إدوارد وليام لين من شأن مسرحيات المحبظاتية. يقولُ إنّ "عروضهم لا تستحقُ الاسترسال في وصفها، فهُم يستدرِّون تصفيقَ الناسِ من خلال أعمالهم المُبتذلة ودُعاباتهم السوقية"، لكنه يضيف: "يُسرُّ المصريون كثيراً بالعروض التي يُقدمها المهبّذون [المحبّظون] وهم مهرجو المهازل المُبتذلة. ويؤدي هؤلاء مهازِلهم عامة خلال الاحتفالات التي تسبقُ الأعْراس وحفلات الختان في منازل كبار القوم، فيستقْطبون حلقات المتجمهرين إلى عروضهم في ساحات القاهرة العامة".
قرأتُ في عدد مجلة "الآداب" اللبنانية الصادر في يناير سنة 1987 دراسةً مطوّلَة للباحث اللبناني فاروق سعد تحت عنوان "المسرح في التراث الشعبي". تورِدُ الدراسة نقلاً عن كورتْ بروفر، وهو دبلوماسي ألماني ولد سنة 1881، قصة اثنين من المحبظاتية المجهولين في القرن التاسع عشر، أحدهما مُغنّ اسمه الشيخ حمزة كان بعد أن يؤدّي الأغاني الخفيفة يتبعُ غناءه ببعض النوادر والفكاهات. وكان هناك، حسب الدراسة، مِحَبَّظاتيٌ متجولٌ آخر اسمه أحمد فهيم الفار يُعرفُ باسم "ابن رابية" ويعملُ ضمنَ فرقة تضمّ اثني عشر مُمثلاً من الرجال يؤدّون الأدوار النسائية. لمعَ اسمُ "الفار" أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً سنة 1897 ضمن ممثلي فرقة إسكندر فرح، وظلَّ يتنقلُ بين فِرَقِ المسرح الكلاسيكي المحترفة سنوات طويلة. فعملَ في فرقة الشيخ سلامة حجازي وفرقة جورج أبيض وفرقة عُكاشة وفرقة عزيز عيد وفرقة منيرة المهدية، وجميعها فِرقٌ مسرحيةٌ احترافيةٌ ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وكانت تقدّم عروضها المبنية على روايات ومسرحيات مُعرّبة تأسس عليها في البداية تراث المسرح الكلاسيكي (مسرح العُلبَة) المصري. ومع كلِّ هذه القصص عن المحبظاتية لم تُذكر كثيراً سيرة فرقة "المَضْحَكْخانة الكبرى"، وهي فرقة مِحَبَّظاتية من الهُواة كانت تجتمعُ في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مقهى اسمه "المَضْحَكْخانة الكبرى". كان رئيسُها الشيخُ حسن الآلاتي. يُحدِّثُنا حسن الآلاتي في كتابه "ترويحُ النفوسِ ومَضْحَكُ العُبوس" المنشور سنة 1889، فيقول عن فرقتِه: "كانت هيئتُنا الاجتماعية وجِلُسَتُنا الاختراعيّة مشتملة على سائر الفنون من معقولٍ ومنقولٍ وجدٍّ ومُجون".
اعتبرتْ النُخَبُ المصريةُ المُتعاقبةُ تراثَ المُهرّجين الجوّالة وثقافة الفُرْجَة الشعبية من فنون العامَة والدّهْماء والغَوْغاء والرِعاع، ممن لا ينتمون إلى النخبة أو السادة أو عِليَة القوم، بل ينتمون إلى الطبقات الشعبية المُتدنيّة المُحتَقَرَة. يتبنى محمد أبو العلا السلاموني هذا الرأي في كتابِه "بيان للمسرح الشعبي"، فيقول: "فلولا جهود الباحثين المستشرقين الأجانب لما عَرِفنا شيئاً عن فن المحبّظين وأولاد رابية وفرق الغوازي والعوالم ورواة السيرة والسامر والحكّائين وخيالِ الظلّ وغيرها من فنون العرض والفُرجة الشعبية".
ثمة محاولات لاستلهام ارتجال المحبظاتية في المسرح المصري في القرن العشرين. شهدتْ بدايات القرن دخولَ المِحَبَّظاتي مسارحَ شارع عماد الدين في وسط القاهرة كي يؤدي فاصل ضحك بين عروض المسرحيات الأجنبية المُمصَّرة. قدّمَ الفنّان نجيب الريحاني، المتوفى سنة 1949، شخصيةَ "كِشْكِشْ بِكْ" في الربع الأول من القرن العشرين مُستلهماً شخصية الفلاح المِحَبَّظاتي الذي يزورُ القاهرة فيضيّعُ فلوسَ محصول القُطن على الحانات والنساء في فصول مُضحِكة. وطبقاً لما ذكره لي محمد العارف، الباحث في معهد الفنون المسرحية، فإنّ الفنّان علي الكَسَّار المتوفى سنة 1957 مثَّلَ شخصية البَرْبَري الساذج "عثمان عبد الباسط" الذي يتبادل النِكات والقَافيَة ويُقَدّم طرفاً ارتجاليّة استلهاماً من عروض المحبظاتية في عدّة مسرحيات من بينها "البَرْبَري في باريس" سنة 1917، و"لِسَّه" سنة 1919، و"البَرْبَري حول الأرض" سنة 1922، و"الأمير عبد الباسط" سنة 1924.
وُلد علي الكسّار في أحضان التمثيل المُرتجل. بدأ حياتَه الفنيّة بتقليد زملائه من الطبّاخين النوبيين، فأتقن خلق شخصية النوبي بالخيال والمُحاكاة معاً. ثمّ انتقل من هذا إلى التمثيل الكوميدي المُرتَجَل أمام جماهير حي السيدة زينب في القاهرة، حينما أسّسَ فرقة "دار التمثيل الزَيْنَبي" سنة 1907. يروي المؤرّخ المسرحي الدكتور علي الرّاعي في كتابِه "مسرح الشعب" المُعاد طبعه سنة 2006 أنّ الفرقة "كانت تقدّم فصولاً مُرتَجَلَة ثم انحلّتْ، فانضم الكسّار إلى فرقة دار السلام التي كانت تقدّم هي الأخرى عُروضاً مُرتَجَلَة".
شهدتْ الخمسينيات دعواتٍ لإحياء المسرح الشعبي المصري من النُخبة المُثقفة في القاهرة. فاستلهمَ الكاتب المسرحي نعمان عاشور في مسرحية "الناس الّلي تَحْت" سنة 1957 روح الارتجال الذي كان يُقدّمهُ المحبظاتية في الشوارع، واشتملَ العرضُ على فكاهة ارتجاليّة ومواقف مُضحكة بين مجموعة من الشخصيات الشعبية المُعْدَمة التي تسكن طابقاً سُفْلياً مُتهالكاً في بيت قاهري. وقد دعا الأديب يوسف إدريس في الستينيات إلى العودة إلى المسرح المصري الذي كان يُقدّم في احتفالات "السَامِر"، وهي مسارح موالِدٍ تُبنى من الخشب وجريد النخيل. ثمّ قدّم إدريس نموذجاً دالاً عندما كتبَ مسرحيتَهُ "الفَرَافير" سنة 1964، فَأتاحَ مع المخرج كرم مطاوع للمتفرّجين حقَّ التأليفِ والتمثيلِ. تدورُ "الفَرَافير" حول صراع أَزَلِيّ بين شخصيّة "السيّد" المُتحكّم في أنفاس البُسطاء وشخصيّة "الفرفور" الشعبيّة العنيدة. يُدافع إدريس عن رؤيته المسرحية في "بعض مَلْحوظات عن تمثيل الرواية" ضمّها تمهيده للنص المسرحي المنشور ضمن مطبوعات وزارة الإرشاد سنة 1964، إذ يقول: "هذه الرواية [الفرافير] مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور مع الممثلين في تقديم العمل المسرحي باعتبارِهم وحدة واحدة . . . في لحظة من اللحظات، تلك التي يفشل عندها فَرْفور في إيجاد حل ويطلب من الحاضرين أن يشتركوا معه وأن يقترحوا عليه الحلول، في تلك اللحظة ينتقل الحدث المسرحي إلى الصالة، وتصبح هي خشبة مسرح كبيرة".
وهكذا استمرّ استلهام تجربة الارتجالِ عند المحبظاتية في المسرح المصري. فاستلهمتْ فرقة الهواة "ثُلاثي أضواء المسرح"، التي أسسّها الشاعر حسين السيد وتكونت من الضيف أحمد وسمير غانم وجورج سيدهم، ارتجالَ المحبظاتية في مسرحية "براغيت" سنة 1967. وقدّمَتْ الفرقة في بداياتها الفصول الضاحكة ضمن فقرات الحفلات العامة، ومنها "عودة الندل"، "وَحَوِي يا وَحَوِي" و"أبناؤنا في الخارج". وقد حاول المخرج محسن حلمي استلهام يوم في حياة المحبظاتية على خشبة "مسرح قصر الغوري للتراث" في مسرحية اسمها "المحبظاتية" سنة 1988.

التقيتُ السيد محمد علي، مؤلف النصّ الأدبي والحبكة الدرامية لمسرحية "المحبظاتية"، وقال لي إن "العرض يبدأُ بنشوبِ صراعٍ على حكم مصر بين سلاطين المماليك، فيموت جُندُ المماليك فوق خشبة العرض، وينشبُ في مسرحية تالية مُتداخلة صراعٌ بين المعلّم حنفي المِحَبَّظاتي وفرقته ومُنافسه المعلم زَقْزوق وفرقته على إحياء حفل زفاف. يقرّرُ في لحظة من زمن المسرحية المعلّم عنتر وصَبِيَهُ عِليوة البِصْباصْ أن يتركا مَهَمّة حماية حفل الزفاف ويندمجان في التمثيل، فيقلدان حركات وملابس وسيوفَ الأمراء والسلاطين لكن فجأة يستيقظ المماليك الميتون في جزء سابق من المسرحية فيكتشفُ فتوّةُ الحارة أنْ لا قبلَ له بالفتوات المماليك، الذين يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية بالمصريين، وأنّ صراعَ المحبظاتية على إحياء الحفل وإضحاك الحضور أكثر إنسانيّة من صراع السلاطين".
يتجمّعُ أفرادُ فرقة المحبظاتية قبل تقديمِ عروضِهم في المقهى أو أي مكانٍ مناسبٍ. قد يؤدّون تدريباً على الارتجال الفكاهي والغناء والرقص على مرأى من مُعجبين مُصَفِّقين أو مُستغربين مُستنكرين، إذ لا تمتلك فرقةُ المحبظاتية مقراً لأداء تدريباتها، وتدفعُ الظروف الاقتصادية المُرهقة في مصر مُمثلي الفرقة وممثلاتها إلى وظائف أخرى بجانب المسرح. استغربَ محمد طارق أبو هنيدي، أحد مهرّجي الفرقة، تَسْمِيَة المحبظاتية عندما سمعَها أول مرّة في تدريبٍ مسرحي قبل ثماني سنوات من مصطفى وافي، وهو ممثّل ومدرب مسرح في مدرسة "ناس". يعتقد محمد أبو هنيدي أنّ مصطفى هو "المِحَبَّظاتي الأوَّل في مصر". يقول: "عندما سألَناه [يقصد مصطفى] في تدريب مسرحي 'مين المحبظاتية دول؟'، حكى لنا عن مسرحيين جوّالة كانوا يعيشون في عصور قديمة وكانوا يؤدّون نفس الارتجال الفكاهي الذي نؤدّيه في تدريبات المسرح. شجّعَنا وافي كثيراً، ومن هُنا تقريباً بدأتْ حكاية الفرقة".
يَنْسِبُ أفرادُ فرقةِ "المحبظاتية" فضلَ تأسيس الفرقة إلى المُمثلة الشابة شيماء فوزي، التي تُغنّي وترقصُ وتُدرّس الرسمَ في مدرسة صباحية. تقولُ إنها لم تكتشف أنّها "إنسانة مِحَبَّظاتيَّة وَحَبُّوظَة خالِصْ"، إلا عندما نزلتْ وزملاؤها الشارعَ فقُوبِلوا بترحابٍ كان مرسوماً فوق وجوه الناس. شاركتْ شيماء بطولةَ العرضِ المسرحي "الكَنَبَة" سنة 2019 مع طوسون عبد الحميد ومحمد أبو هنيدي وآخرين. كان العرضُ ارتجالياً فكاهياً صامتاً على خشبة المسرح، تدورُ أحداثه حول زوجين يجلسان منذ سنوات طويلة فوق كَنَبة في صالة المعيشة يشاهدان التلفزيون، ولا يتحركان إلا عندما يسقط جهاز التحكم. يبدأُ الزوجان يُساعدان بعضهما لأجل الوصول إلى الجهاز فيكتشفان أثناء محاولة الوصول الشاقة أنهما يُحبّان بعضهما، لكن عندما يصل الزوجان إلى هذه الحقيقة يموتان من الفرحة إلى جوار الكَنَبَة.
ينزلُ أفرادُ فرقة المحبظاتية الأسواق ومحطات القطارات الشعبية في القاهرة قبل تحضير العروض المسرحية الجديدة لفهم ما يشغلُ بالَ الناس. قدّمتْ فرقة المحبظاتية عدّة موضوعات تجسّدَتْ في مسرحيات: "الفأر في المصيدة" سنة 2020 و"أنثى" سنة 2022، وعُرضتْ المسرحيات في شوارع القاهرة والصعيد وفوق خَشبات مسارح مَغْمورة، قليلة الإمكانات.
سألتُ مدرّبَ المسرح مصطفى وافي عن لقب "المِحَبَّظاتي الأوَّل" الذي يُجمِعُ عليه أعضاء الفرقة الناشئة. يضحكُ ثم يقولُ: "مجاملة لطيفة خالص والله. هُمّ إللي مِحَبَّظاتيَّة هايْلين. على فكرة، تُنطق مِحَبَّظاتيَّة ومْحَبَّظاتيّة، فيه ناس زمان كانت تنطقها بتسكين حرف الميم. أنا فتّشْت عنها، وَدَهْ احتمال". لم أكنْ أعرف أنّ مصطفى وافي أسَّسَ مع آخرين فرقة مسرحية جَوَّالة على غرار فرق المحبظاتية، اسمها "الخيال الشعبي لمسرح الشارع" سنة 1996. يحكي لي: "قدّمنا سنة 2007 عرضاً اسمه 'كُرُنْب زَبادي' على طريقة المحبظاتية في أحواش المدارس وقرى مصرية. قدّمْنا عندما وقعت أحداث ثورة يناير في مصر [سنة 2011] عرضَ 'ثورة الألوان' في ميادين المتظاهرين. الممثلون كانوا مهرّجين مِحَبَّظاتيَّة، نقّاشون يرسمون على حوائط البيوت والشوارع، ينزلون في كل مدينة ويرسمون أحلامَهم وأحلام الناس لكن يقرّر فجأة كبيرُ النقّاشين تكسير كل الأحلام المرسومة فوق الحوائط. يتمرد المهرّجون الرسّامون ضده، فيقرر أن يسرق منهم كل الألوان، فيتمرد المُهرّجون ضده ويقبضون عليه ويحاكمونه بعد أن يستعيدوا خامات كل الألوان".
بَدَتْ على مؤسس فرقة "الخيال الشعبي" أمَارات الإحباط عندما بدأ يُفَصّلُ الحديثَ عن راهنِها. قال: "توقفنا للأسف. تَوقَفَتْ الفرقة عن العمل بسبب الأجواء في مصر. قررتُ، بعدها، أتفرّغ نسبياً للتدريبِ والتمثيلِ في عروض مسرح الشارع. درّبْتُ نجّارين وحدّادين وعدداً كبيراً من الأطفال الذين يعملون في ورش حي الفجّالة القاهري على فنون مسرح الشارع، وهو فن مُستلهم من زمن [المحبظاتية] القدامى".
التقيتُ في المراحل الأخيرة من النزول الميداني الممثّلَ التونسي الثلاثيني محمد أمين بن طاهر، وهو خريج معهد الفنون المسرحية في تونس، وشاركَ مُمثّلاً ومُهرّجاً في مسرحيات عدّة منها مسرحية "ناس وناس"، ومسرحية "كعب داير" التي كانت برفقة مُمثلين من فرقة المحبظاتية. يدورُ عرض "كعب داير" الذي قُدّمَ سنة 2018 في شوارع صعيد مصر، عن فَداحة الغُربة بين الأوطان. كرّرَ المُمثلون والمُمثلات في العرض، تقليدَ "الزَفّة" الذي كان يستهلُّ بهِ المحبظاتية عروضهم. أخْرَجَتْ العرض الإسبانية بِبَادييز ميكو، وهي مُخرجة مسرح شارع تتعاون مع فرق مسرحية جوّالة في مصر.
يَحكي لي محمد بن طاهر: "عِندنا في تونس مهرّجون يشبهون المحبظاتية المصريين. عندنا فنانون متجولون."الحاوي" و"العِيسَاويَّة" الذين يلعبون بالنار ويضعون أجسادهم فوق الزجاج والمسامير في عروض الشارع. أدرسُ وأمارسُ مسرح الشارع في القاهرة. أمارسُ كل عناصر المسرح الشعبي المصري وأتفرّجُ على المصريين وأقتربُ من لغتهم ومعتقداتهم وموضوعاتهم الشعبيّة وما يُضحكهم. أُقدّم عروضاً تشبه عروض المِحَبّظين من حيث الارتجال وغياب النص المكتوب والاعتماد على التأليف الجماعي والاشتباك الطريف مع الجمهور وإشراكهم في التمثيل داخل العرض".
تبادلتُ أطراف الحديث مع الممثلة والمُهرّجة الشابة مارثا جيمس من دولة جنوب السودان، وهي تدرسُ مسرح الشارع وتراث المحبظاتية في القاهرة. تتحدثُ مارثا جيمس بنبرة فَرَح عن تجربتها الفنيّة: "أمارسُ مسرح الشارع في القاهرة وأقدم عروضاً فيها الارتجال الساخر وعروض بهلوان وسيرك. شاركتُ في مسرحية 'كعب داير' وعرضناها في صعيد مصر وفي ملاجئ ومدارس. تعرف؟ في جنوب السودان، هناك فرق شعبيّة جوّالة، لكنها محدودة الإمكانات. أحلُم بنقل تجربتي الفنية في القاهرة إلى جنوب السودان، أحسّ دائماً أنّ هناك تماساً حقيقياً في عناصر التراث الشعبي على امتداد بلاد نهر النيل".
