قضية سلمان الخالدي.. هل سلّم العراق الدخيل أم طبّق التزاماته الدولية؟

يتصاعد الجدل في العراق حول الثمن والمبدأ بعد تسليم المعارض الكويتي سلمان الخالدي للسلطات الكويتية، مثيراً تناقضات ومفارقات تتعلق باحترام حقوق اللاجئ مقابل التنسيق الأمني ضدّ المعارضين.

Share
قضية سلمان الخالدي.. هل سلّم العراق الدخيل أم طبّق التزاماته الدولية؟
اعتقال سلمان الخالدي يعيدنا إلى العلاقات التاريخية المتشابكة بين العراق والكويت | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

عُرف اسمُ سلمان الخالدي من نشاطه المعارض الحكومةَ الكويتية من مقرِّ إقامته في بريطانيا التي منحته حقَّ اللجوء، وكان يعيش فيها سنوات. لكن الخالدي قرَّر زيارةَ العراق ووصل إليها نهايةَ 2024. وفي العراق كثّف من تسجيل مقاطع مصورة ذات محتوى معارضٍ الحكومةَ الكويتية ونشرها. استمرَّ الأمر كذلك حتى جاء خبر قبض السلطات العراقية عليه وتسليمه للكويت رسمياً يوم الثاني من يناير سنة 2025. سُلّم الخالدي من الحدودِ البرّيةِ بين البلدين في لقاءٍ رسمي لوفدٍ عراقي ترأَّسه محافظُ البصرة أسعد العيداني، واستقبله من الجانب الكويتي وزير الداخلية الشيخ فهد اليوسف الصباح. هنا أصبح اسم الخالدي معروفاً في العراق ودولٍ أخرى، وبات عنواناً لاهتمامٍ عربي إقليمي، إذ تصدَّرَ وسمُ سلمان الخالدي على منصة إكس.

حتى تلك اللحظة، لم يكن الخالدي اسماً معروفاً عند عموم العراقيين ولم يكن أكثرهم يُتابع نشاطاتِه، إلا أنَّه معَ الاعتقالِ أصبح مدارَ جدلٍ شعبي. فقد استنكرت أصواتٌ عراقية فكرةَ تسليمه لأنَّه لاجئٌ سياسياً، ولأنَّه في موقع "الدخيل" الذي لا يُسلَّم إلى خصومه حسب التقاليد العربية. أما الحكومة العراقية ممثَّلةً بوزارة الداخلية، فقد قالت إنها سلَّمته تنفيذاً لالتزامات العراق في منظمةِ الإنتربول الدولية، وحرصاً على تنفيذِ الاتّفاقات والمعاهدات والتعاون مع الدّول العربية في المنظمة. لكن الأدَّق والأكثر صلةً بتسليم الخالدي جاء في الفقرة التالية: "أنَّ المواطن الكويتي [الخالدي] المطلوب في عدد من القضايا الجنائية، كان متواجد على الأراضي العراقية فتسلمت السلطات العراقية مذكرة قبض من الجانب الكويتي، وإذاعة بحث من الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، فتم بالتالي تسليمه".

يأتي تسليم الخالدي إلى الكويت في طور تحسّن العلاقات العراقية الكويتية منذ سقوط نظام صدام حسين، لكنه يتزامن مع تشكّل جبهةٍ وطنيةٍ عراقيةٍ جديدةٍ ذات صبغة شيعية تعرقل تطبيع العلاقات بين البلدين. ومن آثار هذه الجبهة نقضُ اتفاقية الحدود بين البلدين والاحتجاجُ عمّا تعدّه نفوذاً ورشاوى للفئة الحاكمة العراقية. جاءت قضية الخالدي لتشعل النقاش في طبيعة العلاقات العراقية الكويتية ومآلاتها، كما أطلقت العنان لتساؤلاتٍ عن مبادئ التعامل مع اللاجئين وقضية تسليمهم إلى الدول التي هربوا منها.


وُلد سلمان الخالدي في الكويت سنةَ 1999، وعُرف بنشاطه الحقوقي ورفعه اللافتات المؤيدة فلسطين في ساحة الإرادة بالكويت سنةَ 2019. عاش في قطر سنوات وهناك استمر في نشاطه المعارض الكويت والسعودية على منصة إكس. كان قد كتب سلسلة تغريداتٍ يتَّهم فيها الحكومةَ السعودية بقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي، ثمَّ في أبريل 2022 اتهمه السفير السعودي في الكويت اتهامات متعلقة بالأمن القومي، واستُدعي على إثرها للاستجواب في أمن الدولة الكويتي. امتنعَ الخالدي عن الامتثال لطلبِ الاستجواب وخرج من قطر إلى بريطانيا في العام ذاته، إذ مُنِحَ اللجوءَ السياسي. لم يكن الخالدي معارضاً ذا تأثيرٍ سياسيٍ، لكنَّه كان مُزعجاً بحركته ووجوده في مدينة لندن. معظم نشاطه المعروف في العاصمة البريطانية كان التظاهر منفرداً أو مع عددٍ قليلٍ من الأشخاص ضدّ الكويت، وضدّ السعودية أحياناً، بالوقوف أمام سفارتَي البلدين أو محاولة اقتحامهما على ما يبدو من مقاطع الفيديو التي كان يسجّلها وينشرها. لم يُعرف له في الظاهر أي اتصالٍ أو وقعٍ سياسي عند الأوساط السياسية البريطانية المؤثرة التي تربطها علاقات مع الكويت وحكومتها. لكنه مع ذلك كان يحظى بالحماية من بريطانيا التي قبلته لاجئاً على أراضيها.

صعّد الخالدي من نشاطاته الإعلامية عندما وصل العراق نهايةَ 2024. مكث فترةً في محافظة البصرة الجنوبية واقترب من مناطق الحدود العراقية الكويتية موثِّقاً ذلك في مقاطع فيديو يتوعد فيها الحكومةَ الكويتية بطريقةٍ استعراضية يجتمعُ فيها الجدُّ بالهزل. سمَّى نفسه "ابن عريعر"، في إشارةٍ إلى حكام إمارة بني خالد التي كانت تحكم الأحساء شرقي الجزيرة العربية وتمتد سيطرتها إلى الكويت قبل صعود أسرة الصباح للحكم والإمارة منتصف القرن الثامن عشر. وادَّعى تكراراً أنَّ ذلك الاسم وانتسابه لبني خالد يعطيه المشروعية للتحرك سياسياً وإنهاء حكم آل صباح. وذهب مع بعض مضيفيه العراقيين إلى المزارات الشيعية المعروفة، مثل النجف، مثبتاً انتماءه السني ومعلناً عنه، ومتقرباً أيضاً من الشيعة الذين يتمتعون في عراق اليوم بقوة سياسية.


مرَّت العلاقات بين العراق والكويت بأزماتٍ كثيرة كان عنوانها الأكبر الخلافات الحدودية والخلافات على سيادة الكويت، ومطالب بعض الحكومات العراقية تاريخياً بضم الكويت للعراق. كانت اللحظة الفاصلة الأكبر هي احتلال العراق الكويتَ تحت قيادة الرئيس العراقي السابق صدام حسين سنةَ 1990 وإعلان ضمّها. قبل أن تحرر قواتُ التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الكويتَ في العام التالي، وما تلا ذلك من عقوباتٍ دوليةٍ على العراق امتدت أكثر من عقد، حتى الغزو الأمريكي العراقَ سنة 2003.

عادت العلاقات بين البلدين بعد الاحتلال الأمريكي العراقَ وقيام نظامُ حكمٍ جديدٍ في بغداد، لكن الأزمات ظلّت تطلّ برأسها بين فترةٍ وأخرى. عزف سلمان الخالدي على وتر الجروح القديمة أكثر من مرة في مقاطع الفيديو التي كان يصوّرها، فمدح تارة الرئيسَ السابق صدام حسين لغزوه الكويت وضمّها، وتارة كان يتوعَّد بأن يهجم هو بنفسه على الكويت ويغيّر نظام الحكم فيها. لكنه كان يفعل ذلك بطريقته الساخرة التي يظهر فيها وكأنه نسخة حديثة من "دون كيشوت"، الفارس الحالم محارب طواحين الهواء، في رواية الإسباني ميغيل دي سرفانتس. وكان يتصنع التحرك إلى الكويت على ظهر دراجةٍ ناريةٍ بسيطة أو واقفاً ثم راكضاً وحدَه في مناطق قريبة من الحدود العراقية الكويتية، مثل أزقة مدينة الزبير أو بلدة صفوان في البصرة.

مع زيادة سيطرة الأحزاب العراقية الأقرب إلى إيران على السلطة في بغداد في السنوات الماضية، ظهرت طريقةٌ جديدةٌ شكّلت مواقف العراق ضدّ الكويت في أوقات الأزمات. ففي العادة كانت الأصوات المؤيدة أو التابعة للقوى العراقية الشيعية الحاكمة، المعادية تاريخياً نهجَ صدام حسين، أقلّ حدة في مهاجمة الكويت. وقد قام منهج العراق السياسي مع الكويت بعد 2003 على أساس الاستمرار في تنفيذ كلِّ الالتزامات المترتبة على احتلال العراق الكويتَ من أجل إخراج العراق من عقوبات مجلس الأمن الدولي. وأهم تلك الالتزامات وأثمنها كانت التعويضات المالية التي دفع العراق منها عشرات المليارات سنوات. كل ذلك شكّل نقمةً شعبيةً بدأت تتصاعد عند جزء من الشعب العراقي، الذين عدّوا تلك السياسة تهادن الكويت. والعراقيون ناقمون أصلاً على الطبقة السياسية التي تحكمهم. لكن في العلاقات مع الكويت وصلت الأمور في السنوات الماضية إلى تصاعد الاتهامات الصريحة ضدّ سياسيين عراقيين كبار بالتواطؤ، بل حتى تلقي الرشوة من الكويت، للتنازل في قضايا مهمة أبرزها التعويضات وترسيم الحدود.

مع صعود تيارٍ شيعي متشدد في السنوات الماضية تشكَّلت مواقف حادَّة ضدَّ الكويت في قضايا خلافية أججت غضب جزءٍ من العراقيين. من هذه القضايا اتفاقية تنظيم الملاحة في ممر خور عبد الله المائي على الحدود بين البلدين. وقَّع العراق تلك المعاهدة في 2013 امتداداً لنهج التصالح مع الكويت. لكن المحكمة العليا العراقية، أعلى سلطة قضائية في العراق، نقضت توقيع العراق بعد 2023 لتشتعل أزمةٌ ما زالت مستمرةً بين البلدين، وما تزال الأمم المتحدة تدعو العراق إلى العودة للاتفاقية وترفض انسحابه منها.

قد يُعدُّ الموقف المتشدد من الكويت جزءاً من صيغة جديدة للوطنية العراقية يتصدرها الشيعة ولا ترتبط بالضرورة بتركة صدام حسين أو عقيدة القومية العربية، بل بعراق جديد تسيطر فيه القوى الشيعية، لا سيما المسلحة، على الحكم معتنقةً هوية عراقية أكثر امتزاجاً بالهوية الشيعية. تمزج تلك الهوية بين المشاعر الشعبية التي تتناغم مع الخطابات الشعبوية في قضية الكيان العراقي وحدوده وحقوقه وبين الانتماء الطائفي الشيعي للقوى المسيطرة على السلطة أو الجزء الأكبر منها في العراق. وتاريخياً لم تكن دعوى تأييد فكرة أن الكويت جزء من العراق حكراً على العراقيين السنة، بل كان ذلك موقف كثير من الشيعة أيضاً. لكنَّ القوى السياسية الشيعية المعارضةِ نظامَ صدام حسين كانت تتقرب بخطابها من خصوم الرئيس العراقي السابق وأبرزهم الكويت، وتدين احتلال العراق الكويتَ وتدعو عموماً لعلاقات ودية بين البلدين.

يتداخل ذلك الخطاب الشيعي المتشدد مع توتر العلاقات أحياناً بين إيران والكويت. فقد تصاعدت المشاعر الشعبية العراقية والتحريض الإعلامي ضدّ الكويت منذ 2002 بسبب أزمة حقل الدرة الغازي في مياه الخليج، بين إيران من جهة والكويت والسعودية من جهة أخرى. حاولت أوساط في العراق فتح جبهةٍ سياسية تدّعي أن للعراق حقّاً في الحقل رغم بُعده جغرافياً عنه. وقد أشار منتقدو الموقف العراقي أنه يأتي على سبيل المناورة لمساعدة إيران في مزاحمة الكويت والسعودية على حقلٍ قريب من سواحلهما ومن أجل أن لا تظهر إيران وحيدة في صراعٍ فارسي عربي.


مع ازدياد التساؤلات عند المعترضين العراقيين على ثمن تسليم الخالدي وعن غياب مبدأ التعامل بالمثل، أعلنت الحكومة العراقية في السابع من يناير أنَّ الكويت، وفي إطار التعاون الأمني مع العراق، سلّمت العراقَ مجموعةً من تجار المخدرات.

اعترض كثيرون على ذلك مستنكرين فكرة المساواة بين الحالتين. فالخالدي معارض سياسي وبالتالي فإن لتسليمه قيمةً سياسيةً، بينما لا يُعدّ تسليم تجار المخدرات أصحاب سجلات جنائية إنجازاً كبيراً إلا إذا كانوا من كبار زعماء العصابات، ولم يكونوا كذلك. ومن بين الأصوات المعترضة برز صوت الإعلامية منى سامي التي تقدّم برنامجاً حوارياً على قناة الرابعة، التي يُعتقد أنها قريبة من الجماعات المسلحة العراقية المدعومة من إيران. كتبت سامي في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي يوم السابع من يناير سنة 2025: "هل هناك علاقة بين تسليم سلمان الخالدي للكويت وتسليم الكويت سجناء عراقيين في سجونهم بجريمة تجارة المخدرات؟ إن كانت هذه مقايضة فتعساً لها. إرجاع تجار مخدرات لن يضيرنا قضاء محكومياتهم في الكويت أو العراق أو حتى جزر واق واق. مقابل تسليم لاجئ سياسي بريطاني أصله كويتي ساقطة عنه الجنسية وإهانة سمعة العراق الدولية؟".

لكن اللافت أنه بعد تسليم الخالدي بأيام اعتقلت السلطاتُ الكويتية الإعلاميةَ الكويتية فجر السعيد. كانت السعيد قد دخلت قبل فترةٍ وجيزة من تسليم الخالدي في جدلٍ كبير مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومؤيديه. حينها ادعت في برنامجها التلفزيوني "على مسؤوليتي" أن للسوداني أخاً كويتياً غير شقيق يعيش في الكويت. لم يظهر دليل على وجود ذلك الأخ ولم يبدُ في الظاهر أنَّ تلك مثلبة على السوداني. لكن رئيس الوزراء العراقي رفع شكوى قانونية رسمية في الكويت ضدَّ السعيد. اعتُقلت الإعلامية الكويتية المتابعة الشأنَ العراقي بعد أيامٍ من ذلك، ولكن سبب اعتقالها المُعلن كان تأييد التطبيع مع إسرائيل.

ومن المفارقات أنَّ فجر السعيد كانت من أوائل الأصوات الكويتية التي تصدَّت لنشاط الخالدي ومقاطع الفيديو التي كان ينشرها. وقبل أن يُعتقل صرَّحت متحدية ومتوعدة أنَّ اعتقاله وإحضاره للكويت قد اقترب. يشير التزامن بين اعتقال الخالدي والقبض على السعيد إلى احتمال أن يكون اعتقال السعيد مبادرة حكومية كويتية لصالح السوداني رداً على تسليم الخالدي. يصعب إثبات ذلك، لكن غضب رئيس الوزراء العراقي من السعيد كان واضحاً ومتمثلاً في رفعه  شكوى رسمية ضدها في المحاكم الكويتية بدلاً من نفي ما قالته إن كان غير صحيح أو تجاهله.

تلقّى محافظ البصرة أسعد العيداني أيضاً سيلاً من الاتهامات بسبب ترأسه الوفدَ العراقي الذي سلّم الخالدي. علّق العيداني في رسالةٍ صوتية على الموضوع مقللاً من قيمة الخالدي السياسية والشخصية قائلاً إن الوفد ذهب لأن الجانب الكويتي كان ممثلاً بمسؤول كبير هو وزير الداخلية، وكان لابدّ من إرسال مسؤول عراقي كبير لمقابلته. أما الخالدي فقد سلَّمه فريق الإنتربول، بحسب قوله، على هامش اللقاء.


علاقةُ العيداني والسلطات المحلية للبصرة المجاورة الكويتَ مساحةٌ أخرى للنظر إلى العلاقات الملتبسة بين العراق والكويت. ففي اللقاء نفسه الذي سُلّم فيه الخالدي، انتبه عراقيون إلى حديث وزير الداخلية الكويتي فهد اليوسف مع نائب محافظ البصرة في أثناء السلام والمصافحة. سُمع الوزير الكويتي وهو يسأل نائب المحافظ عن ملف أو قضية كان كلّفه بها. أثار ذلك أسئلة عراقيين عن الملف الذي يسأل عنه الوزير وعن صيغة التعامل بين مسؤولي الدولتين التي يُفترض أن تكون رسمية، لا أن تكون فيها شبهة أن يكلّف وزير كويتي مسؤولاً محلياً عراقياً ثم يتابع معه الاستجابة.

ركّز محافظ البصرة على أنَّ تسليم الخالدي نُفذ وفقاً لتعليمات الإنتربول وبِيَد ممثليه. وقد استخدم اسم الإنتربول في بيان الحكومة العراقية لإعطاء القضية طابعاً يوحي بالالتزام بالمواثيق الدولية. لكن الخالدي سُلّم وفقاً لاتفاقات مجلس وزراء الداخلية العرب، وهناك فرق بين الحالتين. فالإنتربول يصدر مذكرة التوقيف الحمراء بحق المتهمين (الجنائيين)، لكن تلك المذكرات لا تصدر بحق اللاجئين السياسيين. وللإنتربول هيئة رقابية تفحص طلبات التسليم، وتدقق في احتمالات استخدام الدول ذرائعَ الجرائم الجنائية ضدَّ المطلوبين سياسياً لحكوماتها، أما مجلس وزراء الداخلية العرب فليس فيه هيئة أو آلية مشابهة. ويشرح تقرير منظمة "منا" لحقوق الإنسان الصادر سنة 2023 الفرق بين قرارات مجلس الداخلية العرب والإنتربول، على ما بينهما من تنسيقٍ وتعاون، في أنه يمكن للمطلوب الاعتراض على الإنتربول ومذكراته الحمراء بل إلغائها إذا كان لديه دفع وجيه.

في حالة سلمان الخالدي، عرض العراق المذكرة التي أصدرتها الكويت لاعتقاله وتستند إلى تهمة الاعتداء على طبيبة في أثناء أداء عملها في الكويت ولا تشير إلى بُعدٍ سياسي. لكن شهرة الخالدي معارضاً سياسياً وناشطاً، كذلك حجم الاهتمام بتسليمه، تشير إلى أن القضية أكبر من أن تكون قضية اعتداء على موظف في أثناء أداء عمله. وتعليقاً على ذلك يقول الخبير القانوني العراقي صفاء اللامي للفِراتْس إنه من الوارد ألا تكون المذكرة الكويتية مستندةً على شكوى بجريمةٍ جنائية، وبأن الحكومة العراقية تعرف الخالدي ومعارضته السياسية. لكنه يفتح الباب أمام احتمال أن تكون وزارة الداخلية العراقية قد غفلت ولم تدقق خلفية الخالدي والقضية مما أدّى للتسليم، وهو أمرٌ يرى أنه خلّف تأثيراً سلبياً على العراق وصورته.

قانونياً نشرت الكويت في أبريل 2024 المرسوم رقم 66 وبه نُزعت الجنسية الكويتية عن سلمان الخالدي. مع ذلك ثَبُت أنه كويتي الجنسية في مذكرة القبض الكويتية التي قبِلها العراق ونفذها. ويشير اللامي للفِراتْس إلى أن القوانين العراقية لا تسمح للحكومة العراقية بتسليم اللاجئين السياسيين والمطلوبين لأسباب سياسية، وبأنه في حالة عدم حصول أولئك الأشخاص على حق اللجوء داخل العراق فبإمكان العراق إعادتهم إلى الدولة التي قدموا منها (بريطانيا في حالة الخالدي)، وليس إلى الدولة التي تطالب بتسليمهم. وقد عَدّ القاضي والسياسي العراقي وائل عبد اللطيف، في تصريحٍ لقناة العهد العراقية، أن تسليم الخالدي كان خطأ فادحاً سياسياً وقانونياً ودبلوماسياً وأخلاقياً.

كانت البصرة قد استضافت بطولة كأس الخليج لكرة القدم مطلع 2023، وهي بطولة ذات أهمية للعراق، إذ كانت أول بطولةٍ ينظمها على أرضه منذ عقود. استضاف العراق جماهير خليجية، أكثرهم كويتيون لم يزوروا العراق منذ عهدٍ بعيد وكانت آراؤهم إيجابية في البطولة وتنظيمها. لاحقاً نظمت الكويتُ البطولة التالية وتزامن ذلك مع تطورات قضية الخالدي. وقد اشتكى جزءٌ من الجمهور العراقي من صرامة الأنظمة التي فُرضت عليهم وتحديد الأعداد التي سُمح لها بالدخول وطريقة حركتهم في الكويت، عكس ما فعله العراق عند استضافته البطولة. واشتهر مقطع فيديو لمحاورة في الكويت أيام البطولة بين وزير الداخلية الكويتي، فهد يوسف الصباح، وبين المشجع العراقي المعروف مهدي الكرخي. يظهر الوزير متحدثاً لمهدي وممتدحاً التزام الجمهور العراقي بالتعليمات، ولكن أيضاً مذكراً بحزم بسياسته الصارمة تجاه أي مخالفة من الجمهور العراقي. فُسّر المقطع تفسيرين، أحدهما يحتفي بترحيب الوزير ويراه مثالاً للأخوة وعمق الصلات، بينما يلاحظ التفسير الآخر أنَّ صرامة الوزير كانت تهديداً بيّناً.

نهج الشيخ فهد يوسف الصباح الصارم أسهم في بدء الأزمة السياسية التي تمرّ بها الكويت وتصاعدها منذ مطلع 2024. بلغت الأزمة ذروتها مع قرار أمير الكويت الشيخ مشعل الصباح حلّ مجلس الأمة. وكانت المعارضة البرلمانية قد تعهَّدت بمجابهة اليوسف إذ عُيّن مرة أخرى، ما عُدّ تحدياً لسلطة الأمير ورئيس وزرائه. زاد حلُ المجلس تأثيرَ الأصوات المعارضة التي تعيش في الخارج، وخصوصاً تلك التي تنشط إعلامياً على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الخالدي الذي يمثل إزعاجاً يتطلب الإسكات. مع أن شخصيته لا توحي بشخصيةٍ سياسيةٍ جادة تشكل تهديداً سياسياً أو أمنياً.


تزامنت قضية اعتقال سلمان الخالدي مع اعتقال الناشط والشاعر المصري عبد الرحمن يوسف القرضاوي في لبنان. فقد نشر مقطع فيديو سجّله القرضاوي في سوريا مهاجماً حكوماتٍ عربيةً بينها الإمارات. وثار غضبُ الأخيرةِ، التي تحرّكت ضدّ القرضاوي وطالبت بتسليمه لها من لبنان، بعدما وصل هناك في طريق عودته من سوريا إلى تركيا. بعد اعتقال عدة أيام، سُلّم القرضاوي إلى الإمارات بعد أسبوع من تسليم الخالدي للكويت ووفق نفس السند والآلية، وهي طلب التوقيف المؤيد من الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب.

قضية الخالدي أثارت كذلك قضية حدثت قبل سنوات في العراق أيضاً للمعارض الإيراني روح الله زم. كان زم يعيش في فرنسا ويحمل جنسيتها، وله نشاط إعلامي مؤثّر وداعم التحركات الشعبية الاحتجاجية ضدّ الحكومة الإيرانية داخل إيران. اُستدرج زم للقدوم إلى العراق في عمليةٍ مخابراتية إيرانية تُسمّى "مصيدة العسل"، إذ تواصلت معه امرأة ودَعَته إلى العراق. قبضت المخابرات العراقية على زم عند وصوله وسلّمته إلى إيران التي أعدمته بعد أن قُدم في اعترافاتٍ تلفزيونية قال فيها إنه عمل ضدّ إيران. أدانت فرنسا عملية تسليمه لإيران وإعدامه، ولكن الأمر انتهى على ما يبدو في اللحظة التي أصبح فيها في العراق.


رسّخت قضيةُ سلمان الخالدي مرحلةً جديدة من العلاقات بين العراق والكويت وبين العراق والدول المجاورة. انحسر العامل الطائفي جزئياً في العراق وعلى صعيد علاقاته بجواره لتصعد بدلاً عنه عوامل مؤثرة جديدة، أبرزها دخول العراق ناديَ الدول الشرق أوسطية التي تعطي أولويةً في علاقاتها الثنائية لتعقب المطلوبين وإلقاء القبض عليهم. فالعراق قدَّم خدمةً للحكومة الكويتية بتسليمها مطلوباً مزعجاً بعد أن وضعت له الحكومة الكويتية تكييفاً قانونياً يضعه في خانة المتهم بجريمةٍ غير سياسية. أما الإطار القانوني فهو التنسيق عن طريق الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب. ويبدو أن الكويت قدّرت ذلك التعاون واحتفت به. ومع أن علاقة العراق والكويت ما زالت تتخللها تعقيدات كبيرة، مثل ملف ترسيم الحدود وإلغاء المحكمة العليا العراقية اتفاقية الملاحة في خور عبد الله، إلا أنَّ ذلك لم يؤثّر على "تطور" التنسيق الأمني بين البلدين ضدَّ المعارضين أو المزعجين سياسياً.

أما بريطانيا التي منحت سلمان الخالدي اللجوءَ والحمايةَ، فلم تُظهر أيّ ردّ فعل قويٍّ على اعتقاله أو تسليمه. بل استقبلت لندنُ بحفاوة رئيسَ الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في زيارةٍ رسمية مطلع العام، بعد أيامٍ من اعتقال الخالدي. شهدت الزيارة الاتفاق على توسيع واردات العراق من بريطانيا وتعاوناً في مجال الحدّ من الهجرة. لكنها لم تخلُ من موقفٍ ذكّر بالخالدي حينما تحدّى أحد المعارضين العرب محافظ البصرة أسعد العيداني وهو يصوّره سائلاً إياه عن الخالدي وسبب تسليمه، ليحاول العيداني الوثوب عليه لولا أن منعه مَن معه ممن بدا أنهم يعرفون تبعات استخدام العنف ضدّ المخالفين والمعارضين في القانون البريطاني.

اشترك في نشرتنا البريدية