قائد أحرار الشام.. من صيدنايا إلى إسقاط الأسد

خلقَ سجنُ صيدنايا روابطَ اجتماعيةً وفكريةً بين شخصياتٍ ستغيّر تاريخَ سوريا، بعد أن اختبرَت أفكارَها الجهاديةَ في ثورةِ 2011، واخترقت أمنيّاً قوّاتِ الأسد والحرسَ الجمهوريَ وفيلقَ القدس، حتى قادت معركة ردع العدوان التي أسقطت نظام الأسد سنة 2024.

Share
قائد أحرار الشام.. من صيدنايا إلى إسقاط الأسد
قابلت الفِراتْس أبا عبيدة بعد أن أصبح محافظاً لريف دمشق | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

"ب" يمين ثالث، "ب" يسار ثالث، "ب" يسار ثاني، "ج" يمين ثاني، "ج" يسار ثاني، "أ" يسار ثالث، "أ" يمين ثالث، "أ" يمين أوّل. تلك ليست تعويذةً استهلاليةً إنّما هي مهاجع "السجن العسكري الأول"، أو "سجن صيدنايا" كما اشتهر، مقسمةً بحسب الكتل والأجنحة والطوابق التي تنقّل بينها عامر الشيخ، "أبو عبيدة قطنا"، قائدُ فصيل أحرار الشام ومحافظُ ريف دمشق الآن. يسردها لنا مرتّبةً زمانياً وفق تنقّله بينها حتى خروجه من الكتلة "أ" في الجناح اليمين من الطابق الأوَّل في سجن صيدنايا بعد ثلاثة شهورٍ من اندلاع الثورة السورية سنةَ 2011. سنوات الثورة وما حملته من تجارب وتضحياتٍ وتحوّلاتٍ انتهت بالنصر، كلّها لم تجعل غشاوةً على الذاكرة السجنية التي سَكَنَت أبا عبيدة قطنا، إذ يبدو صيدنايا حاضراً بذهنه وحديثه حضوراً تفصيلياً بأشخاصه وأحداثه حتى لَتَشُكُّ أهي ذكريات سجنٍ أم "جامعة".

سقط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، وانتصرت الثورة السورية فعاد عامر الشيخ إلى دمشق ويَمَّمَ شطرَ مهجعِه في سجن صيدنايا، أحدِ أقبحِ الوصماتِ الإنسانية في تاريخ نظام الأسد، باحثاً عن أبياتٍ من ألفيّةِ ابن مالك دوّنها يوماً على حائط مهجعٍ قُبيل انتهاء محكوميّته لعلَّ أحداً يُفيد منها. بيد أن تلك الأبيات أَنسأَت أَجَلَه في السجن سنةً أخرى بعد أن اكتشف فعلتَه العميدُ آنذاك من كاميراتٍ مزروعةٍ في الزنازين لا يعلم عنها المعتقَلون شيئاً. لم تكن عودةُ الشيخ إلى دمشق أمراً ممكناً أو متخيَّلاً قبل شهرين من ثامنِ ديسمبر، لكنّ أبا عبيدة يقول إنه رآها في المنام رأيَ العين.

كان سجنُ صيدنايا مدخلَ أبي عبيدة للانضمام إلى حركة أحرار الشام ثم تولِّي قيادتها سنة 2021 في مرحلةٍ حرجةٍ من عمر الحركة. إذ فَتَّت الخلافاتُ الداخليةُ في الحركة، والخلافُ الخارجيُّ مع هيئة تحرير الشام عضُدَ أحرار الشام. فبينما قدّمت حركةُ أحرار الشام نفسَها حركةً ثوريةً أيديولوجيةً تبني قاعدتَها وحاضنتَها من المجتمع المحلّي، قدّمت هيئةُ تحرير الشام، وهي في طَوْرِ جبهة النصرة، نفسَها حركةً أيديولوجيةً ينضمُّ لها مَن يؤمِن بفكرِها. وقد كانت الهيئةُ (ومِن قَبْلِها الجبهة) ذاتَ صلاتٍ وثيقةٍ مع قياداتٍ في حركة أحرار الشام، ممّا جعل الجسمَيْن يتنافسان على الشرعية الجهادية تنافساً طال أمدُه وتحوّل إلى اقتتالٍ مرّاتٍ عدّةً، وكرٍّ وفرٍّ في احتمالية اندماج الجسمَيْن معاً. وفي أشدّ حالات الحركة ضعفاً استلم أبو عبيدة قيادتَها معيداً تعريفَها ومتحالفاً مع عدوّها القديم بُغيةَ ضمانِ الاستمرار، حتى انتهى الأمر بشراكةٍ بين الجسمين استطاعت في النهاية ــــــ مع أجسامٍ أخرى ـــــــ أن تشارك في الإطاحة بالأسد. 

في مبنى محافظة ريف دمشق، قرب ساحة المرجة وسط دمشق، التقت الفِراتْس أبا عبيدة بعد يومٍ واحدٍ من زيارتِه صيدنايا، في مقابلةٍ مطوَّلةٍ عن نشأته ومرجعياته الفكرية وسجنه وخياراته بعدَ الثورة وقيادته حركة أحرار الشام في مرحلةٍ حرجةٍ من مسيرتها، وصولاً إلى مشاركةِ الحركة في معركة "ردع العدوان" التي قوّضت حُكمَ الأسد، واستلامِ أبي عبيدة منصبَ محافظِ ريف دمشق. عامر الشيخ، وإن كان قليلَ الظهور على وسائل الإعلام، فقد بدا حافظاً تفاصيلَ تجربة صيدنايا مسهِباً في الحديث عن كلّ ما فيها ومَن فيها، مقتضباً في حديثه عن تجربة حركة أحرار الشام قبل استلامه قيادتها، متفائلاً بدوره محافظاً لريف دمشق.


وُلد أبو عبيدة سنة 1986 لأسرةٍ متديّنةٍ في مدينة قَطَنا بالغوطة الغربية، والممتدّة بين سفوح جبل الشيخ بريف دمشق. مطلعَ تسعينيات القرن الماضي أَوْلَى ثلاثةُ شبّانٍ عنايةً خاصَّةً بعامر، وثلّةٍ من الفتية، تحديداً في مسجد إبراهيم الغلايني بقطنا. الشبّان الثلاثةُ من مواليد السبعينيات هُم فادي عبد الغني المحاضِر ومُعيد قسم اللغة العربية بجامعة دمشق وابنُ عمِّه أحمد الشيخ ويحيى بندقجي. عناية هؤلاء الثلاثة بالشبّان غيّرت وجهَ حاضرهم ومستقبلهم. كان الثلاثيّ يجتمعون بخمسة عشر فتىً في مسجد إبراهيم الغلاييني للقيام ببعض النشاطات وحفظ صفحات من القرآن حفظاً غيرَ محكمٍ، في محاضن تعليميةٍ شرعيةٍ بسيطةٍ تكاد تشبه أُسَرَ الإخوان المسلمين، مع الحرص على تسيير دوراتٍ في مناهجهم التعليمية بالمدارس كي تساعد الفتيةَ الخمسة عشر على تحقيق أعلى تحصيلٍ علميٍّ ممكن.

كان هذا مطلعَ الألفية، آنَ اضطرابِ العالَمِ إثرَ أحداث 11 سبتمبر. ارتفعت بعدها حدّةُ الخطاب الدينيّ مجتمعياً في سوريا، لا سيّما بعد الغزو الأمريكي للعراق. آنذاك أخذت النقاشاتُ بين الشيوخِ الثلاثةِ والفِتيةِ تحوم حول حِمى حزب البعث ونظام الأسد وسياساته الطائفية، على أنّ النقاشات الدينية والفكرية لا تتعدى الجانبَ التربوي والفقهي الأساسي وبعض أحاديث كتاب رياض الصالحين. ثمّ اشتدَّ عودُ الفِتيةِ إذ بَدَؤوا يخرجون في رحلاتٍ كشفيةٍ إلى الجبال القريبة من جبل الشيخ في قطنا لمِراسِ العيش الخشن في البراري، أو بحثاً عن "المُغَر" أي المغارات، كما قال أبو عبيدة يوماً للمحقِّق في سجن فرع فلسطين سيِّئِ الذكر، بعد يَوْمِ تعذيبٍ طويل.

نالَ عامرٌ مُرادَ عائلتِه وبَلَغَ قصدَ شيوخِه بالنجاح في البكالوريا بمعدّلٍ عالٍ ثمّ التسجيل في تخصّص الأدب الإنجليزي بكلّية الآداب في جامعة دمشق. وبالتوازي، حصل الفِتْيان الثلاثة على قطع سلاحٍ من مهرِّبين، معتقِدين بضرورة التدرّب على السلاح لقتال النظام في ساعة الصفر، اقتناصاً للفرصة الإقليمية التي تهدّد نظام الأسد، لا سيّما سقوط نظام صدام حسين الذي ولّد توقعاتٍ بانهيار نظام الأسد. بين أودية الجبال وفي الليالي الشاتية ارتفعت وتيرةُ تدريباتهم على السلاح حتى يضيع صوت الرصاص في الأُفق. يقول الشيخ الآن إنَّ رؤية شيوخه تلك كانت "ساذجة" وتصرّفاتهم – على جرأتها – لم تكن منظورةَ العواقب. 

في السنة الأولى لعامر الشيخ على مقاعد قسم الأدب الإنجليزي دخل الأمريكيون إلى العراق. يومئذٍ انشقّ صفُّ الفتية الخمسة عشر، كحالِ أغلب الشباب السوري، ما بين راغبٍ بالذهاب للقتال في العراق حَمِيّةً، وبين رادعٍ عن ذلك تحسّباً لانهيار النظام السوري في أيّ لحظة. يحكي أبو عبيدة عن ذهابه مع صحبه كلّ يوم جمعةٍ منذ 2002 حتى 2004 إلى منطقة معضّمية الشام قاطعاً خمسة عشر كيلومتراً لحضور خطبة الشيخ نعيم الحريري المفوَّه العنيد في مسجد الزيتونة. بقي مسجد الزيتونة بعد الثورة السورية 2011 عامراً بالمصّلين الذين يقطعون المسافات لحضور خطبة الشيخ نعيم الحريري الذي ما سَكَتَ عن ظلم النظام.

في أبريل سنة 2004 اتّفق أبو عبيدة وصديقٌ له مع مهرِّب بَشَرٍ من دير الزور لتهريبهما إلى العراق. وقريباً من الحدود باءت المحاولة بالفشل، إذ استطاع أهلُ عامر كشفَ المخطّط وأعادوه إلى قطنا. رجع أبو عبيدة إلى الجامعة واستكمل سنتَه الأُولى فيها لكنّه لم ينثنِ عن محاولة النفير إلى العراق مرّةً أخرى، فقد اتّفق مع مهرِّبٍ آخَر أن يزوّر له بطاقةَ هويةٍ عراقيةٍ يسافر بها إلى العراق بيُسْر.

في غرّة يوليو سنة 2004 عند الساعة الثالثة إلا عشر دقائق فجراً، طرق أحدُهم بابَ آل الشيخ طرقاً خفيفاً ففتح لهم ليجد ضابطاً لطيفاً يسأله عن مستأجرين قدامى فأخبره أبو عبيدة أن البيت لأصحابه وأن لا مستأجرين في المنطقة. فطلب الضابط منه أن يرافقه ليكتب إفادته سريعاً وأن يُحضِر معه مفتاحَ البيت حتى لا يوقظ أهله عند عودته. لكن المفتاح مَكَثَ مع أبي عبيدة سبعَ سنين في السجن إلى أن عادَ إلى أهله.

في المفرزة "مطمَّش العينين"، أي معصوبَ العينين، ومكبَّل اليدين حائراً، سمع أبو عبيدة صوتَ صديقه الذي يريد أن يذهب معه إلى العراق وأصواتَ بعض الشباب الذين يعرفهم من قطنا، فظن أنَّ الأمر متعلّقٌ بالذهاب إلى العراق. لكنّه عندما نُقل إلى مَفرزةِ سعسع وفي زنزانته المنفردة سمع صوتَ فادي عبد الغني، أحدِ شيوخه الثلاثة، وحينها أدرك أنَّ بقاءهم هنا طويلٌ جدّاً. ومن سعسع إلى فرع فلسطين اجتمع سبعةٌ وعشرون شابّاً من قطنا، معهم الشيوخُ الثلاثةُ فادي وأحمد ويحيى، وبحوزتهم ستّ عشرة بارودةً في صحبةٍ ستستمرُّ سبعَ سنين في سجن صيدنايا.

قبل أيامٍ من مقابلتنا أبا عبيدة قَبَضَ الأمنُ العامُّ، التابعُ لوزارة الداخلية في قيادة سوريا الجديدة، على أحدِ سجّانِي فرع فلسطين الذي أذاقَهم سوءَ العذاب حينَها، والذي شرح لي أبو عبيدة تفاصيلَه ثمّ تبسّم ضاحكاً وهو يحكي لي أنه لم يفهم سؤالَ المحقِّق الذي ضربه صارخاً "هِنت [أنت] سَلَفي؟". فوصفُ "السَلَفِيّ" لم يكن منتشراً حينَها إذ شاعَ مكانَه وصفُ "الوَهّابيّ" تهمةً دينية. يُؤكّد روايةَ أبي عبيدة في هذا التفصيل ما حكاه لي أبو خزيمة الفلسطيني، مؤسّس الجهاز الأمني في حركة أحرار الشام، عندَ مقابلته لأغراضٍ بحثيةٍ سنةَ 2022، والذي سُجن في سجون النظام سنةَ 2000. فقد قال أبو خزيمة إنّ المساجين صاروا يُزَجّون في السجن سنة 2002 بتهمة السَلَفية الجهادية، وهي تهمةٌ جديدةٌ عليه بهذا الوصف إذ سُجِنَ ورفاقُه بتهمة "الوهّابية" التي استُبدلت بـها "السَلَفية".


تعدّدت صفاتُ سجن صيدنايا بتعدّد الواصفين. فبينما يسمّيه عامّةُ الناس "المسلَخ البَشَريّ"، يقال إن النظام يسمّيه "المعمل" الذي يُنتِج الجثثَ بوتيرةٍ "صناعية"، بينما الآخَرون من الناجين منه أو الدارسين له يسمّونه "الأكاديمية". داخل هذا السجن، شاعَ تسميةُ كلِّ مجموعةٍ اعتُقِلَت معاً بِاسمِ "دعوى" لأنهم سيقوا إلى السجن تحت الدعوى نفسها في القضاء ويُدعون إلى المحكمة معاً. وتُقال كلمةُ "دعوى" متبوعةً بما يشير إلى سبب الاعتقال أو أسماء المعتقَلين أو المنطقة التي ينحدر منها المعتقَلون معاً. فمثلاً "دعوى قطنا"، و"دعوات الإخوان"، و"دعوى الغاب" نسبةً إلى سهل الغاب، و"دعوى الجرحى"، و"دعوى العبادة"، و"دعوى أبو الصادق". ولعلّنا نلاحظ أنهم – لتغليب العامّية – يَجمعون كلمة "دعوى" على دعواتٍ لا دعاوى. وبين هذه الدعوات، يَعرِض الحاضرون دعاويهم في ملتقىً إجباريٍّ وحلبةً مهمّةٍ، لا حدود لوقتها، لتجربة مدى فاعلية الأفكار بنقاشاتٍ طويلةٍ ومناظراتٍ شرسة.

في 14 فبراير 2005، يومَ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، رأى عامر الشيخ فيما يراه النائم أنه خرج من سجنه في فرع فلسطين. وما إنْ صحا من نومه حتى أتى قرارُ خروجه من السجن الذي هو فيه، لكن إلى سجن صيدنايا. وهناك على باب صيدنايا اجتمع أبو عبيدة مع شبابِ قطنا وشيوخِه الثلاثةِ بِاسمِ "دعوى قطنا". لا يمكن لمعتقلٍ أن يدخل صيدنايا من غير "دولاب ترحيب" أو "حفلة الاستقبال". فعادةً عندما يصل المعتقَلون إلى صيدنايا أوّل مرّةٍ يُدخِلُهم السجّانون إلى ساحة التفتيش ويُعَرُّونهم، ثمّ يُدخِلون يدي ورجلي كلِّ سجينٍ في "دولاب"، أي إطار السيّارة، ويضربُه عدّةُ سجّانين بعَصاً. لكنّ أبا عبيدة وشباب قطنا مع الشيوخ الثلاثة "لم يُرحَّب بهم" صدفةً لأن المساعد الأول محمد خَجِلَ من أن يرحِّب ترحيبَه المعتادَ بأبناء مدينته. في "الجنزير [سلسلة القيود] نفسه" بتعبير أبي عبيدة، كان محمود علي طيبة، أبو عبد الملك الذي سيصبح الشرعيَّ العامَّ (رأس الإفتاء والتوجيه الشرعي) لحركة أحرار الشام لاحقاً، "دعوىً" وحدَه من مدينة اللاذقية. يضحك أبو عبيدة كثيراً كلّما ذكر دخولَهم مع أبي عبد الملك وشكَّهم فيه لأنه من مدينة اللاذقية معقلِ النظام السوري.

وساطةُ المساعد أوّل محمد جمعت أبناءَ دعوى قطنا في مهجعٍ واحدٍ مع أبي عبد الملك في جناح الباب الأسود. سُمّي الجناحُ كذلك لأنّ بابَه أسود مغلَقٌ بالكامل وبلا قضبان. لم تلبث دعوى قطنا أن تثق بأبي عبد الملك طالب السنة الثانية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقارئ كتب منظّري السلفية الجهادية كالسوري عبد المنعم أبو حليمة، المشتهر بِاسمِ أبي بصير الطرطوسي، والأردني عمر محمود عثمان، أبي قتادة الفلسطيني. وقد تصدّر أبو عبد الملك لتدريسِهم الفقهَ ومسائلَ التوحيد والإيمان، فكانت دروسُه أُولى خطوات أبي عبيدة في التأسيس الفكري، حسب قوله.

في سجن صيدنايا التقى عامر الشيخ أيضاً بالدكتور فراس السخني، أبي سارية الشامي، الذي سيصبح لاحقاً من قادة أحرار الشام، والمسجونِ في صيدنايا منذ سنة 2001 حتى سنة 2012. آنَسْتُ أثرَ أبي سارية في أبي عبيدة لا من تفاصيل حديثه عن استثنائية أبي سارية في التعليم وألمعيّته في الحفظ إنما من سعادته المفرطة كلّما ذَكَرَ اسمَه، إذ رافقه أبو عبيدة طوالَ مدّة سجنه. وانكبّ على دراسة مباحث أعدّها أبو سارية بنفسه، حتى بلغت ساعاتُ الدراسة يومياً ثماني عشرة ساعة.

في أغسطس سنة 2005 بدأت الدروس الدينية تنتظم أكثر في السجن، ما بين دروس أصول فقه ودروس الفقه من كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لِابنِ قيّم الجَوزية. يرجع الفضل في هذا التنظيم إلى الشيخ أبي سارية الذي جهّز لكلّ مساقٍ شرعيٍّ مباحثَ للتدارُس، يُمتحَن فيها الدارسُ حتى يرتقيَ إلى المستوى الأعلى. فمثلاً اعتمد الشيخ أبو سارية في تبويب مبحث التوحيد على كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" من تأليف الفقيهِ الحنبليّ وأحدِ علماء نجد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. وفي مبحث "إعداد العدّة للجهاد في سبيل الله" اعتمد على كتاب "العمدة في إعداد العدّة" من تأليف السيد إمام بن عبد العزيز الشريف، أحدِ مرجعيات الجهاد العالمي. لكنّ أبا سارية أضاف على مباحثِ كتابِ العمدة حاكميةَ الشريعةِ، ومبحثاً بالعُذرِ بالجهل، ومبحثاً بضوابط الإكراه. بنى أبو سارية المناهجَ أو المساقاتِ التي درّسها على ما كَتَبَه قبله الشيخ بهاءُ الجَغَل، أحدُ الشخصيات الفكرية التي يُنسَب إليها وضعُ المنهاج الفكريّ لحركة أحرار الشام.

من فريد ما ذكره أبو عبيدة عن أبي سارية، عدا ذاكرته الحادّة، أنه كان يؤخذ إلى السجن الانفرادي كثيراً. لذا كان يعدّ العدّة دائماً بكتابة المتون العلمية، مثل منظومة "سلّم الوصول إلى علم الأصول"، على ورقٍ ويلفّها لفافاتٍ صغيرةً ثم يحيكها في سترته ليحفظها في سجنه المنفرد قبل أن يخرج ليحفِّظَهم إيّاها. وكانت الكتب تُدَسُّ إلى السجن بعدما تَمرّس المساجين على رشوة السجّانين الذين لا يمانعون من شراء الكتب لهم لكن بأسعارٍ فاحشةٍ، حتى لَيشترون كتاباً بخمسة آلاف ليرةٍ، أي ما يعادل مئة دولارٍ حينها، وهو بثَمَنِ خمسمئة ليرةٍ، أي ما يعادل عشرة دولاراتٍ تقريباً. كان أهالي المساجين ينفقون على أبنائهم بسخاءٍ في كلّ زيارةٍ لهم، على قلّة الزيارات، وقد يصل المبلغ الذي يعطيه الأهلُ لابنهم في الزيارة الواحدة مليونَ ليرةٍ سوريّةٍ، أي ما يعادل عشرين ألف دولار. لم تقتصر المعرفة حينها على العلوم الدينية، إنما انتشرت أيضاً دروس العلوم الكونية أو الدنيوية على يد معتقَلين أطبّاء أو مهندسين.

دخلت سنةَ 2006 دعواتٌ جديدةُ إلى سجن صيدنايا فتحت البابَ على مصراعيه للنقاشات الفكرية المتنوعة "ما بين قاعدة العراق والأردن المتشدّدين وقاعدة أفغانستان الأَلْيَنِ، وما بين طلّاب علمٍ يتأسّسون فكرياً"، كما يقول عامر الشيخ. مع هذه الدعوات اتّسع كادرُ المدرّسين في "الأكاديمية" الافتراضية. فالشيخ أبو العباس الشامي، أو أيمن أبو التوت، من الآباء الروحيّين لقادة حركة أحرار الشام، يدرّس كتابَ رياض الصالحين. والشيخ حسن صوفان أبو البراء أحدُ قادة أحرار الشام يدرّس مسائلَ في التفسير. والشيخ ماهر علّوش يدرّس أصولَ الفقه. فتنوّعت الأصوات والرؤى في السجن، لكن السِّجال المسيطِر كان عن البرلمانيين. فبينما يرى المتشدّدون تكفيرَ عَيْنِ المشاركين في البرلمانات، يرى الأقلُّ تشدّداً عذْرَهم بالجهل. من هذه النقاشات بدأت المناظرات بين الفريقين. يتصدّر من الأوّل جهاديٌّ أردنيٌّ يُعرَف بأبي حذيفة الأردني، ومن الفريق الثاني أبو عبد الملك والشيخ بهاء الجغل. يقول عامر الشيخ إن هذه المناظرات كانت شرسةً حتى انبرى لحراستها بعض المعتقلين خشيةَ أن ينتج منها اقتتالاتٌ من جماهير أيِّ الفريقين.

في حديثه عن تلك الحقبة من غَياهِبِ السجنِ استذكر أبو عبيدة قاعدةَ التكفير التي وضعها الشيخُ بهاء، وهي: "في أحكام الدنيا التي تجري على الظاهر يُحكم على مُعيَّنٍ بالكُفر بقولٍ أو فعلٍ مُكفِّرٍ، ويَحكُمُ عليه مؤهَّلٌ بالحُكم إذا توفّرت الشروطُ وانْتَفَت الموانع". وقد وضع الشيخُ بهاء لكلِّ كلمةٍ من هذه القاعدة مبحثاً، مثل موانع التكفير، وشروط المؤهَّل، والحكم المطلق، والحكم المُعَيَّن.

بعد "استعصاء صيدنايا" الشهير سنةَ 2008، كما يسمّيه السوريّون، والذي استطاع به السجناءُ السيطرةَ على السجن شهوراً، تحوّلت هذه النقاشات الفكرية إلى صراعاتٍ عمليةٍ بشأن حكم السجن وإدارته، تَبَلْوَرَت فيها التيّاراتُ في مجموعاتٍ مختلفةٍ تقاسمت السيطرةَ على طوابق السجن المختلفة، إلى أن انتهى "الاستعصاء" أخيراً باقتحامٍ عسكريٍّ للسجن قُتل فيه على مدى الشهور الطويلة عشراتُ السجناء، ومنهم شيخا أبي عبيدة، فادي ويحيى.


في 14 مايو 2011 أي بعدَ قرابةِ شهرين من اندلاع الثورة السورية وانتهاء محكوميّته، أُخلِيَ سبيلُ أبي عبيدة. وفي السنة نفسها أتاه صالح الحموي المعروفُ على منصة إكس بِاسمِ "أُسّ الصراع في الشام" رسولاً من "جبهة النصرة لأهل الشام في ساحات الجهاد" باحثاً عن معتقَلي صيدنايا الخارجين حديثاً لدعوتهم إلى الانضمام لهذا المشروع. رفضَ أبو عبيدة طلبَ صالح بعد أن ناقشه مع أبي عبد الملك وأبي سارية في الشمال السوري. وزار حسن صوفان وأبا العباس في سجن عدرا أيضاً لإطلاعِهما واستشارتهما وأشارا عليه برفض المشاركة. إذ اتّفق الجميعُ، بعد تجربة المناظرات و"استعصاء" سجن صيدنايا، على ضرورة إبعاد "قاعدة العراق" عن المشهد والمعارك والابتعاد عنها، وقد كانت جبهة النصرة ترتبط بها. بدلاً من ذلك، اجتمع عددٌ من رفاق أبي عبيدة الناجين من صيدنايا، وأعلنوا في نوفمبر 2011 عن تشكيل "كتائب أحرار الشام الإسلامية" بقيادة حسّان عبّود، أبي عبد الله الحمويّ، لتصبح لاحقاً "حركة أحرار الشام"، إحدى أكبر الفصائل الثورية والإسلامية في الثورة السورية بعشرات آلاف المقاتلين الموزّعين على امتداد سوريا كلّها.

كان أبو عبيدة من المساهمين الأوائل بتشكيل كتائب الأحرار في دمشق، وقطنا تحديداً، والتي ازداد تعدادُ مقاتلي الكتائب فيها سريعاً، استناداً إلى "دعوى قطنا" وعدد أفرادها الكبير نسبياً والذين بدؤوا باستقطاب الناس وإعدادهم عسكريّاً وفكريّاً بمنطلقاتٍ فكريةٍ شبيهةٍ بما كُتب في مباحث الشيخ أبي سارية والشيخ بهاء في سجن صيدنايا. وبعد معسكراتٍ تدريبيةٍ في الشمال السوري سنة 2012 استلم أبو عبيدة قيادةَ أحرار الشام في قطنا ثمّ خان الشِيح ثمّ بيت جنّ في المناطق الممتدّة من الغوطة الغربية باتجاه درعا والقنيطرة. بعد ذلك، استلم أبو عبيدة قيادةَ حركة أحرار الشام في درعا منذ سنة 2015، حيث خاض أبو عبيدة معاركَ ضاريةً ضدّ تنظيم "داعش" خسرت فيها حركةُ أحرار الشام ما يقارب ثلاثَمئةِ مقاتل. بقي عامر الشيخ أميراً للحركة في درعا حتى هُجّر منها سنةَ 2018 إلى الشمال السوري بعد حملةٍ شرسةٍ شنّها النظام السوري مدعوماً من الإيرانيين والروس، هُجّر على إثرها من لم يقبل اتفاق التسوية الذي فرضته روسيا في الجنوب السوري.


تلقّت حركة أحرار الشام ضربةً موجعةً في 9 سبتمبر 2014، بانفجارٍ أثناء اجتماع مجلس شورى الحركة في "المقرّ صفر" تحت جبلٍ مطوَّقٍ بحراسةٍ شديدةٍ في رام حمدان بريف إدلب، قُتِل به العشراتُ من صفوف قيادة الحركة. يرى عامر الشيخ، الذي كان حينَها في الجنوب السوري، أنّ هذه الحادثةَ وَقَعَت قَدَراً لا اغتيالاً لأنّ المقرّ فيه معملٌ لتصنيع أسلحةٍ واحتماليةُ الانفجار قائمةٌ، بينما يرى آخرون في الحركة أنَّ هذه القتلة كانت اغتيالاً مدبّراً.

بعد مقتل قادة أحرار الشام سنةَ 2014 مرّت الحركةُ بتغيّراتٍ فكريةٍ عدّةٍ، وخاضت بعشرات الآلاف من مقاتليها اقتتالاتٍ مع مختلف الفصائل بمن فيهم جبهة النصرة، قبل أن تصبح لاحقاً "جبهة فتح الشام" ثمّ "هيئة تحرير الشام". كذلك شهدت حركة أحرار الشام انشقاقاتٍ داخليةً أنهكت الحركةَ وفَتَّتت عضدَها. يؤكّد أبو عبيدة "صدمته من حال الحركة في شمال سوريا حين وصوله. إذ يغلب على الحركةِ المناطقيةُ التي تؤثّر في القرارات السياسية والعسكرية، فتجد من الصعب أن يساند جماعةُ قطاعٍ قطّاعاً آخر، بسبب المناطقية وعدم التنظيم. ويؤكّد أبو عبيدة أنّه عند وصوله إلى الشمال "كانت المناطقيةُ هي السِمَة الغالبة على الحركة بكلّ أجنحتها". ومن نافلة القول أنَّ عامر الشيخ هو أوّل قائدٍ للحركة من خارج جغرافيا الشمال السوري، إذْ أتاها من أقصى الجنوب.

أبو عبيدة، خلال متابعة سير المعارك على جبهات القتال في حماة
قناة "مراسل أحرار الشام" على تلغرام

في الشمال شَغَلَ أبو عبيدة منصبَ أمينِ سرِّ قائد الحركة آنذاك الشيخ جابر علي باشا. كان بين جابر وهيئة تحرير الشام اتفاقاتٌ ضمنيةٌ أو "تحت الطاولة" كما يعبّر أبو عبيدة، "بينما كان الأفضل أن تكون فوق الطاولة، لأنها اتفاقياتٌ تشاركيةٌ تحفظ كوادر الحركة وتمنعها من الانزلاق في معارك طاحنةٍ مع الهيئة". وقد شارك جابر في المعارك مع الجبهة الوطنية للتحرير ضدّ هيئة تحرير الشام حتى توقيع اتفاقٍ بينهم في يناير 2019. يقول عامر الشيخ معلّقاً على لقاءاته مع جابر وأحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني، إنه كان يرى "النجاة في المشهد آنذاك في التحالف العَلَنيّ مع الهيئة [هيئة تحرير الشام] والتفاعل مع أطروحاتها، لا سيما أنَّ حركة أحرار الشام حينها كانت بحالةٍ غير جيّدةٍ عسكرياً وتنظيمياً". وقد تواصلت الفِراتْس مع الشيخ جابر علي باشا الذي نفى بدوره قطعياً وجود أي تحالفاتٍ غير مُعلنة أو اتفاقاتٍ "تحت الطاولة" مع هيئة تحرير الشام حينها.

بعد سنةٍ من الخلافات والانقسامات في جسم الحركة آلَت القيادةُ إلى أبي عبيدة قطنا، الذي اشترط شرطَيْن أساسيَّيْن على مجلس الشورى. "الأوّلُ أن يحظى بكامل الصلاحية لتعيين أعضاء مجلس القيادة، والثاني ألّا يلوموه على تعييناته بناءً على ما كان بينهم من خلافات". وبالاتفاق بين الشيخ حسن صوفان ومجلس الشورى، فريق الشيخ جابر، حُلَّ مجلسُ شورى الحركة. ثمّ عَيَّنَ أبو عبيدة مكانَ مجلسِ الشورى مجلسَ قيادةٍ جديداً مختلفاً عن نمط "الشورى" الذي عهدته الحركةُ منذ تأسيسها. لم يضمّ هذا المجلسُ إلا اسمَيْن من الشخصيات القديمة، ممّا أدّى إلى انشقاقاتٍ وانقساماتٍ واسعةٍ في جسم الحركة شملت قائدَ لواء المغاوير ولواءَ بدر ولواءَ العباس، الألوية ذات الماضي الطويل والرمزي مع الحركة، وانشقّت كتلٌ كاملةٌ من الحركة وانتقلت إلى الشمال وأسّست قيادةً بديلةً لاحقاً.

واجه عامر الشيخ تبعاتِ قراره باجتماعاتٍ مكثّفةٍ مع الألوية وقاداتها لإقناعهم بجدوى مجلس القيادة. ووضع تعريفاً جديداً للحركة بأنّها: "قوّةٌ عسكريةٌ صلبةٌ متماسكةٌ تؤدّي مهامّها بكفاءةٍ عالية"، بعد أن كان تعريفُها في النظام الداخليّ للحركة، والذي اطّلَعْتُ عليه سنةَ 2021 في أثناء بحثٍ كنتُ أكتبه عن حركة أحرار الشام: "حركةٌ إسلاميةٌ إصلاحيةٌ شاملةٌ، تعمل على بناء مجتمعٍ إسلاميٍّ حضاريٍّ في سوريا يُحكم بشرعِ الله الذي ارتضاه لهم. تَسلُكُ في سبيل ذلك العملَ المؤسساتيَّ، بما يحقّق التكافلَ والتعايشَ بين مكوّنات المجتمع السوريّ، وذلك باتّباع وسائلَ متعدّدةٍ، تشمل الحراكَ العسكريَّ الذي يَهدِفُ لإسقاطِ النظامِ وبَسْطِ الأمنِ، والحراكَ المدنيَّ الذي ينبثق عنه النشاطُ الدعويُّ والتربويُّ والإنسانيُّ والإعلاميُّ والسياسيُّ والخدميّ".

صَعُبَ على منتسبي حركة أحرار الشام استيعابُ هذا التغيّر الكبير في بنيةِ الحركة وآليّة عملِها. يقول أبو عبيدة إن السُبلَ ضاقت بأبناء الحركة حينَها، فبعد أن كان للحركة جناحٌ عسكريٌّ وآخَرُ سياسيٌّ وثالثٌ للإدارات، ويتفرّع من كلّ جناحٍ مجموعةٌ من المكاتب والمؤسّسات والإدارات، أصبحت حركةً عسكريةً محضة. ممّا فرض عليه "مئات الساعات من النقاشات والحديث مع أبناء الحركة لشرح الحالة الانتقالية الجوهرية التي تمرّ بها الحركة في محاولة إنجاحها والحفاظ على تماسكها".

ماليّاً كانت الحركةُ حين استلمها عامر الشيخ مدينةً بمئات آلاف الدولارات للتجّار والجبهة الشامية وهيئة تحرير الشام. وكانت يدُ "أبو محمد الجولاني" من الناحية الأخرى تمتدّ إلى الحركة بتسعين إلى مئة ألف دولارٍ شهرياً بلا مقابل. مستنداً إلى علاقتِه الوثيقة والقديمة بصديقِه في سجن صيدنايا وقائدِ حركة أحرار الشام سابقاً حسن صوفان، وثقتِه بضرورة التحالف مع الهيئة، دَخَلَ أبو عبيدة مع "أبو محمد الجولاني" بتحالفٍ ليَحفظَ للحركة كيانَها واسمَها وعلاقاتِها وارتباطاتِها. لكن بما يضمن ترتيباً عسكرياً واحداً مع الهيئة في أكتوبر سنة 2021، ويشرف عليه القائدُ العسكريُّ للهيئة، "أبو الحسن 600"، الذي أصبح الآن وزيراً للدفاع بِاسمِه الحقيقيِّ مرهف أبو قصرة.

لكنّ تغييرَ جوهرِ عملِ حركة أحرار الشام وتحالفاتِها على يد أبي عبيدة ونائبه أحمد الدالاتي المعروف بِاسمِ "أبي محمد الوادي" لم يكن عابراً. إذ طال الخلافُ بين قادة الحركة وبعض أعضاء مجلس الشورى السابقين فيها ممّن يَرَوْن أن الحركةَ لم يبقَ منها شيءٌ إلّا اسمُها، وبين تيّار أبي عبيدة الذي يرى أن الحركة وُضِعَت في طريقها الصحيح يومَ حَجَّمَت نفسَها ووضعت تعريفاً محدّداً لعملها وقَصَرَتْه على العسكري. رُؤِبَ الصدعُ بجلسة صُلحٍ وعفوٍ بالمسجد الأموي يومَ 30 ديسمبر 2024 بعد سقوط نظام الأسد بأيامٍ، حضرها القادةُ السابقون الأحياءُ الذين تعاظم الخلاف بينهم، وهُم من ناحية أبو عمّار العمر وجابر علي باشا ومن ناحية أبو عبيدة قطنا وصديقه القديم حسن صوفان. كانت هذه الصورة ضرباً من الخيال منذ أشهرٍ قليلةٍ، لا لأنّها تجمع قادةَ أحرار الشام في المسجد الأموي بدمشق فقط، إنما لأنّها تجمع قادةً كان بينهم خلافٌ عنيفٌ على كيانِ حركة أحرار الشام وفاعليّتِها وقيادتِها والعلاقةِ مع هيئة تحرير الشام.

يَعُود عامر الشيخ: "لحظة التحالف تلك [مع هيئة تحرير الشام] كانت مفتاحَ نصرِ اليومِ، الذي صَنَعَه جسمان كانا عَدُوَّين قبل أن تجمعَهما المصالحُ العامّةُ وقتالُ نظام الأسد". فبين حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام احترابُ عداءٍ قديم منذ كانت الهيئة تُعرَف بِاسمِ جبهة النصرة ثم هيئة فتح الشام، ولم يستطع قادةُ أحرار الشام أن يتجاوزوا الخلافَ مع الهيئة ويتحالفوا معها. لكنَّ أبا عبيدة، بمشورةٍ من صديقه وقائد الحركة سابقاً حسن صوفان، مَضَى قُدماً بالتحالف الكامل مع هيئة تحرير الشام، ممّا مثّل تحدّياً كبيراً على مستوى أبناء الحركة الذين لم يستوعبوا هذا الانتقالَ من التعبئة ضدّ الهيئة إلى التحالف معها.

يقول أبو عبيدة إنّ "هذا التقارب العسكري صَحِبَهُ تقاربٌ فكريٌّ على مستوى القيادات، لكنه لم يكن كذلك على مستوى المقاتلين. فأبناءُ الحركة يَرَوْن مقاتلي الهيئة غلاةً، ومقاتلو الهيئة يَرَوْن مقاتلي الحركة مميِّعة. لكنَّ طولَ الاحتكاك ورغبةَ القيادات بتوحيد الصفّ ساعَدا على تجاوزِ هذه المحنة الفكرية والخروجِ بنموذجٍ جديد".


رافَقَ التحالفَ مع الهيئة التركيزُ على عسكرةِ الحركة وتطورٌ على مستوياتٍ عدّةٍ كالاستخبارات العسكرية والتصنيع والتجميع الحربي للطائرات المسيَّرة الانتحارية والقذائف المدفعية. وكان للحركة حينها ثلاثةُ ألويةٍ عسكرية: لواء حلب ولواء جبل الزاوية ولواء الساحل، والوحدة 82 القوة الخاصة الانغماسية في الحركة، والقوّة المركزية. ورغبةً في إعادةِ الهيكلة وجَعْلِ الحركة "نواةً صلبةً" دُرِّبَت كلُّ عناصر الحركة، الجنديُّ وقائدُ المجموعة وقائدُ الكتيبة وقائدُ السَريّة وقادةُ الألوية، في الكلية العسكرية في إدلب التي شُكّلت في مارس 2021 لتدريب القوى العسكرية وإنهاء الحالة الفصائلية في الشمال. ومع تخرّج أوّل دفعةٍ من الكلّية في سبتمبر من السنة نفسها خطب أبو محمد الجولاني قائلاً: "إن تاريخ اليوم سيكون من أهمّ المفاصل في تاريخ الثورة السورية، وهي علامةٌ فارقةٌ نحو عصرٍ للثورة جديد".

تولّى عامر الشيخ قيادةَ الحركة، وسَعَى منذ البداية إلى عقد رابطةٍ صلبةٍ بين أبناء الحركة تتجاوز التحزّبات المناطقية. ويرى الشيخ أنَّ التركيز على العسكرة جعله ملمّاً باحتياجات الحركة وأبنائها وقادراً على تَلْبِيَتِها كاملة. وفي سبيل إتمام التماسك فكرياً لا عسكرياً فقط، أنشأ أبو عبيدة ما سمّاه "اليوم العِلميّ". إذ خصّصت الحركة أياماً عِلميةً يشرف عليها مكتبُ التعبئة والتوجيه، وقَسَّمَ الفِرقَ الشرعيةَ أربعَ مساراتٍ، بعد وضعِ خطّةٍ دعويةٍ لصنع مقاتلٍ عقائديّ.

يبدأ معسكرُ الانتساب بمستوىً اسمُه "الصفر الشرعي" المقسَّم إلى أسبوعٍ شرعيٍّ يُعطى فيه المتدرّبون ما لا يَسَعُ المسلمَ جهلُه، من فقهِ الطهارة والعبادات على المذهب الشافعي من كتاب "الفقه المنهجيّ على مذهب الإمام الشافعي"، وهو كتابٌ يُتدارَس على نطاقٍ واسعٍ في سوريا، مع حفظ قصار السور وتَدارُس أحاديثَ عن فضل الرباط والجهاد في سبيل الله، وإلى ثلاثة أسابيع من التدريب العسكري. أمّا المستوى الثاني فيُقسم إلى فئتين: فئة المرابطين وما دون قادة الجماعات واسمُه "المسلم الصحابيّ" وهو يشبه بخطوطه العامّة مستوى "الصفر الشرعي" مع زيادةٍ في بعض الأحاديث وحفظ سورة الأنفال. أما الفئة الثانية ففئةُ قادة الجماعات، وخُصّصَت لها الأيام العِلمية، وهي تشمل قادة الجماعات وقادة اللواء الذين يجتمعون في الأسبوع مرّتَيْن بدوامٍ إداريٍّ من بعد صلاة الفجر حتى صلاة المغرب. وحسب ملفٍّ عن تفاصيل هذه المستويات، أطلعني عليه أبو عبيدة مع عدم السماح بنشره، فإن الكتب المتدارَسة هي: "يومَ تُبْلَى السرائر" لعبد العزيز ناصر الجليّل، وكتاب "حقيقة الانتصار" للدكتور ناصر العمر، وكتابا "قوانين النهضة" و"جيوبوليتيك" لجاسم سلطان، مع لمحةٍ عن بعض تجارب الحركات المعاصرة من موادّ صوتيةٍ ومكتوبة.

وتقوم آليّةُ المتابعة في كلّ مستوىً على إنشاء قناة تلغرام تضمّ جميع المستهدَفين في البرنامج ثمّ إرسال الجدول الأسبوعي عليها، وإرسال الموادّ المطلوبة والمقرّرات بداية الأسبوع. ويُنشِئ المسؤولُ الشرعيُّ بكلِّ لواءٍ مجموعةً خاصَّةً بكوادر اللواء ومتابعة الإنجاز، ثم إرسال تقريرٍ أسبوعيٍّ بالإنجاز إلى كلّ المشتركين. تُذكّر هذه الآليّةُ بنمط البيئة الدينية التي تَعَلَّمَ ونشأ فيها أبو عبيدة مع الفتية على يدي شيوخه الثلاثة، وبمباحث الشيخين أبي سارية وبهاء الجغل في سجن صيدنايا. "لم تتطرّق تلك المستويات إلى مُدارَسة السياسة الشرعية أو الحاكمية أو التكفير وضوابطه ومسائل الإيمان والفِرَق. وعلى ابتعاد الحركة عن الأفكار السَلَفية على مستوى القواعد إلّا أنّها بَقِيَت سِمَةَ قاداتِها"، كما يقول أبو عبيدة. 


في يونيو 2019 تشكّلت ما تسمّى "غرفة عمليات الفتح المبين" في خطوةٍ نحو تنسيق الجهد العسكري في الشمال السوري وتوحيده. كانت هيئة تحرير الشام هي الجسم الأكبر في هذه الغرفة. وفي سنة 2020 صدر قرارٌ عن الهيئة بمنع أيّ تشكيلٍ عسكريٍّ أو غرفة عملياتٍ خارج الفتح المبين. وضعت الفتح المبين منهجاً عسكرياً علمياً لتدريب الكوادر العسكرية بمجالاتٍ تخصّصيةٍ، ولذلك انبثق عنها "الكلّية العسكرية" التي أهّلت مئاتٍ من المقاتلين العاديّين والنخبة في الشمال السوري.

في 24 فبراير 2022 يومَ غَزَت القوّات الروسية أوكرانيا، أطلّت إرهاصاتُ الفرصة باحتمالية القيام بمعركةٍ كبرى بعد انشغال روسيا عسكرياً. وبعد السابع من أكتوبر، ثمّ ما مُنِيَ به حزب الله من خسائرَ، بَدَأَ الاستعدادُ لمعركة حلب، كما يقول عامر الشيخ. بل إنَّه يرى أنَّ الثورة كانت حينَها بأفضل حالاتِها، من الناحية الفصائلية والعسكرية والتصنيع والاستخبارات واختراق العدوّ. إذ يزعم الشيخ أنهم اخترقوا حينها "الفرقة 30" من الحرس الجمهوري و"فرقة النخبة" التابعةَ للحرس الجمهوري المتمركزةَ في حلب، بكلّ سبلِ الاختراق بالتجسّس التقنيّ وتجنيد العملاء من داخل النظام، وأنهم اخترقوا فيلقَ القدس التابعَ للحرس الثوري الإيراني، ويعلمون عددَهم وعتادَهم ورواتبَهم وانتشارَهم، على أنّ الثورة كانت في أسوأِ حالتِها سياسياً بعد مغازلة تركيا والسعودية لبشار الأسد والتطبيع الإماراتي معه.

في مايو 2023 وفي قاعة المؤتمرات بمعبر باب الهوى، أُقيمَ مؤتمر أهالي حلب الذي ألقى فيه الجولاني كلمةً قال فيها: "حلب هي بوابة الشام، لذلك علينا التركيز عليها في الأيام القادمة، وأعتقد أنّ خلال السنة القادمة أو السنتين القادمتين سيكون هناك تغييرٌ جذريٌّ على واقع المعركة في الثورة السورية". يقول أبو عبيدة إنَّ بدء العمل لمعركة حلب كان بعد لقاءٍ مع أبي محمد الجولاني لترتيب الفِرَق العسكرية في الشهر نفسه. إذ كانت الفِرَق العسكرية ستّاً، خمسٌ منها لهيئة تحرير الشام والسادسةُ فرقة حركة أحرار الشام. حينها بدأ الاستعداد بخلق محاكاةٍ للمكان الذي سيبدأ منه الاقتحام لتدريب المشاة. غيرَ أنَّ التقييم الأَوّليَّ بالعجز الاقتصادي والإنساني والطبّي في حكومة الإنقاذ [حكومة إدلب التابعة للجولاني حينها] عن تلبية الاحتياجات في حلب أدّى إلى تأجيل المعركة قليلاً.

في هذه الأثناء نُقِل السلاح الثقيل إلى خطّ الجبهة، ونشطت الندوات الداخلية التي يدعو فيها أبو محمد الجولاني إلى نقاشِ آليّة العمل إذا ما حُرِّرَت حلب، من حيث التوجيه السياسي والعسكري والاجتماعي، ووضع خطّةٍ إعلاميةٍ وإنسانيةٍ وتنموية. وعندما تمّت الخطّة وانتهى الإعداد لها تأخّرت المعركةُ ثلاثةَ أيّامٍ بسبب المطر الذي يعيق حركةَ المشاة، ممّا جعلها تتوافق مع اتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان.

وفي 27 نوفمبر 2024 أَعلَنَ الناطقُ الرسميُّ بِاسمِ غرفة عمليات الفتح المبين عن معركة ردع العدوان وأهدافها. وفعلاً بدأت معركة ردع العدوان بإدارة العمليات العسكرية التي يقودُها أبو محمد الجولاني، وفيها قائدُ العمليات من الهيئة أبو يوسف الحمصي الذي أصبح الآن رئيس الأركان في وزارة الدفاع، وأبو عبيدة ممثّلاً عن حركة أحرار الشام. كان تحريرُ حلب أسرعَ ممّا خُطِّط له. وعلى أحدِ محورَي المعركة بريف حلب الغربيّ في ما يسمى "مزارع بالا" و"حير دركل" حقّقت الحركةُ إنجازاتٍ عسكريةً وتقدّماً سريعاً سَبَّبَ انهياراتٍ في جيش النظام.

أبو عبيدة قطنا رفقةَ الجولاني في إدارة معركة ردع العدوان،
القناة الرسمية لإدارة العمليات العسكرية على تلغرام

وعلى المحور الثاني دخلت العصائبُ الحمراءُ، وهي النخبةُ المسلّحةُ بهيئة تحرير الشام، بكلِّ سلاسةٍ رغم المقاومة الشرسة التي جُوبِهوا بها أحياناً في بعض مناطق حلب. وسرعان ما نُفّذت خطّةُ اليوم التالي لتحرير حلب. إذ استلمت وزراةُ الصحّة في حكومة الإنقاذ العملَ الصحّي في حلب، واستلمت وزارةُ الأوقاف في حكومة الإنقاذ العملَ من وزارة أوقاف النظام السوري. ثمّ سرعان ما توالت انهياراتُ النظام العسكرية حتى سقط نظامُ الأسد في 8 ديسمبر 2024. الأمرُ الذي لم يكُن متوقّعاً ولا مخطّطاً له. 


بعد دخول دمشق، يقول عامر الشيخ إن الحركة واصلت عملَها العسكريّ في ظلِّ وزارة الدفاع بشقَّيْها: الأركان، الذي يمثّل الحركةَ فيه أبو المنذر، والفِرَق العسكرية التي تضمّ كوادرَ من الحركة، قبل أن تتحوّل إلى فرقتين تابعتين لوزارة الدفاع موزّعتين على درعا وحماة. أمّا مَدَنيّاً، وبعد أن خلع أبو عبيدة زيَّه العسكري وارتدى بدلةَ محافظ ريف دمشق، بطلبٍ مباشرٍ من أحمد الشرع الذي اختارَه لأنّه من قَطَنا وعلى درايةٍ جيّدةٍ بكلّ مناطق ريف دمشق وبالفصائل التي فيها كذلك. ورأى عامر الشيخ أن "هذا يتوافق مع شعارِ المرحلة المتمثّلِ بالانتقال من الثورة إلى الدولة، إذ تطغى حالة المؤسّسات على أيّ شيءٍ آخَر".

بَيْدَ أنّ هذا لم يُلْغِ الدورَ الأمنيَّ والعسكريَّ. فعامر الشيخ، بكونِه محافظ ريف دمشق، مسؤولٌ عن الحالة الأَمنية والعسكرية والشُرَطية والخِدمية. ما برز بتعيين مسؤولين لكلّ منطقةٍ، موزَّعين من كلّ الفصائل وليس من الحركة فقط، يرافقهم شرطيٌّ وأمنيٌّ وعسكريٌّ من القيادة الجديدة بالتنسيق والتواصل مع كلٍّ من وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، وبقية الوزارات المعنيّة، كالصحّة والتعليم وغيرها لتوفير الخِدمات من صحّةٍ وكهرباء ونقلٍ وأفرانٍ وإدارةٍ محلّيةٍ وطاقة.

ولتحقيق ذلك، يقول المحافظ الجديد عامر الشيخ إنَّ الأرضية تُجهَّزُ الآن لتفعيل الخِدمات المختلفة. لذلك فشكلُ الإدارة الحاليُّ ليس مستداماً وإنّما هو استجابةٌ لحالة الطوارئ، بوضع خطّةٍ لهيكليةٍ مرحليةٍ لا توجد فيها بياناتٌ رسميةٌ بالتعليمات. وأحياناً تتفاوت مهمّات كلّ منطقةٍ في محافظة ريف دمشق بما تفرضه طبيعتُها في هذه المرحلة، التي ما يزال يبدي تفاؤلَه بها رغم التحديات الشرسة، "التي إن قطعناها سنرى خيراً كثيراً، منها تثبيت قواعد الدولة سياسياً والاعتراف بها" كما يقول.

أما أبرز التحدّيات اليومَ، فهو ملفُّ "قوات سوريا الديمقراطية" المعروفة اختصاراً بِاسمِ "قسد". فالمفاوضات معها ما تزال بلا نتيجة. ولذا يرى عامر الشيخ أنها قد تأخذ مسارَ الضغط العسكري لإصرار "قسد" على الدخول بمحاصصةٍ، أيْ كتلةٍ في الجيش، وتقسيمٍ فيدراليٍ للبلاد، ولرفضِها الانضواءَ تحت المؤسسات. لكن يأمُل المحافظُ الوصولَ إلى حلٍّ سياسيٍّ لأنّ أيَّ عملٍ عسكريٍّ ليس من مصلحة أيٍّ من الأطراف لأنه سيعود على الجميع بسوءٍ، "سواء داخلياً بقناعة الإدارة الجديدة أن الحلّ يجب أن يكون سياسياً، أو إقليمياً بمن فيهم الأتراك الذين لن يدخلوا عسكرياً إلّا بموافقة دمشق، وإن حصل فلن يكون التدخّل العسكريّ كبيراً إنما سريعاً".

وأكّد عامر الشيخ أن "الجيش الوطني السوري"، وهو مجموعةٌ من فصائل الجيش السوري الحر أعادت تركيا تشكيلَها وتنظيمَها ودعمَها تحت اسمِ "الجيش الوطني"، سينضوي تحت وزارة الدفاع التي تعمل الآن على تشكيل الفِرَق العسكرية وقياداتها وتثبيتهم. وستنضمّ إليها كلُّ التشكيلات العسكرية والفصائل بعد حلِّ نفسها. وقد بدأت وزارة الدفاع فعلاً رسمَ هيكليةٍ ومقابلةَ الفصائل وطلبَ معلوماتهم وتفاصيلهم.

في 30 يناير 2025 خطب عامر الشيخ مع لفيفٍ من القادة العسكريين السوريين في محفل إعلان النصر الذي توجّه به أحمد الشرع إلى الفصائل التي شاركت في معركة ردع العدوان. وشارك قادةُ تلك الأجسام العسكرية ومن أوّلِهم أبو عبيدة في كلماتٍ مقتضبة. أعلن الشرع في هذا الخطاب تولّيَه رئاسة سوريا، وإلغاءَ العمل بدستور 2012، وحلَّ حزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس الشعب والجيش والأجهزة الأمنية التابعةِ لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وحلَّ جميع الفصائلِ العسكرية والأجسامِ الثورية والسياسية والمدنية لتُدمَجَ في مؤسّسات الدولة. وهي قراراتٌ تتقاطع كثيراً مع إجابة أبي عبيدة حينما سألناه عن "المؤتمر الوطني" فقال إنّ "المؤتمر الوطني تأخّر كثيراً". وسببُ تأخّره هو البحثُ عن الإطار القانونيّ له، لئلّا يكون فعاليةً بلا مخرَجاتٍ قانونيةٍ، لا سيّما أنَّ الغرض الرئيس منه سدُّ الفراغ الدستوري والرئاسي. ويجري الآن العملُ على لجنةٍ تحضيريةٍ للمؤتمر، ستطرح البنودَ التي ستُناقَش في المؤتمر، وستُراجِع الألفَ ومئتَيْ شخصيةٍ الجاري ترشيحُهم من كلّ الخلفيات والفئات والاهتمامات وأصحاب الوجاهة والفكر من المناطق المحلّية، بشروطٍ بسيطةٍ أهمّها أن لا يكونوا من شخصيات النظام السابق، وأن يكونوا أصحابَ تأثيرٍ بمناطقهم.

أمّا عن التحدّيات اليومية فإنَّ الخِدمات هي جلُّ ما يَطرُقُ من أجلِه الناسُ بابَ مكتب أبي عبيدة في مقرِّ قيادة الشرطة بساحة المرجة. ويراها العائقَ الأكبرَ في هذه المرحلة. فالكهرباءُ مثلاً تصل بين ساعتين إلى ثلاث ساعاتٍ فحسبُ، بسبب البنية التحتية المتهالكة تماماً. إذ إنَّ ساعات الكهرباء التي تركها النظامُ تعود إلى الثلاثينيات، والأسلاكُ لا تتحمّل الضغطَ الكبيرَ للكهرباء. ولذلك فثمّة حاجةٌ إلى تجهيز البنية التحتية واستجرار الكهرباء. تحتاج سوريا إلى سبعة آلاف ميغا واط، ولا يتوفّر منها الآن، حتى مع قدوم محطّات الوقود العائمة، سوى ثلاثة آلاف واط. ممّا يعني أنَّ ملفّ الكهرباء يحتاج إلى ما لا يقلّ عن سَنَتَيْن حتى يستقرّ تماماً أربعاً وعشرين ساعة. وربّما يزيد توفير الكهرباء بعد شهرين، من ساعتين إلى ثمانِ ساعاتٍ يومياً مع وصول المساعدات ورفع العقوبات.

ردَّد عامر الشيخ في أثناء المقابلة مراراً "أنّنا الآن انتقلنا من الثورة إلى الدولة"، وهي تكرارٌ لجملةٍ قالها أحمد الشرع في لقاءاتٍ عدّةٍ، ممّا يعكس توافقاً كبيراً مع مقولات القائد الجديد الذي كان يوماً ألدَّ الخصوم لحركة أحرار الشام. وهو توافقٌ كانت بدايتُه يومَ استلم أبو عبيدة مقاليدَ قيادة حركة أحرار الشام. فهل سيزيد هذا التوافق بعد أن حُلّت حركة أحرار الشام، كغيرِها من الفصائل، وانصهرت أفراداً في جسم الدولة تحت قيادة الرئيس الشرع، لا فصيلاً متكتّلاً في جسم الثورة؟

اشترك في نشرتنا البريدية