بين عداء العرب أو تجاهلهم.. الأحزاب الألمانية تتسابق على مقعد الحكم

منذ موجة اللجوء الكبرى سنة 2015، أصبح العرب في ألمانيا على قلّتهم رقماً مهماً وورقةَ لعب على طاولة الأحزاب الألمانية، بما فيها حزب جديد أسّسته امرأتان لهما أصول شرق أوسطية.

Share
بين عداء العرب أو تجاهلهم.. الأحزاب الألمانية تتسابق على مقعد الحكم
لم يتبنَّ حزب سارة فاغنكخت وأميرة محمد علي الخطاب اليساري المرحب باللاجئين أو حتى الألمان الجدد | خدمة غيتي للصور

أثناء تصفحي مقاطع مصوّرة قصيرة على إنستغرام، صادفتُ مقطعاً قصيراً من برنامجٍ إخباري يتحدث عن انتشار كلمة "تالاهون" في المجتمع الألماني، حتى إن أغنية عنوانها "أنا مجنونة بحب تالاهون" تصدرت قوائم الأغنيات الأكثر انتشاراً في ألمانيا على تطبيق سبوتيفاي. لم يَعرف الألمان كلمة "تالاهون" قبل سنة 2015 التي سُمّيت سنة أزمة اللاجئين الكبرى حين سجلت ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي أعلى معدلات وصول اللاجئين، وعلى رأسهم اللاجئون القادمون من دول شرق المتوسط وجنوبه، ومنها سوريا. وربما كان السوريون الواصلون إلى ألمانيا أصحابَ الفضل في ولادة هذه الكلمة ودخولها اللغةَ الألمانية.

نُحتت كلمة "تالاهون" من النداء العربي "تعالَ هون" الذي يستخدمه المراهقون والشباب العرب في شوارع ألمانيا لنداء بعضهم البعض، خاصةً في أوقات الشجار. صارت "تالاهون" تشير في القاموس اليومي الألماني إلى المتسكعين في الشوارع، ثم تطوّر الأمر لتصير سخرية من الوافدين العرب كلهم واستهزاء بهم. هذا الاستهزاء تحمله كلمات الأغنية "تالاهون" المولَّدة بالذكاء الصناعي، والتي أصبحت ثاني أشهر أغنية تستهزئ بالعرب بعد أغنية "آوسلِندر راوس" التي تعني اطردوا الأجانب. قوبلت أغنية "آوسلِندر راوس" بغضب عاصف وانتقادات من بعض السياسيين الألمان، على العكس من "تالاهون" التي يبدو أن حِسّها الساخر وقاها شرّ الهجوم والإدانة، مع أنها لا تقلّ عنصرية عن سابقتها.

في اليوم نفسه قابلتُ صديقاً واستمعنا معاً إلى الأغنية وتناقشنا طويلاً في معنى أن تكون هذه اللفظةُ العنصرية "تالاهون" أولَ كلمة عربية تدخل القاموس اليومي الألماني وليست العبارات الشهيرة التي يعرفها كثير من الألمان مثل "مرحباً وأهلاً وإن شاء الله". قد يكون اختيار الألمان هذه الكلمة واستخدامها إشارةً إلى التسكع في بلدٍ يقدس أهله العمل أمرٌ له دلالته، وإن كان يدل على زيادة الحضور العربي الذي بات واضحاً في المجتمع الألماني مع تواضع نسبة العرب من عدد السكان.

استقبلت ألمانيا سنة 2015 نحو مليون لاجئ من أفغانستان وسوريا والعراق، وأنفقت نحو ستة عشر مليار يورو على استقبالهم وإسكانهم، ليبدأ صراعٌ ألماني داخلي حول وجود اللاجئين والمهاجرين القادمين من بلدانٍ عربية ومسلمة. أصبح العرب والمسلمون، على قلة عددهم الذي يشكل نحو 4 إلى 5 بالمئة من سكان ألمانيا، عنصراً مؤثراً في السياسة الداخلية الألمانية والخطاب الانتخابي للأحزاب المتنافسة في انتخاباتٍ مبكرة أعلن عنها المستشار الألماني أولاف شولتز فجأة. ومع أنهم لا يشكلون وزناً انتخابياً مؤثراً في التصويت، كون أغلبهم لا يحق له الانتخاب، إلا أن وجود العرب يظلّ محلّ خلاف وجدال بين الأحزاب التي تستخدمهم لاستمالةِ الناخبين الألمان. تتبارى الأحزابُ السياسية في استخدام خطابٍ رافضٍ للاجئين وعلى رأسهم العرب المتهمون دائماً برفض الاندماج في المجتمع الألماني. تصاعَدَ هذا الخطاب عقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في 8 ديسمبر 2024، وسارعت الأحزاب الألمانية الحاكمة بتقديم إجراءاتٍ تهدف إلى التخلص من وجود السوريين بأسرع ما يمكن. ازداد وزن العرب في المنافسة السياسية الألمانية التي يتوسطها الآن حزب سارة فاغنكخت، الذي تقوده امرأتان من أصول شرق أوسطية وتتصاعد شعبيته متحدياً أحزاباً أعرق وأقدم.


باتت الأخبار في ألمانيا حالياً تعرض مشاهد مصوّرة لقمع المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية وتصريحات عدائية من المسؤولين الرسميين وممثلي الأحزاب ضد اللاجئين والمهاجرين. تترافق مع تلك الأخبار مقالات تحليلية مليئة بالهلع من صعود شعبية اليمين الألماني، ممثلاً في حزب البديل من أجل ألمانيا "إي إف دي" المعروف بمعاداته المهاجرين واللاجئين وخطابه المتوجس من المسلمين. لا تنقطع تصريحات قيادات حزب البديل مع اقتراب الانتخابات الألمانية عن سحب الجنسية وإعادة ترحيل الألمان المُجنسين وفق شروط. وهي تصريحات لم تعد قصراً على قادة الحزب المعروف بتطرفه، بل ظهرت كذلك على لسان زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي الذي كانت ترأسه أنغيلا ميركل، وهي التي فتحت أبواب ألمانيا للمهاجرين في فترة حكمها.

يبلغ عدد المجنسين من أصول مهاجرة في ألمانيا حالياً أكثر من واحد وعشرين مليون مواطن، أي حوالي 26 بالمئة من السكان البالغ عددهم ثلاثة وثمانين مليوناً. يُسمى هؤلاء "الألمان الجدد" ويرتبط قبولهم في المجتمع الألماني بدرجة ألمانيتهم، أو بحسب التعبير السياسي الدارج في ألمانيا "مدى اندماجهم" لأن الألمان يقدسون مجتمعهم المبني على قيمة التماثل لا الاختلاف. المواطن الألماني يقول جاداً إنه ليس عنصرياً ضد أي مهاجر، طالما كان المهاجر يفكر ويتصرف ويتكلم بل ويرتدي ملابسه كما يرتديها الألمان. يفسر هذا الهوسُ بالتجانس غيابَ الخطاب الموجه لهؤلاء الألمان الجدد عند كافة الأحزاب، إذ يظهرون في الخطاب السياسي آخرَ مختلفاً مهدداً بنزع ألمانيته إذا ثبت أنه لم يندمج بقدرٍ كافٍ. لا يتوجه السياسيون لهؤلاء الألمان الجدد سعياً لاستمالتهم وكسب أصواتهم. ما داموا قد أصبحوا ألماناً بما يكفي، فلا ضرورة لتوجيه خطابٍ لهم وحدهم. لهذا لا تحاول الأحزاب الألمانية التواصل مع المهاجرين لأن هذا سيكلفها شعبيةً عند بقية الشعب الألماني، وربما تُتهم بشق صف الوحدة الألمانية. هذه العزلة السياسية للمهاجرين التي تأتي تالية عزلةً اجتماعية واضحة تحياها مجموعات الألمان الجدد تجعل أغلبية أصواتهم خارج الحسبة السياسة الانتخابية مع عددهم وتأثيرهم، فهم يحملون الجنسية الألمانية، لكنهم عند القرار السياسي لا يتصرفون مثل المواطنين.


يرى الألمان الجدد واللاجئون وطالبو اللجوء، تحديداً العرب منهم، أن ما يواجهونه في ألمانيا منذ رحيل ميركل عن الحكم هو عودةٌ ألمانيةٌ إلى النازية يُكفِّر بها الألمان عن ذنبهم تجاه اليهود، وهو تحليل قد يجانبه الصواب.

في محاضرة على قناته الشخصية على يوتيوب، تحدث الأكاديمي الألماني هانز جورج مولر، أستاذ الفلسفة والعقائد في جامعة ماكاو، عن ثقافة "الاعتزاز بالذنب" الألمانية. ليس شرح مفهوم المصطلح يسيراً، ولكن يمكن فهمه عند شرح السياق التاريخي الذي تَشكّل عقب سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989. نشرت صحيفة واشنطن بوست وقتئذٍ تقريراً كتبه مراسلها في بون، عاصمة ألمانيا الغربية قبل اتحادها مع ألمانيا الشرقية. حمل التقرير عنوان "الذنب الألماني يتحول إلى فخر قومي". التقط مُعدّ التقرير دهشة من نشأوا في ألمانيا الغربية من فخر مواطنيهم من ألمانيا الشرقية بالعلم الألماني واعتزازهم بهويتهم الألمانية عموماً التي لم تمحها تبعية دولتهم للاتحاد السوفيتي. في المقابل نشأ أبناء ألمانيا الغربية يُلقنون عار أن تكون ألمانياً بسبب الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا في الحقبة النازية. يقول التقرير إن النشوة بانبعاث الهوية الألمانية من جديد سرعان ما اختلطت بالذنب الذي بات يُدرّس منذ الطفولة لجميع أبناء ألمانيا بشطرَيها، وبمرور الوقت وُلد ما يُسمّيه جورج مولر "الاعتزاز بالذنب والفخر به".

يشرح أستاذ الفلسفة أن الألمان أصبحوا يرون أنفسهم مميزين أخلاقياً في حملهم الدائم ذنبَ ما فعله أجدادهم في الحقبة النازية ضد اليهود. ويعدون هذا الذنب بوصلتهم التي تؤشر إلى الصواب وفخراً قومياً ينبغي أن يتعلم العالم منه. يقول الألمان "نحن فخورون بشعورنا بالذنب، فخورون بتحمّلنا المسؤولية عن ماضينا النازي"، حسب ما ينقل مولر في محاضرته.

يفسر مولر فتحَ ألمانيا أبوابَها للاجئين في 2015، مع انزعاج معظم الدول الغربية من القرار الألماني، بأنه منطلق من ثقافة الفخر بالذنب الألمانية. لكن هذا الفخر بالذنب يُستخدم الآن للهجوم على هؤلاء اللاجئين لأنهم لا يحملون الفخر نفسه كالمواطنين الألمان، فهم لم يتربوا على حمل ذنب جرائم النازية. وهو ما يعدّه اليمين الألماني نقصاً في ألمانيَّة هؤلاء الوافدين، حتى وإن حملوا الجنسية الألمانية. كان هذا أحد أسباب استحداث "إعلان الإيمان بحق إسرائيل في الوجود" ضمن شروط الحصول على الجنسية الألمانية بعد اندلاع حرب إسرائيل على غزة في 7 أكتوبر 2023. 


ظهر أثر وجود المهاجرين واللاجئين ذوي الأصول العربية في التفاعلات السياسية الداخلية الألمانية في انتخابات سنة 2016، بعد عام واحد مما سُمّي حينها "طوفان اللاجئين". حقق حزب البديل من أجل ألمانيا مكاسبَ كبيرة على حساب الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تزعمته ميركل حينها، بعد تبني حزب البديل من أجل ألمانيا خطاباً يدعو لإغلاق الحدود أمام اللاجئين. استحوذ حزب البديل من أجل ألمانيا على مقاعد بانتخابات الولايات الألمانية للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات من تأسيسه في 2013، ثم نال أربعة وتسعين مقعداً في الانتخابات الألمانية الوطنية سنة 2017، مستولياً على حصة من مقاعد أحزاب اليسار وأحزاب يمين الوسط وعلى رأسها الحزب الديمقراطي المسيحي. جاء هذا الاكتساح نتيجة توجهات الحزب الجديد المبنية صراحةً على معاداة اللاجئين وتحديداً العرب والمسلمين منهم. ورصدتْ تقاريرُ إعلامية وحقوقية، ومنها تقرير كاثرين شوستر في دويتشه فيله الألمانية، أثرَ الخطاب المعادي العربَ والمسلمين في الانتخابات الألمانية الماضية وكيف قاد هذا الخطاب حزب البديل من أجل ألمانيا لحصد مقاعد أكبر من توقعاته. وكتب فريد حافظ لموقع مؤسسة الجسر الحقوقية مقالاً عن دور ظاهرة الخوف من المسلمين المعروفة اصطلاحاً باسم "إسلاموفوبيا" في الانتخابات الألمانية وقتئذ.

الخطاب نفسه يحضر الآن بقوة بينما تستعد ألمانيا لانتخاباتٍ جديدة في فبراير 2025، مع احتمال أن تتأثر نتائج الانتخابات الألمانية بعاملَين مهمَّين في المجتمع الألماني. العامل الأول هو تراجع الاقتصاد الألماني، والذي يحُمّله سياسيون كثر على سياسة الباب المفتوح التي اتبعتها المستشارة السابقة أنغيلا ميركل لاستقبال اللاجئين من مناطق النزاعات بلا قيود، فصارت ألمانيا وجهة اللاجئين والمهاجرين من كل مكان. أما العامل الثاني فهو صعود اليمين المستمر في أوروبا، والذي ظهر بقوة في انتخابات البرلمان الأوروبي في 2024، والتي أُطيح فيها بكثيرٍ من الأعضاء الذين يميلون لليسار ليجلس على مقاعدهم أعضاء يعادون غيرَ الأوروبيين.

تطرح الباحثة جوليا شولت كلوس، من جامعة ماريبورغ الألمانية، في دراسة كَميَّة لأنماط الانتخاب في ألمانيا أن الناخب الألماني يميل إلى التوازن، مستدلةً على ذلك بمضاعفة الأحزاب عددَ مرشحيها من الأقليات خمس مرات في الانتخابات الأخيرة. وبالعودة إلى نتائج انتخابات 2017، نجد أن الألمان كما صوتوا لمرشحين متطرفين في الانتخابات الفائتة، فقد انتخبوا كذلك مرشحين ينتمون إلى الأقليات، بمن فيهم العرب الذين وصلوا إلى ألمانيا لاجئين ثم صاروا لاحقاً مواطنين يحق لهم الترشح والانتخاب. فعلى النقيض من مواطنين كثر في الغرب، وبعد سنوات عديدة من الحياة بينهم، نجد الألمان صادقين في عقدهم الاجتماعي مع المهاجرين الذين بذلوا المجهود ليصبحوا ألماناً. وهو ما يتأكد في خطاب الأحزاب التي تتبنى خطاباً معادياً اللاجئين أو تطالب بترحيل السوريين عقب سقوط حكم الأسد، فهم ينادون بترحيل من لم يندمجوا في المجتمع الألماني.

تُوضح الدراسة نفسها أن هناك ما لا يقلّ عن ثلاثة وثمانين نائباً في البرلمان الألماني المنتخب حديثاً، يشكلون 11.3 بالمئة منه، أصولهم مهاجرة. وقد ارتفعت نسبة النواب ذوي الأصول المهاجرة للمرة الثالثة على التوالي منذ الانتخابات الوطنية الألمانية سنة 2013 من 5.9 بالمئة حينها إلى 8 بالمئة في انتخابات 2017. من النواب المهاجرين نسبة غير قليلة من ذوي الأصول العربية، ومن ضمنهم ثلاثة نواب أصولهم سورية. ومع أن نسبة ذوي الأصول المهاجرة في الفائزين بالانتخابات لا تعكس نسبتهم في المجتمع الألماني، إلا أنه يظل ضِعف تمثيل ذوي الأصول المهاجرة في دولة فرنسا المجاورة، الأعلى صوتاً في إعلان قيم التعددية والمساواة. من اللافت أن أغلب النواب من ذوي الأصول المهاجرة واللاجئين العرب انتخبهم سكان مناطق ليس بها الكثير من المهاجرين أو العرب، أي أنهم لم يفوزا بأصوات مهاجرين ولاجئين، بل بأصوات ألمان اقتنعوا أن هؤلاء المهاجرين اندمجوا في المجتمع الألماني.


يوجد في ألمانيا حالياً نحو ثلاثة ونصف مليون لاجئ أو طالب لجوء يحملون تصاريح إقامة مختلفة الأنواع، بزيادة ستين ألف طالب لجوء تقريباً عن عددهم نهاية سنة 2023، ثلثهم جاؤوا من أوكرانيا. والثلث الثاني من أصولٍ عربية أو مسلمة وهي نسبة تزايدت سريعاً منذ تدفق المهاجرين في سنتي 2015 و2016، فبلغ عدد المسلمين في ألمانيا خمسة ملايين ونصف المليون مشكّلين نسبة 6.6 بالمئة من عدد السكان. ويعادي المتطرفون الألمان كلا المجموعتين، وتزداد معاداتهم العربَ والمسلمين لاختلاف اللغة والثقافة والعادات والمظهر، بينما لا يختلف الأوكرانيون عن الألمان كثيراً. يتضاعف التوجه المعادي مع كل حادث عنف يسبّبه أناس من أصولٍ عربية أو مسلمة، مثل حادثة دهس المعالج النفسي السعودي طالب عبدالمحسن المقيم في ألمانيا المتسوقين في أحد أسواق عيد الميلاد في ديسمبر 2024. ولم يمنع رفض طالب عبدالمحسن الإسلام، وإعلانه خروجه عنه، من الإشارة لجذوره العربية والمسلمة وربط تصرفاته بثقافته التي نشأ عليها.

سجلت شبكة "كلايم" للمنظمات غير الحكومية في ألمانيا 1926 حادثاً معادياً المسلمين في سنتَي 2023 و2024، بارتفاع نسبته 114 بالمئة في 2023، لا سيما بعد هجوم السابع من أكتوبر الذي نفذته حماس. علقت الشبكة على تلك البيانات بأن السلطات الألمانية لا تولي اهتماماً كافياً لتلك الاعتداءات، وتنكر أن تكون أسباب الحوادث عنصرية وتراها مجرد حوادث فردية. يتسق هذا مع رفض الأحزاب المتنافسة في الانتخابات الألمانية المنتظرة إدراج مسألة الخوف من الإسلام في مخططاتها، ورفضها مصطلح "إسلاموفوبيا" نفسه، بما فيها حزب "بي إس في" الجديد الذي تقوده امرأتان هما سارة فاغنكخت المولودة لأب إيراني وأم ألمانية وأميرة محمد علي المولودة لأب مصري وأم ألمانية.


سُمّي الحزب "اتحاد سارة فاغنكخت" على اسم إحدى مؤسِّستيْه، وكانت البداية الرسمية للحزب في يناير 2024. تأسس الحزب مستفيداً من الشعبية الكبيرة لمؤسِّسته سارة فاجنكنيشت، السياسية والاقتصادية والإعلامية، ومؤلفة الكتب التي تقع في مقدمة قوائم الأعلى مبيعاً في ألمانيا. كوّنت سارة فاغنكخت شعبيتها الإعلامية الكبيرة من نشاطها السياسي الذي بنته أثناء عضويتها في أحزاب اليسار التي انخرطت في صفوفها منذ شبابها المبكر في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين. حازت سارة فاغنكخت مقعدها في البرلمان الألماني "البوندستاغ" منذ سنة 2009 نيابةً عن حزب اليسار، إلى أن تركته في أكتوبر 2023 لتؤسس حزبها الخاص.

أصبح حزب سارة فاغنكخت يشكل خطراً على الحظوظ الانتخابية لحزب البديل لأجل ألمانيا اليميني وسواه من الأحزاب التقليدية اليمينية وبعض الأحزاب المصنفة يساراً. ومع أن مؤسستي الحزب ولدتا لأبوين مهاجرين وأمّين ألمانيتين، إلا أن الحزب لم يتبنَّ الخطاب اليساري المرحب باللاجئين والمهاجرين أو حتى الألمان الجدد. واستطاع أن يستميل الألمان البيض الذين يرفضون انغلاق اليمين العنصري، لكنهم في الوقت نفسه يتبنون سياسات حزب سارة فاغنكخت الرافض سياساتِ الهجرة المفتوحة. استطاع هؤلاء الناخبون الألمان البيض الدفع بحزب سارة فاغنكخت ليحتل المركز الثالث في الانتخابات المحلية التي أجريت في عدة ولايات ألمانية في 2024. 

يُعِدّ حزب سارة فاغنكخت نفسه حزباً لليسار المحافظ، وهو تصنيفٌ عجيب جمع بين لفظة اليسار ثم أضاف المحافظة التي كانت دائماً سمة أحزاب اليمين. ولكن هذا التصنيف السياسي، مع غرابته، يبدو طبيعياً في السياق الألماني. فألمانيا حالياً يحكمها تحالف الليبراليين واليساريين الديمقراطيين والخضر والذي يمثله المستشار أولاف شولز اليساري. أغلقت حكومة شولز حدودَ ألمانيا في سبتمبر 2024 وعلّقت حرية حركة المواطنين وسكان أوروبا وأعادت التفتيش على المنافذ الحدودية وأعاقت حركة اللاجئين والراغبين في طلب اللجوء لألمانيا، في أعقاب قتل لاجئ سوري ثلاثةَ مواطنين في هجومٍ أَعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" مسؤوليته عنه. وقد خالف المستشارُ الألماني بذلك كل اتفاقيات الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان التي وقعتها ألمانيا، وكانت برلين نفسها حارستها طوال العقد الماضي. ومع ذلك لم يعارض قراراته أي من أعضاء الحزب اليساري الديمقراطي أو التحالف الحاكم. يبيّن هذا كيف غدت الأحزاب الألمانية الكبرى أحزاباً محافظة حتى بات بعض أصدقائي المبرمجين المصريين في ألمانيا يسخرون من ذلك بقولهم "المحافظة في ألمانيا فيتشر وليست بَغ"، أي أنها باتت سمة أساسية وليست مجرد خللٍ تقني يمكن إصلاحه.

يمكننا أن نفهم ما يعنيه حزب سارة فاغنكخت بتصنيفه نفسَه يساراً محافظاً بالنظر لبرنامج الحزب المعلن، وكذلك تصريحات سارة نفسها في وسائل الإعلام وخطاباتها الجماهيرية. يعلن الحزب في برنامجه أنه يخاطب من يميلون لليسار لكنهم غير راضين عن توجهات اليسار التقدمي العالمي، الذي بات يُعلي سياسات الهوية وقضايا الأقليات واللاجئين وغيرها من القضايا عابرة الحدود. يضع اليسار التقدمي هذه السياسات في المقدمة فيما تتراجع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين يحتاجون أن توضع قضايا الدعم والخدمات وحقوق الطبقة العاملة والمتوسطة في مقدمة الخطاب السياسي.

هذه الحالة أدركتها سارة ورفيقتها في تأسيس الحزب أميرة محمد علي، فتركتا أحزابهما اليسارية التاريخية لتؤسسا حزباً جديداً قادراً على حصد ثقة الألمان، بمن فيهم الألمان الجدد الذين يميلون إلى المحافظة والاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والخدمات العامة وفرص التوظيف وتحسن الاقتصاد. ولا تقل سياسات الحزب الخارجية تناقضاً عن تبنيه تصنيف "اليسار المحافظ"، فهو أقرب للعرب والمسلمين أكثر من سواه. فالحزب يساند وقف الدعم العسكري الألماني لأوكرانيا ويميل للسلام مع روسيا، وفي الوقت نفسه يرفض الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ويرى أن وراءها دوافع تطهير عرقي. وطالب الحزبُ الحكومةَ الألمانية منذ أبريل 2024 بوقف الدعم العسكري لإسرائيل، وقد واجهت سارة وحزبها اتهاماتٍ بمعاداة السامية بعد تصريحاتها التي وَصفت فيها القصف الإسرائيلي المتواصل على غزة أنه "لا يقلّ وحشية عن هجوم السابع من أكتوبر" وأن مسؤولية ألمانيا الأخلاقية تجاه بقاء إسرائيل تتطلب تقديم الدعم غير المشروط للحفاظ على بقاء إسرائيل لكن لا تعني التغاضي عن جرائم الحرب التي خصّت بها نتنياهو وحده.

اللافت أن هذا الموقف الذي يتناقض تماماً مع الفخر الألماني بالذنب، وما يوافقه من مسؤولية دائمة للتكفير عن هذا الذنب تجاه اليهود وإسرائيل، لم يؤثر على شعبية حزب سارة فاغنكخت. ولم تؤثر اتهامات معاداة السامية كذلك على شعبية الحزب مع أنها تهمة تكفي عادةً للقضاء على مستقبلِ أيّ سياسي. 

ليست مواقف الحزب المعلنة من الحرب على غزة وحدها عامل القوة والجاذبية الوحيد في الحزب بالنسبة للعرب الألمان ممن لهم حق التصويت. فأميرة محمد علي أصبحت بعد أربعة أعوام فقط من انضمامها لحزبها اليساري السابق "دي لينكه" أول مسلمة تترأس مجموعة برلمانية يسارية، خلفاً لسارة نفسها التي تركت المنصب وقتئذٍ لأسباب شخصية. على أن تحولات أميرة في تأثرها بسارة تظهر خصوصاً في رؤيتها أوضاع اللاجئين. ففي 2018 حين كانت أميرة محمد علي عضوة بارزة في حزب "دي لينكه" اليساري، كانت ترفض بشدة دعوات ترحيل اللاجئين أو التضييق على استقبالهم. والآن وقد أصبحت قيادية في حزب سارة، تتبنى أميرة سياسة الحزب في الدعوة للحدّ من استقبال المهاجرين واللاجئين على حدٍّ سواء "لأن الوضع اليوم مختلف".

استطاعت مواقف حزب سارة فاغنكخت أن تحصد له في 2024 بين 11 و16 بالمئة من الأصوات الانتخابية في الولايات الألمانية المختلفة. هذه نسبة تتخطى شعبيته التي تسجلها استطلاعات الرأي الألمانية التي رجحت أن تكون نسبة استحواذه على الأصوات نحو 8 بالمئة، وهو ما يُعد إنجازاً لحزبٍ يساري لم يتخطَّ عمره عاماً واحداً. فالنِسب التي تحصّل عليها مقارنةً بمنافسيْه اليساريين، ومنهم حزب الخُضر الذي يشارك بالحكومة الحالية وحزب اليسار الذي تأسس في 2007، أكبر منهما مجتمعَيْن. حصل حزب اليسار على 3 بالمئة فقط من الأصوات، بينما حصل حزب الخُضر 4 بالمئة، أي أن كلاً منهما استحوذ على أقل من 5 بالمئة من أصوات الناخبين ما يستبعدهما من التأهل للحصول على التمويل الحكومي من جانب، وقد يطاح بهما من تشكيل الحكومة المقبلة إذا استمر حزب سارة في جذب قواعدهما الانتخابية التقليدية. 


كانت سارة فاغنكخت أكبر نجمة سياسية في حزب اليسار طوال فترة انضمامها له نتيجة دعم وسائل الإعلام الرئيسية لها وظهورها الدائم في البرامج الحوارية التلفزيونية وارتفاع أسهمها على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تحضر فيها تصريحاتها التي تتصادم فيها مع الحكومات الألمانية، بما فيها تلك الحكومات التي يساهم حزبها في تشكيلها. لهذا كثيراً ما كانت تتصادم مع قياديين في حزبها قبل أن تنفصل عنه.

وتُعد رؤيتها في ملفي الهجرة واللجوء من أبرز معاركها، فعندما أعلنت أنغيلا ميركل خطتها لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين السوريين وإيوائهم سنة 2015، عارضتها سارة بسبب عدم جاهزية حكومة ألمانيا مؤسساتياً لاستقبال هذا العدد من اللاجئين. وكان رأيها معاكساً تماماً للموقف الرسمي لحزبها المؤيد لأجندة ميركل فيما يتصل باستقبال اللاجئين. وازداد حرج حزبها عندما استخدم حزب اليمين المتطرف البديل من أجل ألمانيا تصريحات سارة في مهاجمة اليسار الألماني وميركل، والتدليل على صحة رؤيته المعادية لأجندة ميركل من تصريحات سارة، وهي أشهر المحسوبين على ميركل وأكثرهم شعبية.

وفي السنوات السبع الأخيرة، ركزت سارة على تقديم مبررات سياسية لموقفها المناهض الهجرةَ، فتبنت طرحاً مفاده أن المهاجرين "ينافسون العمال الألمان منافسة مباشرة"، وأن السماح بتدفق المهاجرين بلا ضوابط يوفر العمالة الرخيصة ما يؤدي إلى انخفاض الرواتب وزيادة الإيجارات والأعباء المعيشية على الطبقة العاملة بسبب استغلال الشركات الرأسمالية الكبرى الأوضاع. أما أبناء الطبقة الوسطى القادرون على شراء كتبها فتقدّم لهم مبرراً آخر يتسق مع توجهاتهم، فهؤلاء المهاجرون القادمون من الشرق سيعيدون إرساء "الأبوية" في مجتمعٍ يجاهد منذ زمنٍ طويل للتغلّب عليها.

منافسو سارة فاغنكخت في حزب اليسار الألماني يستخدمون هذه الأمثلة في دفعهم بتهافت منطقها، يقولون إن كل حججها تبدو للوهلة الأولى منطقية وعقلانية، لكن اختبارها عن قرب يكشف أنها حجج وحلول سطحية، وأن خطابها لا يخرج كثيراً عن خطاب اليمين الشعبوي. لكن هذه الآراء لا تؤثر على ما يبدو في الحقائق التي تشهد بها الأرقام. فقد استطاعت سارة جذب أكثر من نصف الكتلة التصويتية لحزب اليسار نفسه، في الوقت الذي تقدم فيه خطاباً تغازل به أيضاً قواعد أحزاب اليمين.


هذا التوجه المتهم بالشعبوية حيناً وباليمينية حيناً آخراً، استطاع أن يحتل منطقة فارغة في المشهد السياسي الألماني، بينما عبّر المحللون الألمان والأوروبيون عن مخاوفهم من انحرافه الحاد نحو اليمين في السنوات الفائتة. واستطاع خطاب سارة أن يبطئ من الصعود السريع لحزب اليمين المتطرف البديل من أجل ألمانيا، وإن لم يهدده ويوقفه كلياً.

لكن هناك من يرى أن سارة لا تهتم لا لليسار ولا اليمين، وأن ما يهمها هو تعزيز شعبيتها لتحقيق طموحها الذي لا تنكره في الوصول للمستشارية الألمانية. فقد سُئلتْ مراراً عن رغبتها في المنصب منذ أعلنت ميركل للمرة الأولى عزمها الرحيل في 2017. وفي كل مرة كان ردّها أن هذا مرهون بفوز حزبها، حزب اليسار وقتها، بالانتخابات البرلمانية. ولأن شعبية حزب اليسار كانت تتراجع وأداءه في الانتخابات يسوء قياساً على تناقص مقاعده، حتى وصلت إلى أقل من 5 بالمئة من المقاعد في 2021، بات استمرار سارة في حزبها معيقاً طموحَها السياسي، ما يفسر انفصالها عنه وتأسيس الحزب الذي يحمل اسمها صراحة، والمبني على شعبيتها. وربما يشي صعوده السريع بأن حلمها بكرسي المستشارية بات قاب قوسين أو أدنى.

اشترك في نشرتنا البريدية