الانتفاع بالأخضر ممنوع.. كيف انتهى عصر الفراغ العام في مصر؟

تلهم المدن المصمَّمة جيداً ساكنيها، بينما تُعامِل المدن سيئة التصميم مواطنيها بوحشية. تحوّل مفهوم الفراغ العام المصري حتى صار نمطاً عمرانياً يغذي رغبات استهلاكية، ويحول دون الانتفاع بالأخضر.

Share
الانتفاع بالأخضر ممنوع.. كيف انتهى عصر الفراغ العام في مصر؟
لماذا اختفت المساحات الخضراء والفراغ العام في مصر؟ | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

عشتُ ستَّ سنواتٍ في حيّ الظاهر بمصر القديمة، وإليه انتميتُ قبل انتقالي إلى مدينة "6 أكتوبر" سنة 2023. هجرتُ الظاهرَ ومعالمَه الأثرية بعد عامٍ تكرّر فيه انقطاع المياه وخدمة الإنترنت جرّاء أعمال حفرٍ وبناءٍ في الأحياء المجاورة، بدأتْ بوصل وسط القاهرة التاريخية والعاصمة الإدارية الجديدة بمحور جيهان السادات. حَيَّرتنا، نحن سكّانَ الحيِّ، شائعاتٌ عن احتمال تشويه الشارع الواسع بكوبري (أيْ جسر) أو نزع أشجاره وإزالة البيوت من أجل بناء مجمّعٍ تجاريٍّ أو خلخلة أساسات الشارع، ضريبةَ "التطوير"، إلى أن قُطعت أشجار حديقة عرب المحمدي العامّة وتحوّلت ملكيّتها إلى جامعة عين شمس. سُدَّت عين الشمس عن شارع أحمد سعيد، الذي قَطَنَه الممثّل توفيق الدقن، بسبب جسرٍ علويٍّ مزدوج. وعَرفت الأبراج طريقَها إلى أزقّة حيّ الحسينية، وبِتُّ أسيرُ قلقةً على كلّ شجرةٍ ومَعلَمٍ أُحبُّه.

انتقلتُ إلى مدينة 6 أكتوبر مقبلةً على الاندماج في كمبوند (أي مجمّعٍ سكنيٍّ مسوَّر)، ليس خوفاً من الآخَر بل من جرّافاته الطائشة. لكن لم تخلُ جلسات الأصدقاء من التكهّن بسبب أزمة قطع الأشجار في القاهرة ومن السؤال عن المستفيد. وبينما أستمع للرفاق، أُفكّر أنحنُ هنا بمأمنٍ، أم ستدور علينا الرحى يوماً ما. 

ظننتُ أننا في المدن الجديدة نعاني صراعاً مختلفاً، ملامحُه جليّةٌ وأسبابُه خفيّة. لكن حكى لي صديقي مرّةً أنه أراد الجلوس على العشب في مجمّعٍ تجاريٍ، فأتى الحارس وطلب منه الوقوف. لم يفهم صديقي السبب لكن الموقف واضح: الانتفاع بالأخضر ممنوع هنا، ولينتفع المواطن الجديد (عبارة تُطلق على ساكن المدينة) بالأخضر إذا أنفق.

تضافرت خيوط المشكلة ببحثي عن الحدائق العامة المحيطة على خرائط غوغل. ذلك البحث الذي لم يُثمر عن نتيجةٍ طوال أشهرٍ اعتدتُ فيها الدفع مقابل الانتفاع بالأخضر، إلى أن اكتشفتُ إدراجَ مساحات خضراء في المجمعات السكنية بِاسمِ "حدائق عامة" مع مماشٍ تتوسّطها حشائش تمرّ بالمحاور الرئيسة. بعضها أخضر مجّانيٌّ، وبعضها برسومٍ يسيرةٍ، وأخرى تَشغَلُها متاجر القهوة ومطاعم.

أَمُرُّ عادةً بممشيَيْن مجانيَّيْن. يأتي روّاد الممشى الرياضي الذي يجاور "مول العرب" في المدينة ليلاً بكراسيهم وطعامهم، إذ لا خدمات بالممشى ولا دورة مياه، ويركنون سياراتهم على طريقٍ جانبيّ. وأما ممشى طريق الواحات فلا يزوره إلّا المشرّدون ليلاً، لأنَّه مطلٌّ على طريقٍ سريعٍ وصحراء، بلا سبيلٍ لوصولٍ آمِن. ممشيان يدفعان روّادَهما إلى الحنين لنزهات "مشتل الحصري" بمدينة 6 أكتوبر الذي اتخذه العامّةُ حديقةً سنواتٍ قبل أن تدمّره أعمال بناء القطار السريع. قد يصل الحنين بهم إلى مشروع حديقة عامة مركزيةٍ في مدينة الشيخ زايد رسومها خمسة وعشرون جنيهاً، قبل خصخصتها بتحويلها إلى مدينةٍ للملاهي برسوم دخولٍ تبلغ مئتَيْ جنيهٍ بعد خصومات العروض.

تلحّ الأسئلة عن مكان المساحات الخضراء العامة، وسبب اختفائها، وكيفيته، وعمّا إذا حُرم المصريّون عمداً من حقّهم في عمارةٍ تحترم وجودهم الإنساني. أسئلةٌ ما برحتُ أطرحُها، وحاولتُ قدر استطاعتي البحثَ عن إجاباتٍ لها. وفي القلب من هذا كلّه تساؤلٌ عمّا يمكن تسميته "نهاية عصر الفراغ العام". وفقاً لبعض الدراسات البحثية، فإن نهاية هذا العصر مرتبطةٌ بمحرّكاتٍ سياسيةٍ، أهمُّها اندلاع ثورة 25 يناير من فراغٍ عام هو ميدان التحرير، مع الإشارة إلى تحوّل مفهوم الفراغ العام المصري كليّاً. لكنني لم أفهم أسباب امتداد ذلك التحوّل إلى أطراف القاهرة الكبرى واستمراره حتى صار نمطاً عمرانياً يغذي رغباتٍ استهلاكيةً وحاجزاً يحول دون الانتفاع العام، لا بل أقرب إلى عقابٍ جماعي.


في مقالاتٍ أكاديميةٍ بكتاب "القاهرة: تجديد المدينة التاريخية"، كتب المعماريّ والمؤرّخ ناصر الرباط مقالاً بعنوان "نبذة تاريخية عن المساحات الخضراء في القاهرة"، أخبرنا فيه عن عدم وجود مساحةٍ خضراء كبيرةٍ مفتوحةٍ في قلب مدينة القاهرة منذ العصور الوسطى، أي من نهاية القرن العاشر إلى الخامس عشر، وفي معظم مدن الدول الإسلامية بالشرق الأوسط بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. ووفقاً له، يرجع ذلك جزئياً إلى مناخ المنطقة الجافّ، وصعوبة صيانة مساحةٍ خضراء كبيرةٍ وريّها، وارتفاع كلفتِها. ولم يفطن أيُّ سلطانٍ إلى أنّ رعيته تستحق إنفاق المال وبذل جهودٍ لتوفير أيِّ مساحة عامة مفتوحةٍ مثل الساحات الأوروبية، ولم يأمل الناس في إتاحة تلك الرفاهية على يد المؤسّسات الخيرية والمدنية، لذلك اقتصرت الأماكن العامّة على الأسواق وأفنية المساجد.

يشير الرباط إلى سببٍ آخَر لندرة الساحات العامة، وهو اختلاط مفهومَي الفضاء العام والخاص في المدينة التقليدية، إذ خضع الترفيهُ لضوابط صارمةٍ وانتفع به الخاصّةُ فحسب. أمّا المساحات الخضراء العامة فخُصّصت للعمل والعبادة. صَعُب تطبيقُ احتكار الترفيه طويلاً، ما أثار استياء نُخبٍ محافِظةٍ استهجنت مشاهدَ "الفجور" في البساتين والميادين بعد السماح لعامّة الناس بالتجمّع فيها للاحتفال بالأعياد والاحتفالات الملكية، والمشاركة في أنشطةٍ مثل الرقص والغناء والمرح يحرّمها الدين الإسلامي. يضيف الرباط في مقاله أن رجال دينٍ مغاربةً أرجعوا تلك الممارسات إلى التراخي الأخلاقي الذي وصفوا به الشعب المصري، "في حين تمتع الأغنياء بنزهاتٍ أخرى أقلّ رسمية وأكثر خصوصية في بساتينهم للشرب والغناء وإلقاء الشعر، ولم يُنظر إلى تلك المجالس على أنها ترفيهٌ فاسق".

تولّى محمد علي باشا، الذي بدأ حكمه في مصر سنة 1805، مسؤولية تنفيذ مشروعٍ حضريٍ مصريٍ تضمّنت أهدافه تطويق المدن السكنية ببساتين. لم تتّضح معالم المشروع إلّا سنة 1863 بمجيء إسماعيل باشا، حفيد محمد علي، الذي ابتغى تحويل مصر إلى قطعةٍ من أوروبا. فبنى قصوراً وجسوراً متحدّياً كلّ الظروف التي هزمته في النهاية، حتى انتهى المشروع الحضري بإفلاس مصر بسبب ضخامة ما اقترضه اسماعيل باشا لتمويل مشاريعه المبهرجة، قبل إنهائه مشروعَ بناء الإسماعيلية على الطراز الباريسي. بعد ثلاث سنواتٍ، احتلّ البريطانيون مصر لتأمين سداد البلاد ديونَها الثقيلة ظاهرياً، لكن انتهى الأمر بالبقاء فيها اثنتين وسبعين سنةً، فقدتْ فيها مصرُ بساتينَ عدّةً وقصوراً ملكية.

يوضّح الرباط في مقاله أنه بعد ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952 وإلغاء الملكية، تبنّت برامجُ جمال عبد الناصر الاشتراكيةُ الطموحةُ مهامَّ التطوير بإعادة توزيع الأراضي وتصميم مشاريع سكنيةٍ وصناعيةٍ وتعليميةٍ وبنىً تحتيةٍ، مبشّرةً بعصرٍ جديدٍ من التقدّم. لكن ندر وجود الحدائق في التطورات الحضرية الجديدة بالستينيات. يتضح ذلك في نموذج "مدينة نصر" نتيجة نقص الأراضي والانفجار السكاني وموروث الفصل بين الأماكن العامة والترفيه. لم تراعِ الحكومة مشروعَ مدينةٍ سكنيةٍ تحتوي مساحاتٍ عامة خضراء، ممّا زاد من الضغط على الحدائق الملكية – سابقاً – التي فتحت أبوابها للناس، فكانت تستقبل أعداداً متزايدةً من السكان في ظلّ ميزانياتٍ متواضعةٍ للصيانة.

تفاقم الوضع مع سياسة الانفتاح الاقتصادية التي بدأها أنور السادات في السبعينيات وواصلها حسني مبارك حتى سنة 2011. ففُتحت القاهرة الكبرى أمام جشع المطوّرين والمضاربين الذين أرادوا هدم كلّ مبنىً قديمٍ والاستيلاء على كلّ مساحةٍ خضراء مفتوحةٍ لإفساح المجال أمام إنشاءاتٍ أكبر وأكثر ربحاً. لم تسلم منهم أيضاً الحدائق الصغيرة جداً المحيطة ببعض الدارات (أي الفيلات) القديمة في الأحياء نفسها، والتي شكلت في السابق أجزاءً من حدائق أكبر.

قبيل الشروع برحلته، جلس ناصر الرباط في المطار يقرأ ويجيب على أسئلتي عن أسباب حرمان المصريين من حقّهم في العمارة ونتائجه على مدار السبعين سنةً الأخيرة، وعمّا إذا كان لتقييد الفراغ العام علاقةٌ بالعزلة. أكّد أستاذ العمارة أن الأزمة أزماتٌ متعدّدةٌ وليست كلّها من مصدرٍ واحدٍ، وقال: "عندكِ في البداية الجشع المنفلت الذي لا يحدُّه قانونٌ مدروسٌ لتطويرِ المدن الجديدة والذي يعكس التوجه الرأسمالي [رأسمالية الدولة] في مصر منذ الانفتاح على عهد السادات وحتى اليوم". ويقول الرباط إنّ في التخطيط والتنفيذ سوءاً مردُّه إلى سوء تدريب العمالة، من أعلى المستويات التصميمية والتخطيطية إلى مستوى عامل البناء البسيط. "تلك مشاكل السطح فقط، هناك المشاكل الأعمق ولها جذورٌ سياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية، والغيرة الثقافية واحدةٌ من أهمّها. يشتهي بناةُ المجمعات الجديدة وسكانُها العمارةَ الأوروبيةَ، ويحاولون إعادة خلقِها في مناخٍ مغايرٍ وغير مناسبٍ، وفي بيئةٍ اجتماعيةٍ ومهنيةٍ لا تنطبق عليها أيٌّ من معايير الحياة الغربية الحقّة. فينتهي الحال بهم يعيشون في محيطٍ لا علاقة له بمحيطهم الأكبر [مصر] ولا علاقة لهم بمحيطهم المرجوّ [المدينة الأوروبية أو الأمريكية]".

يشير الرباط أيضاً إلى مشكلة صعود طبقاتٍ غنيّةٍ جديدةٍ إلى قمّة الهرم الاقتصاديّ بسرعةٍ كبيرةٍ، قبل التأقلم مع متطلّبات الحياة العصرية الحديثة، ما يجعلها تحاول صبّ مفاهيمها على قوالب مختلفةٍ فتنشأ من ذلك أزمةُ هويّة. ويشير أيضاً إلى وجود مشكلةٍ عمرانيةٍ متمثّلة بالمدن الجديدة التي تعتاش على البيئة المصرية المائية والزراعية المُجهدة، والتي تتنافس مع القاهرة على مصادر المياه والطاقة والمواصلات، ممّا خلق تراتبيةً أو تسلسلاً هرمياً بين سكان المدن الجديدة وسكان القاهرة.

في مقاله "الحق في الهندسة المعمارية"، المنشور سنةَ 2013، كتب الرباط عن الحقّ في تصميمٍ معماريٍّ إنسانيٍّ يراعي حقوق سكّانه الاجتماعية. فأَوْلَى احترامَ الفردِ أهمّيةً فوق باقي معايير التصميم الإنساني التي تتّخذها السلطات المدنية والأفراد الآخَرون الذين يتشاركون الفراغَ العامَّ والخاصَّ نفسَه. لكنه نفى وجود تلك السمة في مصر أو العالم الإسلامي عامّةً بسبب مجموعة معايير اجتماعيةٍ لا تحترم حرية التصرف والاعتقاد والاختلاف للفرد. بالتالي "تنشأ لديكِ ما يصطلح على تسميته العمارة المعلّبة أو المُقَولَبة التي تنظر إلى الفرد على أنه نسخةٌ من فردٍ نمطيٍّ يتّسم بخصائص مشتركةٍ مع كلّ الأفراد، فيمكن حشره في فراغاتٍ مصمّمةٍ لفردٍ نظريٍّ غير موجود في الحقيقة. والسبب، جشع الرأسمالية المنفلتة من كلّ عقالٍ قانونيٍّ، واعتقاد السلطات حاجتها إلى رأس المال".


اشتقتُ إلى المدينة التقليدية التي هجرتُها قبل عام. باب الشعرية، وميدان الجيش، والسكاكيني حيث يخرج كلُّ أطيافِ المجتمعِ وشرائحِه إلى التسوّق من المكانِ عينه. أفتقدُ جلسات السمر مع جارتي التي كنتُ أنتظر إجازتها الأسبوعية كلّ اثنين، وأفتقدُ تنبيهاتها المتكرّرة عن جهلي بمجتمع الأزقّة. لكن لا مجتمعَ اليومَ لأختبرَه، بل طبائع خشنةٌ، ولا حكايا لأتأمّل عظاتها.

بعنوان "السلوك الاجتماعي الإنساني في الأماكن الحضرية العامة: نحو مدنٍ أعلى جودة"، أعدّ أساتذة الهندسة المعمارية بجامعة الإسكندرية، إسراء حنفي ومصطفى العربي وخالد الحجلة وسامر السياري، ورقةً بحثيةً سنة 2013 جاء في مقدّمتها: "المدن مثل الكتب، مقروءة. وعلينا فهم لغتها، قواعدها: الشارع، والممرّ، والساحة، والحدائق العامة، في ترتيبٍ هيكليٍّ يمكّن المدنَ من الحياة ويشجّع ويستوعب الأنشطة المتنوعة. تَخلُق المدينةُ الإنسانية المتعةَ للزوّار والمارّة، ولمن يعيش ويعمل ويلعب فيها كلَّ يومٍ، موفّرةً لسكّانها الحقَّ في الوصول بسهولةٍ إلى الأماكن العامّةِ المفتوحةِ، وإمكانية رؤية شجرةٍ من النافذة، أو الجلوس على مقعدٍ قريبٍ من المنزل مع مساحة لعبٍ للأطفال، أو المشي إلى الحديقة في غضون عشر دقائق". وقد وردت في نهاية المقدّمة عبارةٌ بديعةٌ، لعلّها تختصر ماهيّةَ العمارة ودورها: "تُلهم المدن المصمَّمة جيداً الأشخاص الذين يعيشون فيها، بينما تُعامِل المدن سيئة التصميم مواطنيها بوحشية".

خالد الحجلة، أستاذ الهندسة المعمارية وعميدٌ منتخَبٌ سابقاً في كلية الهندسة في جامعة الإسكندرية، وهو من المشاركين في تلك الورقة، كان قد فرّق في بحثٍ سابقٍ له بعنوان "نحو جوارٍ مُستدام: دور المساحات المفتوحة" بين فئتين رئيستَين من الفضاء المفتوح في الحيّ: مساحةٌ خضراء، ومساحةٌ رمادية. تُعرف المساحات المفتوحة في الأحياء بأنها "أيّ أرضٍ غير مبنيّةٍ داخل حدود الحيّ، وتُوفّر – أو قادرة على توفير – منافع بيئية و/أو اجتماعية و/أو اقتصادية للمجتمعات، سواءً كانت جَليّةً أو غير جَليّة".

خصّص الحجلةُ جزءاً من بحثه عن المساحات الخضراء المزروعة والحديث عن الفضاءين، الأخضر والرمادي. يشمل الفضاءُ الأخضرُ الحدائقَ والمنتزهاتِ المفتوحةَ للعامّة، وغالباً ما يوفّر مساحات لعبٍ للأطفال ومرافق رياضيةً، ويمتاز أساساً بتوفير مساحةٍ للنشاط غير الرسميّ أو الاسترخاء وللعروض البستانية أو التشجيرية. أما الفضاء الرمادي، ويُشار إليه أحياناً بِاسمِ "المساحة المدنية"، فيُعَدُّ مجموعةً فرعيةً من المساحات المفتوحة تتكون من الساحات الحضرية والأسواق والمناطق ذات المناظر الطبيعية الصلبة. ومن أشكاله، الساحات التي غالباً ما تتوسّطها تماثيل أو نوافير، وتوفّر في بعض الأحيان مكاناً للمباني العامّة المهمّة وشوارع مشاةٍ مزوّدة بمقاعد ونباتات.

استهلّ خالد الحجلة حديثه إلى الفِراتْس بمقدّمةٍ عن نظريات تأسيس المدن ومحرّكاتها، قائلاً: "إحنا محتاجين شوية خلفية… مدن العصور الوسطى حول العالم كانت مجهزةً بطريقةٍ ونمطِ حياةٍ معيّنَين ثم قامت الثورة الصناعية بمتطلباتٍ حياتيةٍ جديدةٍ، فتغيّرت الفكرة حول المدينة". ويؤكّد أن مرحلة تغيّر الأفكار استمرّت طويلاً قبل إدراك الناس مشكلات المدن مثل الفراغات والتهوية، فظهر ما صار يُسمّى "تجميل المدينة" الذي اهتمّ بالفراغات العامة الخضراء أمام مؤسسات الدولة السياسية والثقافية. سيطرت الفكرة بهدف إعطاء صورةٍ جيّدةٍ عن المدينة وليس للتأثير في نمط حياة الناس. "وهذه موجة تخطاها العالم لكننا توقفنا عندها"، ثم يضيف: "وسبقنا العالم بالتفكير في كيفية تأثير تلك الفراغات على نمط حياة السكان وخلق أنماطٍ جديدةٍ، مثل المشي والدراجات، لتحسين الصحة النفسية والبدنية".

كان نمطُ الحياة سابقاً مرتبطاً بأساليب تفاعلٍ اجتماعيةٍ، تخلقها مساحات الخدمات المشتركة. وفي هذا الإطار، يقول خالد الحجلة: "لو تخيّلنا أربعة عايشين في غرفة، ستختلف علاقتهم عن أربعة موزّعين على أربعة مبانٍ مختلفة. لذلك نحتاج نقاط تفاعلٍ اجتماعي، مثل محلات البقالة، حيث يعرف البقال بأحوال الجيران المجتمعين أمامه. تفاعلات الناس بتزيد في هذه الحالة وهو ما كان موجوداً في المدينة الكلاسيكية، مثل القاهرة التاريخية". ووفقاً للحجلة، كانت التعاملات كثيرةً والأنشطة مختلفةً وقريبةً من مكان سكن الناس، وكانت المدينة وحدةً واحدةً يتفاعل الناس مع بعضهم فيها بناءً على احتياجاتٍ متبادلة، "ما يخلق حياةً اجتماعية سليمة، عكس اليوم. حالياً بنشتري من كارفور ونعيش في مجتمعاتٍ مغلقة [الكمبوند]". خلق ذلك برأيه فصلاً اجتماعياً وشعوراً بالعزلة وسط شريحةٍ تجمعها سماتٌ واحدةٌ ولا يحتاج أفرادها بعضُهم بعضاً، فصرنا نعيش في مجتمعٍ غير سليم. لذلك ظهرت النظرية الحضارية الجديدة، أو النظرية التقليدية الحديثة، نهاية القرن الماضي. يقول الحجلة إن واضعي النظرية سألوا أنفسهم "إمتى كنّا كويّسين؟"، وجاء الجواب: "لما كنا في المدن التراثية والسيارة مش ضرورية للحركة، فكانت مختلف الشرائح الاجتماعية تتفاعل مع بعضها. ده كان نمط صحي اجتماعياً. لذلك اتجهوا إلى إنشاء مدنٍ بالملامح الفيزيائية للمدينة الكلاسيكية نفسها".

رغب أصحاب النظرية في خلق مجتمعاتٍ متماسكةٍ بدلَ التوسّع الحضاريّ المتناثر بمجتمعاته المجزّأة، آملين الجمعَ بين سمات التخطيط المجتمعي الكلاسيكي وطرائق جديدةٍ لتنظيم الحياة اليومية في عالمٍ سريعِ التغيّر. لكن تطبيقات النظرية عالمياً تراوحت بين الإيجابية والسلبية. يؤكّد الحجلة أهمّية فهم بعض هذه السلبيات بنموذج قرية "الصيفي"، وهو تطوّرٌ عمرانيٌّ جديدٌ وسط مدينة بيروت أخضعه الحجلة للتقييم في دراسةٍ سابقة. سكان الصيفي متشابهون ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية نفسها ولا يحتاج بعضُهم إلى الآخَر. افتقد هذا المشروع، وفقاً للحجلة، المزيجَ الاجتماعي الذي يرتكز على الصحّة الاجتماعية القائمة على أساس خلق فرصٍ مختلفة لأشخاصٍ من مختلف الطبقات يقدّمون خدماتٍ مختلفةً لبعضِهم بعضاً، فينتج عن هذا الاختلاف تفاعل. لكن مشروع الصيفي في بيروت تحوّل إلى صرعةٍ، بشكلٍ جميل من الخارج، لكنه في الحقيقة مجتمعٌ بيوتُه مغلقةٌ معظم السنة وأغلبُ سكانه من السيّاح ويفتقد البعدَ الاجتماعي.

اليوم يقتصر تطبيق مفهوم المساحات الخضراء المفتوحة في المدن الجديدة على مساحاتٍ يصعب الانتفاع بها وليست سوى منظرٍ جميلٍ، بينما يقتصر الانتفاع من الحدائق الترفيهية الخاصّة على متوسطِي الدخل. في هذا الإطار، يرى خالد الحجلة أننا "في مرحلة انتقالية. أنا عارف إن إحنا في مرحلة انتقالية من زمان أوي، لكننا حقيقةً متّجهين للرأسمالية الواضحة، وكلّ فرد فيها مسؤول عن توفير ما يحتاجه وفق إمكانياته، والمساحات الخضراء ليست استثناء. نحن لا نحلّل لننقد بل لنفهم. حين كانت الساحات عامةً، وفّرت لنا الرفاهية لكنها افتقرت إلى الصيانة والجودة. وعند رفع جودة الخدمات، ترتفع تكلفة الصيانة. والدولة هنا غير قادرة على دفع هذا المبلغ وتوفيره لشعبها، فيما يوفّره القطاع الخاص مقابل أن يدفع الناس للاستفادة من هذه الخدمة". يؤكد الباحث في الوقت نفسه أنَّ الدولة "لازم تفهم إنها لما بتخطط بهندسة سليمة، ده استثمار على المدى الطويل. فقد أثبتت الدراسات أن توفير نمط حياةٍ يشجع على الحركة وسط الطبيعة يعود بالفائدة على صحة المواطن وعلى نظام التأمين الصحي المدعوم من الدولة".

شكوتُ إلى الحجلة فشلَ تجاربي في المشيِ بشوارع المدينة الجديدة، وهو الذي كتب عن إمكانية المشيِ بوصفِها من الجوانب الأساسية للعمران الجديد، فقال: "العناصر وأماكن وجودها في المدينة تخلق نمط حياتنا. نحن في منطقةٍ مناخيةٍ حارّة، ما يعني أن نسبة التظليل مهمّة جدّاً بالنسبة إلينا. والمشي لا يحتاج رغبةً منّي ومنكِ فقط، بل نمط حياةٍ ونوعاً من العلاقات فيما بين العناصر المحيطة بنا، إضافةً إلى ترتيبٍ مُسبقٍ لفكرة أين نسكن وأين نعمل. تجهيز الفراغ العامّ ممكن يساعدنا نمشي من مكان إلى مكان، أو من مكان إلى أكثر من مكان".

يتطرق الحجلة في حديثه إلى قطع الأشجار في مصر، ويقول: "إحنا رافضين قطع الأشجار، لكن لنفترض إن الشجر موجود. سيكون عنصراً إيجابياً ويؤدّي أدواراً بيئيةً، لكنه لن يساعدني في المشي لو لم تكن عناصر التخطيط للفراغ العام مرتبة لمساعدتي. عنصرٌ واحدٌ لن يحلّ مشكلتنا، وأساس نمط الحياة الاهتمام بالإنسان ونمط حياته وصحّته النفسية. يعني إحنا مش بنعمل حاجة عشان نصوّرها ونقول والله ده أنا عملت حاجة حلوة. أنا بعمل حاجة حتى يعيش فيها الإنسان بطريقة جيدة ونكون مجتمعاً صحياً. نتائج تصرفاتنا ستدفع ثمنها الأجيال القادمة. جيلنا ورث مجتمعاً صحياً عن آبائه، وسعد بأبسط المتع، لكني مكسوف [خجِل] أوي. هنورّث أحفادنا إيه؟".

قدّم خالد الحجلة في حديثه إلى الفِراتْس حلولاً ممكنةً، أوّلها إتاحة مناخٍ مجتمعيٍّ يساعد على تكوين طبقاتٍ متجانسةٍ تتفاعل مع بعضها بعيداً عن المجمّعات السكنية. وثانيها مرور التصميمات الهندسية بمرحلة المسابقات المعمارية قبل تنفيذ التصميم، كما كان متّبعاً سابقاً، لضمان خضوع التصميمات المعمارية لمناقشةٍ متخصّصةٍ واختيار أفضل تصميمٍ يحقّق أهدافه، مع دفع المهندسين والمخططين لرسم أفضل إبداعاتهم بدل التركيز فقط على الشكل الجميل. ويشدّد الحجلة أخيراً على ضرورة اختيار مسؤولي الشأن العام في المدينة من أبناء المدينة العالِمين بأمورها، "لنعود إلى زمنٍ كان سكان المجتمع يكُمّلون بعضهم بعضاً ويتقبّلون الآخَر، بدلاً من الخوف الذي دفع المطوّرين العقاريّين إلى بناء سورٍ داخل سور".


يناقشُ عالِمُ الاجتماع والفيلسوف والمخطط الحضري الفرنسي هنري لوفيفر في عدة كتب وأبحاث، منها "ذا برودكشن أوف سبيس" (إنتاج الفراغ)، علاقةَ المكان بالعدالة الاجتماعية للإجابة على سؤالٍ جوهريٍّ مفادُه "أيّ نوعٍ من السياقات المكانية يُمكن أن يضمن أفضلَ شروطِ العيش لجميع السكان بلا إقصاءٍ أو تهميش؟".

أوجزت أميمة عبود، وهي أستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، كيف رأى لوفيفر أنَّ نهج إعادة التخطيط بغرض التحضّر والرقي أنتج نمطاً آخَر من اللامكان، أو بعبارةٍ أخرى غَيَّبَ مفهومَ العدالة المكانية التي يَشعر الإنسان إثرَها بالاغتراب عن المكان وعدم الانتماء إليه بعد سلبِه هويّتَه وذاكرتَه. من هنا أعاد لوفيفر تعريفَ المكان على أنه "ليس فضاءً فقط وإنما نمطٌ من العيش تتجلّى فيه الحياة اليومية ويشعر جميع أفراده بالانتماء إليه". صاغ لوفيفر أيضاً مفهوم "الحق في المدينة" على أنه "الحق الجماعي لسكان المدن في الاستخدام العادل والمتساوي للموارد مع المشاركة في التخطيط والتنظيم لمواجهة التخطيط المعاصر للمدينة". فالتخطيط المعاصر للمدن هو من أنماط العنف السلطويّ الذي يسعى إلى تدمير النسيج الاجتماعي وشبكات الاندماج – التي تمتدُّ جذورها في التاريخ – وإلى إفراغ المدن من مضامينها الرمزية، فتتحوّل إلى كتلةٍ من الأبنية الإسمنتية ومراكز الاستثمار والربح الرأسمالي.

في ذلك السياق، تساءل لوفيفر: "كيف نعيد كتابة المدينة من جديد؟ وهل يمكن الحديث عن مدنٍ عادلة في ظلِّ هذه الممارسات؟ وعن عدالةٍ وحقٍّ في المساواة وتوزيع الموارد والثروات في ظلِّ كلّ مظاهر التناقض، ليصير جميع سكان المدينة على اختلافهم سواسيةً أمام الحقّ في العيش في المدينة؟"

أميمة، المتأثرة بالمشروع الفكري للمخطط الحضري الفرنسي، عبّرت للفِراتْس عن اعتقادها بغياب العدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية في المدن المصرية الحديثة، إن كانت مدينةً أو منتجعاً، لأنها تستهدف الأثرياء فقط وتفصل بسورٍ وبواباتٍ بين عالمَين كلاهما مغتربٌ عن الآخَر، بخلافَ الأحياء الراقية في المدينة الإسلامية أو الاستعمارية الحديثة التي لم تنعزل عن مجتمعها الأكبر.

وفقاً لأميمة، لا يُعَدّ كلُّ مكانٍ عامٍّ فراغاً عامّاً، وليست المراكز التجارية إلّا انعكاساً للفضاء الرأسماليّ البارد. يدخلها الأفراد سلعاً تبحث عن سلعٍ، وسط ضجيجٍ عالٍ وحميميةٍ غائبة. هي تجسيدٌ صريحٌ للعولمة بلا أيِّ نزعةٍ إنسانيةٍ، يتحرّك فيها الأفراد بوهمِ تحقيق الرفاهية واللهاث خلف العلامات التجارية العالمية التي تطمس الخصوصية والهوية في الملبس أو المأكل وتكرّس الفردية والانعزالية، عكس الحدائق والأماكن التاريخية التي تُسهمُ في إحياء الوعي والذاكرة التاريخية وترسيخ الهوية. وتقول أميمة: "من هنا نجد الفرق بين المكان العام، الذي يسمح بالتواصل وتبادل الرأي، والمكان الاستهلاكي".

عن كيفية ضمان الحقوق الاجتماعية غير المنصوص عليها في الدستور، أوضحت أميمة عبود استحالةَ التنفيذ أو الوصول إلى أيّ حقٍّ إلا بتفعيل الفضاء العام باستغلاله لإقامة منتديات وبرامج حوارية. ووفقاً لها، توجد في الفضاء العام الدولةُ وسلطاتُها والمجتمعُ المدنيّ الحقيقيّ المعبِّر عن هموم الأفراد وحقوقهم ومطالبهم. يتواصلون بينهم – الدولة وسلطاتها مع المجتمع المدني – في نقاشٍ مجتمعيٍّ حقيقيٍّ عن الحقوق والقضايا المجتمعية والتعليمية والصحّية والثقافية والصناعية. وهذا "نموذجٌ قائمٌ وليس اختراعاً"، وتؤكد أميمة: "لا تمارَس السياسة إلا في المدن منذ دولة المدينة". وتتخطّى "الدولة المدينة" فكرة المركزية، أي سيطرة مدينةٍ مركزيةٍ على مدنٍ نائيةٍ ومجاورةٍ، إلى بناء أسلوبِ حياةٍ يتميّز بتفاعلاتٍ قويّةٍ وجهاً لوجه بين أعضائه مع مشاركتهم في شؤونه بتعدّد مستوياته. وكانت المدنُ اليونانية أوّلَ نماذج الدولة المدينة وأكثرَها وضوحاً. وفرّقت أميمة بين نُظمٍ ديمقراطية تَعُدّ الفضاء العام مسؤوليةً وحقّاً للمواطنين، وبين نُظمٍ سلطويةٍ تحاصر الفضاء العام أو تزيّفه فتُغلق الميادين وتستنزف طاقة الأفراد في هراءٍ بعيدٍ عن الهموم والقضايا العامة.


تحوّل مفهوم الأخضر في المدينة والغرض منه، فصار بلا ظلٍّ ولا أمانٍ ولا ممشى. الأخضر ها هنا، أمامنا، لكن لا يمكننا الانتفاع به. سقطتْ مساحاتٌ خضراء في المدينة للاستثمار لا الرفاهية، في عقابٍ أليمٍ على سكان الأحياء لا المجمّعات السكنية. فحُصِرَت واحة "غولف دريم لاند"، إحدى أكبر ملاعب الغولف في مصر، في نطاق فندقٍ، وحديقة زايد العامة لصالح ملاهي "زِد بارك"، مع العلم أن الأولى تابعةٌ لمدينةٍ خاصّةٍ والثانية كانت مشروعاً قومياً. فاختفت المساحة الخضراء المفتوحة والآمنة.

في اتصالٍ مع عماد ثابت، مدير إدارة شؤون مجلسَي النواب والشيوخ في مكتب وزير الإسكان، وأمين لجنة الإسكان والمرافق في التحالف الوطني لدعم رئيس الجمهورية بمدينة 6 أكتوبر، ومدير إدارة متابعة المستأجرين في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، شكوتُ إليه عدم وجود حدائق في 6 أكتوبر وضواحيها أسوةً بحديقتَي الأزهر ومدينتي اللتَيْن يتمتع بهما سكان شرق وغرب القاهرة. فأكّد وجود ممشىً خلف "مول العرب"، وآخَر على طريق الواحات نفّذه قطاع التنمية. عقّبتُ على حديثه بأنني أمرُّ بالمشروعين لكن يشغلني حالُ طفلٍ أتت به أسرته ليمرح قبل أن يقيّده خوفهم عليه من ممشىً طويلٍ وضيّقٍ ومطلٍّ على طريق الواحات السريع، وحال زائرٍ جاع أو عطش في ممشى "مول العرب" تبعد عنه خدمات الأكل والشرب كيلومتراً، فيضطرّ أن يروي عطشه بمياهٍ مجهولة المصدر يبيعها جوّالون.

قدّم لي ثابت على الهاتف زميلَه سامح مجدي، مسؤول الأزمات والكوارث في هيئة المجتمعات العمرانية. أخبرتُ مجدي بملاحظتي، فطلب منّي عرض مقترحاتي على وليد عباس، نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية والمشرف على مكتب وزير الإسكان. وقد قدّمتُ مقترحاتي إلى عباس بعد المقابلة وما زلتُ أنتظر ردّه. أعاد مجدي الهاتفَ إلى ثابت الذي قال إن مسؤولي وزارتَي الإسكان والشباب والرياضة هم من الشباب وإن تعليماتهم الأخيرة أن يُنجَز في أسبوعٍ ما كان يَستغرق شهراً. وأضاف أنهم يؤسّسون حالياً مسطحاتٍ خضراء في مدينة أكتوبر الجديدة في مشروع الإسكان الاجتماعي، و"هيكون فيه ممشى للكبار والصغار داخل بين العماير، وملاعب مفتوحة تحت إدارة وزارة الشباب والرياضة، والناس هتقدر تقعد تحت برجولات [أسقف خشبية أو بلاستيكية أو حديدية] وحواليهم أحواض زرع ونجيلة طبيعي [نوع من العشب] عشان الصناعي بيطلّع ريحة، وأكل وشرب وملاهي وجيم". سألته عن الخاصّ والعامّ من تلك الخدمات فأجاب بأنها خاصّةٌ. أمّا العامُّ فثمّة ممشىً خلف "مول العرب" بطول أربعة كيلومترات. وعمّا إذا كانت ثمّة مساحاتٌ لإقامة حدائق في مخططات المدن، أي حدائق آمنةٌ مثلما اعتدنا على هيئتها في طفولتنا وليس ممشىً، قال ثابت: "بعد اكتمال البنية التحتية للمدينة. لسه بنبني سكن مصر وكمبوندات المخابرات والإسكان الاجتماعي، لكن مطروح في خطة الدولة إن الشجر كله يكون مثمر، برتقال ويوسفي وليمون، على أن يكون العائد للمارة والأطفال. لكن الأهم هنا دور المواطن، لازم يزرع أسطح العمارات".

نقلتُ ادّعاء أساتذة الهندسة المعمارية برأسمالية المدن المصرية وخصخصة العامّ إلى المهندس المعماري محسن يسري، نائب رئيس جهاز مدينة حدائق أكتوبر، لكني طلبتُ منه بدايةً وصفَ خطّة الجهاز فيما يخصّ المساحات الخضراء العامة. فأوضح أن مدينة 6 أكتوبر قُسّمت أخيراً إلى ثلاث مدن: 6 أكتوبر، حدائق أكتوبر، وأكتوبر الجديدة. ولكلّ مدينةٍ جهازٌ إداريٌّ مختلف. ثمّ أكّد: "لا يوجد حديقة في المخطط الاستراتيجي لمدينة حدائق أكتوبر. وفي حالِ ضَمَّ مخطّطُ أيِّ مدينةٍ تابعةٍ لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة حديقةً عامّةً فستتبع بلا شكٍّ معاييرَ الحديقة من صيانةٍ دوريةٍ وإنشاء دورات مياهٍ وأنشطةٍ للأطفال.

شرح يسري في حديثه إلى الفِراتْس فلسفةَ هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وقال: "لدينا اثنان وثلاثون جهازَ مدينةٍ في كلّ أنحاء مصر يشكّلون مجتمعاً عمرانياً جديداً خارج العشوائية التي كانت موجودةً من قبل". لكلّ مدينةٍ مخطّطٌ، حسب يسري، وتنقسم طبيعتها إلى: سكنيةٍ فقط، وسكنيةٍ صناعيةٍ، وسكنيةٍ زراعيةٍ، ومدنٍ شاملة. يتولّى المطوّرون العقاريون مسؤولية بناء المجمّعات السكنية في تلك المدن. وعن دور هؤلاء، أوضح يسري: "يشتري المطوّر قطعة الأرض منّي [جهاز المدينة]. أوفّر له الخدمات الرئيسة من مياهٍ وكهرباءٍ وصرفٍ على مدخل قطعة الأرض، على أن يتكفّل هو بتوصيل تلك الخدمات إلى المرافق. ولا بدّ من اعتماد مخطَّط المطوّر أولاً من جهاز المدينة. يضمّ مخطَّطُ المطوّر نِسَبَ المباني ونسَب المساحات الخضراء، وتكاد تشكّل المساحات الخضراء في المخططات نسبة 25 بالمئة من إجماليّ مساحة الأرض [كرَّرَها أربعَ مراتٍ]". وأضاف: "أظنّ فيه طفرة مش طبيعية في المساحات الخضراء داخل مشاريع الهيئة، في الطرق الداخلية ومواقف السيارات".

لكن يسري يوجّه إدارته إلى زراعة أشجارٍ غير مثمرةٍ، وطاردةٍ للحشرات، ومُنقِّيةٍ للهواء من غازات العوادم، وذاتِ كثافةٍ عاليةٍ لتوفير الظلّ. فوفقاً له، تعميم زراعة الشجر المثمر هو اقتراحٌ مطروح لكن لم يُطبّق بعدُ لوجود مشكلةٍ رقابية. "لو السكان هيشتروا الشجر ويزرعوه بعد موافقة الجهاز، فأوك. لكني لو زرعت شجراً مثمراً، من سيحصل على الإنتاج كيف سيُباع؟ قصة كده كبيرة".

ينكر يسري غيابَ العدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية في المدن المصرية الحديثة، وندرةَ نقاط التفاعل الاجتماعي، قائلاً: "موضوع طبقية ومش طبقية أبعد ما يكون عن الحقيقة، لكن الكثافة السكانية أصبحت عالية جداً. لن أستطيع إنشاء حدائق بمسطحاتٍ كبيرة في المدن، كما أنه لا توجد حديقة في المخطط الاستراتيجي. لكن هناك مساحات خضراء كثيرة في أي منطقة سكنية داخل كمبوند أو مشاريع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة. ممكن أبعتلك صور كتير جداً لمناطق خضراء. اللي عايز يقعد فيها، يقعد. واللي مش عايز، هو حرّ". يلوم يسري المواطنَ قائلاً: "عندي مشكلة في إهمال الناس وثقافتهم بشكل مش طبيعي. الزراعة داخل الكمبوند مجانية. أنا أقدّم للمواطن شقة جاهزة للسكن في الإسكان الاجتماعي بمساحة تسعين متراً، والمناطق الخضراء تحت بيته، لكن ثقافة المجتمع حالياً هي المولات".

عارضتُ يسري في تصنيف مواقف السيارات، في المجمع السكني المسوَّر، فراغاً عاماً. فأجاب بأن المساحات الخضراء والخدمية، أي المحلات والمطاعم، من أهمّ الشروط التي يجب توفّرها في مخطّط أيّ مجمّعٍ سكنيٍّ حتى يُوافَق عليه، قائلاً: "لازم يكون فيه مول أو اتنين، حسب مساحة الكمبوند، هل ده فراغ؟ آه طبعاً من الألف إلى الياء. الفراغ موجود ما بين العمارات والمنطقة يتخّللها مساحات خضراء، يعني لو أنت واقف في البرندة [الشرفة] متبقاش مجروح، واللون الاخضر اللي قدّامك ده فراغ".

تطرّق يسري للحديث عن الممشى، أحد منجزات الهيئة في رؤيتها الجديدة للفراغ العام، فقال: "هناك فكرة إنشاء ممشى سياحي في محاور المدن الجديدة الرئيسية يكون عبارة عن محورٍ من محاور المدينة. له ظهير صحراوي [منطقة نائية عن المدن أو القرى] نستغلّه ونحوّله لممشى أخضر، يُباع جزء منه حق انتفاع لمستثمرين من أجل إقامة محلات سهلة الفك والتركيب تبيع مأكولات ومشروبات. ولو يسمح المخطط، يمكن إقامة مسار دراجات بعيداً عن السيارات في بعض المناطق. الموضوع ملوش علاقة بتحوّل المدينة إلى الرأسمالية. اللي معاه زي اللي معهوش، والاتنين ماشيين وعايشين، بس كلّ واحد عايز يعمل إيه".

يضيف يسري، الحكومة "مش بابا وماما ومش هتعمل كلّ حاجة في كلّ اتجاه". جاء ردّه هذا على سؤالي عن أسباب اختلاف رؤى بناة المدن للمشي والترفيه، وعمّا إذا كانت الكلمة للمطوّر العقاريّ أَمْ لرئيس جهاز المدينة. وتابع بأن الجهاز يؤمّن قطعةَ أرضٍ للمستثمر أو المطوّر الذي يستغلّها ويرسم مخطّطاً لها، مضيفاً: "طبعاً محدّش هيرمي فلوسه في الأرض، هو يدفع حق الانتفاع في الممشى ولازم يكسب، مش للّه وللوطن". انطلاقاً من هنا، يشجع يسري دور القطاع الخاص في تطوير الممشى ويختم قائلاً: "هذا نهج اقتصادي استثماري مضبوط، أنا بوفر للمطوّر مناخ يقدر يشتغل فيه".


حكيتُ تفاصيلَ تقريري لصديقتي هدير، وهي أمٌّ ثلاثينيةٌ تعيش في مدينة "دريم لاند". وأخطأتُ حساباتي إذْ لم أَعُدَّها مصدراً محتمَلاً في رحلة التحقيق. بالنسبة إليها، فأطفال الكمبوندات محرومون من اللعب الحُرّ. جميعهم مشتركون في النادي ولا توجد مساحةٌ حرّةٌ يلعب فيها الطفل مع صديقه بلا توجيهٍ من مدرّبٍ خاصٍّ، يتشاكلان ويتناقشان ويحلّان فيها اختلافاتهما. تؤكّد هدير: "دي حاجات غير متاحة في النادي"، ثمّ تردف "فرح بنتي معندهاش المساحة دي ولم تعرف أطفالاً في دريم. نبحث عن مساحة لعبٍ حرّ غير متوفرة دائماً. اسألي أي طفلٍ عن أكثر مكانٍ يحبّه، سيجيب فوراً الكيدز إيريا. حتى لو قلنا إنها مساحة اللعب الحرّ الوحيدة لأطفالٍ كثر، غالباً ما ألمح فيها أطفالاً يبكون ويريدون الخروج لأنهم لا يعرفون أحداً".

سألتُ هدير عن أسباب عدم تعرّف فرح على أطفالٍ آخَرين مع وجود مساحاتٍ خضراء حولهم، فأشارت إلى أن الأطفال الآخَرين يتدرّبون في النادي ولا يجد الكبار سبباً لبناء روابط جِيرةٍ إلّا على أساسٍ طبقيّ. وأكّدت: "الأفكار الطبقية في المجتمعات المسوّرة تتحكم بصداقات الأطفال داخل المدرسة عينها".

لا يتعلّق الموضوع بالأطفال وحدهم. فقد ترك والدُ هدير رياضةَ الجري مثلاً بلا رجعةٍ بعد عودته للاستقرار في مصر، ولم يتمسك إلّا بمباراة كرة القدم التي تُقام كلما زار عائلته في محافظة المنوفية. وسوى ذلك، فعَلَيه الاشتراك في صالة ألعابٍ رياضيةٍ لو أراد ممارسة الرياضة.

نقلتُ لهدير رؤيةَ خالد الحجلة لنقاط التفاعل الاجتماعي التي تخلقها مساحات الخدمات المشتركة، فلفتت نظري إلى "السبوتاية"، وهو مصطلحٌ مصريٌّ مشتقٌّ من كلمة "سْبُوت" الإنجليزية (أي نقطة تجمّع)، حين عقّبتْ قائلةً: "أوّل حاجة بيعملها المراهقين في كلّ منطقة سكن جديدة هي السبوتاية، فيحوّلون كبّوت سيارةٍ ما [غطاء المحرّك الأمامي للسيارة] إلى نقطة تجمّع". ثمّ أضافت: "تصدّقي بقيت أشوفهم بشكل مختلف. وكأنهم يتمرّدون على شكل المدينة المرسومة ويحاولون فرض حقّهم في التواصل والتفاعل، اللي احنا استسلمنا وسِبناه".

في سياقٍ قريبٍ، نشرت الباحثة منّة الله الحسيني، أستاذةُ الهندسة المعمارية المساعدةُ في جامعة القاهرة، دراسةً سنة 2024 بعنوان "تقييم بيئات لعب الأطفال: التأثير المعماري لمناطق اللعب الخضراء على جودة نمو الأطفال". شارك في الدراسة هشام جبر وعلياء ماجد، أستاذا الهندسة المعمارية في جامعة القاهرة، واعتمد الباحثون على عيّنةٍ مكوَّنةٍ من خمسةٍ وعشرين طفلاً تراوحت أعمارهم بين ستٍّ وثمانِ سنوات. كذلك اعتمد الأساتذة في جمع البيانات على رسوم الأطفال لمساحات اللعب التي يحلمون بها وعلى استبيانٍ مرئيٍّ لتسجيل انطباعاتهم واقتراحاتهم، ومراقبة الأطفال في أثناء لعبهم بثلاث مناطق لعبٍ تقليديةٍ في القاهرة الكبرى، وتسجيل تفاعلاتهم مع المعالم الطبيعية القليلة المتاحة. اتفق الأطفال ما عدا واحداً على تفضيل العناصر الطبيعية، إذا كانت متوفّرةً، للّعب حولها. وصفوها بمساحاتٍ واسعةٍ وبها أنشطةٌ، مستخدمين كلمات مثل: "أركض، أختبئ، أبحث، واسع، كرة، أشجار، ومرح".

في الملاحظة الميدانية، بدا الأطفال أكثر راحةً عند اللعب في المناطق العشبية، لقدرتهم على الجري بلا خشيةٍ من السقوط أو التعرّض للأذى في أثناء لعب الكرة والاختباء. كوّن الأطفالُ مجموعاتٍ ولعبوا بالكرة على العشب، وإن لم تسمح بعض الأماكن باللعب. استخدموا الأشجار مظلةً للجلوس والنزهة في حديقة الأزهر، حيث يجوز الجلوس تحت الأشجار عكس مكانَين آخَرين سُيّجت فيهما الأشجار وتوفّرت أماكن جلوسٍ للبالغين. فشوهدت في نادي الصيد قلّةٌ من الأطفال حاولت تسلّق جذوع الأشجار إلى قمّتها، قبل أن يوقفها الآباء وأفراد الأمن. ومع ذلك، أعرب أولئك الأطفال عن شعورهم بالفخر، ودعوا أصدقاءهم وأولياء أمورهم للمشاهدة والتقاط الصور.

كانت منّة الله من بين المنشغلين بالتطوير المستدام قليل الكلفة بوصفه حلّاً لقطاع الإسكان في مصر، مع سكنها في مدينة 6 أكتوبر. رأت أيضاً أن نمط المدن الجديدة يعرقل المساعيَ نحو حياةٍ جيّدةٍ ومتكاملةٍ بخصخصة الأماكن المفتوحة لنشاط الطعام فقط، والاعتماد الكلّي على السيارة الخاصّة، والحاجة إلى أكثر من عشرين دقيقةً للانتقال إلى العمل أو الدراسة.

لكن منّة الله تؤمن بالمسؤولية المشتركة، فترى في الجهود المجتمعية حلّاً لمشكلات المساحات الخضراء، وإن قَلّت فيها الخدمات، بخلق فرصٍ متساويةٍ للطبقات المختلفة من أجل الانتفاع بالحقوق الاجتماعية مثل ما يوفّره معرض الكتاب المفتوح بمدينة الشيخ زايد. هذا بالتزامن مع تمكين المجتمع الملاصق للمناطق المفتوحة من العناية بها وتوفير خدماتٍ فيها، وتفعيل الأنشطة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في جوار المناطق المفتوحة كي لا تتحّول إلى مناطق خطرةٍ اجتماعياً. والمناطق التي تُعَدّ خطرةً اجتماعياً هي تلك المهجورة والمُظلمة التي تقع على أطراف المدن ولا يسهُل الوصول إليها.

لم تتفق منّة الله مع وجود حُكمٍ عامٍّ على التطور العمراني في مصر، لأن "هناك أمثلة ناجحة وأمثلة تحتاج تطويراً بيئياً ومجتمعياً ويجب أن يكون التحليل والتقييم موضوعياً ومرتبطاً بمكان محدد". وقد أشارت إلى فروقٍ في رؤى مطوّري المجتمعات الخاصة، إذ يقدّم بعضُهم رفاهيةً اجتماعيةً لا يقدّمها آخَرون. ونَوَّهَت بأن الفراغ داخل المجتمعات المسوَّرة يُعدّ فراغاً شبه عامّ.


حين أسألُ نفسي عن أخفّ الشوارع وطأةً عليَّ، تخطر في بالي شوارعُ أحببتُها لرائحة أوراق أشجارها الكثيفة ووقفتُ في ظلالها مع صديقاتي ننعمُ بنسيمِها الرطب. لذلك سألتُ إيمان عبد العظيم، استشارية تغيّر المناخ والبيئة وعضوة المجلس الوطني للتغيرات المناخية وعضوة اللجنة الوطنية للمسائل البيئية في أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، عن رأيها البيئي في تراجع أشجار الظلّ في المدن الصحراوية الجديدة في ظلّ معاناة مصر من التصحّر. نفت إيمانُ صحّةَ المعلومة وأشارت إلى وجود قطاع زراعةٍ داخل كلّ جهاز مدينةٍ جديدةٍ، وإلى أن نسبة الزراعة في ما أسمته "مدن الجيل الرابع" أعلى من القاهرة. تقع مدينة 6 أكتوبر بين مدن الجيل الأول، بينما تُعَدُّ 6 أكتوبر الجديدةُ أحدثَ مدن الجيل الرابع. تؤكّد إيمان للفِراتْس عملها في مخططات المدن بالدراسة البيئية، وعدّت مدن الجيل الرابع مدناً ذكيةً يستفيد فيها المبنى من الطاقة الشمسية والإضاءة الطبيعية والظلّ، ويُراعى تأثيرُ تغيّر نطاق المناخ المحلّي على البناء مع كفاءة غلاف المبنى الحرارية والنوافذ، وتنمية قطاع الزراعة الحضرية بالمدن.

علّلت إيمانُ تشجيرَ الطرق بالنخل في مدن الأجيال الأولى والثانية والثالثة بدلاً من أشجار الظلّ بتأقلم النخل مع البيئة الصحراوية واعتماده على مياهٍ يُعاد تدويرُها في بعض المناطق، مع ثماره وإمكانية استغلال إنتاجه في البيع. لَم تنكر دورَ الأشجار التي تَصدّ العواصفَ وتقاوم الحرارةَ، مشيرةً إلى أن المشكلة تتمثّل في عدم دراسة نوعية الأشجار التي تتأقلم مع المناخ المحلّي للمدن واختيارها بعنايةٍ من قبل المتخصّصين.

يدّعي بعضُ خبراء الزراعة أن ثمّة أشجارَ ظلٍّ تمتصّ الأكسجين وتدمّر البيئة. وقد ناقش مجلس الشيوخ المصري قرار منع زراعتها. نقلتُ هذه الادّعاءات إلى عاصم عبد المنعم، وهو أستاذٌ باحثٌ بالمختبر المركزي للمناخ الزراعي في مركز البحوث الزراعية، الذي أكّد أن هذه الدراسة أُجريت داخل مجلس الشيوخ وأضاف: "ضروري نقعد مع مركز البحوث الزراعية لأن قسم الأشجار الخشبية فيه عتاولة [يقصد أساتذة] ممكن يفيدوا مصر كلها". وأشار إلى المتخصّص وغير متخصّص، يعلم دور الأشجار في مكافحة ظاهرة التصحر وتثبيت التربة ومنع زحف الرمال وصدّ الرياح والعواصف الترابية. أكد عبد المنعم ازديادَ حاجتنا إلى الشجر لأنه من وسائل مكافحة التغيّرات المناخية، ومن أهمّ مظاهر نهج التخفيف الذي اتّبعته مصرُ لمقاومة التغيّر المناخيّ منذ أيّام الرئيس حسني مبارك، عن طريق مشاريع تشجيرٍ أهمّها تشجير الطريق الدائري، لكن أُزيل الشجر بعد التوسّع في عهد مبارك نفسه.

من جهته، يرى هشام خميس، أستاذٌ متفرّغٌ بقسم الأشجار الخشبية في معهد بحوث البساتين التابع لمركز البحوث الزراعية، أن نهج التشجير المتّبع حالياً في مصر سياسيٌّ تجاريٌّ بعيدٌ عن العلم. وفقاً له، تحتاج الشجرة من خمس عشرة إلى ثمان عشرة سنةً لتمنحنا ظلّاً وكتلةً خشبيةً، وأن الشجر الكبير المقطوع قدّم كتلةً خشبيةً هائلةً ومردوداً اقتصادياً مرتفعاً على حساب الشعب والظلّ والتغيّر المناخي.

لم يتوقع خميس نموَّ الأشجار الصغيرة المغروسة حديثاً بالكفاءة نفسها التي أنتجت بها الأشجار القديمة ظلّاً وخشباً لأنها مزروعةٌ في بيئةٍ لا تناسبها. فهي تواجه مناخاً حاراً ونِسَبَ تلوثٍ مرتفعةً، أمّا القديمة فنَمَتْ في ظروفٍ أفضل. أكّد أيضاً بأن زراعة النخل على الطرق وترقّب ثماره، أو ثمار أيّ شجرةٍ مثمرةٍ، فكرةٌ خطرةٌ صحّياً وغيرُ مناسبةٍ للمجتمع المصري. فإضافةً إلى ريّها بمياه صرفٍ معالَجةٍ، فإن عوادمَ السيارات أخطرُ ما في الفكرة. يشدّد خميس على حاجة الشجر المثمِر لأنْ يُزرَع في مزارع بعيدةٍ عن حركة الناس والمواصلات، على أن يحيطه شجرٌ يصدّ عنه الرياح بهدف حمايته، من أجل أن يعطينا ثماراً سليمة. لكن لا يمكن تصدير ثمار أشجار الطرق ولا سيّما أن المستورِد الأوروبيّ يختبر سلامة الثمار قبل استيرادها، وفي حالتنا ستظهر نسب التلوث عند خضوع الثمرة للاختبار.

يؤكّد هشام خميس أن أشجار الليمون واليوسفي التي تتزيّن بها الشوارع الأوروبية ليست للأكل بل للزينة فقط. "الثمار واقعة على الأرض وده معناه إن محدّش بياكلها، بيتفرج ع الشجرة ويروح السوق يشتري. لكن أقتل نفسي؟ ده فقر ونقص وعي". وقد علّل رؤيتَه فشلَ الفكرة في المجتمع المصري بالعودةِ إلى التجربة التي بدأها وزيرُ الزراعة السابقُ يوسف والي في الثمانينيات والتسعينيات، حين أمرَ بزراعة أشجار الزيتون في الجزيرة الوسطى لطريق مصر الإسكندرية الصحراوي واحتمالية تصدير ثمارها، لكن الناس قطفوا الزيتون قبل اكتمال نضجه.


تروي لي إعلانات الطرق والتلفاز قصصَ مدنٍ قد تتواصل مع رغبات الإنسان لتُمَنِّيَه بتفاعلٍ اجتماعيٍّ ولقاءٍ مُحتمَلٍ مع صديقٍ أو قريبٍ وفرصةٍ للَمِّ شملِ العائلة المشتَّتة بين التوسّعات العمرانية المتناثرة، في مدينةٍ فكّر مطوّرها أو وكيل إعلاناتها في أن الرفقة هي أشدّ ما يحتاج إليه المواطن المصري الحديث ميسور الحال من بيئته المحيطة. بينما تترك أخبار إنجازات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بين سطورها توجيهاتٍ للإسراع بحجز وحدةٍ سكنيةٍ بين مليون وحدةٍ أُخرى للخروج من "المناطق الخطرة"، محفّزةً محرّك الإنسان الغريزي للبقاء، ألا وهو الخوف.

نمطان حضاريان يدفعان المواطن إلى الاعتقاد أنهما يقدّمان ما يتوقُ إليه وأنّ ما يتوقُ إليه هو ما يقدّمانه. نمطان يتّفق أصحاب القرار فيهما على التنميط الحضريّ، ويمثّل كلُّ نمطٍ منهما الحلَّ والملجأ.

تبقى أسئلة خالد الحجلة تتردّد في أذني. متى كنّا بخيرٍ فعلاً، ومتى يشعر الإنسان بالاستقرار. لكنّي تذكّرتُ حين رفض الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو في روايته "مدن لا مرئية"، الصادرة سنة 1972، تقسيمَ المدن إلى مدنٍ سعيدةٍ وأُخرى غيرِ سعيدةٍ مفضّلاً تقسيمها إلى مدنٍ تمنح التغيّرات فيها أشكالاً للرغبات، ومدنٍ إمّا تُمحى الرغباتُ فيها وإمّا تمحوها الرغباتُ.

اشترك في نشرتنا البريدية