سخاء "البُهرة" أم انضباط "الآغا خان"؟ منافسة "إسماعيلية" على مساجد القاهرة

هل تشهد القاهرة منافسة شيعية إسماعيلية للفوز برضا السلطة في عاصمتهم المقدسة؟ وهل يفضِّلُ النظامُ المصريُّ البُهرةَ بسبب إنفاقهم ببذخٍ على تطوير مساجد آل البيت في مقابل تقيّد الآغا خان بضوابط؟

Share
سخاء "البُهرة" أم انضباط "الآغا خان"؟ منافسة "إسماعيلية" على مساجد القاهرة
السيسي يمنح سلطان البهرة وشاح النيل أغسطس 2023.

افتتَح الرئيسُ عبد الفتاح السيسي في مايو سنة 2024 مسجدَ السيّدة زينب جنوبَ القاهرة بعد الانتهاء من تطويره. حضرَ الافتتاحَ سلطانُ طائفةِ البُهرة الإسماعيلية، مفضّل سيف الدين، وهو الزعيمُ الروحيُّ لهذه الجماعة الشيعية الإسماعيلية المرتكزة في الهند، ويربطُها بالقاهرة ميراثُ الفاطميين الذين حَكموا مصرَ قبل ألفِ عام. شكرَ سيفُ الدين مصرَ ورئيسَها وحكومتها وشعبها على منحِه شرفَ تجديدِ مقام السيدة زينب وتطويرِه. وهذا المشهد تكرارٌ لافتتاح مسجد السيدة نفيسة وقَبْلَه مسجد الحسين بعد تطويرهما، حيث يصطحب السيسي سلطانَ البُهرة عند افتتاح مساجد آل البيت بعد تطويرها في السنوات الماضية.

يتزايد اعتمادُ النظام المصريّ على طائفة البُهرة الإسماعيلية في تمويل أعمال تطوير مشاهد آل البيت والآثار الفاطمية وتجديدها في العاصمة المصرية. ويمثّل ذلك تحوّلاً لافتاً عن الشراكة السابقة طيلة عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك مع جماعة الآغا خان التي تنتسب لفرقة الإسماعيلية النزارية. ولعلّ أشهرَ المشاريع التي عملَت عليها جماعةُ الآغا خان في مصر إنشاءُ حديقة الأزهر، وهي واحدةٌ من أجملِ حدائق مصر وأكبرِها على أرضٍ مساحتُها ثمانون فدّاناً كانت مكبّاً للنفايات. ما زالت جماعةُ الآغا خان تعمل في أنشطةٍ عمرانيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متعدّدةٍ في مصر حتى اليوم. إلّا أن أعمالَها لا تحظى بالزخم أو الحضور الرسميّ نفسه الذي يصل إلى رئيس البلاد على غرار ما يحدث مع البُهرة. فبعد أسابيع قليلةٍ من افتتاح السيسي وسلطان البُهرة مشروع تطوير مسجد السيدة زينب، الذي موّلته الطائفة ونفّذته شركاتٌ مصريةٌ تحت إشراف الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، احتفلت وزارة السياحة بافتتاح مسجد الطنبغا المارداني الأثريّ بحيّ الدرب الأحمر بالقاهرة بعد ترميمه بتمويلٍ من الاتحاد الأوروبيّ وتنفيذ صندوق الآغا خان للثقافة بحضور مدير الصندوق ومسؤولٍ بالوزارة. 

السيسي وسلطان البهرة خلال افتتاح مسجد الحسين بعد تطويره أبريل 2022

يفضِّل نظامُ السيسي البُهرةَ على الآغا خان بسبب الطبيعة المختلفة لرؤية كلٍّ من الطائفتين لمفهوم التجديد والترميم وإعادة تأهيل المناطق التراثية ومدى اتفاق كلٍّ منهما مع النظام المصري. فبينما تلتزم جماعةُ الآغا خان ضوابطَ علميةً ومعايير دقيقةً للترميم وإعادة تأهيل المنشآت الحضارية للمدينة والآثار التي تعود للحقب التاريخية المختلفة، يُنفِق البُهرةُ بسخاءٍ على مشروعاتٍ تنفّذها الحكومةُ المصريةُ لتطويرِ الآثار الفاطمية وتجديدِها دون غيرها بلا اشتراطاتٍ تمنع تغييرَ ملامح الآثار.


علاقةُ البُهرة والآغا خان بمصر تتجاوز الاشتراكَ في مشاريع ترميمٍ أثريّةٍ، إذْ يعود هذا الرابطُ إلى أيام الخلافة الفاطمية. حكمَت الدولةُ الفاطمية مصرَ والشامَ والحجازَ واليمنَ وبلادَ المغرب في فتراتٍ مختلفةٍ، وكانت مصرُ مركزَها الرئيسَ أكثرَ من قرنَين، من سنة 909 إلى 1171م. انتسَب الخلفاءُ الفاطميون إلى آل البيت، مشتقّين اسمَهم من فاطمة ابنة الرسول، واعتنَقوا المذهبَ الإسماعيليّ الشيعيّ الذي شكّلَ التوجّهَ الفكريّ للدولة الفاطمية. فبعد وفاة الإمام جعفر الصادق سنة 765، وهو الحفيد الثاني للحسين بن علي بن أبي طالب، انقسم أتباعُه فرقتَين رئيستَين هما الإسماعيلية والاثناعشرية. رأت الأولى أن الإمامة انتقلت بعد جعفر إلى ابنه إسماعيل ومنه إلى ابنه محمد بن إسماعيل الذي يُعدّ الجدَّ الأكبرَ لخلفاء الدولة الفاطمية ومؤسّسَ الدعوة الإسماعيلية. ويتوزع أتباعُ هذا المذهب اليومَ في الهند والسعودية وسوريا وأفغانستان وباكستان. أما الثانيةُ فرأت أن الإمامة انتقلت إلى ابن جعفر الصادق الآخَر، واسمُه موسى الكاظم، واستمرّت في نسلِه وصولاً إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، الذي يسمّيه أتباعُه "المهديّ" ويعتقدون أنه الآن في حالة غيبةٍ كبرى وسيعود في آخِر الزمان. لذا يُعرف هؤلاء بالاثناعشرية، وهو المذهب الذي يعتنقه غالبُ الشيعة في إيران والعراق والبحرين والكويت والسعودية ولبنان.

اتّبع قادةُ المذهب الإسماعيلي طريقةً فريدةً في نشر دعوتهم في مختلف أصقاع العالم الإسلامي. فلديهم جهازٌ سريٌّ من الدعاة مرتّبين بتسلسلٍ دقيقٍ ومزوّدين بثقافةٍ موسوعيةٍ رفيعةٍ ومنتشرين في مختلف الأقاليم الإسلامية. أوّلُ رتبِ هؤلاء الدعاة هو الداعي المكاسر، ودَورُه تشكيكُ أصحاب العقائد في عقائدهم ثمّ محاولةُ إقناعهم بأفكار الإسماعيلية. فإذا نجحَ، سلّمَهم إلى الدعاة في الرتب الدعوية الأعلى الذين يبدَؤون في تلقين المستجيب أفكارَ الإسماعيلية الأساسية، وصولاً إلى أن يؤدّي المستجيبُ العهدَ الإسماعيليّ، وهو قَسمٌ يتعهّد فيه بالعمل للقضية الإسماعيلية. بهذه الطريقة شكّلت الدعوةُ الإسماعيلية منظومةَ عملٍ فكريةً وسياسيةً غايتُها إيصال الإمام الإسماعيليّ إلى حكمِ العالم الإسلامي كلّه.

شهد المذهبُ الإسماعيليّ عدداً من الانقسامات الداخلية لأسبابٍ عديدةٍ، منها الغلوُّ والتفسيرات المختلفة للنصّ المؤسّس. فبعد وفاة الإمام الإسماعيليّ الثامن عشر والخليفة الثامن بعد تأسيس الدولة الفاطمية، المستنصر بالله سنة 1094، ثار جدلٌ حول هويّة خليفته. انحصر الصراعُ بين المؤيّدين لنزار، الابن الأكبر للمستنصر، والمناصرين لأحمد، ابنه الأصغر. لكن مع انحياز الوزير القويّ الأفضل شاهنشاه لجانب الأمير أحمد، تمكّن هذا من تولّي الخلافة بِاسمِ الإمام المستعلي بالله. قاد ذلك لأن يعلِن نزار ثورةً من الإسكندرية، لكن سرعان ما انتهت بهزيمته ثم التخلّص منه في القاهرة.

كان يمكن لهذه الحادثة أن تنتهي مع مقتل نزار، لولا أن أحد دعاة الفاطميين الفرس، واسمُه حسن الصبَّاح، أَعلن من مركزه في قلعة ألموت، شمال إيران حالياً، رفضَ الاعتراف بالإمام المستعلي بالله ومبايعةَ نزار بن المستنصر. وُلد حسن الصبّاح سنة 1037. وكان شيعياً من الاثني عشرية، لكنه اعتنق المذهبَ الإسماعيليّ في السابعة عشرة من عمره. ثم ذهب إلى مصر في زمن المستنصر بالله سنة 1078 للتدرب على فنون الدعوة في مركزها بالقاهرة. وبعد عودته عمل على نشر الدعوة الإسماعيلية في بلاد فارس.

أدّى إعلانُ بيعة حسن الصبّاح لنزار بن المستنصر إلى حدوثِ انشقاقٍ في الدعوة الإسماعيلية وتأسيسِ فرقةٍ جديدةٍ سُمّيت "الإسماعيلية النزارية". عُرفت هذه الجماعة ذاتُ الدولة المكوّنة من مجموعةٍ من القلاع الحصينة بأسماءٍ عدّةٍ، أشهرُها في المخيّلة الشعبية مسمّى "الحشاشين" و"الفداوية".  ومن معقلِه في ألموت دخل حسن الصبّاح في صراعٍ مع حكام عصره، خصوصاً السلاجقة الأتراك، ومات الصبّاح سنة 1124 بعدما أسّس دولةً دامت نحو قرنٍ ونصف حتى سقطَت على يد القائد المغوليّ هولاكو سنة 1256.

مرّت الإسماعيلية النزارية بفتراتٍ عصيبةٍ وتشرذمٍ في القرون الستّة اللاحقة عقب سقوط دولتهم إلى أن تسلّم حسن علي الشاه منصبَ الإمام السادس والأربعين. نسج هذا الإمامُ علاقاتٍ قويةً مع محمد شاه، الحاكم القاجاريّ الثالث لإيران، والذي عيّنه حاكماً على إقليم كرمان وخَلع عليه لقبَ الآغا خان بعدما زَوّجه إحدى بناته. سرعان ما تدهورت العلاقاتُ بين الإمام الإسماعيليّ والحاكم القاجاريّ الذي عزله وعيّن أخاه مكانه. وبعد محاولةٍ فاشلةٍ للثورة ضدّ النظام القاجاريّ، لم يجد الآغا خان مفرّاً من الهجرة إلى شرق إيران حيث أفغانستان قرب الحدود مع الهند. وبحسب رواية أتباع المذهب التي عَرَضَها المؤرّخ المتخصّص في الإسماعيليات فرهاد دفتري في كتابه "الإسماعيليون: تاريخهم وعقائدهم" فإن الآغا خان الأوّلَ تحالَف مع الاحتلال البريطانيّ في الهند. استمرّ هذا الأساسُ الذي بناه الآغا خان حسن علي شاه في الهند نامياً في عهد ابنه الآغا خان الثاني الذي أصبح الإمامَ السابع والأربعين للإسماعيليين النزاريين من سنة 1881 حتى 1885. 

جاء التحوّل الكبير للإسماعيلية النزارية في عهد الآغا خان الثالث السلطان محمد شاه الحسيني. تولّى محمد شاه الحسيني الإمامةَ بعد سبع سنواتٍ من ولادته في كراتشي، بباكستان حالياً، سنة 1877 خلفاً لوالده. وسافر إلى أجزاءٍ بعيدةٍ من العالم للقاءِ أتباعه. ومنحته الملكةُ فيكتوريا في سنة 1897 وسامَ فارسٍ للإمبراطورية الهندية. وحصل على تقديرٍ مماثلٍ نظيرَ خدماته العامّة من الإمبراطور الألمانيّ والسلطان العثمانيّ وشاه بلاد فارس وحكّامٍ آخَرين. وبعد تخرّجه من كلّية "إيتون" البريطانية درس في جامعة كامبرِدج.

وضع الآغا خان الثالثُ قواعدَ تحوّل "النزارية الإسماعيلية" إلى جماعةٍ حداثيةٍ، فانخرط في السياسة الداخلية للهند، وكان له دورٌ كبيرٌ في تشكيل الموقف السياسي لمسلمي شبه القارة الهندية وفي نقل آرائهم إلى البريطانيين. فهو من المؤسّسين وأوّلُ رئيسٍ دائمٍ لرابطة مسلمي عموم الهند سنة 1904. وبعدها بعامَين قاد وفداً من خمسةٍ وثلاثين سياسياً مسلماً لمناقشة مطالب المسلمين في الهند مع نائب الملك البريطاني اللورد مينتو. وطالَبه وقتَها بالنظر إلى الهنود المسلمين كياناً وطنياً يستحقّ أفرادُه تمثيلاً مناسباً في المجالس المحلية والتشريعية للدولة وليس النظرَ إليهم أقلّية. ربما تأثّر الآغا خان الثالثُ في صياغة هذا الرأي بآراءِ المصلح المسلم أحمد خان 1817-1898، وهو رائدُ التيار التحديثي في الهند. عُرف أحمد خان بآرائه الإصلاحية. وركّز على النهوض بالمسلمين من الناحية العلمية، وأنه لا وجود لاستقلالٍ مع الجهل وسيادة الخرافة، وأنّ عماد الدولة يقوم على العلم بالدين والدنيا معاً. وأنشأ "كلية عليكرة الإنجليزية الإسلامية" سنة 1860 التي أصبحَت فيما بعدُ "جامعة عليكرة الإسلامية". كانت آراؤه مثارَ أخذٍ وردٍّ بين مؤيديه ومعارضيه بسبب رؤيته الموجِبة على المسلمين مصادقةَ الإنجليز للحصول على حقوقهم في الهند. ويرى بعضُهم في أفكاره النواةَ الأولى لحراك المسلمين للحصول على دولةٍ منفصلةٍ عن الهندوس في الهند.

انضمّ الآغا خان الثالثُ إلى مؤسّسي عصبة مسلمي عموم الهند سنة 1907 وعمل رئيساً لها حتى استقالته سنة 1912. كذلك ترأّس مؤتمرَ مسلمي عموم الهند المنعقدَ في دلهي عام 1928 لصياغة وجهة نظر المسلمين في استقلال الهند. وترأّس بعدها الوفدَ المسلمَ الذي شارك في مؤتمر الطاولة المستديرة الأول في لندن عام 1930 للنظر في مستقبل الهند. وانخرط في السياسة الدولية، ونقلَ مقرَّ إقامته من الهند إلى أوروبا، وأصبح عَلماً سياسياً دولياً مرموقاً، ما تجلّى في تولّيه رئاسةَ عصبةِ الأُمم، وهي سَلَفُ الأُمم المتّحدة، دورةً واحدةً بدءاً من سنة 1937.

بعد وفاة الآغا خان الثالث سنة 1957 ودفنِه في أسوان بمصر، تولّى إمامةَ الإسماعيلية النزارية بعده وتابَع مسيرتَه حفيدُه الآغا خان الرابعُ والحاليُّ الأمير شاه كريم الحسيني. تولّى شاه كريم الحسيني زعامةَ الطائفة الإسماعيلية النزارية وهو في سنّ الواحد والعشرين عاماً. وبعد عامَين من تولّيه الزعامةَ حصل على بكالوريوس التاريخ من جامعة هارفارد. تعهّدَ منذ بداية تزعّمِه للطائفة الإسماعيلية النزارية بمواصلة العمل الذي بدأَه جدُّه في بناء المؤسسات الحديثة لتحسين حياة النزاريين، فقد حرص على أن يكونوا أقلّيةً ثريّةً ومتعلّمةً جيّداً. جاء أوّلُ تحدٍّ للآغا خان الرابع سنة 1972 عندما طَرد الرئيسُ الأوغندي عيدي أمين السكّانَ المنحدرين من جنوب آسيا ومنهم الإسماعيليون النزاريون، فاتّفق شاه كريم مع رئيس الوزراء الكندي بيير ترودو على السماح لآلاف الإسماعيليين النزاريين بالهجرة إلى كندا.

تصنّف فوربس الأميرَ كريم ضمن قائمة أغنى خمسة عشر ملكاً في العالم بثروةٍ تقدّر بثلاثة عشر مليار دولار.احتفل الآغا خان سنة 1982 باليوبيل الفضي لـزعامته للإسماعيليين النزاريين بإطلاق العديد من مشروعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، منها جامعة الآغا خان الدولية بتكلفة أربعمئةٍ وخمسين مليون دولارٍ أمريكيٍّ. كذلك أطلق برنامج الآغا خان لدعم المناطق الريفية في الهند وتوسيع المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية في تنزانيا. وفي سنة 2007  أطلق عدداً كبيراً من المشاريع التنموية. وفي الذكرى الستّين للآغا خان سنة 2017 أطلق برامج جديدةً تساعد على تخفيف حدّة الفقر وزيادة فرص الحصول على التعليم والإسكان.

بدأ الآغا خان الرابعُ عملَه الخيريّ التنمويّ سنة 1976 بتدشين مؤسّسة الآغا خان للتنمية. وتنسّق المؤسسةُ أنشطةَ أكثر من مئتَي وكالةٍ ومؤسسةٍ وتوظّف حوالي ثمانين ألف شخصٍ معظمهم في البلدان النامية. تعتمد الشبكة على تمويلٍ جزئيٍّ من أتباع الآغا خان الذين يتبرعون بنحو 10 إلى  12 بالمئة من دخلِهم، وعلى الشركاء المانحين. وتنفّذ المؤسّسة مشروعاتٍ متعدّدةً في الصحة والتعليم والثقافة والتنمية الريفية وبناء المؤسسات. وتنفق مؤسّساتُ الآغا خان غيرُ الربحية حوالي ستمئة مليون دولارٍ سنوياً في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. وتتميز أعمالُ مؤسّسة الآغا خان بأنها غيرُ تبشيريةٍ، إذْ لا تَقصر نشاطَها على مَواطن أتباع الآغا خان بل تعمل في مجالاتٍ تنمويةٍ في عموم العالم الإسلامي. فتهتمّ مثلاً في القاهرة بتطوير المدينة لأنها حاضرةٌ إسلاميةٌ تراثيةٌ متعدّدة الطبقات الحضارية ولا تتوقف عند الآثار الفاطمية فحسب.


على عكس الوجه الحداثيّ للآغا خان، ظلّ البُهرةُ على مدار قرونٍ ينظرون لأنفسهم حملةَ التقاليد الفاطمية الإسماعيلية، ويرَون في القاهرةِ المدينةَ المقدّسةَ التي عاش فيها أئمّةُ الإسماعيلية. ويعبّرون عن هذه الأفكار علانيةً، سواءً في زيّهم المكوّن من بنطالٍ وقميصٍ طويلٍ وطاقيّةٍ وكلُّها بيضاء، ويمكن ملاحظتُه بسهولةٍ في قلبِ القاهرة، أو في الاهتمام الحصريّ بالآثار الفاطمية وتلك التي تعود إلى آل البيت.

على غرار الإسماعيلية النزارية، تعود جماعةُ الإسماعيلية البُهرة إلى انشقاقٍ آخَر داخل الإسماعيلية حدث في القاهرة الفاطمية. فبعد وفاة الخليفة الفاطميّ العاشر، الآمر بأحكام الله 1101-1130، اختُلف في من سيكون خليفته، إذْ لَم يكن له ولدٌ ذَكرٌ. ولذلك اختير ابنُ عمّه خليفةً له وسُمّي الحافظ لدين الله 1130-1149. لَم يقبل أتباعُ الدعوة الإسماعيلية في اليمن هذا الاختيارَ زاعمين أن للآمر بأحكام الله ابنٌ اسمُه "الطيّب". ومن هنا عُرفَت هذه الدعوةُ بِاسم الإسماعيلية الطيّبية.

تمدّد انشقاقُ إسماعيلية اليمن عن القاهرة الفاطمية ووصل إلى إسماعيلية الهند، حيث عُرف أتباعُ الإسماعيلية الطيّبية بِاسمِ "البُهرة"، والتي تعني "التجّار" باللغة المحلّية، وذلك لشيوع اشتغالهم بالتجارة. وانتشر الطيّبيةُ في غرب الهند وكوّنوا جماعةً تابعةً لمركز الدعوة الطيّبية في اليمن. وبحلول القرن السادس عشر، انتقل مركز الدعوة إلى الهند لأن عدد الإسماعيلية البُهرة في الهند أصبح أكثر من عددهم في اليمن. فظهرت مطالبُ بوجود الداعي المطلق قريباً من غالبية أنصاره، ولأن أوضاع اليمن السياسية لم تكن مناسبةً لنشاط الإسماعيلية بعد دخول العثمانيين إلى اليمن.

وعكسَ الإسماعيلية النزارية التي خاض زعماؤها في الشؤون السياسية والدولية والتنموية، آثَر البُهرةُ الانغلاقَ على أنفسهم تحت قيادة الزعماء الروحيين للجماعة الذين يحملون لقب "الداعي المطلق"، ولهم صلاحياتٌ واسعةٌ على أتباعهم لأنهم نوّاب الأئمّة الطيّبين المستورين، أي الذين لا يُعلنون عن أنفسهم من نسل الطيّب بن الآمر.

وبحسب ما أشارَت إليه أستاذةُ علم الاجتماع والمتخصّصة في الأناسة بجامعة عين شمس سعاد عثمان في كتابها "الطوائف الأجنبية في مصر: البُهرة نموذجاً"، فإن طبيعةَ البُهرة الفكريةَ تميل إلى الانغلاق، ويتجلّى ذلك في التزامِها الخضوعَ لنائب الإمام الغائب، الداعي المطلق، و تمسّكهم بأدب الدعوة الإسماعيلية السرّية. ووجودُ البُهرة في وسطٍ هنديٍّ جعلَهم حريصين على أن يشكّلوا جماعةً منغلقةً على ذاتها. وقد اشتكى العديد من المتخصّصين في الإسماعيلية، أمثالُ إيفانوف ومحمد كامل حسين، مِن رفضِ جماعة البُهرة إطلاعَهم على مخطوطاتٍ أصليةٍ للإسماعيلية من العهد الفاطميّ. ولم يُسمح لهم بالاطّلاع عليها إلا بعد تدخّل مجموعةٍ من البُهرة تلقّوا تعليماً حديثاً في الغرب.


بدأَ حضورُ البُهرة في القاهرة في الخمسينيات. فبحسب دراسةِ سعاد عثمان الآنفةِ الذكر استطاع زعيم طائفة البُهرة الواحدُ والخمسون محمد برهان الدين لقاءَ الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر والتنسيقَ معه لرعاية أبناء الطائفة وعدم التضييق عليهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية. وبعد محاولةِ اغتيال عبد الناصر في حادث المنشية عام 1954 والإجراءاتِ الأمنيّة المشدّدة التي سَنّها النظامُ المصريّ لحظر التجمّعات، انزَوَت جماعةُ البُهرة ومارسَت بعض طقوسها في هدوء. بعد ذلك وجد البُهرة طريقَهم إلى ترميم المساجد، وهو ما نجحوا فيه، فمَنحت جامعةُ الأزهر سلطانَ البُهرة درجةَ العالِمية الفخرية في العلوم الإسلامية سنة 1966.

وتوافَد البُهرةُ بكثرةٍ إلى مصر في عهد الرئيس السابق محمد أنور السادات. وقد دُعي إلى افتتاح جامع الأنور الذي بناه الخليفة الفاطميّ السادس الحاكم بأمر الله وجدّده البُهرة. وبسبب هذا الافتتاح، ظنّ بعضُهم أن تسميةَ الجامع تعود إلى اسمِ الرئيس محمد أنور السادات. لكنّه في الحقيقة الاسمُ التاريخيّ للجامع منذ عصر الفاطميين. واصطحب الساداتُ سلطانَ البُهرة محمد برهان الدين لافتتاح أعمال تجديد مقصورة مشهد السيدة زينب في 1978.

مع ازدياد هجرة البُهرة إلى القاهرة في السبعينيات، طلبَ سلطانُهم من السادات إعادةَ ترميم جامع الحاكم بأمر الله لأنه مكانٌ مقدّسٌ بناه أحدُ الخلفاء الفاطميين. وأعاد البُهرةُ بناءَ الجامع الذي كان في حالةٍ خَربةٍ مستخدمين موادّ حديثةً غيرَ أثريّةٍ في بناء الأجزاء المتهدمة منه. وقد تخيّلوا شكلَ الحوائط الفاصلة بين أروقة الجامع وصبغوا الحوائط الحجرية بدهانٍ أبيض يمثّل شعارَ الفاطميين الرسميّ، مع أنه لا يوجد دليلٍ أثريٍّ على استخدامه في دهان حوائط الجدران الأصلية.

عدّ آثاريّون تدخّلاتِ البُهرة في الجامع إهداراً لقيمتِه الأثريّة التي تعود لألف عام. فقال الأستاذُ بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان جلال الشايب لصحيفة الشروق إنّ ترميم البُهرة جامعَ الحاكم بأمر الله غَيّرَ معالمَه الأثريّة وحوّله مبنىً جديداً ولم يتبقّ من قيمته الأثريّة سوى المئذنتَين.  وأوضح المؤرّخ المعماريّ نزار الصياد أن البُهرة لم يهتمّوا بترميم المئذنتَين لأنهما أُعيد بناؤهما في العصر المملوكيّ، فشعرت الجماعة أنهما لا تنتميان للميراث الفاطميّ، مضيفاً أن ترميم البُهرة للمساجد لا علاقة له بقواعد الترميم المتعارف عليها عالمياً، وإنما ينطلق من أهدافٍ فكريةٍ وسياسية. 

استمرّت علاقة البُهرة بالنظام المصريّ في عهد الرئيس محمد حسني مبارك. واستقرّ غالبية البُهرة في القاهرة في حيّ المهندسين الراقي بمحافظة الجيزة، حيث بُني قصرٌ على الطراز الفاطميّ مقرّاً لإقامة سلطان البُهرة عند زيارته القاهرة. وتوجد العديد من البنايات التي يقيم فيها أعضاءُ البُهرة. وهُم حريصون على عدم الاختلاط مع المصريين. وحسب دراسةِ سعاد عثمان، فإلى جانب قصر سلطان البُهرة يوجد فندقٌ أقامته الطائفةُ بالقرب من جامع الحاكم بأمر الله الفاطميّ بشارع المعزّ بحيّ الجمالية غرب القاهرة. ويطلق على الفندق اسمُ "الفيض الحاكمي"، وهو مبنيٌّ على طرازٍ فاطميٍّ ومعدٌّ لاستضافة أعضاء البُهرة غير المقيمين.

السيسي يلتقي سلطان البهرة وشقيقه في حضور رئيس المخابرات العامة المصري.

بموافقة السلطات المصرية اتّبع البُهرةُ في أعمال التجديد طريقةً كانت مثارَ انتقادات المتخصّصين في الآثار الإسلامية. ففي أعلى جبل المقطم هناك مشهدُ الجيوشيّ، وهو مسجدٌ بناه الوزيرُ الفاطميّ أميرُ الجيوش بدر الجماليّ سنة 1085 فوق منطقة الأباجية جنوب القاهرة. وكذلك مسجد اللؤلؤة بأسفل الجبل، وهو بناءٌ يشبه البرج، بُني على الأرجح في عصر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، ولا يُسمح بزيارته إلا للبُهرة الذين يتوافدون عليه يوم الجمعة تحديداً. وجامعُ الأقمر بشارع المعزّ، وهو جامعٌ يقدّسه البُهرةُ لأنه مِن بناء الخليفة الآمر بأحكام الله، آخِر خليفةٍ فاطميٍّ يَعترف البُهرةُ بإمامته الشرعية. ويتّخذ أتباعُ هذه الطائفة جامعَي الحاكم والأقمر مقرّاً لاحتفالاتهم، فيخصَّص لهم مكانٌ في جامع الحاكم، ويغلَق عليهم ليلاً في رمضان وفي أوقاتٍ أُخرى من السَنة ترتبط باحتفالاتهم. وهم لا يدخلون الجامع الأزهر إلا للصلاة في المكان المعروف بِاسم الظُلّة الفاطمية، لأنه الجزء الوحيد المتبقّي من عصر الخلفاء الفاطميين.

شهدَت العلاقاتُ بين القاهرة والبُهرة انطلاقةً جديدةً مع تولّي مفضّل سيف الدين والسيسي زمامَ الأمور سنة 2014. في أغسطس من العام نفسه بدأ سيف الدين زياراته لمصر بلقاء السيسي وتقديم "مساهمة إلى 'صندوق تحيا مصر' للنهوض بالاقتصاد المصريّ، تقدّر بعشرة ملايين جنيه"، حسب بيان الرئاسة المصرية وقتها. وكان السيسي قد دعا في يونيو 2014 بعد أيامٍ قليلةٍ من تولّيه حكمَ البلاد، المصريين إلى التبرّع للمشاركة في حلّ الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر معلناً أنه سيبدأ بنفسه بالتنازل عن نصف راتبه وممتلكاته لصالح البلاد. وأعقبَه إعلانُ البنك المركزي فتحَ حسابٍ بِاسمِ "صندوق تحيا مصر" لتلقّي التبرّعات، ليدشّن الصندوق ويخضع لإشرافٍ مباشرٍ من رئيس الجمهورية، ويتلقّى تبرّعاتٍ من المؤسّسات والشركات العامّة والخاصّة من داخل مصر وخارجها، وتُخصّص أمواله للأعمال الخيرية والتنموية. أصبح تبرّعُ سلطان البُهرة للصندوق أمراً اعتيادياً بعد 2014. ففي زيارته لمصر في يوليو 2016 أسهَمَ بعشرة ملايين جنيهٍ، وهو ما تكرّر في يوليو 2018.

زيارات سلطان البُهرة إلى مصر قطعَتها جائحةُ كورونا العالمية، لكنها عادت عامَ 2021. فقد زار القاهرةَ لافتتاح جامع الحسين بعد تطويره وتجديده، رفقةَ السيسي في أبريل 2022. وفي أغسطس 2023 مع افتتاح جامع السيدة نفيسة ومشهدها. ثمّ في مايو 2024 في افتتاح جامع السيدة زينب ومشهدها.

السيسي يلقي كلمة خلال افتتاح مسجد السيدة زينب بعد تطويره في حضور سلطان البهرة .

افتتاحات مساجد آل البيت كانت تتبعها انتقاداتٌ واسعةٌ من المعماريين والآثاريين وحتى غير المتخصّصين الذين وجدوا في التطوير تشويهاً وتخريباً للمساجد الأثرية وطمساً لقيمتها التاريخية. فعند افتتاح مسجد الحسين تداولَ المواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً تُظهِر استخدامَ الدهانات في طلاء قبّة المسجد والمئذنة المجاورة، وغلقَ بعض نوافذ المسجد، فضلاً عن تمرير شبكة تهويةٍ لأجهزة التبريد على واجهة المسجد. وهذا ما دفع نقابةَ المهندسين لتكليف الشعبة المعمارية بتشكيل لجنةٍ تضمّ خبراء في عددٍ من التخصّصات الهندسية لإعداد تقريرٍ عن الجوانب الفنية لأعمال ترميم مسجد الحسين التي استغرقت واحداً وعشرين يوماً فقط، ولَم تُصدر اللجنةُ تقريرَها بعد. قال الخبير في جهاز التنسيق الحضاري وعضو المجلس العالمي للمعالم والمواقع التراثية "الإيكوموس" حمدي سطوحي في تصريحٍ صحفيٍّ سابقٍ لموقع "مدى مصر" إنّ مسجد الحسين مسجَّلٌ أثراً بوزارة الآثار، ومسجّلٌ في قائمة التراث الحضاري لمساجد القاهرة التاريخية، ولا بدّ أن يكون التعامل مع المباني التراثية ذات القيمة وفق المعايير الدولية التي نصّت عليها مواثيق اليونسكو والإيكوموس.

تكرّرَ ما حدث في مسجد الحسين بعد تطوير مسجد السيدة نفيسة على نفقة البُهرة. إذْ نَقل موقعُ "المنصة" في أغسطس 2023 عن المجلس الأعلى للآثار قراراً بتشكيل لجنة خبراءٍ لبحث ما حدث بالمسجد وما إذا كان ترميماً أم تشويهاً للمسجد. إلّا أن رئيسَ قطاع الآثار الإسلامية في المجلس أبو بكر عبد الله نفى التصريحَ في اليوم التالي. عدّد المعماريون التعدّياتِ على الطابع المعماريّ والتاريخيّ لمسجد السيّدة نفيسة في إزالة باب الضريح الفضّي والنجف التركيّ ورنك الخديوي عباس حلمي الثاني ومحو نصّ تجديد الرئيس الراحل محمد أنور السادات وإبدال المقصورة القديمة للمسجد، مع إضافة الكثير من الرخام وكشافات الإضاءة الحديثة.

وصفَ المعماريُّ ومؤرّخ المناطق العمرانية نزار الصيّاد تدخّلاتِ البُهرة في جوامع الحسين والسيدتين نفيسة وزينب "بالسيّئة جداً"، موضحاً أنها قائمةٌ على طرازٍ معيّنٍ عند البُهرة لا علاقة له بالفاطميين ولا بآل البيت، وعلاقته قائمةٌ على ميراث البُهرة في جزءٍ من ولايةٍ بالهند يعود إلى عهد مَغولِ الهند. يقول الصيّاد: "فرضوا هذا الطرازَ الغريب على جوامع مصريةٍ وغيَّروا المعالمَ التاريخية لها ودمَّروا الأجزاءَ الأثرية بها"، مشدّداً: "المسؤولية تقع على الدولة المصرية التي أعطتهم هذه الحرّيةَ في طمس ميراث الأثر المصريّ لصالح فرض هويةٍ غريبةٍ في عملياتٍ لا يمكن وصفُها بالترميم".

وقد طرحَت أستاذةُ العمارة والتصميم العمراني بهندسة القاهرة سهير حواس عدّةَ أسئلةٍ عن نشاط البُهرة وطبيعة علاقتهم بالدولة المصرية قائلةً إن تجربة البُهرة غنيّةٌ جدّاً بالموارد المالية التي تُنفَق بسخاءٍ، "نسمع عن أرقامٍ ماليةٍ 'تخضّ' لكن ليس لدينا شفافية في الكشف عن كيفية إسناد هذه المشروعات، ولمن ومن الذي يقوم بالترميم؟ وما الفرق بين ترميم مسجدٍ أثريٍّ ومسجدٍ غيرِ أثريّ". وتضيف حواس أن مبنىً مثل جامع اللؤلؤة المنسوبِ إلى الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، جُدّد مع أنه جامعٌ أثريٌّ، وهناك فرقٌ بين الترميم الذي يعيد الشيءَ لأصلِه وبين التجديد، وهذا كلُّه ليس مسؤوليةَ المموِّل، أي البُهرة، لأن المموِّل يعطيك القدرةَ والإمكانية على العمل.

تشي هذه القرائن كلُّها بأنّ اهتمام البُهرة بالآثار الفاطمية في القاهرة منطلقُه دينيٌّ وليس اهتماماً بالآثار والمحافظة عليها. بحسب ما قال نزار الصيّاد، وهو كذلك أستاذُ العمارة والتخطيط والتاريخ العمراني بجامعة كاليفورنيا: "البُهرةُ قدّمَت أوراقَ اعتمادها للسلطة في مصر منذ السادات جماعةً غيرَ مهتمّةٍ بتقاليد الترميم ولا قواعده العلمية قَدْرَ اهتمامِها بوجودها في القاهرة كأنّها مدينتهم المقدّسة المستعادة". وأضاف أن البُهرة اتّبَعوا الآلية نفسها مؤخراً في مناطق تماسٍّ وأكثر حساسيةً مع عموم المصريين، بتقديم الأموال لتجديد مشاهد آل البيت بالقاهرة، وهو الأمر الذي شكّلَ في السنوات الأخيرة لحظةَ انكشاف البُهرة لفئاتٍ من المصريّين لَم تكن مهتمّةً بنشاط الطائفة الإسماعيلية السابق في مصر.


يرجع وجودُ الآغا خان أو الإسماعيلية النزارية في مصر إلى الخمسينيات. فقد زار الآغا خان الثالثُ، السلطانُ محمد شاه الحسيني، محافظةَ أسوان جنوبَ مصر عدّة مرّاتٍ بسبب معاناته المتكرّرة مع التهاب المفاصل والروماتيزم. لذا نصحَه أحدُ حكماء النوبة بتجربة الدفن في الرمال الساخنة، وهي النصيحة التي أسهمَت في تحسّن حالتِه. طلبَ الآغا خان الثالثُ من الرئيس السابق جمال عبد الناصر شراءَ جبل أسوان الغربيّ ليعيش فيه ويُدفن فيه على ضفاف النيل، مثلما دُفن جدّه على ضفاف نهر الفرات. إلّا أن عبد الناصر أهداه قطعةَ أرضٍ في المنطقة ذاتها تقديراً لدوره ممثّلاً للملايين من طائفة الشيعة الإسماعيلية في العالم. وقد دُفن الآغا خان الثالث سنة 1959 في أسوان بعد وفاته بعامين. و مقبرته المبنيّة على الضفة الغربية للنيل على ارتفاع خمسين متراً من سطح النيل بجدرانها المصنوعة من ستين ألف قطعةٍ من حجر أسوان الرمليّ، تعدّ من أهمّ معالم أسوان حتى اليوم.

بدأَت علاقةُ مؤسسة الآغا خان التنموية بالقاهرة منذ تأسيس الجماعة برنامجَ دعم المدن التاريخية سنة 1990. فأنشأت مبادرةُ صندوق الآغا خان للثقافة "أي كيه تي سي" حديقةَ الأزهر على مساحة ثمانين فداناً وسط القاهرة، في موقعٍ كان يُستخدَم مَكبّاً للنفايات أكثرَ من ألف عام. كلّفت الحديقةُ ثلاثين مليون دولارٍ، وافتُتحَت سنة 2005  "هديةً من سموّ الآغا خان إلى مدينة القاهرة"، حسب ما جاء عن المشروع على الموقع الرسميّ لشبكة الآغا خان للتنمية.

لم تتوقّف أعمال الآغا خان على حديقة الأزهر، بل امتدّت إلى حيّ الدرب الأحمر التاريخي الذي شهد مشاريعَ ترميم المعالم الأثرية والبرامج الاجتماعية التابعة لشبكة الآغا خان للتنمية "أي كي دي إن". فرُمّم جامع أصلان المملوكي، والجامع الأزرق "جامع آق سنقر" الذي افتُتح في احتفالٍ حضره الآغا خان الرابع في مايو 2015 وكرّمه محافظ القاهرة. وأَعلنَت الصحف المصرية وقتَها عن لقاءٍ جَمَعَه مع رئيس الحكومة المصرية وقتذاك إبراهيم محلب، وتناقشا في إنشاء فندقٍ عالميٍّ في حديقة الأزهر. لكن لَم يحدثْ على أرض الواقع أيُّ شيءٍ من هذا.

استمرّت أعمال الآغا خان في مصر مع تراجع الترويج لها منذ اللقاء مع محلب. فلَم يلتق الزعيمُ الروحيّ للنزارية مع الرئيس عبد الفتاح السيسي رسمياً إلا على هامش أعمال منتدى إفريقيا 2016 بشرم الشيخ. وأشار البيانُ الرسميّ الصادر عن اللقاء إلى مباحثاتٍ بشأن المشروعات الجارية أو المستقبلية لمؤسسات الآغا خان في مصر.

عُرفت سياساتُ الآغا خان بمعايير صارمةٍ في ترميم الآثار وصيانتها. وقالت مصادر مطّلعةٌ على ملفّ ترميم الآثار بمدينة القاهرة إن مؤسسة الآغا خان ضُويِقَتْ بسبب رفضِها التعاملَ بالمنطقِ نفسِه الذي عومِل به البُهرة؛ أي الاكتفاء بتقديم الأموال على أن تتولّى شركاتٌ مصريةٌ الترميمَ دون إشرافٍ من المؤسسة. المدير العامّ التنفيذي لشركة آغا خان للخدمات الثقافية شريف عريان رفض الإجابةَ على السؤال الخاصّ بصحّة المضايقات من السلطات المصرية القائمة، واكتفى في إجابته على أسئلتنا بالتأكيد على أن مؤسسة الآغا خان تعمل في مصر طبقاً لمواثيق الترميم الدولية من بداية صدورها في مؤتمر مدريد سنة 1904 في الملتقى السادس للمعماريين، حتى ميثاق فينيسيا سنة 1964 الذي تعتمده اليونسكو ميثاقاً لعمليات حفظ التراث الإنسانيّ، وما تلاها من مواثيق للحفاظ على المناطق التراثية.

وقال عريان إنّ مشروع الترميم القادم الذي تعمل عليه مؤسسة الآغا خان هو مشروع التدخل السريع لترميم مدخل جامع أبو حريبة "قجماس الإسحاقي"، الذي يعود إلى العصر المملوكيّ، وتزيّن صورتُه العملةَ المصرية من فئة الخمسين جنيهاً. وكذلك ترميم الواجهات الخارجية للجامع الشهير في منطقة الدرب الأحمر، الذي يقع قرب جامع المارداني، وهو مشروعٌ "مموَّلٌ من الاتحاد الأوروبيّ في إطار مشروع تعزيز السياحة في القاهرة الإسلامية".

وأضاف العريان أن مؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية تسعى حثيثاً لتدبير التمويلات اللازمة لترميم "المباني الأثرية وبعض المحالّ ذات الأنشطة التجارية المختلفة على طول المسار السياحي لمنطقة الدرب الأحمر" عبر محورَين أساسيَين. يشتمل المحورُ الأوّل تقديمَ حزمةٍ من التدريبات لأصحاب الأنشطة التجارية لإكسابهم مهاراتٍ ومعارف خاصّةٍ بإدارة مشروعاتهم. ويضمّ المحورُ الثاني "اختيار بعض المحالّ ذات الأنشطة التجارية المرتبطة بحركة السياحة على طول المسار، لتطويرها وفقاً لمعايير تطوير المناطق التراثية، حيث تلتزم عملية التطوير بالطابع المعماريّ للمنطقة التاريخية، للمساهمة في تقديم خدماتٍ متميّزةٍ لروّاد المسار من السائحين، وتصبح مصدرَ جذبٍ إضافيٍّ للمنطقة".

كانت المعاييرُ الدقيقةُ لمؤسّسة الآغا خان محلَّ تقديرٍ واسعٍ من خبراء في مجال التعامل مع القاهرة والحفاظ على تراثها. فتذكر سهير حواس أن مؤسّسة الآغا خان قدّمَت درساً تنموياً عظيماً عن مفهوم الارتقاء بالبيئة الحضرية في القاهرة، قائلةً "أقف خلف تجربة الآغا خان وأنحاز لها، على الرغم من أنها توقفت تقريباً، ولَم يعُد لها تأثيرٌ في الوقت الحاليّ"، وتابعَت: "لهم تجربةٌ قديمةٌ في القاهرة. والملاحَظ أن مشروعاتهم تأخذ الشكلَ التنمويَّ مع الترميم الدقيق. أي أن أعمالهم تأخذ في الاعتبار تحقيقَ فائدةٍ للمجتمع المحيط بالأثر، وهو ما نلاحظه مثلاً في حديقة الأزهر التي اختير مكانُها دون الإضرار بالآثار أو إزالة أيٍّ من المباني المهمّة في المنطقة، بما في ذلك المقابر الأثريّة القريبة من المكان".

وأشارت حواس إلى أن مكان حديقة الأزهر اختيارٌ مناسب. فقد كان مكبّاً للنفايات على مدار قرونٍ في القاهرة. وتحويلُه إلى حديقةٍ علاجٌ لمشكلةٍ بيئيةٍ مزمنةٍ في مدينة القاهرة، وفقاً لمعايير علميةٍ، فقد خلقَت متنزّهاً لأهالي المدينة. مضيفةً أن الربط بين مشروع حديقة الأزهر ومحيطها نظر برُقِيٍّ شديدٍ للمجتمع المتاخم للحديقة، وتعامل بدقّةٍ مع الآثار في المنطقة. فرُمّم السورُ الأيوبيّ الذي اكتُشِف تحت أكوام القمامة واعتُنيَ بالمباني المحيطة بالسور، وتبنّت مؤسسةُ الآغا خان مشروعاتٍ لحماية الحِرف اليدوية في الدرب الأحمر وتطويرها لإشراك أفراد المجتمع المحيط في العناية بالأثر وتحقيق عائدٍ لهم.


تمسُّكُ الآغا خان "بالطابع المعماريّ للمنطقة التاريخية" قد يفسّرُ لجوءَ النظام المصريّ إلى جماعةٍ إسماعيليةٍ أُخرى تهتمُّ بتوصيل رسائل فكريةٍ وسياسيةٍ، حتى على حساب المعايير الدقيقة للترميم والحفاظ على الأثر. وهو ما تَستثمر فيه حكومةُ القاهرة للحصول على فوائد مادّيةٍ تَصبّ في تصوّرِها لإعادة تشكيل هوية القاهرة العمرانية وصورتها البصرية. هذا المشروع الذي أَطلقَت عليه الحكومةُ المصرية "إعادة إحياء القاهرة التاريخية" مشروعٌ انتُقِد كثيراً لأنه لا يحافظ على النسيج العمراني، كما أنه يفرِّغ المناطقَ التاريخية من سكّانها ويضحّي بالأماكن والمباني التراثية. ولعلّ ذلك يفسِّر الاحتفاءَ الرسميّ بزيارات سلطان البُهرة المتكرّرة لمصر، على عكس انزواء الآغا خان.

اشترك في نشرتنا البريدية