استمع لهذه القصة
أضحى الوزيرُ محمد عبد اللطيف الأكثرَ إثارةً للجدل بين زملائه المختارين في الوزارةِ نفسِها، وذلك بعد حملاتٍ لصحفيِّين ومواطنِين تتبّعوا حقيقةَ شهادتَي الماجستير والدكتوراه المضمَّنتَين في سيرته الذاتية، وقدَّموا أدلةً قويةً على زيفِهما. لَم يَظهرْ أيُّ ردٍّ رسميٍّ واستمرَّ الصمتُ مطبِقاً أياماً حتى خرجَ رئيسُ الوزراء مساءَ الثلاثاء التاسع من يوليو 2024 معلِناً أن وزيرَ التعليم سيبقى في منصبه وأنّ الحكومةَ ترى أن شهاداته صحيحةٌ وإنْ لَم يُجِزْها المجلسُ الأعلى للجامعات، الجهةُ الرسميةُ للاعتراف بالشهادات العليا في مصر.
لكن تفصيلاً صغيراً يتوارى خلفَ كلِّ هذا الضجيج عن صحّة شهادات الدكتور محمد عبد اللطيف يربطُ تاريخَ الوزير بمصيرِ آلاف الطلاب المصريين الذين سَعَوا إلى الحصول على الدبلومةِ الأمريكيةِ، وهي شهادةٌ ثانويةٌ تمنحُ صاحبَها فرصةَ الالتحاق بالجامعات الأمريكية بلا حاجةٍ إلى معادَلة. فقد وجدَ هؤلاء أنهم دفعوا أموالاً طائلةً مقابلَ شهاداتٍ غيرِ معترفٍ بها. تَعتمدُ هذه الشهاداتِ مؤسسةٌ اسمُها أدفانس إي دي (حالياً كوجنيا) كانت السفارةُ المصريةُ في الولايات المتحدة قد أرسلَت خطاباً رسمياً إلى وزارة التربية والتعليم في مصر تكشفُ فيه أنّ هذه الشركةَ التي تمثّلُها الشركةُ التي يديرُها الوزيرُ الجديدُ تتلاعبُ بدرجاتِ الطلاب ويَشوبُ الشهاداتِ الصادرةَ عنها شُبهاتُ تزوير. وأَوصَت السفارةُ بعدم التعامل معها في وقتٍ كانت وزارةُ التربية والتعليم تمنحُها حقاً حصرياً في ترخيص مدارس الدبلومة الامريكية. مع ذلك تستمرُ هذه الجهةُ في العمل في مصر حتى اليوم. ومِن أبرزِ المتعاونين معها مدارسُ الوزير وشركتُه، كما تُثبِتُ الفِراتْس في هذا التحقيق.
تسلّطُ هذه الحالةُ الضوءَ على المخالَفات الدستورية والقانونية التي تشوبُ اختيارَ رجالِ أعمالٍ لقيادة وزاراتٍ ترتبطُ أعمالُهم وأرباحُهم بسياساتها، في وقتٍ تَمنعُ القوانينُ المصريةُ أصحابَ المناصب الحكومية العليا من الجمعِ بين مناصبهم ووظائفهم في القطاع الخاص بنصِّ قانون 106 سنة 2013. فلَمْ يُعلِنْ وزيرُ التربية والتعليم المختارُ حتى الآن عن إنهاءِ صفتِه التنفيذية أو تجميدِها في المؤسسات التعليمية الربحية التي يشرِفُ عليها وتمتلكُها والدتُه.
بعد خطابِ السفارة المصرية بواشنطن نُشرَت تقاريرُ عن فسادِ أدفانس إي دي وتلاعبِها في صحفٍ مصريةٍ تملكُها الدولة، قبلَ أن تُحذَفَ أكثرُ تلك التحقيقاتُ بلا تبريرٍ أو تصحيح. ووَصَفَ أحدُ تلك التقارير ما قامت به الشركاتُ المتعاملة مع أدفانس إيه دي بالكوارثِ واتّهمَها بالتلاعب بمستقبل الطلاب المصريين والاحتيال على ذويهم. إلا أن ذلك التقريرَ لم يُحدِثْ ردَّ فعلٍ عمليٍّ من وزارة التربية والتعليم ولا من الوزير الهلالي الشربيني، وظلَّ الوضعُ على ما هو عليه حتى جاءت جائحةُ كورونا. أثناء الجائحة أدّى الطلابُ امتحاناتِ الدبلومة بالإنترنت ممّا سَهَّلَ كشفَ التلاعبِ، وأعادت مخالفاتُ المنظمةِ والمدارسِ والشركاتِ المتعاونةِ معها إلى واجهةِ الاهتمام. صدرَ قرارٌ أمريكيٌ في فبراير 2021 بوقفِ قبولِ الشهادات الصادرة من مصر لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ يظهر فيها دورُ أصحاب المدارس المتعاونة مع تلك المنظمة ومديريها في مصر، ومن بينهم الدكتور محمد عبد اللطيف، فهو الرئيسُ التنفيذيُ لمجلسِ إدارةِ مدارسِ والدتِه.
كانت أكثرُ وقائع التزوير دَوِيّاً ما حدثَ سنةَ 2021 عقب جائحةِ كورونا، إذ قرّرَت المؤسسةُ التعليمية الأمريكية كولدج بورد إثرَ ذلك وقفَ اعتمادِ شهاداتِ الدبلومةِ الأمريكيةِ الصادرةِ كافةً في مصر ودولٍ أُخرى. وكولدج بورد منظمةٌ أمريكيةٌ غيرُ ربحيةٍ تشكّلَت من ممثّلي كُبرى الجامعات الأمريكية لوضع المعايير والاختبارات التي تهيّئ الطلابَ في الولايات المتحدة وخارجها للالتحاق بالجامعات الأمريكية.
على إثرِ الكشفِ عن تلاعبِ أدفانس إي دي بدرجات الطلاب الملتحقين واختباراتهم التي يُجريها شركاؤها في مصر والعالم، وقرارِ كولدج بورد الأمريكية وقفَ قبولِ شهاداتها سنة 2021 أَعلنَت وزارةُ التربية والتعليم المصريةُ برئاسة طارق شوقي بدءَ العمل بشهادةٍ أمريكيةٍ جديدةٍ تُدعى آكت، عوضاً عن شهادة سات التي كانت تَمنحُها أدفانس إي دي. وكانت شهادةُ سات تُمنَح من شركاتِ المعادَلة والمدارس المتعاونة معها في مصر ومن بينها الشركةُ والمدارسُ التي يشرفُ عليها الوزيرُ محمد عبداللطيف. قرّرَت الوزارةُ ألّا تمرَّ شهادةُ آكت من بوابةِ الشركات الخاصة التي نشأَت بالتعاون مع المنظّمة الأمريكية المشبوهة لمنح تلك الشهادات ومعادَلتِها. لكن تلكَ القرارات لَم تَمنعْ شركةَ الوزير من التعاون مع المنظمة المتّهمة بالاحتيال أدفانس إي دي حتى يومنا هذا. وما تزال مدارسُ الوزير محمد عبد اللطيف وشركتُه على صلةٍ وثيقةٍ بالمنظّمة المتّهَمة بالاحتيال والتلاعب.
اقتصرَت الدبلومةُ الأمريكيةُ في مصر حتى سنة 1997 على عددٍ محدودٍ من الطلاب الملتحقين بمدرستين اثنتين تشرفُ عليهما السفارةُ الأمريكيةُ في القاهرة وقنصلياتُها التابعة، وعلى مدرسةٍ حاصلةٍ على اعتمادٍ أكاديميٍ من منظمةِ الولايات الأمريكية الوسطى للمدارس والجامعات. لكن وزارةَ التربية والتعليم أصدرَت في ذلك العامِ قراراً يسمحُ للمدارس المصرية بمَنحِ شهاداتِ الدبلومة الأمريكية للمصريين القادرين على دفعِ تكلفةِ التعليم المسمّى تعليم المدارس الدولية، من غير أن تتقيّد تلك المدارسُ بمناهجَ أو اختباراتٍ معتمَدةٍ من الكوليدج بورد الأمريكية. وبمرور الوقت عرفَت الأُسَرُ المصريةُ الثريةُ طريقَها إلى ذلك النظام التعليمي الذي ظَنّوه في صورتِه المصريةِ أسهلَ من الثانوية العامة ويتّفقُ مع النزعة الاستعراضية لدى كثيرٍ من الأثرياء في مصر.
ورغبةً بالتوسّعِ في ذلك التعليم بالمنطقة العربية وبعضِ البلدان الأفريقية والآسيوية نشأَتْ في الولايات المتحدة سنةَ 1994 منظمةٌ عُرفَتْ بِاسمِ سيتا أُنيطَ بها اعتمادُ المدارسِ المانحةِ الدبلومةَ الأمريكيةَ في الشرق الأوسط والشرق الأقصى. ثمّ حُلَّ مجلسُ إدارةِ سيتا بسبب بعضِ مخالَفاتِ الاعتماد الأكاديميّ وأُوقِفَت ثم استحوَذَت عليها في 2009 أدفانس إي دي (حالياً كوجنيا) التي كانت حديثةَ المنشأِ وقتَها.
انطلقَت المؤسسةُ الجديدةُ بسرعةٍ كبيرةٍ متعاقدةً مع عددٍ من سلاسلِ المدارس الأجنبية التي سرعانَ ما ظهرَت في مصر. وهنا عادَت وزارةُ التربية والتعليم المصريةُ إلى الصورة لتشاركَ في الربح مشترِطةً على أيِّ مستثمرٍ في قطاعِ التعليم راغبٍ في الحصول على ترخيصٍ لتدريسِ الدبلومة الأمريكية أن يقدِّمَ للوزارة خطاباً من أدفانس إي دي بأنها ستَعتمدُ نتائجَه أكاديمياً، مقابلَ رسومٍ أُخرى تُعطى إلى إدارة التعليم الأجنبي في الوزارة. وبذلك جَعَلَت الوزارةُ من موافَقة المنظّمة الأمريكية التي تحومُ حولَها الشُبهاتُ شرطاً للحصول على ترخيصٍ لتدريس الدبلومة الأمريكية، على أنّ المؤسساتِ التعليميةَ في الولايات المتحدة لا تَمنحُ تلك المنظّمةَ أيَّ مزيّةٍ خاصّة. ومع ذلك نجحَت أدفانس إي دي في اعتمادِ مئاتِ المدارس في مصر بذلك القرار الذي يمنحُها صفةً احتكارية.
يكشفُ الخطابُ أن منظومةَ الدبلومة الأمريكية في مصر لا تتماشى مع نظيرتِها في الولايات المتحدة "لسببٍ أساسيٍ، وهو اعتبارُها أن جهاتِ الاعتماد هي مَن يَمنحُ شهادةَ الدبلومة". ويضيفُ الخطابُ أن جهاتِ الاعتماد تلك تَختمُ الشهاداتِ الصادرةَ من مصر للإيحاءِ بذلك، على أنه لا سلطةَ لها على الشهادات الصادرةِ في الولايات المتحدة. ويبيِّن الخطابُ أن المنظومةَ المطبَّقةَ في مصر تَمنح المدارسَ وجهاتِ الاعتمادِ سلطةً كاملةً في مَنحِ درجاتِ الطلاب وتغييرها بلا رقابة. علاوةً على ذلك لوحِظَ "ارتفاعٌ غيرُ طبيعيٍ" في درجات الطلاب في عددٍ من المدارس بلا رقابةٍ رسميةٍ، إذ يُمنَحُ معدّلٌ تراكميٌ يقترب من 100 بالمئة لكلّ الطلاب أو أغلبِهم. وأشار الخطابُ إلى كشف عددٍ من حالاتِ تزويرِ شهادةِ الدبلومة الأمريكية، أَرسلَتها مؤسساتُ الاعتماد للتوثيق من المكتب الثقافي المصري في واشنطن. وتلقّى المكتبُ مخاطَباتٍ من مؤسساتِ الاعتماد تُطالِبُ بتعديلاتٍ في الدرجات بمعدّلاتٍ مرتفعةٍ، وأغلبُها لزيادةِ درجاتِ الطلاب.
وخصَّ المكتبُ الثقافيُ بالسفارة أدفانس إي دي بانتقادٍ وتوصيةٍ مبيّناً أنَّ المؤسسةَ تَختمُ شهاداتِ الدبلومة الأمريكية بختمِها، مع أنّ ذلك ليس مِن حقّها. فالمؤسسةُ كانت قد تقدّمَت للسلطات المصرية بخطابِ دمجٍ يحتوي أسماءَ أربعِ منظماتٍ أُخرى مختصّةٍ بالاعتماد بينما الأختامُ على الشهاداتِ هي أختامُ أدفانس إي دي لا جهاتِ الاعتمادِ المعترَفِ بها في الولايات المتحدة. وأَوصَى المكتبُ الثقافيُ بضرورةِ "إعادةِ تقييمِ وضعِ الشركة" مؤكِّداً أن الملاحظات (المخالفات) الواردةَ بالتقرير كافةً تنطبقُ عليها.
ويَكشفُ خطابُ السفارة أن المدرستَين الوحيدتَين في مصر التابعتَين لنظام الدبلومة الأمريكية اللتين تَعترفُ بهما الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً هما مدرسةُ شودتس الأمريكيةُ بالإسكندرية ومدرسةُ كلّيةِ القاهرة الأمريكية. وهُما في قائمةِ المدارس الدولية بالخارج على موقعِ وزارة الخارجية، وعليه فإن كلَّ المدارس التي اعتمدَتها أدفانس إي دي ومنها مدارسُ نرمين إسماعيل التي أسّسَها وزيرُ التربية والتعليم الجديدُ ويديرُها وكذلك شركتُه الخاصةُ باعتماد الدبلومة الأمريكية غيرُ معترَفٍ بها في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تَمنحُه هذه الجهاتُ أو تدّعي توثيقَه من شهادات الدبلومة الأمريكية شهاداتٌ زائفةٌ وغيرُ معترَفٍ بها في الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد وصولِ ذلك الخطاب إلى أيدي الصحفيين المصريين المتخصصين بمتابعةِ ملفِّ التعليم، اهتمَّت الصحفُ بالمسألة. وعَلّقَ حينَها مديرُ المدارس الأمريكية الدولية في مصر وليد أبو شقرة على القرار في تصريحاتٍ لصحيفةِ اليوم السابع المصرية متعجّباً من ذلك القرار: "الاعتمادُ الأكاديميُ لا يَدخلُ في ترخيصِ المدارس، وإنما يتمّ بعدَ تقييمِ عامٍ دراسيٍ كاملٍ للمدرسة، على يدِ لجنةٍ أمريكية". وتساءلَ أبو شقرا متعجّباً: "كيف تمَّ ذلك وأين الأجهزة؟ خاصةً بعد ظهورِ بعض المدارس التي تَمنحُ شهاداتٍ لطلابٍ لم يلتحقوا بالمدرسة من الأساس، من خلال اعتمادِ تلك الشهادات من أدفانس إي دي مع أنها لا تمتلكُ ذلك الحقَّ، فالمُخوَّلون باعتماد الشهادات خارجَ الولايات المتحدة ثلاثُ منظماتٍ، ليس من بينها تلك الشركة". وقد وصفَ أبو شقرة المنظمةَ بأنها "مشبوهة" في بقيةِ حوارِه مع صحيفة اليوم السابع التي كَتبَت تحقيقاً عن تلك المنظمة سنةَ 2017، وقد وَجَدَت الفِراتْس أنه حُذفَ من موقعِ الصحيفة سنة 2019 لكنها استَخلصَته من موقعِ أركايف الذي يحتفظُ بسجلاتِ المواقع على الإنترنت.
إلا أن وزارةَ التربية والتعليم في عهدِ وزيرِها الأسبقِ الهلالي الشربيني، ثمّ في عهدِ الوزيرِ الذي يليه طارق شوقي أصرّت على الاستمرار في اشتراطِ اعتمادِ تلك المنظمةِ والمدارسِ والشركاتِ المتعاونةِ معها لشهاداتِ الدبلومةِ المشكوكِ في صحتِها إلى أن قرّرَت المؤسساتُ التعليميةُ في الولايات المتحدة قلبَ الطاولة سنة 2021.
ومع ذلك استمرّت أدفانس إي دي (كوجنيا) في النشاطِ ذاتِه مع الشركاءِ أنفسِهم في مصر ومن بينهم وزيرُ التربية والتعليم الدكتور محمد عبد اللطيف. فعند البحثِ في الحسابات الرسمية لمدارسِ نرمين إسماعيل الدوليةِ للُّغاتِ أدفانست إيدوكيشن نجدُ أن المدارسَ استضافت بصفةٍ رسميةٍ المؤتمرَ الدوليَ للمدارسِ والشركاتِ المتعاونةِ مع أدفانس إي دي سنة 2017. ونشرت الصفحةُ الرسميةُ لمدارسِ نرمين إسماعيل في التاسع من إبريل 2022 شهادةَ تقديرٍ خاصةً حصلَت عليها من كوجنيا (أدفانس إي دي سابقاً) لتَميُّزِها في تدريس الدبلومة الأمريكية ومَنحِها.
ويعني ذلك أنه مع تأكُّدِ الجهاتِ المصريةِ من زيفِ الاعتراف بالشهادات التي تَمنحُها تلك المنظمةُ والمدارسُ والشركاتُ المتعاونةُ معها في مصر، ومع قرارِ وزارة التعليم في عهدِ وزيرِها السابقِ طارق شوقي بالتحوّلِ إلى نُظمِ امتحاناتٍ جديدةٍ تقلّلُ من التكاليف الباهظة التي تَفرضُها تلك المنظمةُ والمتعاونون معها بسبب تلاعبِهم بدرجاتِ الطلاب، إلّا أنّه من غيرِ المنتظَر أن تنضبطَ الأوضاعُ مع كونِ وزير التربية والتعليم الحاليّ أحدَ المستفيدين من بقائها على حالها.