احتَجزَت إسرائيلُ آلافاً مِن عمّال غزة منذ شنِّها حربَ الإبادة الجماعية في القطاع، اعتَقلَت بعضَهم وأَفرجَت عن البعض الآخر. وتداوَل نشطاءٌ على مواقع التواصل الاجتماعي وقتَها شهاداتٍ عن التعذيب الذي مورِسَ على أولئك لمّا وَقعوا في قبضة قوّات الاحتلال في أَوْج غضبِهم بعد السابع من أكتوبر. ويقول المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ قوّات الاحتلال الإسرائيلي اعتَقلَت آلافَ الفلسطينيين من غزة وعَذّبَتهم جسدياً وعَنَّفَتهم جنسياً وامتَنعَت عن علاجهم منذ أن اجتاحَت القطاعَ. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يُقدَّر عددُ المفقودِين بسبعةِ آلافِ فلسطينيٍّ، سبعون بالمئة منهم نساءٌ وأطفالٌ. لكنّ حَصْرَ العددِ الحقيقيّ متعذّرٌ طالما الحربُ مستمرّةٌ، فقد يكون بعضُهم قد قُتِلوا ولَم يُعثَر على جُثثِهم بَعْدُ.
بعد السابع من أكتوبر، خسر الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال كلَّ الامتيازاتِ الشحيحةِ التي حظوا بها في سنوات الجهود والتعاون مع المؤسسات الدولية المعنيّة بشؤون الأسرى. فوفقاً لدراسةٍ أجرَتْها الباحثةُ أماني حسين سراحنة لمجلة الدراسات الفلسطينية هذا العام، حُوِّلَت غُرَفُ الأَسرى قاطبةً إلى زنزاناتٍ انفراديةٍ وجُرِّدَت مِن كلِّ المقتنَيات. وصُدَّ الأسرى عن معرفة ما يحدث في العالَم الخارجيّ، وحِيلَ بينَهم وبين الزياراتِ العائلية بَلْهَ التواصلِ مع المحامين. أمسى المعتقَلون بلا أيِّ تمثيلٍ، ناهيك عن التعذيب والتنكيل الذي يُكالُ لهُم. وتقول وكالة الأنباء الفلسطينية إن أربعة عشر أسيراً لقوا حتفَهم في السجون الإسرائيلية منذ بداية الحرب إثرَ التعذيب والتجويع والحرمان من العلاج.
انصَرَف همّي منذ بداية الحرب مِن نَظْم الشِعر ونقدِه إلى توثيق هذه الحرب التي ربما لَم تَشهد لها غزّةُ مثيلاً في تاريخِها الطويل. أُوثِّقُها في مذكّراتٍ نَشرْتُ جزءاً منها كتابةً في مجلّة الفِراتْس، ومشافَهةً بالحديث إلى الناس. رأيتُ الكثيرَ من الدمار والعذاب والإذلال رأيَ العين، فآلَيْتُ أنْ أَخُطَّ شيئاً ممّا سمعتُه ورأيتُه. وهنا تؤرقُني تجارِبُ المعتقَلِين الذِين وَقعوا في يد قوّات الاحتلال في وقتٍ كان هَمُّ إسرائيل مُنْصَبّاً على الانتقام من أهل غزة، وهذا كلامٌ نقلَه صحفيّون على ألسنةِ الجنود الإسرائيليين. تجاربُ اعتقالٍ تشهد على تعذيبٍ وإذلالٍ ممنهَجٍ وعنفٍ جنسيٍّ؛ تجارِبُ لن ينساها من عاشَها غدوةً وعشيّا.
يُنقَل المعتقَلون في ناقلاتٍ عسكريةٍ تَكفي عادةً بضعةَ أشخاصٍ، لكنّهم يكدَّسون فيها بالعشرات، ويُحمَلون إلى مناطقَ مختلفةٍ كالقدس والنقب وبئر السبع وغيرِها من مراكز الاعتقال غيرِ المعروفة. وفي هذه الحرب تحديداً، يُنقَل الكثيرُ مِن الأَسرى والمخطوفين إلى مركز اعتقالٍ صحراويٍّ عُرف بشراسةِ المعامَلة وممارَسات التعذيب والتشويه التي بَلغَت حدَّ بَتْرِ أطرافِ المعتقَلين جرّاءَ تكبِيلِها تكبيلاً مؤذياً. يقول المعتقَل المحرَّر ي.م.، البالِغُ من العمر واحداً وعشرين عاماً: "اعتُقِلتُ في مركز الشؤون الاجتماعية في خانيونس. ثم نُقلتُ مع مجموعةٍ كبيرةٍ داخلَ دبّابةٍ، مكوَّمِين كأكياس الطحين، بعضنا فوق بعض. كان فوقَ ركبتِي أربعةُ أشخاصٍ وما بَرِحْنا هكذا حتى اجتزْنا الحدودَ واقتربنا من مكان الاعتقال. هناك جُرِّدنا من ملابسنا تماماً، وأُدخِلْنا مجموعاتٍ عُراةً، ثم أطلَقوا علينا الكلابَ البوليسية، وأبرحونا ضرباً وتنكيلاً، ثم ألقَوا إلينا ملابسَ بلونٍ رماديٍّ موحَّد. أثناء رحلة نقلِهم التي تستغرقُ ساعاتٍ، يَسمع المعتقَلون صوتَ الأذان في أماكنَ متفرّقةٍ. يقول المعتقَلُ المحرَّر ر.ق.، ذو الستة والخمسين عاماً: "اعتقدنا أنهم ينقلوننا إلى معتقَلاتِ الضفّة الغربيّة، فإذا بِنا نسمع أحدَ الجنود محادِثاً زميلَه: 'سنصِلُ شعفاط'. فأدرَكْنا أنهم آخِذونا إلى القدس".
وكان البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، قد صوَّت في شهر يناير على حظر تواصُل المحامين مع المحتجَزِين الفلسطينيِّين، ما يحُول دونَ عِلمِ المحامين بأماكن المعتقَلين والتُهَم الموجَّهة إليهم وغيرِ ذلك من التفاصيل. وعلَّق رئيسُ هيئةِ شؤون الأسرى والمحرَّرين الفلسطينية، قدورة فارس، على ذلك قائلاً إن القرار يشمل أيضاً وصولَ المؤسسات الحقوقية الدولية إلى المعتقَلين، جاعلاً مصيرَ آلافِ الفلسطينيِّين ممّن اعتُقِلوا منذُ شنِّ الحربِ مجهولاً. ومع تسريبِ صُوَرٍ لمعتقَلين عراة، ادّعى جيشُ الاحتلال الإسرائيلي عقب أكثر من عمليةٍ عسكريةٍ نفّذَها في الأشهُرِ الثمانيةِ المُنسلِخةِ أنّ صُوَرَ صفوفِ المعتقَلين تلكَ تعُودُ لمُقاتِلِي حماس، وهو ما نَفَتْهُ الحركةُ. وأَكّدَت منظماتٌ حقوقيةٌ، من بينِها المرصدُ الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتقلَ تعسُّفياً الكثيرَ من النازحين، من بينِهم أطباءُ وأكاديميون وصحفيون، من المخيّمات وأماكنِ الإغاثةِ التي نَزَحَ إليها السكانُ بعد الحرب.
يتّفق المعتقَلون الذين حاورْتُهم على أن الضرب العشوائيّ والتعذيب كان على أشُدِّه عند التنقّلات بين المعتقَلات. فيُفرَز المعتقَلون إلى كبائنَ كبيرةِ الحجم، في كلٍّ منها مئةُ أسيرٍ، لهُم فيها مكانان فقط لقضاءِ الحاجةِ؛ حمّامٌ ومغسلةُ يدَيْن؛ يُسمَح لهُم باستخدامه في مدّةٍ لا تَتجاوزُ الدقيقتَيْن، وإلّا ضُرِب المعتقَل المتأخِّرُ وأُهِينَ. وقضاءُ الحاجةِ يُشابِهُ ظروفَ الاعتقال نفسَها، فالأعيُنُ معصوبةٌ والأيدي مقيَّدة. يقول المعتقَلُ ن.ق.، البالغُ ثلاثةً وثلاثين عاماً، والذي تظهرُ عليه كدماتُ التقييدِ جليّةً: "المعتقَلون أُصيبوا بالهُزال الجسديّ، فلا طعامَ عدا معلَّباتِ التونة ونَزْراً من الجُبنة، بِلا أيِّ رعايةٍ طبّية".
ومن أشكال العنف ضدّ المعتقَلين ما يُطلَق عليه "التّمام". يُنادى المعتقلون بالاسم، ويؤمَر كلٌّ منهم بقُعُودِ القُرفُصاءِ المائلةِ من السادسةِ صباحاً حتى العاشرةِ مساءً. ويتخلّلُ هذا الوقتَ العديدُ من وجباتِ "التّمام" والذهابُ للحمّام تِباعاً والصلاةُ ووجبةُ الأكلِ الوحيدةُ. أي أن المعتقَل يبقى في دوّامةٍ طيلةَ اليوم، ناهيكَ عن الهواجس التي تَنتابُ المعتقَل مُدَّةَ اعتقالِه التي لا يعلمُ متى ستنتهي وما إذا كانت ستنتهي. يقول المعتقَل المحرَّر خ. ق.، البالِغُ اثنين وخمسين عاماً: "أرادَ جنديٌّ الحديثَ مع معتقَلٍ كي يَنقلَ التعليماتِ للبقيّةِ، ويوزِّعَ الوجبةَ الضئيلةَ (ويُقال لمن يَتولّى ذلك "شاويش"). أَبَى المعتقَلُ ذلك، لأنه يَأنَفُ السُخْرَةَ. فصرخَ الجنديُّ: 'خبيبي أنت مش في فندق هون، أنت تنفذ وبس'". وتَحْدُثُ جَلَبَةٌ أثناءَ توزيع الوجبةِ، ويرى الجنديُّ ذلك عبر الكاميرات، فينادي على خ. ق.: "أنت ما بتنفعنا". ومن صُنُوفِ التعذيب التي ابتدَعَها الإسرائيليون بعد السابع من أكتوبر، استفتاحُ اليومِ بأن يؤديَ الأسيرُ تحيّةَ قائدِ المعسكَرِ ثمَّ تحيّةَ عَلَمِ إسرائيل.
ولعلّ أَصْعبَ ما يمكنُ أن يصرِّح به المعتقَلون بعد إطلاق سراحهم، هي تجارِبُ التحرُّش الجنسيّ. ذَكَرَ المعتقَل أ.ق.، ذو الثلاثين عاماً، أنّ إحدى المجنَّدات سَحَبَت عُضوَهُ الذَكريَّ ثمّ عَصَرَت خصيتَيْه بعُنْفٍ، ممّا آلَمَهُ بشدّةٍ وهي تَصيح وتَضحك. وكلُّ ذلك بينما الأسيرُ المقيَّدُ مُدَلًّى من السقف. يسردُ معتقَلٌ آخَرُ كيف أَشعلَت مجنَّدةٌ أخرى قدّاحةً في قضيبِه وهو معلَّقٌ في السقف عارياً. ثم تشعِل قداحةً كهربائيةً تَصعق القضيبَ بدرجةٍ كبيرة، وتمرِّرها على أنحاء متعدّدةٍ مِن جسمِه حتى حلماتِ صدرِه.
ويتعمّق أثرُ العذاب في بعض الأسرى المحرَّرين مخلِّفاً نُدوباً نفسيةً يصعبُ رَأْبُها، منها ما يَظهَرُ بصورةِ نوباتِ هَلَعٍ. يقول المعتقَلُ المحرر خ.ق. إنه لَم يعُد يتذكّر أيّاً من أرقام معارفِه وأقربائِه. تتحدث زوجة معتقلٍ محرّرٍ آخَر قائلةً: "في الليلة الثانية من الإفراج عن زوجي استيقظتُ على صراخِه. واستَيقَظ عليه أيضاً الكثيرُ من ساكنِي الخِيَمِ القريبة. وكان يلهثُ، ولَم يهدأ إلا عندما تيقَّنَ أنه كابوسٌ". وتضيف: "أصبح زوجي يعاني من تشتّت الذهن، وأصبح لا يتحدّث إلينا بل يلتزمُ الصمتَ".
وعن النظافة الشخصية للمعتقَلين يقول المعتقَل المحرَّر أ.خ. إنهم طوالَ شهرَي الاعتقال لَم يغيِّروا ملابسَهم سوى مرّتين واستحمّوا أربعَ مرّاتٍ وسُمِحَ لهُم بالحلاقةِ مرّةً واحدة. يقول المعتقَلُ خ.ق. إنه بعد شهرَيْن من الاعتقال لَم يَجِد ما يقلِّم به أظافرَه إلا أن يحكّها بالأرضِ، ممّا لَفَتَ نَظَرَ مجنَّدةٍ اعتَقدَت أنه يَفعلُ شيئاً مرِيباً.
ويُذكِّرُنا معسكرُ الاعتقالِ الصحراويُّ الذي شَيّدَته قوّاتُ الاحتلال الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر بمعسكرِ تعذيبٍ آخَرَ سيّءِ الذِكرِ، أَنشأه الجيشُ الإسرائيليُّ عقبَ اندلاعِ الانتفاضة الأولى سنة 1987. والمشترَكُ بين ذَيْنِكَ المعسكرَيْن أنهما لا يتبعان منظومةَ إدارةِ السجون وإنما كانا تحت إشراف الجيش، ما يعني أن كلَّ سجَّانٍ يَختارُ طريقةَ تعامُلِه مع الأسرى. والأمرُ يَسرِي الآنَ أيضاً معتضِداً بقوانينَ تسهِّلُ عمليّاتِ الاعتقال، خصوصاً الاعتقالاتِ الإداريةَ التي طالما عملَت عليها سلطةُ الاحتلال، كما تقولُ الباحثةُ أماني حسين سراحنة. وتجرِبةُ السِجْنِ الإداريّ تعني السَجْنَ دون محاكمةٍ والتغييبَ القسريَّ للمعتقلِين بذريعةِ الملفِّ الأَمنيّ السِرّي. إن نسبةَ المعتقَلِين إداريّاً حتى نهاية 2023 هي الأعلى في غُضون عَقدين، فقد وَصلَت نهايةَ عام 2022 إلى خمسمئةٍ وثمانين معتقَلاً إداريّاً، وبَلَغَ عددُهم حتى نوفمبر الماضي 2873 معتقَلاً.
وعن إطلاق سراحهم، يقولُ المعتقَلُ المحرَّرُ أ.ر. إنه بعد إحصاءِ الأَسرى يأتي جنديٌ ويقرأُ قائمةَ أسماءِ الذين سيُفرَجُ عنهم اليومَ. لا يُبْدُون ردّةَ فعلٍ عند سماعِ أسمائهم. يُحشَرون في الدبابات بالطريقة نفسِها، كما أوّلَ مَرّةٍ، ويُطلَق سراحُهم بعيداً عن معبر كرم أبو سالم جنوبَ شرق مدينة رفح. يؤمَرون بالذهاب في الاتجاهِ نفسِه، فيَمْشون حتى تلوحَ لهُم سياراتُ الصليب الأحمر. يُعْطَوْنَ ملابسَ خفيفةً ومبلغَ خمسَمئةِ شيكل (حوالي مئةٍ وثلاثين دولاراً) ويُعْلَمُونَ بضَرورةِ التوَجُّه إلى مركزِ إيواءٍ في رفح للتسجيل. يَذرِفُ المعتقَلُ المحرر م.س.، البالغُ أربعةً وثلاثين عاماً، دموعَه وهو يتذكّر سماعَ اسمِه الساعةَ العاشرةَ مساءً للإفراج عنه. كان يَعتقِد أن الحرب وَضعَت أوزارَها، وأنّه سيعودُ إلى بيتِه. لَم يكُن بحُسبانِه أنه عائدٌ إلى خيمة.
أعودُ إلى خيمتِي مُثقَلاً بعِبْءِ تلك الشهادات. أُدوِّنُها مُسابِقاً الزمَنَ قبل أن تَفرَغَ بطاريةُ هاتِفِي، علَّها تَشْهَدُ على ما حَدَث في هذه الأرض. أكتبُ هذه الشهاداتِ مدرِكاً أنه، بينما يعاني الأَسرى المحرَّرون من النُدوبِ التي خَلَّفها الاعتقالُ، ما زالَ هناك الآلافُ ممّن يَرسُفُونَ في الأغلالِ وممّن يُكابِدونَ العذابَ حتّى حينٍ. وأُدرِكُ أن صفحةَ الاعتقالِ لن تُطْوَى، لأنّها في نظرِ قوّاتِ الاحتلال ورقةٌ رابحةٌ في حربها على فلسطين كي تُساوِمَ على الأعداد في صفقاتِ تَبادُلِ الأَسرى.