استمع لهذه القصة
قبل الانتقال إلى السكن، كان على وفيق ذي العشرين عاماً الانتظارُ صباحاً في برد الشتاء القارس علّه يحظى بمَقعدٍ على متن إحدى سيارات الدفع الرباعيّ القليلة المخصّصة لنقل سكّان قريته إلى المدينة التي تبعُد ستّين كيلومتراً بطريقٍ وعِرةٍ غيرِ معبَّدة، وبتكلفةٍ تصل إلى عشرة آلاف ريالٍ للرحلة الواحدة. أَجبَره ذلك على زيارة جامعته مرّةً كلَّ شهرٍ فقط. بيدَ أن انتقالَه للعيش قريباً من الجامعة لم يُخرِجه من مأزقه؛ إذ يَدفع وفيق إيجارَ المساحة الصغيرة التي ينام بها في الغرفة المشترَكة مئةَ ألف ريال، أي ما يعادل مئتَيْ دولار أمريكي بسعر الصرف في إب، فسعرُ صرف الدولار مقابل الريال اليمني متفاوِتٌ بين المحافظات. أكرهَته هذه الحالُ على التوقفِ عن الدراسة الجامعية عامَ 2020 والعملِ لجمع ما يكفي من المال لاستئناف الدراسة.
ما كان وفيق بِدعاً من سكان اليمن؛ إذ عانت البِنيةُ التحتيةُ الأساسيةُ في المحافَظات اليمنية من تراجعٍ كبير، خصوصاً في الريف. فقليلاً ما اهتمّت النُظُمُ الحاكمةُ في اليمن بأعمال البنية الأساسية، حتى في السنوات التي سَبقَت الاحتجاجاتِ ضدّ علي عبد الله صالح 2011. لكن الحرب التي تشهدُها اليمنُ منذ عام 2015 أنهت ذلك الاهتمامَ القليل وأَوقفَت أعمالَ إنشاءِ البِنية الأساسية وإصلاحها في محافظات اليمن، مما زاد مِن تهالُكِ الطرقات وتكلفةِ الانتقال بين القرى والمدن لقلّة عدد السيارات المؤهَّلة للسير عليها. وبتقهقر الطرق العامة المتوارَث وقعت اليمنُ في المركزِ الأخير بين 137 دولة على "مؤشر جودة البنية الأساسية" الذي تصدره مؤسسة فيتش سولوشنز.
وأَلحقَت الحربُ التي شهدَتها البلادُ بين عامي 2015 و 2022 أضراراً جسيمة بالبنى التحتية لشبكة الطرق المعبَّدة في البلاد، والتي لا يزيد طولُها الإجمالي على ثمانية عشر ألف كيلومتراً مربعاً فقط، ما يشكل 30 بالمئة من طُرُق اليمن، وفق دراسةٍ للباحثَين كيسي كومبس وصلاح علي صلاح، صدرَت في يناير 2023 عن مركز صنعاء للدراسات بعنوان "أوزار الحرب طرق اليمن". ورَصدت الدراسةُ أثرَ حركة المركبات والمعدّات الثقيلة أثناء الحرب على الطرق القليلة المعبَّدة مع قصف الجسور والطرق الرئيسة المعبَّدة بين البلدات اليمنية وهدمها. أثّر ذلك على حركة نقل السكان والبضائع الأساسية من قمحٍ ودقيقٍ وسكّرٍ وغيرها من المواد الغذائية والدوائية. وبلغَت خسائرُ شبكة الطرق والجسور أكثر من ثلاثة ملياراتٍ وستمئةٍ وخمسةً وستين مليون دولار، حسبَ وزارة الأشغال العامة والطرق التابعة لحكومة الحوثيين غيرِ المعترَف بها دولياً في العاصمة اليمنية صنعاء.
لم يشارك الصايدي في المبادرة استجابةً للدعوات التي نُشرَت على شبكات التواصل الاجتماعي، إنّما رغبةً بتغيير ما عايَشَه بنفسه أثناء سكنه في اليمن قبل الهجرة، وما واجهَه في زيارتِه بلدتَه عامَ 2017. يقول الصايدي للفِراتْس: "في زيارتي الأخيرة عانيتُ ممّا يعاني منه سكّانُ بلدتِي في التنقل بسبب وعورة الطريق". لذا بادرَ إلى المساهمة في تمويل مشروع تعبيد الطريق المعروف باسم "قريتي تعني لي الكثير". ويقول أيضاً: "أعود لزيارة مَن تبقى مِن عائلتي وجيراني"، مبيِّناً أنه أراد الإسهامَ في مشروعٍ يجعل حياتَهم أسهل.
بعد أن أعلن الصايدي وآخَرون من المغتربين المنحدرين من مديرية الشعر تبنّيَ مشروعِ استكمال شقِّ الطريق بدايةَ عام 2021، تواصلَ ناشطون محليّون مع المغتربين اليمنيين في الخارج، وتشكلت لجانٌ ماليّةٌ وهندسيةٌ وميدانية، كما شُكِّلَت لجنةٌ إعلاميةٌ لتوثيق سير العمل وتنسيق اجتماعاتٍ دوريةٍ في منزل مدير المبادرة، مصلح دبوان، وإطلاعِ المساهِمين ماليّاً على سير المشروع خطوةً خطوةً وضمانِ شفافية الإنفاق. نُفِّذت المرحلةُ الأولى عامَ 2021 بالاستعانة بإحدى شركات المقاولات العاملة في اليمن.
ومع ذلك، فإن هذه الإجراءاتِ المتّخَذةَ لمنع التدخّلاتِ الحكوميةِ لَم تَعصِم المبادرةَ من مواجَهةِ صعوباتٍ وتحدّياتٍ بسبب الأداء الحكومي والسياسات العامة في اليمن. يقول المنسق الإعلامي للمبادرة، عادل العبدلي، إن المبادرة واجَهَت صعوباتٍ كان أبرزُها تكرارُ أزمات نقصِ المشتقّات النفطية، وارتفاعِ أسعارها في السوق المحلية، وحدوث أزماتٍ متعاقبةٍ في توفّر الخامات اللازمة للرصف "القار والحصى" وتضاعُف سِعرها بسبب استمرار الحرب. أدّى ذلك إلى إيقاف العمل أسابيعَ عدّةً بسبب نفاد الوقود اللازم لعمل المعدّات، قبل أن يتمكن المنخرطون في المبادرة من الحصول على المشتقّات النفطية، واستئناف العمل حتى عبّدوا طريقاً طولُه ثمانية كيلومترات نهايةَ 2022. ويستفيد من الطريق الآن أكثرُ من ستين ألف نسمة في أكثر من مئتين وعشرين قرية في مديرية الشِعِر التي تبلغ مساحتها 145 ألف كيلومتر.
حقَّقَ نجاحُ المبادَرةِ حُلْمَ المواطنين بتسهيلاتٍ كبيرةٍ في حركة النقل وتعزيز جهود التنمية في المنطقة، لا سيّما أن الطريق ستَربط بين مديريات الشِعِر وبعدان والنادرة والسدة وستصل إلى مركز المحافَظة، جاعلةً رحلةَ التحصيل الدراسي لوفيق يسيرةً وأقلّ تكلفةً مِن السابق. عاد الشابُّ ابنُ مديرية الشِعِر إلى الدراسة في جامعته بعد ثلاث سنوات. وصار الانتقالُ إلى المدينة لشراء الاحتياجات اليومية أو للحصول على الخدمات الصحّية رحلةً سهلةً لا تزيد من أوجاع المرضى.
كانت أجورُ نقل الموادّ تُكلِّف ناشراً نحوَ خمسة عشر ألف ريال؛ أي أربعين دولاراً أمريكيّاً بسعر صرف الدولار في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين، مما أثّر سلباً على رأس ماله الذي كان يتناقص يومياً. لكنّه اليومَ بعد إصلاح الطريق أَصبح يحمل البضاعةَ على متن سيارةٍ صغيرةٍ متوفّرةٍ في كلّ الأوقات بتكلفةٍ أقلّ، في حين كانت السيارات القديمة تتوفّر في الصباح الباكر فقط. وأصبح قادراً على توفير الخدمات التي يحتاجُها السكّانُ بتكلفةٍ أقلّ، مقارَنةً بالتكلفة الباهظة التي كان يتكبّدُها. ووفَّرَ على المواطنين وَعْثاءَ السفر إلى أسواق المدينة لشراءِ الاحتياجات اليوميّة خصوصاً في ظلّ تردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية لكثيرٍ من المواطنين باستمرار الحرب والتوتّرات الأَمنية المستمرّة في اليمن، والتوترات العسكرية التي تجدّدَت عقبَ الحظر الذي فرضَتْه جماعةُ الحوثيّ على السُفنِ الإسرائيلية وتلك المتوجّهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر بعد الاجتياح الإسرائيلي البرّي لقطاع غزة.
تختلفُ معاناةُ المواطنين من منطقةٍ لأُخرى كما بيّنَ للفِراتْس منيرُ الشوحطي، مسؤول المبادرة التعاونية بمحافظة لحج جنوب اليمن. ففي منطقة شوحط، التي تضمّ ثلاث قرىً يبلغ عددُ سكانها أكثر من اثني عشر ألف نسمة، يقاسي السكانُ بسبب عدم توفّر الطرق الصالحة للتنقُّل؛ إذ يَسيرون نحوَ كيلومتريْن مشياً على الأقدام في الجبال للوصول إلى سوقٍ شعبيٍّ لشراء الاحتياجات اليومية. ثمّ يَحمل بعضُهم ما اشتراهُ على الحمير، بينما يَحمله آخَرون فوق ظهورهم في مشهدٍ يتكرّر منذ سنواتٍ طويلة. أما الأطفال فيُحرَم أكثرُهم من الالتحاق بالمدارس أو يتأخّرون في الانتظام بصفوفها بسبب غياب الطريق الآمنة. وتتكبّد النساءُ مشقّةً مضاعَفةً، لا سيّما الحوامل منهنّ، سواءً في تلبية احتياجاتهنّ اليومية أو عند موعد الولادة. وينقل سكانُ القرية مرضاهم في نعش الموتى بدلاً من نقّالات الإسعاف الغائبة عن القرى الثلاث المعزولة عن العالم.
تسكن السيدة زينب عوض إحدى القرى الثلاث. وتُحَدِّثُنا عن مَخاضها القاسي الذي استمرّ منذ الصباح حتى فجر اليوم التالي بلا قدرةٍ على الوصول إلى المساعدة الطبية التي كانت تحتاجُها لإجراء عملية الولادة القيصرية. تقول زينب للفِراتْس إن بُعدَ المسافة وصعوبةَ الانتقال إلى المركز الصحّي الواقع على بُعد كيلومترَيْن سيراً على الأقدام أبقياها تُغالِبُ الألمَ حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل حينَ نُقِلَت إلى المركز الصحّي محمولةً على أكتاف زوجها وشقيقها في جنح الظلام عبر طريقٍ جَبَليٍّ وَعِر. وهذه حالُ مئات النساء في القرية إلى أن استعان الأهالي عامَ 2020 بمغترِبيهم لإطلاق مبادَرةٍ تعاونيةٍ لشَقِّ الطُرُقِ وتعبيدِها بين قُرى شوحط الثلاث وأقربِ المراكز الحضرية في محافظة لحج.
هاتان الحكايتان في لحج وإب من عشراتِ المبادَراتِ التعاونية للتغلُّب على أزماتِ البنيةِ التحتيةِ في الطُرُق اليمنية. ظهرت تلك المبادراتُ عقب اندلاع الحرب في اليمن سنة 2015، وتسبّبَت في فقدِ مئات الآلاف من المدنيين أرواحَهم، ونزوحِ مئات الآلاف الآخرين. إلا أن الاحترابَ الأهليَّ لَم يَمنع ظهورَ تلك المبادَراتِ التي بدأَت في إب بعد عامٍ من الحرب، ثم انتشرَت في المحافظات الوسطى والجنوبية.
خطّت قريةُ "منازل بردان" بمحافظة إب الدليلَ الذي سارت على خُطاه المبادَرات الأُخرى. فقد أَطلق سكانُها عامَ 2016، أي بعدَ عامٍ من بدء الحرب، مبادرةً لإصلاح الطريق الترابيّة المتهالكة لقريتهم ورصفِها بالأحجار والأسمنتِ. جُمِعَت الأموالُ بتوجيهِ دعواتٍ إلى المغتربين والميسورين من أهالي القرية للمساهَمة في إصلاح الطريق. ثم شُكِّلَت لجنةٌ للإشراف على جمعِ الأموال وإعداد الدراسة الميدانية لحساب التكلفة المالية التي بلغَت نحوَ خمسة عشر مليون ريال يمني؛ أي ثلاثين ألف دولارٍ أمريكي بسعر صرف الدولار في إب وقتَها.
يقول أحمد منصور، أحد منسّقِي المبادَرةِ في قرية "منازل بردان: "في عملية إصلاح الطريق التي استمرّت نحوَ عامٍ ونصف، واجهَت المبادَرةُ صعوباتٍ متعدّدةً أبرزُها: صعوبةُ الحصول على الأموال، وقلّةُ الإمكانيات وعدمُ استجابة السكان سريعاً، بسبب الأوضاعِ المعيشية السيّئة وارتفاعِ أسعار موادّ مثل القار، وارتفاعِ أُجورِ نقل الموادّ باستمرار الحرب. وفي مطلع إبريل 2017 أصبحَت طريقٌ بطول نحو أربعمئة مترٍ متاحةً لمرور السيارات والشاحنات وعربات الخِدْمات".
تُعَدُّ المبادَراتُ الأهليةُ في اليمن نبراساً للتعاون المجتمَعيّ والجهود الذاتية في بلدٍ مزّقَته الحروبُ والمجاعاتُ وسنواتٌ طويلةٌ من الإهمال مع التحدّيات اليومية. رَسّخَت تلك المبادَراتُ، التي يتعاونُ فيها المقيمون والمهاجِرون بحثاً عن الرزق أو العلم أو الأمان، شكلاً منظَّماً من أشكال العمل الأهليّ، واضعةً أُسُساً تذلّلُ للسكان العقباتِ التي لَم تتغلّب عليها أيٌّ من الحكومات المركزية أو القَبَلية التي أدارت اليمن. أَنجَزَت تلك المبادَراتُ، بالدقة والالتزام والحرص على معايير الشفافية، المشاريعَ وعالَجَتْ بعضَ مشاكل انهيار البِنيةِ التحتيّة، مبرهِنةً على قدرة المجتمع المدنيّ على مواجَهة الصعوبات وتجاوزِها.