استمع لهذه القصة
تشير كلمة "كافيتريا" عادةً إلى صالة فسيحة يقصدها الطلاب والموظفون وغيرهم للأكل، لكن هذه المطاعم الصغيرة المسماة شعبياً "كافيتريا" في دبي ومنطقة الخليج هي محالٌ صغيرة لبيع الطعام يُشغّلها عمالٌ وافدون معظمهم من ولاية كيرلا الهندية. يتقن هؤلاء العمال العربية مع الأردية والهندية والإنجليزية وحتى الروسية أحياناً.
يُعِدّ العمالُ وجباتِ الطعام في مطبخ المطعم وينقلونها إلى النافذة ومنها إلى صفوفِ سياراتِ الآكلين طعامَهم فيها، وهي غالباً إما من نوع نيسان باترول وإمّا رينج روفر ذات النوافذ المعتّمَة.
يطلب المستهلكون شطيرةَ بطاطس عُمان المُعَدَّة في مطعم الفروانية وغيره بإتقانٍ في أقلَّ من ثلاثين ثانية لِتُجهّزَ وتغلفَ بورق الشمع. تُنثر رقائق بطاطس عُمان فوق طبقة غنية من الجبن السائل من نوع بوك أو كرافت غالباً، مع القليل من صلصة إكسلانس الحارة والموزعة على رغيف من خبز "البراتا" المقرمش في طبقات تتخللها نكهة حارّة من التوابل.
لم تكن هذه الوجبة لتشتهرَ لولا وفود العمال من ولايات الهند الجنوبية إلى دول الخليج العربي في السبعينيات والثمانينيات، فهم جلبوا خبز البراتا من مطبخ ولاية كيرلا حيث يشيع أكله لتخفيف أثر نكهة الكاري الحارّة.
تباع شطيرة بطاطس عُمان المُشبعة بالكربوهيدرات بالمئات يومياً بأربعة دراهم؛ أي أكثر بقليل من دولار أمريكي واحد. يحدث هذا في دبي التي تحوي آلات بيع قطع الذهب وقطع السوشي المغطاة بطبقة من الكافيار ومثلجات مغطاة بورق الذهب الصالح للأكل لتلبّي ولعاً شائعاً بالمنتجات الفاخرة التي لم تحجب جاذبية شطيرة بطاطس عُمان، الذي ظهر أول مرة عام 1983 وصار من أشهر صادرات سلطنة عُمان لا سيما عند مَن ارتبط المنتج بطفولتهم.
يتميز بطاطس عُمان بتعقيد نكهته اللاذعة التي تسبق ومضات حموضة ونكهة مدخنة، وتُشعل هذه جميعاً شعوراً بالحنين إلى الحياة في الإمارات قبل عقود. وشعبيته المستمرة مرتبطة بذكريات قديمة لأهالي دبي والخليج.
بقي كيس بطاطس عُمان محافظاً على تصميمه غير المتكلف وألوانه المعروفة دون تغيير أكثر من أربعين عاماً، وما زال فخراً لمصنع الجفير للمواد الغذائية في عُمان وهو منتجٌ شغفَ القلوبَ حباً في السلطنة وفي الخليج كلّه.
يدّل على هذا انتشاره في قوائم المطاعم في دبي؛ إذ تضاف رقائق بطاطس عُمان إلى الخضار وصلصة الكزبرة في فطيرة الدوسا الهندية لتقوية نكهتها المالحة في مطعم يَمي دوسا، وتُحضّر لفائف "ماكي" بالجبنة وبطاطس عُمان في مطعم السوشي موشي ما يوفر بديلاً شهياً لأولئك الذين لا يحبون أكل الأسماك النيئة، وتضيف رقائق البطاطس قرمشة لذيذة لبرغر الأرباب الذي يُباع في مطعم برغر 28 المليء بذكريات التسعينيات، وتُغرّق الرقائق بالزبدة عند طلب فشار بطاطس عُمان المَبيع في صالات فوكس سينما.
تكمن المفارقة أن اسم دبي يقترن الآن لدى أصدقاء أسماء الكنديين بالأثرياء الجدد الذين يظهرون على برامج تلفزيونية تعرض حياة الأغنياء في دبي، لكن المدينة كانت مختلفة في التسعينيات. تقول أسماء: "كان ذهابنا في رحلة طويلة بعد التوقف في المطعم لشراء شطيرة بطاطس عُمان من أقوى ذكرياتي. المطعم والشطيرة لم يتغيرا. كنا نملك القليل حينها، ولكن كان لدينا شعور بالرضا يبدو الآن بعيد المنال".
تعيش الهندية الإيرانية هيفا زكريا المقيمة في دبي بين عالمين، إذ تقول: "نشأتي مربكة بعض الشيء؛ فكلما فكرت بمطاعم دبي القديمة، ينتهي بي الأمر في أحدها بعد فترة قصيرة، وقد ذهبت الأسبوع الماضي إلى مطعم الاستاد للكباب الخاص. الذين لا يعرفون دبي القديمة لا يعرفون كل تلك النكهات الأصلية".
تضيف هيفا أن وجبات بطاطس عُمان مرتبطة بطفولتها، وتقول: "كل من ترعرع مثلي في دبي يعرف أهمية صلصة إكسلانس الحارة في الحياة اليومية، لا توجد صلصة مثلها تجلب كل ذكريات الطفولة معها. كنا نسكبها على كامل كيس البطاطس وكانت وجبة خفيفة ممتازة بعد المدرسة. وأنا الآن حامل ما أزال تائقةً إلى هذا المزيج". وتقول ضاحكة إن بنات أخيها لا يفهمنها: "الجيل الأصغر لا يفهم هذا الهوس لأن هناك مطعماً جديداً يفتح كل أسبوع في دبي".
يثبت اختراق بطاطس عُمان لوائح المطاعم أنه تحول من إضافة على الشطائر في المطاعم الصغيرة إلى عامل جذب في المطاعم الراقية، ويُظهر التنوع المذهل لدبي التي يتعايش فيها أبناء أكثر من مئتي بلد.
ينتشر خبز الرِّقاق في الإمارات ويُباع في مخبز وليد محمد بخيت في الجميرا منذ السبعينيات. الرِّقاق خبزٌ من عجين سائل ودبق يُمدّ رقيقاً على مقلاة شديدة الحرارة حتى يتقرمش، ثم يُحشى ويُطْوى مثلثاً.
وُلدت شطيرة رقاق بطاطس عُمان في المخبز الإيراني، وتحوي بيضاً وجبناً مطبوخاً وصلصة حارة و"المهياوة" وهي صلصة سمك مخمّر إيرانية.
تحوي أنواع أخرى من شطائر بطاطس عُمان الزعتر أو النوتيلا، ويرافقها في كل من بقالة اللبيب ومخبز وليد محمد بخيت مشروب "لبن أب"، وهو زبادي مخفف شعبيته راسخة.
عصيرٌ غامضٌ ظهر مؤخراً اسمه جَسْت فرِش ولّدَ شقاقاً بين بعض مستخدمي موقع "ريديت" حول صبِّ مشروبِ لبنِ أب فوق رقائق بطاطس عمان المطحونة خالقاً طعماً لاذعاً. قال أحد المعلقين إن مبتكر هذه الخلطة "ملعونٌ"، مع أن هناك مقاطع مصورة لأشخاص يسكبون اللبن في كيس بطاطس عُمان قبل أكله تملأ موقعي يوتيوب وتيك توك. وتحوّلت عملية خلط البطاطس مع اللبن إلى موضوع رائج في مقاطع مصورة قصيرة تُرفع فيها حساسية اللاقط بهدف إثارة المشاهدين، ويشارك فيها صانعو المحتوى الصوتَ المثير للكيس اللمّاع عند تحريكه قبل فتحه وصولاً إلى أكل رقاقة البطاطس الأولى.
تُعرض أكياس بطاطس عُمان أيضاً على المتجر الإلكتروني إيباي بسعر يصل إلى مئة وتسعة دولارات لأربعة وعشرين كيساً، مع أن سعر الكيس الواحد في دبي هو فقط ستون فلساً أو ستة عشر سنتاً أمريكياً.
يجرّب الوافدون الجدد إلى عالم الطعام في دبي بطاطس عُمان إثارةً للضجة على مواقع التواصل الاجتماعي وجذباً لعشاق المنتج العُماني الشهير، لكن المطاعم الصغيرة العريقة تبقى أهم من يقدم وجبات تعكس النسيج الاجتماعي الذي تطور مع السنين.
تزدهر المطاعم الصغيرة في دبي دون الحاجة إلى حيل التسويق، إذ تعتمد على أسعارها المعقولة وانتشارها الكثيف في شوارع المدينة، وتضمن للسكان جميعهم أكل وجبة سريعة لذيذة ومشبِعة أياً كان مستوى دخلهم.
ترتفع تكاليف المعيشة على سائقي سيارات الأجرة وعمال توصيل الطعام الذين يشكلون نسبة كبيرة من المهاجرين إلى دبي، لكنّ الطعامَ الرخيصَ المقدّمَ من هذه المطاعم الصغيرة فرصةٌ نادرةٌ لهم لمساواة الأثرياء وأصحاب الامتيازات في تذوق الطعام نفسه.
يصطف عملاء كافيتريا الإجازة، التي أسسها بائعُ فواكه من كيرلا، على طريق شاطئ الجميرا في صف سيارات طويل حتى الثالثة فجراً، ويختارون من لائحة الشطائر والعصائر وفيرة الأصناف حتى فاقت المئة، وبعضها يحمل أسماء غريبة مثل اللقاح وڤيرساتشي وغيرها.
يرحب الموظفون في المطعم بكل عميل باسمه ويجهزون الشطيرة على طلبه، ما يَنُمّ على مجتمع تشدّ قوامه هذه المطاعم الصغيرة.
كان لظهور كافيتريا الإجازة في دار الحي أول فيلم إماراتي أُنتج بميزانية كبيرة عام 2009 أثرٌ كبيرٌ في رواجه، ونَشْرُ ولي عهد دبي حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم بعد سبع سنوات صورةَ المطعم هذا على تطبيق سناب تشات أدى إلى زيادة روّاده.
في ليلة مزدحمة وسط ضجيج طقطقة الأطباق في المطبخ والمحادثات العجولة بين العاملين باللغة الماليالامية (اللغة المحكية في جنوب الهند) للتوفيق بين الطلبات، يعبّر ابن شقيق مالك المطعم الراحل سوبي أك عن امتنانه لإخلاص الفريق ونجاح عمله، ويؤكد أن جودة المكونات المستخدمة هي أساس نجاحهم، إذ يقول: "صحيح أننا نقدم أطعمة يمكن لأي شخص تحمّل ثمنها، لكنّ جودة المكونات مسألة لا نساوم فيها قط. أشتري المكونات بنفسي وأختار أجودها. هذا ما يجعل طعامنا لذيذاً".
يقول سوبي إن وصفة نجاح المطاعم الصغيرة في دبي سهلة، تعاملٌ ودودٌ يخلق أُلفةً، ويضيف: "عندما يأتي المشترون أعاملهم كضيوف في بيتي".
مفهوم الوطن لدى ذوي الثقافة الثالثة يبقى ضبابياً غائماً، فهؤلاء المولودون لآباء إيرانيين أو هنود أو باكستانيين أو مصريين أو سوريين لن يصبحوا يوماً مواطنين إماراتيين، فالجنسية لا تُمنح هنا بالولادة، لكنّ شيئاً مثل بطاطس عُمان والمطاعم الصغيرة المشهورة بالشطائر تحمل معنى قريباً من الوطن لهم، وتُحَنِّنُهم إلى الماضي.
وضع سكان الإمارات شعار شركة بطاطس عُمان على الإكسسوارات وحقائب اليد وحاويات الهواتف، إذ صنعت مصممة الأزياء الإماراتية فاطمة الملا فساتين عليها رسومٌ لمختلف العلامات التجارية الشهيرة كان أبرزها بطاطس عُمان.
تقول فاطمة: "كان بطاطس عُمان دوماً جزءاً مهماً من طفولتنا فأردت دمج هذا الجانب من الثقافة الشعبية وإظهار أهمية العلامة التجارية لي ولكثيرين من أبناء جيلي".
هدف المجموعة التي صممتها الملا إضافة إلى الاحتفاء برموز الطهي في المنطقة هو جعل صاحباتها أقرب إلى الوطن. نفد "فستان بطاطس عُمان" من السوق منذ سنوات، إلا أن الملا ما تزال تنتظر بصبر نافد تعاوناً رسميّاً من الشركة.