يوم استيقظ سكان وادي النيل ولم يجدوا سمكاً

ذهبت زهراء مع زوجها في رحلة صيد في قريته، لكنّهما لم يصطادا أي سمكة، ما دفعَها للبحث في أسباب اختفاء السمك من نهر النيل.

Share
يوم استيقظ سكان وادي النيل ولم يجدوا سمكاً
صيادون مصريون يصطادون في أحد فروع النيل بمدينة العيّاط (تصوير مروان نعماني، وكالة فرانس برسّ / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

قضى زوجي مصطفى اثنَي عشر عاماً في حقول عائلته على ضفاف فرع رشيد بمحافظة المنوفية. واعتاد الذهابَ كلَّ صباح مع أشقائِه وأولادِ عمّه لرعي ماشية العائلة. في النهار، كان الصِّبية يُفْنُون وقتَهم في صيد سمك البلطي بأيديهم أو بصِنارة بوصٍ عندما يرتفع منسوب مياه النيل، ثُمَّ يَشْوون السمك على لهب الحطب قبل عودتهم ببقيّته لأمهاتهم ليلاً.

ترك مصطفى قريَتَه لدراسة الهندسة، مثلما ترَكها أبناءُ جيلٍ أنِفَ الحَرْثَ والغَرس، وانتقل إلى القاهرة للعمل، وتَزوّجْنا. برع في هندسة نظم المعلومات، لكنَّه ما انفكَّ مهووساً ببرامج ناشيونال جيوغرافيك، فلعلّها ذكّرَته الحياةَ الريفية حيث نشأ. وكان لا يرى شاطئاً خارج مصر إلا راقبَ صياديهِ لمعرفة أنواع سَمكِه.

تمنَّيتُ يوماً أن أشاهده يصيد السمك ويُرْوي حنينَه إلى أيام صباه، فاقترحتُ عليه زيارةَ حقل عائلته ليصيد السمك ويشويه في بيت أهله، فتحمّس للفكرة. انتظرنا ارتفاع منسوب النيل في فصل الربيع، فكانت فرصة لقضاء نهارٍ معتدل الطقس.

وصلْنا بيتَ أهل مصطفى في مركز أشمون بالمنوفيّة. وعدناهم بأكلة سمك طازج. وطَفِقَتْ والدةُ مصطفى تَذْكرُ أصنافَ ما أكلَتْه مِن صيد ابنها في صباه. جَمع شقيقا مصطفى دوداً ليُستعمَل طُعماً لاصطياد السمك، وحَملنا زجاجات مياه، وانطلقنا فِرقتَين على درّاجتين ناريّتين. مَررنا بين حقول الجوافة إلى أن وصلْنا مُبتغانا، فرأيتُ النيل يشقّ طريقَه بين حقولٍ كلما بعدت عن ضفّة النهر ارتفعت أرضها.

شبكَ الإخوةُ الثلاثةُ الدودَ بالخطّاف وألقَوا صناراتهم في النيل. قضيتُ ساعاتٍ ألتقطُ لهم صوراً وهم يجوبون الشطَّ تارةً ويتناوبون على النزول للمياه بحثاً عن السمك أُخرى. لَم يَكَدْ مصطفى يَلتقط سمكةً صغيرة حتى أعادها إلى الماء.

مرّت ساعاتٌ توقَّف فيها الثلاثةُ عن المحاولة حتى عُدنا إلى البيت مُحبَطين. لم يَسلم مصطفى من تندُّر شقيقَيْه على ذكرياته التي أمَّلَتْهُما ومهارتِه الضامرة منذ هَجَر الريفَ. ثم شَغَلنا إعدادُ غداءٍ آخَر عوضاً عن السمك.

نشأتُ أنا أيضاً على ضفاف نهر النيل، حيث كنتُ أشاهد النساء وهُنّ يغسلن أوانيهن في مياهه الصافية، قبل أن تُشيّد الأرصفةُ على ضفّتَيه وتنتشرَ المقاهي على طول الحدائق العامة التي كنتُ أزورها مع والدي في الطفولة. ومع أني لا أشارك زوجي شغفَه بصيد السمك ولم أذهب للصيد سوى مرة واحدة، إلا أنني أعلم شيئين مهمّيْن عن تلك المخلوقات المائية: أنها رخيصة الثمن مقارنةً باللحم والدجاج، وأنها مفيدة لصحة الأعصاب.

لَم نأتِ على ذِكر ذلك النهار إلا تمسَّك مصطفى بحقّ الدفاع عن مهارته، وتمسكتُ بحقيقة أننا نَرى سمكاً في الأسواق. ربما لم نَعُد نرى صيادين مصطفِّين بطول القناطر الخيرية، لكنَّ السمك موجود. ربما هَجر السمكُ الشواطئَ إلى وسط المَجرَى لكنه موجود في مكانٍ ما. هذا كان ظنّي، لكنه لم يدُم طويلاً.

كان من أثر ذلك اليوم في نفسي أنْ قرّرتُ فَهْمَ أسباب اختفاء بعض أنواع الأسماك من نهر النيل. وأردتُ التحقُّقَ من ثلاثة احتمالات قد تكون السبب في اختفاء السمك. أوّلُها احتمالية وجود أثر بيئي سلبي للاستزراع السمكي على حياة السمكة النهرية إن أقيمت المزرعة بجوار النهر. وثانيها نقْص نموّ النباتات المغذية للأسماك بعد رصف التُّرَع والقنوات بالأسمنت. وثالثُها بدء ملء سدّ النهضة الإثيوبي. هذه الأسباب وغيرها، مثل تلوث المياه بالمعادن الثقيلة والكائنات البحريّة الوافدة، مثل كركند المياه العذبة، قد أدّت إلى نقص أعداد الأسماك في نهر النيل نقصاً مقلِقاً. والأمر يتعدى ذلك، فهناك تساؤلات ملحّة حول جودة السمك وصلاحيته للأكل. علّمَتني رحلتي في البحث عن سَمَك النيل شيئاً مهماً وهو ألّا آكلَ من سمك بلادنا إلا البحريَّ، لأنه الأقل تلوثاً. لكن هذا النوع لا يطيق ثمنَه كلُّ أحد.

تشير البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بين عامي 2013 و2021 (أحدث البيانات المتوفرة على موقع الجهاز الرسمي) إلى ضآلة كمية الأسماك المنتجة من نهر النيل، فخلال الأعوام المرصودة، تكاد نسبة إسهام النيل في إجمالي الإنتاج السمكي تكون ثابتة إذ تتراوح بين 3.7 بالمئة و4.7 بالمئة، في وقت ترتفع فيه نسبة إسهام المزارع السمكية، مسهمة مع باقي المصائد في ارتفاع مستمر سنويًا في إجمالي كمية الأسماك المنتجة في مصر، وإن لم تفِ بتغطية الاحتياج المحلي. 

يتغير الرقم المعبر عن كمية الإنتاج السمكي من نهر النيل زيادة ونقصانًا خلال السنوات المرصودة، وإن كان يتجه عموماً إلى التراجع. ففي العام 2003، وصلت كمية الأسماك المُصطادة من المياه العذبة (النيل والترع والقنوات المتفرعة عنه) 118 ألفاً و300 طن من الأسماك، فيما وصلت في 2021 إلى 74 ألفاً و506 طن من الأسماك. وتضاءلت نسبة مساهمة نهر النيل في الإنتاج المصري تدريجياً في العقدين الماضيَين، من 14 بالمئة سنة 2003 إلى 3.4 بالمئة في عام 2020، ونَقصَت معها أنواع الأسماك النيلية المنتَجة واختفى بعضها.

رافَقَ تقلّصَ الإنتاج السمكي للنيل نقصٌ ملحوظٌ في عدد الصيّادين المرخَّصين ومراكب الصيد المرخَّصة، فاستمر الانخفاض السريع في أعدادهم سنوياً منذ 2009 حتى الآن، لتبْلُغ نسبةُ التراجع 41 بالمئة للمراكب و33 بالمئة للصيّادين.

اتَّسَقَت النتائج السابقة مع تحذيرٍ وَرَدَ في تقرير منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة سنة 2014 عنوانه "تقييم الأمن الغذائي وسبل العيش لأسر الصيادين والرعاة الزراعيين في صعيد مصر"، ودراسةٍ اقتصادية نشرَتها مجلة الاقتصاد الزراعي في عدد شهر مارس 2021، ودراسةٍ أُخرى عن مركز بحوث الاقتصاد الزراعي في وزارة الزراعة عن أسماك المياه العذبة شارَك فيها الدكتور سرحان سليمان أستاذ الاقتصاد الزراعي. 

تحدّثتُ مع سرحان عن ظروف دراسته لبحيرة البرلس منذ سنة 1995 حتى 2013 ونتائجها، فوضْعُ البحيرة مشابهٌ لوضْع النيل، وتُعَدُّ نموذجاً مصغَّراً له لأنها تجاورُ نهرَ النيل وتستمد مياهَها العذبةَ منه وتعيش فيها أنواع سمك النيل نفسُها.

أرجع سرحان سبب تراجع إنتاج المصائد الطبيعية العذبة إلى كثرة المال الذي تدرّه المزارع السمكية مقابل قِلّة السمك في المصائد الطبيعية، بعد تراجع عدد مرات رمي "الزرّيعة" وقلّة النباتات التي تتغذى عليها الأسماك. والزرّيعة اسمٌ يُطلقه الصيادون والمزارعون على صغار الأسماك. إذ يُعيدها الصيادون إلى الماء سريعاً حين تعلق في شباكهم، لمنحها فرصةً للنمو. أما المزارعون فيربّون الزرّيعات حتى تكبر وتصبح صالحة للبيع والأكل.

توقَّف سرحان عن حديثه فجأة، ثم قال "خلُصنا من الدراسة إلى نتيجة غريبة جداً". بعدما أخذ نفَساً من سيجارته قال إنَّ فريق الدراسة بحثَ عن سمك البساريا والبوري وسمك موسى والكابوريا والثعابين هباءً. غير أنه رصَدَ زيادةً في أعداد سمك البلطي والقراميط، لأن النوعَين يتحمَّلان تلوث المياه.

رَصد سرحانُ في دراسته انخفاضَ عدد الصيادين المرخَّص لهم من خمسةٍ وعشرين ألف صياد إلى سبعة آلاف، فانخفض عدد رُخَص مراكب الصيد ما انعكس على إجمالي الكميات المُصطادة. أجرى فريقُ سرحان استبياناً لمعرفة مَآلِ الصيادين المختفين، فوجدوا أنَّ منهم من هاجر أو غير مهنته "سافر الصيادون إلى إريتريا، وموريتانيا، والمغرب، ومنطقة بين الكويت والعراق، ومع أن سواحل مصر تربو على ثلاثة آلاف كيلٍ، إلا أن عائدَ الصيد في النهر والبحر لَم يعُدْ كافياً".

سألتُه عن صيّادِي نهر النيل خاصةً، فأخبَرني أنَّ مهنة الصيد لم تَعُدْ كما كانت في مصر، وأنّ "الصياد المحترف لا يصيد في نهر النيل إن رامَ أكل العيش، لأنَّ السمك لا يعيش في مياهٍ راكدة". فالمياه الصالحة لعيش السمك هي المياه الجارية؛ أي التي تَغسل المَجرَى وقنواته. فتَقَلُّب الأمواج يَرفع نسبةَ الأكسجين في المياه، لكن غالبية تُرَعِ مصر وقنواتها جافةٌ أو راكدةُ المياه.

تتوسط بحيرةُ البرلس دلتا النيل في شكلٍ بَيضي. وتُعدّ ملاذاً للطيور المائية النادرة في العالم، مهاجرةً ومقيمةً. وهي مصدَرٌ غنِيٌّ للإنتاج السمكي. وقد صَنّفَتها مصرُ محميّةً طبيعية وطنية سنة 1998.

كانت البحيرةُ عُرضةً لتعدّياتٍ شتّى مثل الردم، وإلقاء المخلّفات جزافاً، والصيد الجائر المكثَّف، فخسرَت ثلثَ مساحتها كما ذكرت صحيفة الأهرام الرسمية. لكن أعمال تطهير بحيرة البرلس وتعميقها بدأَت قبل تسع سنوات لاستعادة التوازن البيئي الملائمِ نموَّ الأسماك، مع خطّة حكومية لإلقاء ملايين الزرّيعات في البحيرة.

لَم أَعِ كيفية استزراع السمكِ في أحواض لتطوير الإنتاج السمكي، إلى أن قرأْتُ تقرير منظمة الأغذية والزراعة العالمية عن البرنامج الإعلامي للأحياء المائية المستزرعة. أَرجَعَ التقريرُ عمليةَ استزراع سمك البلطي إلى الحضارة المصرية القديمة، بعد اكتشاف نقوش بارزة على جدران مقبرة تعود إلى أربعة آلاف سنة، صَوّرت الأسماكَ في أحواضٍ كبيرة.

سألْتُ الدكتور أبو بكر عبد السلام، أستاذ الآثار المصرية في كلية الآثار بجامعة قنا، هل قامت حضارة وادي النيل على الصيد مع الزراعة؟ فقال إن الصيد النهري لم يكن مهنةً فقط، فقد أطلق البطالمة على مدينة إسنا في محافظة الأقصر اسمَ "لاتوبوليس" نسبةً إلى اسم سمك قشر البياض "لاتو" وقتئذٍ. وانتشرَت مناظر الصيد في نقوش جدران المعابد والمقابر.

استَزرع المصريون القدماءُ الأسماكَ إما بنقل صغارها إلى حفرةٍ عميقة وإطعامها، وإما بنظام "الأحواش" فيحفر المُزارع طريقاً لمرور المياه من النهر إلى أرضه الزراعية ليدخل السمك ويُطعمه إلى أن يكبر. اتّبعَت الصينُ الطريقةَ نفسها بحفر أحواض في الأرض مُشكِّلةً بحيراتٍ اصطناعية، لكنها بعيدة عن أي مسطّح مائي. ذاع صيت استزراع البلطي بداية من خمسينيات القرن العشرين، لأنه يتحمل الازدحام وينمو سريعاً ويتغذى على نباتاتٍ رخيصة. وفعلاً، دخل البلطيُّ كلّاً من الصين وتايلاند والفلبين وأمريكا في القرن الماضي. لكنَّ تكاثُره المفرط داخل أحواضٍ مُوصَدةٍ وتَنافُسَه على غذاءٍ محدود أدى إلى تقزُّمه ومخالفته متطلبات السوق وانخفاض الطلب عليه. خمدت الشرارة الأولى لثورة استزراع البلطي، ثم عادت في السبعينيات مع علاجاتٍ هرمونيةٍ تحوّل الإناث إلى ذكور لئلّا يتكاثر في الأحواض، ولسرعة نمو ذكر البلطي. أما الاستزراع بهيئته الحالية؛ أحواضٌ بلاستيكية ومضخّاتٌ لتجديد المياه؛ فبدأ في التسعينيات، ثم قفز قفزةً هائلة بين عامي 2005 و2017، محققاً ضِعفَي الناتج. 

في بحثي عن مَصدر السمك الذي آكله، اتصلتُ بمورِّد أسماك من محافظة الفيوم، جنوب غرب دلتا نهر النيل، وأطلَعني على شيوع الاستزراع السمكي في مياه الصرف الصحي والصناعي لندرة المياه العذبة. سألْتُه عن مُعلِنِين يروِّجون لأعلاف أسماك مصنَّعة محلياً من مخلفات الحيوانات والدجاج لإطعامها أسماكَ المَزارع، فعلَّل ذلك بارتفاع أسعار الأعلاف المستورَدة وصعوبة الحصول عليها.

يحكمُ الضميرُ وحدَه اختيارَ المُزارع نوعَ العلف الذي يُطعمه الأسماكَ. ولا يضرّ المُزارعَ اختيارُه أيّاً كان. لكن المُوَرِّد الفيومي أوضحَ أن المستهلِك يلاحظ تغيّر طَعم السمك، وأنّ السمك النيلي لم يَعُدْ موجوداً في السوق. وأشار إلى أنه ينتظر عاماً تلْوَ آخَر مرورَ زرّيعةٍ في ترعةٍ مجاورة أرضَه الزراعية، لأن الترعة تصبّ في بئرٍ عميق ويَصعُبُ على صغار السمك الخروجُ منه، ثم ينتظر المورِّدُ شهوراً لتكبر الزرّيعةُ لا ليبيعَها وإنما ليأكل وعائلتُه ألذَّ سمك.

اتصلتُ بصاحب مزرعة من ترعة المحمودية، المتفرّعة من نهر النيل، مروراً بمحافظة البحِيرة، حتى تصبّ في البحر المتوسط. سألْتُه عن مكان مزرعته، فبعَث إليّ صورَ أقفاصٍ سمكية عائمة في مجرى الترعة. يربّي صاحب المزرعة أسماكه في مياه الترعة، فتأكل من مغذّيات المياه الطبيعية لا الأعلاف، وتصرِّفُ الأقفاصُ مياهَها طبيعياً في المجرى. سألْتُه إن كان يُنَقِّي صرْفَ أقفاصه، فأجابني أن مياه الترعة غير صالحة للشرب، لاختلاط المياه العذبة بالمالحة في تلك المنطقة.

لَم أعرف القوانين التي تُنظِّم عمل المَزارع السمكية في مصر إلى أن قرأتُ قانوناً صدر سنة 1983 يَحظر إنشاء المزارع السمكية إلا في أرضٍ غير صالحة للزراعة. ويَحظر استخدامَ المياه العذبة لتغذيتها، وإنما تُستخدم مياه البحيرات أو المصارف المجاورة المزرعةَ. هناك قانون آخر صدر سنة 2021، تُجيز فيه وزارةُ الريّ استخدامَ مياه الصرف الزراعي والمياه الجوفية شبه المالحة لتغذية المزارع السمكية. يفسِّرُ ذلك سيطرةَ سمكة البلطي على إنتاج المَزارع بنسبة 61 بالمئة، وندرةَ استزراع أنواع أسماك أخرى أكثر حساسيةً للتلوث.

يهدف القانونان إلى حماية موارد المياه العذبة، خاصةً نهر النيل. ولفهم تداعيات ذلك على صحّتنا، لجأتُ إلى الدكتورة رشا الشرقاوي، الباحثة في عِلم الأمراض السريرية في معهد صحة الحيوان بمركز البحوث الزراعية، وسألْتُها عن تمييز السمك الصالح للأكل قبل شرائه.

ذكرَت رشا أن الأسماك تصيبها أمراضٌ عدّةٍ بلا أعراض واضحة، وأكْلُ هذه الأسماك يُمْرِضُ الإنسان. قسّمت رشا أمراضَ الأسماك المُعْدية إلى بكتيرية، وفيروسية، وطفيلية، ودودية. تنتقل تلك الأمراض إلى الإنسان بلمس السمك – حيّاً كان أو ميتاً – أو أكْله، وقد تُسبِّب اضطراباً هضمياً وأمراضاً بالقلب والمخ.

خصّت الدكتورةُ الأسماكَ المستزرَعة لاحتوائها على نسبٍ أعلى من الملوثات العضوية والمضادات الحيوية التي يستخدمها مورِّدو الأسماك لوقف أعراض الالتهابات البكتيرية. أما الأسماك الحُرّة، أي التي تعيش في بيئة طبيعية، فتتراكم داخل أنسجتها عناصرُ ثقيلة. إن كان علينا الاختيار بين الاثنين، فَعلينا بالسمك المستزرَع من مزرعةٍ تعالِج المياهَ وتُنظِّف الأحواضَ دورياً، مع توخّي توصيات هيئة الخدمات الصحية البريطانية ألّا تؤكَل الأسماك المشكوك في سلامتها أكثر من مرّتين في الأسبوع وأّلا تتعدى الحصة الواحدة مئةً وأربعين غراماً.

وقال الدكتور حسن فليفل، الباحثُ في قسم البحوث البيئية بمعهد تيودور بلهارس الحكومي، إنه أجرى دراسةً رصَد فيها وجودَ ناقلات البلهارسيا بجوار المَزارع السمكية في محافظة كفر الشيخ، مكتشِفاً إصابةَ بعض مزارعي السمك بالبلهارسيا بعد تحليل عيّنات جَمَعها من التُّرَع بين عامي 2010 و2014.

ولفَهْم العلاقة بين المَزارع السمكية وانتشار البلهارسيا، أوضَحَ حسن أنَّ المَزارع السمكية تَستخدم مياهَ التُّرَع والمصارف التي يحتكّ بها عمالُ المزارعِ المرصودُ إصابتهم بالبلهارسيا. لكنَّه نفى عن المَزارع السمكية تهمة إعادة كابوس البلهارسيا بعدما قضت عليه مصر، وإن كانت آليةُ عمل المَزارع سبباً في نشره.

نتائج دراسات حسن فليفل حول بيئة الأسماك رغّبتي في مقاطعته، فلم أَدَع الفرصةَ تمرّ وسألْتُه عن تأثير هذه النتائج على شهّيته، فأجاب أنه لا يأكل إلا أسماكاً بَحرية ولا يَقرَب سمكَ البلطي لأنه يعيش في مياهٍ ملوثةٍ قد تسبّب السرطان بعد أربعين أو خمسٍ وأربعين سنة من مداومة أكله.

أوضح حسن أنه لا يَقْرَب سمكَ المَزارع لأن المُربّين يُطعِمون السمكَ بقايا حيواناتٍ نافقةٍ ورَوْثَ الدجاج، لارتفاع أسعار الأعلاف، فتتراكم الملوِّثات في جسم السمكة ومنها إلى جسم الإنسان. فكلّما طالت السلسلة الغذائية ارتفعَت نِسب المركَّبات الضارة.

لَم يَنفِ حسن ولَم يؤكد لي نقصَ الأسماك في نهر النيل، لكنه أشار إلى احتمال اختفاء الأسماك من المياه إن كانت ملوَّثة. لذلك تُعَدُّ وفرةُ الأسماك أو اختفاؤها مؤشراً لنسبة تلوث المسطّح المائي، وقد تُسهِم التغيراتُ المناخية في اختفائها.

وقد أجرى باحثو المعهد الوطني لعلوم المحيطات ومصائد الأسماك دراسةً عنوانُها "تقييم المخاطر والآثار الخطرة للتلوث المعدني في سمكتَي البلطي النيلي وبلطي الجليل من أربعِ جُزرٍ بنهر النيل". وتُوضحُ الدراسةُ أن ما قاله الدكتور حسن فليفل عن تَسبُب الأسماك النيلية في إصابة البَشر بالسرطان والفشل الكلوي ليس كلاماً عابراً. 

فقد رصد الباحثون حالةَ السمك قُرب شواطئ أربع جُزر نيلية في القاهرة الكبرى، قبل الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي وبَعده، لمعرفة أثر شُحّ المياه في جودة الأسماك. واكتشفوا ارتفاع نِسب الملوِّثات، واحتواء أنسجة السمك العضلية على الحديد والزنك والنحاس والمنغنيز والرصاص، وهي مسبِّباتٌ للوفاة، والعقم، وتضرر الأعصاب، وخلل وظائف الكبد والكلى. لذا فإن دراستهم إنذارٌ لمستهلكي الأسماك النيلية من احتمالية إصابتهم بأمراضٍ سرطانية وغير سرطانية، إن أكلوا أكثر من وجبتَي سمك نيلي في الأسبوع، بوزنٍ يفوق مئةً وثلاثة عشر غْراماً للوجبة. وخصّوا سمكَ البلطي الجليلي الأبيض والبيّاض بتحذيرهم، وكذلك السمكَ المصطاد حول جزيرتَي الوراق والمنيل.

لجأتُ إلى حماتي هذه المرّة لأستفسر عن بائعي السمك في أسواق أشمون، فأرسلَت إليّ رقمَ "رابح"، البائع الذي تشتري منه. اغتاظ رابح حين اتصلتُ به سائلةً عن مُورِّدِي السمك الذين يتعامل معهم ومصدر أسماكهم، فأجاب: "أنا صيّاد، مش بيّاع سمك مَزارع". كرَّرها وكأنما ينفي عن نفسه تهمة. ثم طلب منّي لقاءَه، وشُرْبَ كوب شاي معه. فاتفقنا على مقابلةٍ قُبيل شهر رمضان.

إذا انطلقتَ من القاهرة نحو دلتا النيل شمالاً، ستلاحظ انقسام النيل من مدينة القناطر الخيرية إلى فرعَي دمياط شرقاً ورشيد غرباً. يمتد كلا الفرعين إلى البحر الأبيض المتوسط، حاصرَين منطقة الدلتا بينهما.

تلوحُ أسوأُ مياه على طول النيل في فرع رشيد، إذ تصبّ فيه أربعةُ مصارف زراعية، هي الرهاوي وسبل وتلا ومصرف التحرير الجنوبي؛ كلّها محمّلة بتركيزاتٍ عالية من الأحمال العضوية والأملاح الناتجة من الصرف الصحي المعالَج والعشوائي لقرىً محيطة بفرع رشيد. يَرفع الصرفُ نسبةَ الأمونيا والأكسجين المستهلَك كيميائياً نتيجة التلوث، ويَخْفِض الأكسجينَ المذابَ بالمياه، وكلاهما عاملان لنفوق السمك في شهرَي ديسمبر ويناير. ففي هذين الشهرَين يتراجع منسوب مياه نهر النيل نتيجةَ السدّة الشتوية، وهي إجراء سنوي تنفّذه وزارة الري منذ بناء السد العالي للحدّ من مرور المياه في النيل وفروعه، لإتمام أعمال صيانة شبكات الري والصرف وتطويرها. هذا ما جاء في تقرير "حالة البيئة عام 2021" الصادر في ديسمبر 2023 عن وزارة البيئة المصرية.

لكنّ الدكتور أحمد دياب، مدير المكتب الفني لوزير الزراعة المصري، نفى التلازمَ الشَرطي بين نفوق الأسماك والسدّة الشتوية الواردَ في تقرير وزارة البيئة واصفاً تراجع إنتاج السمك النيلي بأنه يسير، ويحدث للتغيرات المناخية حين تزداد معدلات تبخّر مياه النيل مع ارتفاع درجة الحرارة فتتغير نوعية المياه. ومع ذلك، ما يزال النيل ينتج سمك القرموط والبلطي واستاكوزا المياه العذبة. 

أنكرت هبة معتوق، مديرة المركز الإعلامي بوزارة البيئة، معرفتَها بما جاء في التقرير. وأشارت في اتصالنا بها إلى قِدم تاريخ صدوره، وأنها لا تعلم إن كانت الوزارة أصدرت تقريراً محدثاً.

اتصلتُ بالدكتور عبد العزيز نور، أستاذ الإنتاج الحيواني والسمكي في كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، لفهم أثر المركّبات الواردة في تقرير حالة البيئة عام 2021 على صحة السمك، ومعرفة إن كانت هي السبب في هروب الأسماك من الشاطئ إلى الأعماق. أكَّد لي عبدالعزيز أن تلوث النيل لا يدَع فرصة لنمو الأسماك وتكاثرِها، لأنه يشوّه حمضها النووي. وحين استفهمْتُ منه عن نتائج ذلك، طلب مني زيارة محطة صرف الرهاوي في مياه النيل لأرى "القرموط مقلوباً على ظهره". تعجبتُ من وصْفِه، لمعرفتي أن القرموط قادرٌ على العيش في مياهٍ شديدة التلوُّث. وسألتُه عن رصْد تلك الظاهرة عند مصبّ أي مصرف آخر، فأوضحَ أن المصارف الصحية والصناعية برمّتها تصبّ في النيل. هكذا صمّمها الإنجليز زمن احتلالهم مصر. ولا حلّ لتلك الملوِّثات إلا بالمعالجة البيولوجية، التي تتولى الأسماكُ مسؤوليتَها طبيعياً. لكن عندما اضمحلَّ عدد الأسماك، أمست عاجزةً عن تنقية المياه.

يقول يوسف العبد، استشاري وخبير الاستزراع السمكي ورئيس لجنة الأدوية البيطرية باتحاد الغرف التجارية، إن خمسة وعشرين نوعاً من الأسماك عاشت في مياه النيل قبل الستينيات وإتمام مشروع السد العالي وإنشاء سدود على النيل في دول المنبع، حالت جميعُها دون وصول مغذيات طبيعية إلى السمك.

عانى السمك في نهاية القرن الماضي من تطورِ المرافق الصناعية التي تُصرِّف مياهها في النيل، واستعمالِ المبيدات الحشرية في الزراعة، فتراجعت خصوبته ولم يعُد البيض يفقس. ثم وفدَت إلى مصر سمكةُ الأرنب السامة واستاكوزا المياه العذبة (المعروفة أيضاً بالكركند أو جراد البحر)، فأخلَّتا بالنظام البيولوجي للنيل، ولم يعُدْ سمكُ النيل بمأمنٍ منهما.

وتفاقم الضرر على السمك بعد خطة حماية المسطحات العذبة وتطهيرها. فصدرت تشريعاتٌ تعاقِب مَن يُصرّف ملوّثات مزرعته أو مصنعه في البحيرات، وطهَّرت الجرّافاتُ المسطحاتِ المائية وعَمّقَتْها، فأزالت في طريقها حشائشَ وَضَعَ السمكُ بيضَه أسفلها. وحين انجرفَ معها، توقف السمك عن التخصيب لشعوره بالتهديد.

اشتدت معاناة الأسماك الحرّة بعد خطة رصف جوانب التُّرَع والقنوات. فالأسماك تحتاج في تلك الجوانب إلى منحنَيات وملاجئ طبيعية لتشعر بالأمان عند وضع البيض. بَيْدَ أنها باتت تواجه تيارات مائية شديدة بعد رصف الجوانب، وكلما انفتحت السدود بين القنوات جرفتها بعيداً.

طلبتُ من أحمد عبد الوهاب برانية، أستاذ اقتصاد الموارد السمكية وتنميتها بمركز التخطيط والتنمية الزراعية، شرْحَ معطيات دراسته "تداعياتُ سد النهضة المحتمَلة على إنتاج الأسماك في مصر، ووسائلُ التخفيف من آثارها" والدلائلَ التي اعتمَد عليها لتَوقّع زيادة ملوحة مياه النيل، واختفاء اثني عشر نوعاً من أسماك نهر النيل والبحيرات والمزارع السمكية، لكنه اعتذر عن الإجابة.

اتصلتُ بمجدي مرعي، سكرتير عام الاتحاد التعاوني للثروة المائية، للتحقق من دعوى الاتحاد وجودَ أزمة فأشار إلى أن الملء الثاني لسد النهضة سبّب قِلّة السمك؛ فقد نقَصَ منسوبُ مياه النيل، وهدأتْ حركته. وكذا سبّبها قِصَرُ الوقت بين عمليات تطهير مجرى نهر النيل، من مَرّةٍ سنوياً إلى مَرّةٍ شهرياً، جارفةً معها النباتات وبيض السمك.

انطلقتُ مع مصطفى من القاهرة الكبرى إلى مركز أشمون للقاء رابح بائع السَّمَك. سألني أعمامُ زوجي عن سبب رغبتي في لقائه. وحين حكيتُ لهُم، تَمْتَمَتْ نساءُ البيت من تلقاء أنفُسهنّ "السمك قَلّ فعلاً". 

قضينا الليل نزرع شجر الزنزلخت، ونشرب الشاي، والأطفال يلعبون حولنا. سأل مصطفى شقيقَيه عن قنفذةٍ رآها من قبلُ مع صغارها، فأخبَراه بموتها حين أَكلَتْ من زرعٍ رُشَّ حديثاً بمُبيدٍ حشري. لَم أعلم بوجود القنافذ في مصر قبل تلك الليلة، لكني لموت إحداها هكذا صِرتُ أفركُ الفاكهة مراتٍ قبل أكلها، بعدما كنت سنواتٍ اكتفي بشطفها.

في اليوم التالي لوصولنا، ذهبتُ مع زوجي وشقيقه للقاء رابح. وما إن لمَحَنا من مركبه حتَّى جدَّف عائداً إلى الشاطئ، وأخذَنا في رحلة لمشاهدة البطِّ المهاجِر. كان آخر عهد رابح بالسمك منذ ستة أشهر. فقد اختفى السمك إثر إلقاء مصنعِ ألومنيوم مخلفاتِه في النيل. أرسى الصيادون مراكبَهم على الشاطئ. ومنهم من رفع مركبَه عن المياه وانتقل إلى العمل بجمع القمامة في القاهرة، أو اقترض من البنك. أشار رابح لمركبٍ تعلوه أكوام نبات البرسيم، وسألني: "مِن امْتى بَقت المراكب للنقل مش للصيد؟".

قرأتُ لرابح قائمةَ الأسماك المختفية، فقال إنه لَم يَرَ سمكَ المبروك منذ سبع سنوات، وكلما صبّت المصارف مياهَها ماتت زرّيعات المبروك. أما سمك الأنومة والسردين فلا وجود لهما في محافظات الدلتا. وكلما اتّجهنا شمالاً لن نجد إلا القليل من البلطي والقرموط. 

سألتُه إن كان صيدُ البلطي كافياً لإعالته وأسرته؟ فردّ أن السمكة تزن ربع كيلٍ قبل عقد من الزمن، أما اليومَ فيحتاج خمس عشرة سمكة لجمع كيلٍ واحد. بالكاد يَجمع أمهرُ صيادٍ خمسةَ أكيالٍ في اليوم، في حين كانوا يجمعون نحو اثني عشر كيلاً قبل سنوات. استحضر مصطفى ورابح ذكرياتهما عن أنواع السمك وأحجامه حينما كان خير النيل وفيراً. واستذكَروا اصطفاف الأطفال على الشاطئ ينهلون مما جاد به النهر. أما اليوم، فأصبح الصيادون يَكرهون البطّ المهاجِر إن أَكل في طريقه سمكةً كانوا أولى باصطيادها.

رويتُ لرابح ما حدث يومَ ذهبْنا لنصطاد ولم نجد شيئاً. كنتُ أخالُ السمكَ هربَ من الشاطئ إلى منتصف مجرى النيل لسببٍ نجهله. قال لي: "لو كان فيه سمك وسط المجرى هتلاقي سمك عند الشط". 

اطّلعت على أخبار حظر الاتحاد الأوروبي استيراد الأسماك من مصر لمخالفتها مواصفات البلدان الأوروبية. يعود القرار إلى نحو عقدين، ومع أن التصدير لم يتوقف بعدها حتى العام 2021، إلا أن الاتحاد الأروبي أوقف شحنات عدة من الأسماك الواردة من مصر لمخالفتها للمواصفات القياسية في دول الاتحاد. وفي أغسطس 2017 حظرت الهيئة العامة للغذاء والدواء في السعودية استيراد أسماك البلطي والبوري من مصر في "إجراء احترازي" لارتفاع نسب الملوثات ومن بينها هرمون "التوستيستيرون" المستخدم في المزارع السمكية في مصر. 

بعدما أنهيتُ بحثي هذا، تردّدت في أذني أغنية "اتدلّع يا رشيدي" التي سمعتُها طفلةً في مسلسل "بوجي وطمطم". بحثتُ عن حلقات "بوجي وطمطم في رشيد"، وتذكرتُ أن المسلسل كان سبب سماعي لأول مرة وصايا "ماعت"، إله العدل عند قدماء المصريين، بصوتٍ جهوريٍ يردد "أنا لم ألوِّث ماء النهر".

بعد كل ما عرفتُه عن أضرار سمك البلطي، رغبتُ في أكل سمك بحري مشوي، ملتزمةً توصيةَ الدكتور سرحان. فبحثتُ عن أقرب سوقٍ للسمك، وعثرتُ على تجمُّع محالّ شعبية. قرأتُ تقييمات زوّار السوق على غوغل، وتحققتُ من مقاربة الأسعار لسعر الجملة.

وصلتُ إلى أوّل محلّ، وسألتُ صبيّاً بنبرةٍ حاذِقةٍ عن الأسماك البحرية، فأشار إلى قسمين: بلطي المَزارع بأحجام مختلفة يميناً، وأسماكٍ بَحريةٍ يساراً. سألتُه عن السمك النيلي، فأشار إلى أربع سمكاتِ بلطيٍ سوداء وصلَت صباحاً من أسوان، مُسوِّغاً ارتفاع سعرِها بأنْ لا وجود لها إلا هناك. طلبتُ منه أسماكاً بحرية مختلفة أعرفُ اسمها، فنصحني بأخرى لأن سعر ما اخترتُه لا يتناسبُ وقيمتَه الغذائية، فوافقتُ مشترطةً اختيار أنواع أسماك حرّة.

وقفتُ في انتظار تنظيف سمكاتي، ملاحِظةً تكدّس الزبائن أمام سمك المَزارع. بدا الأمرُ منطقياً لأن سعر كيلٍ من أرخص سمكة بحرية يعادل أربعة أضعاف سعر كيلِ بلطي المَزارع. أما ركن الأسماك البحرية فمرّ أمامه متسوقون دقّقوا في الأسعار، ومضوا في سبيلهم متعجبين مما رأوا. 

أَوقفتُ سيدةً متأنقةً ممّن مروا أمام السمك البحري، وسألتُها بسذاجةِ الابنةِ إن كان سعر السمك معقولاً، فتعجَّبَتْ وسألَتني: "إنتي شايفة إيه؟". أخبرتُها بأنني لم أعتَدْ شراء السمك النَّيْء. فحذَّرَتني من أن أسماك المطاعم مصدرها المَزارع، وإن اخترت أنواعاً بَحرية. 

رَفضَت السيدةُ عرضَ البائع تجربةَ سمك المَزارع، ومضت. سرتُ باحثةً عن محلٍّ آخَر ريثما تُنَظَّف أسماكي. ثم وقفتُ مقابل سلحفاة بحرية محنّطة أمام أشهر بائعي الأسماك بالمنطقة. استأذنتُ أحد صبية المحل لتصويرها، وأخبرتُه برؤيتي صورة سمكة قرش في تعليقات غوغل على المحل، فمرَّر لي طَبقاً لشرائح القرش يبيعها بمئتي جنيه للكِيل. طلبتُ منه أسماكاً بَحرية، وعرض عليّ تجربة أسماك محافظة السويس. وقفتُ بانتظار تنظيف ما طَلبْتُ، وسط تزاحم الزبائن أمام سمك بلطي المَزارع. سألتُ أمّاً شابّةً إن سمعتْ بأضرار سمك المَزارع، فأجابت بأنها رأت في طفولتها عربات الصرف الصحي تفرّغ ماءها في النيل. وقالت: "أنا لا أَقربُ سمكَ القرموط، وأعرف أن البلطي لا يأكل إلا نباتات. فلنفترض أن سمك المَزارع يأكل قمامة مثل سمك النيل، فما رأيكِ في اختلاف لون السمكتين؟". أشارت إلى سمكتَيْ بلطي أسواني لم يَقربهما أحد، ثم أردفَتْ: "لون بلطي المَزارع مشرَّب بالحُمرة، أما بلطي النيل فأسود". نصحتُها ألّا تأكل السمك أكثر من مرتين في الأسبوع، فردّت أن سعره لا يسمح بشرائه حتى مرّة واحدة في الأسبوع.

لم يعُدْ السمك الصالح للاستهلاك الآدمي أرخصَ مصادر البروتين في مصر. وتنحصر الخيارات بين البحري والبلطي الأسواني، باهظٌ ثمنُهما، لا تقدر عليه أسرةٌ ذات دخلٍ متدنٍّ. لَم تُسعِد مصطفى نتائجُ بحثي، ولم يُعقِّب عليها إلا حين عَرَضَ اتفاقاً بأننا لن نشتري سمكة البلطي ثانيةً. فأخبرتُه بأننا لَم نأكلْه منذ أربع سنوات، وأننا نأكل الأسماك البحرية في المناسبات، ولذلك صِرنا نأخذ مكمِّلات أوميغا 3. نَسِيَ مصطفى أنه لا يأكل السمكَ البتّةَ.

اشترك في نشرتنا البريدية