ولكن، ليس كل ما تدركه العين حقيقة، فقد عصفت رياح التطور التقني باعتقادات الماضي، لتظهر اليوم من بعدها نظريات تثبت قدرة الدماغ على التكيف والتجدد للتأقلم مع ظروفٍ جديدة، وهو ما بات يعرف علمياً بالمرونة العصبية. وقد مثّلت هذه الرؤية فتحاً طبياً لعدد من أصحاب الإصابات الدماغية، مثل إصابات الرأس الشديدة والسكتات الدماغية والأورام والخرف لترميم ما تضرَّرَ من قدراتهم الذهنية بإعادة برمجة أدمغتهم.
ومن بين هذه الاتجاهات المطروحة لتحفيز الدماغ لترميم نفسه اتجاهٌ رأى إمكان تحقيق ذلك بتعلُّم لغة جديدة. نستكشف هذه القضية بالاعتماد على دراسات حديثة في هذا المجال، مع التعريج على المنهج العلاجي المتنوعة ثماره بين تحسينية تطورت معها الحالة الإدراكية العامة وعلاجية ساعدت على ترميم ما تضرر في أدمغة المصابين، ووقائية حصنت الدماغ في مرحلة الشيخوخة، مشيرين إلى أن تعلم لغة جديدة يُسهم في تغير بنية الدماغ تغيراً يشمل زيادة في حجم المادة البيضاء المسؤولة عن نقل الإشارات العصبية، وزيادة في حجم المادة الرمادية المسؤولة عن معالجة الوظائف المعرفية، فضلاً عن زيادة في حجم الجسم الثفني، الذي يمثل القناة الواصلة بين فصي الدماغ الأيسر والأيمن، فينتج عن هذا التغيّر المادي تحسناً ملحوظاً في صحة الدماغ ووظائفه الإدراكية العامة، وهو ما يَعِدُ بكثير من الأمل للمرضى والمصابين ذهنياً.
في القرن التاسعَ عشر، بدأ باحثون مثل عالم الأعصاب الألماني فرانز جوزيف يشيرون بقوة إلى احتمالية وجود قابلية في الدماغ على التكيف. باكورة هذا كان اكتشافهم اضطلاع أجزاء معينة من الدماغ بوظائف معينة. ثمَّ بيّنت الدراسات السلوكية منتصف القرن العشرين، بعد تجارب عدة على الحيوانات في التعليم والذاكرة، ظهورَ تغيرات على الدماغ مرتبطة بهذه التجارب المعرفية.
ترافقت هذه الدراسات زمنياً مع نظرية العالم دونالد هيب سنة 1949 التي طرح فيها أن "الخلايا التي تنطلق معاً تتصل معاً"، وهي نظرية ذاع صيتها في الدراسات العصبية، وتشير إلى طريقة الاتصالات العصبية بين خلايا المخ. والمعروف عند علماء الأعصاب أنه عندما تنشط خلية عصبية ترسل إشارة كيميائية إلى فجوة بينها وبين الخلية العصبية التالية. والخلية التالية إما أن تستقبل الإشارة وتبدأ بإرسال إشارة جديدة، وإما أن تهمل الإشارة فينقطع الاتصال مع الخلية المرسلة.
لاحظ العالم هيب أن هذه الروابط بين الخلايا العصبية تقوى عندما تنشط هذه الخلايا معاً على نحو متزامن. بهذه الفكرة استنتج أن النشاط المتكرر بين الخلايا العصبية، أي بالتدريب والأنشطة العقلية، يمكن أن ينتج مع الوقت تغييرات دائمة في الاتصالات العصبية بينها، مما يعزز قدرة الدماغ على التكيف والتعلم. وكانت هذه الفكرة جوهر مفهوم المرونة العصبية. وهو المصطلح الذي بدأ يلقي بظلاله على علم الأعصاب في العقود القليلة الماضية حتى ثبت مفهوماً علمياً، ساعد في ترسيخه التطور التقني الذي سمح بمراقبة التغيرات في هيكل الدماغ وتصويرها. وعلى هذا تُعرّف المرونة العصبية بأنها قدرة الدماغ على تعديل بِنيته المادية تأثّراً بتجارب معينة.
لكن الدراسات اليوم تبين أن تعلُّمَ اللغة إجراءٌ معقد وبالغ التشابك. فالدماغ وإن كانت فيه بعض المناطق ذات الوظائف المتخصصة مثل مناطق محدد في الفص الأيسر ذات أثر بالغ في اللغة، فهو بكلِّه المسؤول عن هذه الوظائف، لا سيما أن اللغةَ الواحدة تنطوي على عدد ضخم من العناصر المعرفية: مثل تذكرُ الكلمات أو المعجم اللغوي وتعلمُ نظامها الصوتي أو الأصوات الوظيفية، واكتسابُ نظام الكتابة أو الإملاء، والتعرفُ على القواعد النحوية وبناء التراكيب والجمل، والتقاطُ المعاني الدقيقة التي تحملها السياقات الاجتماعية والنفسية للمتكلم والمُخاطَب أو التداولية. من شأن هذه العناصر اللغوية المتمايزة والمتداخلة في الدماغ تنشيط أجزاءٍ مختلفة منه.
ومن هنا يهتمُّ علمُ اللغة العصبي، وهو أحدُ علوم اللسانيات التطبيقية المعاصرة، بالعلاقة بين البِنية المادية للدماغ واللغة من حيث عملياتُ اكتسابِ اللغة وتعلمِها واستخدامِها ومعالجتِها وعلاقةِ كلِّ ذلك بالدماغ. وقد لفت هذا العلمُ إليه أنظارَ المهتمين بطب الدماغ وعلاج مشكلات اللغة ذاتِ المنشأِ العصبيِّ، وكان أثر تعلم لغة جديدة على بِنية الدماغ من الموضوعات الحديثة التي دُرِست في ظلال هذا العلم، ومنطلق هذه الفرضية مفهومُ المرونة العصبية.
أظهرت النتائج زيادة في المادة البيضاء والمادة الرمادية في الدماغ. والمادة البيضاء تتكون من ألياف عصبية تربط الخلايا العصبية معاً وترسل الإشارات بينها بسرعة خاطفة، وتنتشر في النسيج العميق من الدماغ. خلافاً للمادة الرمادية التي تؤلّف الخلايا العصبية المختصة بمعالجة المعلومات، وتنتشر على سطح القشرة الدماغية. وكانت زيادةُ المادة البيضاء ملحوظةً، خاصةً في الجسم الثفني، الذي يصل بين فصي الدماغ الأيمن والأيسر.
المرجح أن نقل البيانات بين نصفي الدماغ، والذي يحدث في أثناء اكتساب لغة ثانية، يسهم في زيادة حجم المادة البيضاء، أي في زيادة عدد الألياف التي تصل مناطق الدماغ ببعضها. كذلك فإن التبديل بين اللغتين، الألمانية والعربية في هذه الحالة، وما يتطلّبه هذا من جهد، كان بمثابة تمرين عقلي يعزز حجم المادة الرمادية، أي زيادة الخلايا في مناطق من الدماغ. وقد صاحب هذه التغيّرات تحسّن في أداء المتعلمين الذين كانوا قيد التجربة، إذ زادت الكفاءة اللغوية، كلما زادت الارتباطات العصبية المشكّلةُ حديثاً في فِصَي الدماغ. بمعنى آخر، الدماغ تكيف عصبياً مع اللغةِ الجديدة، أي الألمانية، بتحفيز مناطقَ في النصف الأيمن من الدماغ لم تكن مستثمرةً بالعادة في معالجة اللغة.
وهنا يعلق ألفريد أنواندر، أحد القائمين على الدراسة، بقوله: "وجدنا أن التغيرات في اتصالات الدماغ كانت مرتبطة مباشرة بتطور الأداء اللغوي في اختبار اللغة. الدراسة تبيّن كيف تكيفت أدمغة هؤلاء البالغين مع متطلباتهم واحتياجاتهم المعرفية الجديدة بتعديل الاتصالات العصبية في هيكل الدماغ وبين فصيه". أي إن التغيير في حجم الإدراك صاحبه تغير في الكتلة والمكونات المحسوسة للدماغ، وليس فقط في إرسال الإشارات غير المحسوسة بين الخلايا العصبية فيه.
تقول غوينيفر إيدن مديرة المركز الطبي بجامعة جورج تاون: " لقد استنتجنا أن الخبرة في اللغتين، والحاجة المتزايدة للتحكم المعرفي في استخدام اللغتين بالصورة المناسبة، من شأنه أن يؤدي إلى تغييرات في الدماغ لدى ثنائيي اللغة المتحدثين بالإسبانية والإنجليزية، مقارنة بأحاديي اللغة الناطقين بالإنكليزية وحدها. وفي الواقع، لوحظت مادة رمادية أكبر لدى ثنائيي اللغة في مناطق الدماغ الأمامية والجدارية التي تشارك في التحكم التنفيذي".
وفي محاولة تفسير هذه الزيادة في بعض أجزاء الدماغ دون غيرها، يقترح الدكتور بينج لي، أستاذ علم النفس واللغويات في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، أن القشرة الحزامية الأمامية، وهي حزام يحيط بالجسم الثفني، تزداد حجماً نتيجة دورها في مراقبة اللغة ومنع اللغة أو اللغات الأخرى من التطفل في أثناء الكلام. ومختصر القول فيما ذُكِر يبيّنه الدكتور هيرنانديرز، أستاذ علم النفس في جامعة هوستن، "إن اكتساب لغة جديدة يمكن أن يحدث تغيرات في هيكل الدماغ يتعزز معها نظام معالجة معرفية أكثر كفاءة وقوة".
ظهر هذا المنحى في تجربة سنة 2019 التي دامت أربعة أشهر وشملت برنامجاً لتعليم اللغة الإنجليزية لمسنين إيطاليين، أعمارهم بين التاسعة والخمسين والتاسعة والسبعين. أُخضع هؤلاء المسنين لفحص عصبي قبل البدء بالعملية التعليمية وبعدها، لقياس مستوى الإدراك العام والذاكرة قصيرة المدى وطويلته، والانتباه والوظائف اللغوية. ثمَّ قورنت النتائج بنظائرها لمسنين إيطاليين آخرين لم يخضعوا لذات العملية التعليمية أو يغيروا عاداتهم اليومية.
أيدت النتائج دراسات سابقة بأن تعلم لغة جديدة يمكن أن يقوي المرونة العصبية للدماغ، وكذلك إعادة بناء الاتصال وتنظيمه في مناطق من الدماغ، لا سيما مناطق شبكات اللغة. كانت هذه الدراسة دليلًا قوياً بأن تعلم لغة ثانية يتجاوز حدود السن، ويؤدي إلى تطورات وظيفية في دماغ المسنين الأصحاء أيضاً. رُصد تحسن في عدد من القدرات الإدراكية التي ترتبط باللغة، والتي تنحدر عادةً مع التقدم بالسن، عند هؤلاء المسنين قيد التجربة. إذ فُحصت كل واحدة من القدرات الإدراكية على حدى، فمثلاً اختُبر أداء الذاكرة بسرد قصة، ثم قورنت الفروق في القدرة على استحضار التفاصيل بين مرحلة ما قبل البدء بعملية تعلم اللغة الأجنبية وما بعدها، وكانت النتائج لصالح مرحلة ما بعد التعلم. كانت النتائج مشابهة فيما يتعلق بقدرات إدراكية أخرى كالانتباه والتبديل بين المهام.
ومن منظور القائمين على الدراسة فإن هذه النتائج المبشرة صارت مطمحاً وأملاً للتصدي للأعراض السلبية للتقدم بالعمر على الدماغ، خصوصاً في الوقت الذي تؤكد فيه كثير من الدراسات تراجع القدرات الإدراكية مع الشيخوخة.
ثنائيو اللغة في هذه الدراسة كانوا في المتوسط أكبر بخمس سنوات من أقرانهم أحاديي اللغة، ممّا رجح أن تعلمهم للغة الثانية، بما رافقه من زيادة وكثافة في التشابك العصبي، كان السبب في حماية إدراكهم مدة أطول وتأخير إصابتهم بالخرف. وأظهرت الدراسة تفوق ثنائيي اللغة المصابين بدرجات من الخرف على نظرائهم من أحاديي اللغة في اختبارات الذاكرة قصيرة المدى وطويلته. والتعليل أن التنشيط الشديد للوظائف التنفيذية في دماغ ثنائي اللغة، بسبب طول التحكم في نظامين لغويين من أجل التحدث بلغة واحدة وتنحية الأخرى، أدى إلى تغييرات بنيوية ومرونة جعلت دماغ ثنائي اللغة أحسن مقاومة للشيخوخة وأقدر على التعويض عن التدهور العصبي والإدراكي الذي يأتي عادة مع التقدم بالسن.
هذه النتائج تتوافق مع دراسة سابقة أجريت سنة 2013 خاضها باحثون من جامعة أدنبرة البريطانية عن العلاقة بين ثنائية اللغة وتطور الخرف والإصابة بأمراض إدراكية أخرى مثل مرض الزهايمر. شارك في الدراسة 648 مريضاً من مدينة حيدر أباد الهندية، التي تسود فيها لغتا التيلوجو والأوردو وتشيع اللغة الإنجليزية عند عدد كبير منهم. كان عددُ ثنائييّ اللغة من عينة الدراسة الكلية هو 391 فردًا. وأظهرت النتائج أن المرضى ثنائيي اللغة أصيبوا بالخرف بعد أربع سنوات ونصف من المرضى أحاديي اللغة. وهنا نعيد التذكير بما قالته عالمة النفس الكندية، والمتخصصة بأثر ثنائية اللغة على الدماغ، إيلين بيالستوك، بأن ثنائية اللغة هي تحدٍّ إدراكي يعزز قدرة الدماغ على حماية وظائفه من الانحدار في الشيخوخة.
***تعلم لغة جديدة له دوافعه وأسبابه العملية فهو وسيلةٌ للتطور المعرفي والتأقلم في محيط لغوي جديد. لكن أبحاث المرونة العصبية وما ثبت بها من أنّ للغة دوراً في برمجة الدماغ وتطويره، تضع الموضوع على مستوى آخر من الأهمية. ومن هنا يصير تعلم لغةٍ جديدةٍ حاجةً صحيةً ملحةً تسهم بتحسين الذاكرة والانتباه وزيادة التركيز وتحسين الحالة الذهنية العامة حاضراً ومستقبلاً بتحصين الدماغ من تأثير الشيخوخة فيه. والتمرينات العقلية القائمة على تعلم لغة جديدة، وما تشمله من تحفيز للدماغ بمهاراته الإدراكية بأجزائه المختلفة، لها أثرٌ مشابهٌ لأثر الرياضة المنتظمة في الجسم بأجزائه المتباينة، وما يحدثه هذا من تنشيط لعضلاته وإخراجها من الخمول إلى الفاعلية.
![](https://alpheratzmag.com/wp-content/uploads/symbol-no-bg.png)