انقلَبت حياة عائشة رأساً على عقب وهي في خريف العمر. أصبحت مثل نساءٍ أخريات في القرية ينطبق عليها المثل المغربي الساخِر "باتَتْ مع لْوالْدِين وصَبْحَتْ مع العاقرين". بمعنى أنها أنجبت أولاداً لكنها أصبحت عقيماً، تجلس تطلّ من نافذة البيت وهي تردد: لا رجال تصيح ولا كلاب تنبح.
تُظهر الهجرة الدولية بإقليمِ خريبكة جوانبَ إنسانية متناقضة. فمع أنّها حسّنت من أوضاع الأسر المعيشية وأبعدت شبح البطالة عن شبابها، إلا أنّها خلَقت معاناة نفسية واجتماعية للمهاجرين في الغربة ولأسرهم في الوطن. ويعدّ دوَّار الغنانشة واحداً من بين ثلاثة عشر دوَّاراً يشكّلون الجماعة القروية الجناديز التي تشهد هجرة الرجال نحو إيطاليا. والدوّار في المغرب هو القرية، ويتكوّن من عائلاتٍ مرتبطة تنتمي إلى جدٍّ واحد.
تحوّلت قرى مغربية بأكملها، ومن بينها دوَّار الغنانشة، إلى ممالِك للنساء، فأصبحن عمَاد الحياة وقوامها. رحل الرجال شباباً وكهولاً وأطفالاً إلى دول أوروبية على رأسها إيطاليا، بحثاً عن الفردوس في حقولها الخصبة. وتركوا خلفهم زوجاتٍ وأمهاتٍ وأخواتٍ يتَولّين مسؤولية تدبير شؤون الحياة. بدأت الهجرة بالإقليم منذ أكثر من خمسةِ عقود حلاً مؤقتاً لأزمةٍ اقتصادية. لكنها باتت اليوم ظاهرةً اجتماعيةً تفرض نفسها، وتطرح تساؤلاتٍ عن مستقبل هذه القرى والدَور الذي يُناط بالمرأة في مجتمعاتٍ كان العمل فيها والرعاية حكراً على الرجال.
ازداد عدد المغاربة المقيمين بالخارج في العقود الثلاثة الأخيرة، حسب التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2021. فما بين سنتَي 1991 و2002، كان عددهم حوالي مليونيْن ونصف مليون مهاجر. ارتفع إلى ما يقارب ثلاثة ملايين مهاجر سنة 2004، ثم وصل سنة 2021 إلى خمسة ملايين مهاجر. يتوزع هؤلاء المهاجرون في كل أنحاء العالم، لكنهم يتركزون في أوروبا مع وجود قرابة مليون في فرنسا ونحو تسعمئة ألف في إسبانيا وما يقارب نصف مليون في إيطاليا.
بدأت هجرة المغاربة إلى إيطاليا بأرقامٍ محدودةٍ بداية الثمانينيات ثمّ صارَت من أهم وجهات الهجرة في أوروبا. ارتفع عدد المهاجرين من حوالي ألف شخصٍ سنة 1981 إلى أربعين ألفاً سنة 1991، وفي سنة 2001 تخطى مئةً وثمانين ألف مهاجرٍ. شهدَ عددهم تزايداً ملحوظاً في العقود اللاحقة حتى وصل أربعمئة ألف مهاجرٍ سنة 2023، زيادةً على مئتي ألف آخرين يحملون الجنسية الإيطالية، حسب ما ذُكِر في أعمال مؤتمر مجلس الجالية المغربية بالخارج. وهكذا يتصدر المغاربة قائمة المقيمين القانونيين بإيطاليا، بحسب تقريرٍ لوزارة العمل والسياسات الاجتماعية الإيطالية سنة 2024 نقله موقع 'هسبريس المغربي.
تعود أصول معظم المهاجرين المغاربة في إيطاليا إلى إقليم خريبكة، فهي أول منطقةٍ يهاجر منها المغاربة إلى إيطاليا. الإقليم، المنتمي إلى جهة بني ملاّل خنيفرة، واحدٌ من ثلاث مناطق تشكّل "مثلث الموت" مع الفقيه بن صالح وبني ملاّل. وذلك لكثرة الوفيات أثناء العبور إلى الضفة الأوروبية بطريقةٍ غير قانونية. وتجري الهجرة من إقليم خريبكة على طريقتين. الأولى قانونية عبر عقود عمل، والثانية غير قانونية عبر ما يُعرف بقوارب الموت.
مع توالي سنوات الجفاف منذ 2020 وارتفاع عدد العاطلين عن العمل وزيادة إغراءات الحلم الإيطالي، زادت حدّة الهجرة من خريبكة وقراها. بلغت نسبة العاطلين عن العمل في المنطقة 13.3 بالمئة، بحسب مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط سنة 2023. في مقابلِ ذلك، تشجَّعَ الشباب على الهجرة إلى إيطاليا بسبب ارتفاع الطلب على اليد العاملة فيها بعد أزمة كورونا التي ضربتْ العالم بدءاً من سنة 2020 وتَوفّر عقود عملٍ بالقطاع الفلاحي، كما أخبرني سعيد، أحد وسطاء العقود.
بدأ الشباب الباقون بقرى الإقليم يبحثون عن عقود عملٍ من وسطاء هجرةٍ متخصّصين. يبيع الشباب ممتلكات الأسرة من المواشي، ويقترضون من أفراد العائلة ما يغطي تكلفة العقد ومصاريف السفر. ويبيع وسطاء مغاربةٌ مقيمون بإيطاليا العقودَ بطرقٍ غير قانونية، وبأضعافِ تكلفتها الحقيقية. فقد زادت تكلفة عقد العمل الفلاحي من سبعة آلاف يورو تقريباً سنة 2023 إلى نحو اثني عشر ألف يورو سنة 2025، بحسب أحد الشباب الراغبين بالهجرة. وبينما كانت القرى والمدن الإيطالية تمتلئ بالمهاجرين المغاربة، كانت القرى المغربية تفرغ من الرجال. حين زرتُ دوّار الغنانشة، كان حديث الأهالي مقتصراً عن الذين رحلوا والذين يستعدون للرحيل، وعن معاناة نساء القرية جرّاء غياب الرجال.
حليمة (47 سنة)، سيدةٌ أخرى من نفس القرية، تعبّر عن حالةٍ أخرى من آثار هجرة الرجال. فهي تعيش وحيدةً مع طفليْها، أحدهما عمره عشر سنوات والآخر ثلاث عشرة سنة. توفي زوجها سنة 2023 وتزوجت بناتها الثلاث، فيما هاجر ابنها الأكبر إلى إيطاليا. وهي لا تواجه مشاكل مادية، لكنها تعاني الوحدة. بدأت معاناتها تلك مع هجرة زوجها، قبل وفاته، منذ سنوات لتصل ذروتها مع هجرة ابنها مؤخراً.
أحدثت الهجرة إلى إيطاليا خللاً في البنية السكانية بالجماعات القروية في إقليم خريبكة. إذ تجاوز عدد النساء البالغات بهذه القرى عددَ الرجال البالغين. وقد وصلت نسبة الشباب المهاجرين، الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر وخمسة وثلاثين سنة، إلى 87 بالمئة حتى 2016. فأصبحوا الفئة الاجتماعية الأكثر هجرةً من المغرب، حسب دراسة "الهجرة الدولية والتغيير الاجتماعي: دراسة سوسيولوجية بمدينة خريبكة" لمحمد حيتومي، الباحث في علم الاجتماع الهجرة بجامعة محمد الخامس.
توضِّح نتائج الإحصاء العام للسكان سنة 2024 أنّ معظم الأسر في قرى خريبكة أضحتْ تتشكّل من النساء والأطفال والشيوخ، ومن الرجال الذين ينتظرون فرصةً للهجرة. إذ بلغَ عدد النساء، ممن أعمارهن بين خمسة وعشرين سنة وخمسة وستين سنة، ضعفَ عدد الرجال بالجماعة القروية الجناديز. فقد سجّل الإحصاء وجودَ 1822 امرأة مقابل 928 رجلاً.
هكذا قلّصت الهجرة عددَ رجال القرية وشكّلت مسافةً بين رجالها ونسائها، لكن الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي قرَّبا الوصال. تتشارك الأسر والرجال المهاجرون يومياتهم بلا انقطاع. من الحقل إلى الشارع والبيت، لا بدّ أن يأتي اتصالٌ فيه أخبار القرية وأخبار أبنائها المهاجرين. تتواصل حليمة مع ابنها عبر تطبيق التواصل الفوري "واتساب" كل يوم تقريباً، فتَطمَئن عليه وتطمْئِنه عليها وعلى أخويه. أخبرتني بحسرةٍ، وهي تتذكر زوجَها الراحل بسبب المرض بعد رحلةِ هجرته التي سبقتْ ابنها، أنّه كان يتصل بها بمكالمةٍ مصوّرةٍ ويطلب منها فتح باب الثلاجة ليتأكد بنفسه أن الطعام الذي يحبّه أطفاله الصغار متوفّر. أضافت والدموع تنهمر على خدّيها أنه، في سنتَيه الأخيرتين قبل وفاته، كان يزور الأسرةَ عدة مراتٍ في السنة ويمكث في المغرب مدةً أطوَل، وكأنه يستعدّ للرحيل الأبدي.
يؤكد محمد حيتومي في دراسته أن المهاجرين وأقاربهم يضطرون للاتصال والتواصل باستعمال أحدث التقنيات، لتقوية روابطَ وبنياتٍ اجتماعية أضعَفَتها الهجرة. ويؤكد أن امتداد أسر خريبكة وتواصلها عبر الأوطان رقمياً أو افتراضياً يؤدي لامتداد الروابط النفسية والاجتماعية عبر عدة بلدان. بحسب حيتومي: ''بديهي، كما وقفنا على ذلك ميدانياً، أن يرفض المهاجرون والمهاجرات وذووهم تلك المسافات والحدود التي تنشأ عن الهجرة الدولية [. . .]. هذا الرفض يدفعهم إلى استثمار جزءٍ من مالهم وجهدهم في اقتناء أو تمويل أو إرسال معدّات وأجهزة الاتصالات والتواصل. واستثمار جزء من وقتهم، خصوصاً أيام السبت والأحد ومساء كل يوم تقريباً، في الاتصال والتواصل مع الأقارب''.
مع ذلك تقوّت شوكة الخوف لدى النساء والأطفال بسبب تباعد بيوت القرية عن بعضها البعض مئات الأمتار وأكثر. هذا عدا عن التصاق القرية بغابةٍ من أشجار الفلين، ما يجعَل ليلها موغِلاً في التوحش. فما أن يرخي الليل سدوله حتى تشعل حليمة الأنوار في كل زوايا البيت وغرفه، وتُنصت إلى نباح كلاب الحراسة وإلى أيّ حركة خارج البيت. تتوقع حليمة كل ليلة أن يسرق اللصوص ماشيتها، فلا يخفّف هواجسها سوى مكالمة عبر واتساب مع بناتها أو إحدى قريباتها. أما عائشة، فاستيقظتْ في إحدى ليالي شتاء 2025 على وقعِ هزة أرضية خفيفة شهدتها معظم المناطق وسط المغرب وشماله. أدّت الهزة إلى اهتزاز السقف القصديري، فظنّت نساء البيت أنّ لصوصاً يحاولون ولوج البيت، مما أحدث هلعاً بينهن.
تحوَّلت مخاوف بعض نساء القرية واقعاً لخديجة (65 سنة)، وضرّتها خميسة التي تصغرها بسبع سنين. تعيش الضرّتان وحدهما، وقد سُرقت بعض أغنامهما وأبقارهما. قتل اللصوص كلاب الحراسة في وقتٍ متأخر من الليل بتسميمها، وفتحوا أبواب الحظيرة وأخرجوا بعض الأغنام والأبقار، ثم حمَلوا منها ما استطاعوا وتركوا الباقي في الغابة المجاورة. بعد الحادثة، أصبحت حياة المرأتيْن تحت أعين أبنائهما المهاجرين. رَكَّبَ الأبناء آلات تصويرٍ ومراقبةٍ متصلةٍ بالإنترنت في مختلف جوانب البيت وحظائر الماشية، وأضواء كاشفة تعمل بالطاقة الشمسية حول المنزل والحظائر. مكَّنت آلات التصوير خديجة وخميسة من مراقبة البيت والماشية دون عناء الخروج، وسمحت للأبناء بمراقبة المنزل من بعيد في كل الأوقات.
ومع كل هذه المحاولات، إلا أنّ نساء القرية يترقّبن ويراقبن الطريق، لعلّ أحد الأبناء أو الأقرباء أو الزوار يأتي لكسر مخالب الوحدة. ينتظرن بفارغ الصبر حلول المناسبات الدينية والعائلية والعطل المدرسية لأنها تمنحهن لحظات فرحٍ عابرةٍ رفقة أهلهن. ويفرحن بزيارة أحد الأبناء أو الأزواج من دار الغربة، فيعِشنَ لحظات سعادةٍ مؤقتة تمرّ بسرعة.
تعود الحياة إلى بيت عائشة في العيد. يمتلئ بيتها بأبنائها وبناتها وأحفادها الذين يعيشون في المغرب. تكبر فرحتها وسعادتها حينما يعود أحد الأبناء من إيطاليا لقضاء مناسبة العيد. وتتحوّل تلك الابتسامة قلقاً حين تتذكر أن ما هي إلا أيام قليلة وتعود إلى حياتها السابقة. تشعر وكأنها في حلمٍ جميل سرعان ما سينتهي بكابوس الفراق. قالت لي إنّ ابنها الأكبر لم يستطع السلام عليها ووداعها يوم عودته إلى إيطاليا، وكان يتحاشى الحديث معها عن موعد مغادرته.
يدفع حُب المكان غالبيةَ نساء القرية إلى الحفاظ على ما تبقى من شريط ذكريات البيت. فتقاوم عائشة شبحَ الهجرة إلى المدينة، لأنها لم تتخيل يوماً أن تترك أرضها وبيتها الذي لها فيه ذكرى مع كل لبنة من لبناته، وتحاول قدر الإمكان الحفاظ على نبض الحياة فيه. وقد قالت لي: ''سأبقى في بيتي حتى ألقى وجه ربي فيه. سوف أتشبث بمن بقي معي وأحافظ على بيتي لكي يجد أبنائي وأحفادي مكاناً يأتون إليه في العطل والأعياد".
ليست عائشة وحدها، إذ ترفض نساءٌ كثيراتٌ في القرية تركَها مثل خديجة وخميسة. فقد أصرّتا على البقاء والعيش على ذكرى زوجهما، رغم إلحاح أبنائهما وبناتهما. وقد فضّلتا زراعة الخضروات والقمح والشعير، ورعاية الأبقار والأغنام والدواجن بدل بيعها والانتقال إلى المدينة. قالت خديجة: ''عِز المرأة وكرامتها هو بيتها. إذ مهما كانت زوجة الابن أو زوج البنت لطيفاً وكريماً معها، لن تجد استقلالاً واستقراراً نفسياً بعيداً عن بيتها، حيث تملك أجمل الذكريات وحيث كبرت أحلامها. كذلك، العيش في المدينة يفقد المرأةَ الحيوية والنشاط. ففي المدينة لا تعمل في الحقل ولا ترعى المواشي ولا تقوم بأنشطة البيت اليومية. وهو الأمر الذي يعجِّل بإصابتها بالكثير من الأمراض".
بخلاف هؤلاء النساء، بدأت حليمة التفكير في ترك القرية والانتقال للعيش في المدينة بالقرب من بناتها وأقربائها. يدفعها الخوف والوحدة نحو الهجرة إلى المدينة، ويجذِبها إليها تأمين مستقبل صغارها. لا تملك قرارَ الهجرة بيدها لأنه مرتبطٌ بحسابات ابنها. ولم تحسم الأمر بعد، إلا أنها تفكر فيه بجدية. فهي تعرف تمام المعرفة أن مصيرها إما أن تعيش وحيدة أو أن تهاجر إلى المدينة، لأن طفليها سيهاجران يوماً من أجل الدراسة أو العمل.
تستيقظ المرأة في دوّار الغنانشة باكراً، ولا تتوقف عن الحركة والنشاط من شروق الشمس إلى مغيبها. تكرر نفس الأعمال يومياً. فتحلب ما تبقى من الأبقار وتخرجها رفقة الأغنام إلى المراعي المجاورة، وتكنس حظيرة المواشي وتسقي الخضروات والأشجار المثمرة. لا تأخذ المرأة في القرية إلا قسطاً قليلاً من الراحة. ''إنها امرأة تذوب''، عبارةُ استعملتها عالمة الاجتماع المغربية زينب معادي في عنوان كتابها ''الجسد الأنثوي وحلم التنمية، إنها امرأة تذوب'' الصادر سنة 2006، للتعبير عن القسوة التي تعيشها النساء القرويات كشمعة تحترق وتتقطّر حتى الذوبان من أجل إرضاء الآخرين إلى أن تخبو وتنطفئ.
تنجز نساء القرية نفسَ الأنشطة اليومية تقريباً، إلا أن حليمة ومثيلاتها ممن لديهن أطفالٌ صغارٌ أصبحن يواجهن التزامات أخرى لم تكن في الحسبان. فقد وجدت حليمة نفسها تتحمّل المسؤولية الكاملة في تربية طفليها الصغيرين، فكان ينبغي عليها أن تكون لهما الأب والأم.
يُسمح في المجتمع القروي المغربي للنساء المتقدمات في السن بالذهاب إلى السوق الأسبوعي للتسوق. في حين لا يُسمح للنساء الشابات وغير المتزوجات بذلك، إلا لضرورةٍ مثل تطعيم الأطفال وإعداد وثائق إدارية وغيرها. فالسوق في المجتمع القروي المغربي حكرٌ على الرجال. لكن بسبب هجرتهم، أصبحت نساء القرية مجبرات على الذهاب إلى سوق الثلاثاء البعيد عن القرية، بمسافةٍ تتراوح ما بين خمسة وسبعة كيلومترات. وصار مفروضاً عليهن الاختلاط بمن تبقى من الرجال من مختلف القرى، فيتشاركن الهَمَّ نفسه مع نساء آخريات. شاركن الرجالَ أدوارَهم في مجتمعٍ ذكوري يَرى البيت هو المكان الطبيعي للمرأة.
دأبت خديجة قبل وفاة زوجها على بيع ما تنتجه رفقة ضرّتها من بيض وسمن في السوق بين الفينة والأخرى. لذلك لم تجد صعوبة كبيرة في الذهاب إلى سوق الثلاثاء الأسبوعي. يساعدها في ذلك أحد أقربائها، إذ ينقلها معه في شاحنته الصغيرة. فتبيع كل أسبوع منتجاتها وتشتري ما تحتاجه من موادٍ غذائيةٍ وأعلافٍ للمواشي والدواجن.
وتخشى حليمة نظرةَ المجتمع، لذلك لم تألف بعد فكرة ذهاب النساء إلى السوق. نساءٌ كثيرات مثلها بدأنَ كسر قواعد المجتمع، غير أن حليمة لاتزال تحت وصاية ابنها. فقد كلّف أحد أصدقائه من الجيران بالتسوّق لأمه وإخوته كل أسبوع. لكن ما هي إلا أشهر معدودات وسيكون من المحتم عليها البحث عن شخصٍ بديل أو الذهاب رفقة نساء القرية إلى السوق، لأن صديق ابنها يستعد هو الآخر للهجرة.
فرضتْ ظروف الهجرة هذه على الرجال والنساء أن يتحملوا أوضاعاً اجتماعيةً جديدة. فقد أصبح الرجال في بلاد المهجر يتكيّفون ويعملون أعمالاً جديدة. فما أن يصل المهاجر إلى إيطاليا حتى يدرك أن عليه تغيير سلوكه ونمط حياته. إذ بعد أيام الضيافة لدى أبناء قريته وأقربائه الذين سبقوه في الهجرة، يتحتم عليه المساهمة في أشغال البيت من تنظيف وطبخ وغسل الملابس والأواني حتى يوفر المزيد من المال. أخبرتني سعيدة ابنة عائشة، المقيمة في مدينة الدار البيضاء، أن أحد إخوتها المهاجرين بإيطاليا كان يتصل بها لكي تعلِّمه الطبخ لاسيما عجن الخبز وطهيه على الطريقة المغربية.
ولم تؤثر الهجرة على الرجال في ديار المهجر فقط، بل على حياتهم داخل القرية في مختلف الأنشطة الفلاحية. فقد نقص عدد العمال الفلاحيين الموسميين، وكذا رعاة الأغنام والأبقار.
يشتكي العم مصطفى (70 سنة) من غياب العمال الفلاحيين المياومين (من يعملون بالأجر اليومي) والموسميين ورعاة الأغنام والأبقار، إذ ينتظر طويلاً حتى يجد عاملاً ينظف حظائر المواشي. ولا يجد من يساعده على حرث الأرض وزراعتها ورش الأدوية والمبيدات. فكّر العم مصطفى في بيع ماشيته لانعدام الرعاة الذين يمكن أن يعتنون بها. قال لي ساخِراً: ''لقد سرقت إيطاليا كل رعاة الأغنام والأبقار، فلم نعد نجد من يرعى أغنامنا وأبقارنا". لا يقتصر الأمر على الرعاة، فقد امتد إلى حفّاري القبور. إذ تأخّر دفن سيدةٍ توفيت، بسبب غياب حفاري قبور متخصصين متطوعين. ولم يتمكن أهل القرية من حفر القبر ودفن السيدة إلا بعد تعاون من كان حاضراً من غير المهرة المتخصصين.
قلّ نشاط الرجال الباقين في القرية، إذ يفكر الكثيرون في سبل العبور واللحاق بالمهاجرين. فأضحى معظمهم مستهلكين ينتظرون أرقام حوالات اليورو، ما أدى إلى انحسار زراعة الشعير والقمح اللذيْن يعتمدانِ على مياه الأمطار. وتراجعت المساحات المسقية من الخضروات، لاسيما البطاطس التي كانت قد ازدهرت بعد استخراج المياه الجوفية. وقد تراجعت أرض عائشة المسقية بنسبة 100 بالمئة منذ أن هاجر آخر أبنائها، واكتفت بزراعة الشعير والقمح.
مع ذلك، كانت للهجرة آثار جيدة على البيئة المحلية، فقد بدأت الغابة المجاورة تسترجع عافيتها. وكان النشاط الاقتصادي الأساسي لبعض السكان، مثل أبناء عائشة، يعتمد على قَطْعِ الأشجار بوجهٍ غير نظامي لإنتاج الفحم. أدى أيضاً بيع معظم المهاجرين مواشيَهم، من أجل تأمين تكلفة الهجرة أو خوفاً من السرقة، إلى تراجع الرعي الجائر. استعادت الغابة كذلك جزءاً من ثروتها من الحيوانات البرية، مثل الأرانب وطيور الحجل وطيور أخرى، بسبب تراجع الصيد غير القانوني.
