في الليلة نفسها، وقبل الإعلان الرسمي عن القوانين، كانت الرابطة اليونانية العربية تحتفل بذكرى تأسيسها في مقرّها بحَيّ غاردن سيتي في القاهرة بحضور رئيسها الشرفيّ زكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية ووزير الداخلية حينئذٍ. في الحفل، وبعد انتهاء ديميتري ذيربيني من كلمته رئيساً للجالية اليونانية بالإسكندرية وواحداً من أبرز صنّاع القطن وتجّاره في مصر، اقترب منه أحد معاونيه هامساً: "عبد الناصر أمَّم المصانع، ومن بينها مصنعك". اصفرَّ وجه ديميتري ودخل صالة مقرّ الرابطة حيث أصيب بأزمةٍ قلبيةٍ كادت تقضي عليه. ورد ذلك في كتاب "كيف ولماذا انهارت الجالية في مصر" الصادر سنة 1992، للصحافي اليوناني دينو كوتوسومي الذي حضر الواقعة.
لم تكن هذه القصةَ الوحيدةَ عن أثر التأميم على الجاليات الأجنبية في مصر. تكثر الروايات التي تُصوِّر التأميمَ سبباً رئيساً في رحيل كثيرٍ من الجاليات الأجنبية عن مصر، بعد عقودٍ طويلةٍ من قدومهم إليها وإسهامهم في الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. بحسب تصريحات ألكسندر كازاميس للفِراتْس، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة كوفنتري في المملكة المتحدة المولود في مصر والنائب الحالي في البرلمان اليوناني، يربط مؤرخون أوروبيون خروجَ اليونانيين من مصر بتأميم قناة السويس. وقد يكون دافعهم نقدَ سياسة عبد الناصر المعادية الاستعمارَ وتصويرَه معادياً الأجانبَ، ما يعضد الرواية الإسرائيلية التي تربط رحيل اليهود بمعاداة السامية بدلاً من ربطه بالغزو الإسرائيلي سيناءَ سنة 1956.
ربْط الترحيل بالتأميم –على ذيوع روايته– غير دقيق. إذ لم يكن الاعتداء على ملكية الأجانب بالتأميم السببَ في خروجهم، الذي تسارعت وتيرته في فترة ما بين الحربين العالميتين. ومن أسباب هذا الخروج تقويض الامتيازات الأجنبية التي حازوها في العقود السابقة، وتزايد مساحة المساواة بينهم وبين المصريين قانونياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
الامتيازات المتزايدة التي مُنحَت للأجانب في مصر زادت معدلات وفودهم في العقود اللاحقة. وفَرَض قبول اتفاقية لندن، الموقَّعة سنة 1840، على محمد علي إلغاءَ الاحتكارات الحكومية وفَتْحَ الباب أمام التجار والرأسماليين الأوروبيين الذين مُنِحوا امتيازاتٍ اقتصاديةً واسعةً للاستثمار في مصر. يشير ديفيد لاندز في كتابه "بنوك وباشوات" المنشور سنة 1958، إلى وفود نحو ثلاثين ألف أوروبيٍّ إلى مصر سنوياً طيلة أربعينيات القرن التاسع عشر.

لم تقتصر امتيازات الأوروبيين على المِنح الاقتصادية، بل ضمَنت لهم حمايةً قانونيةً جنّبتهم التقاضيَ إلى المحاكم المصرية. كذلك فإن الأوروبيين ممّن حظوا بحصانةِ معاهدة الامتيازات ستقتصر محاكمتهم في القضايا الجنائية على المحاكم القنصلية. وبدايةً من أربعينيات القرن التاسع عشر تأسست هيئاتٌ قضائيةٌ لنظر القضايا التجارية التي طرفها الأوروبيون. وفي يونيو 1875 تأسست المحاكم المختلطة ليتقاضى إليها رعايا الدول الأوروبية في القضايا التجارية والمدنية، وإنْ كان خصومهم من المصريين. عيّنتْ القنصليات الأوروبية ثلثَيْ قضاة هذه المحاكم، واستعملت اللغات الأوروبية، الفرنسية ثم الإيطالية والإنجليزية، دون العربية.
أوضحتْ كتابات الرعايا الأوروبيين إدراكَهم وضعَهم القانوني المميَّز في مصر. مثلاً، في فيلمٍ وثائقيٍّ بعنوان "مصر: الوطن الآخَر"، أنتجته قناة الجزيرة الإنجليزية سنة 2012، قال اليوناني خاري تزالا الذي ولد في مصر سنة 1936 ومكث بها حتى الستينيات: "إذا قتلتَ مصرياً عمداً أو خطأً، فلا يستطيع الشرطيّ المصريّ أن يقبضَ عليك. كلّ ما عليك هو انتظار المحكمة التي تشكّلها لك قنصليّتك بما ترغب من قضاةٍ غير مصريين، وتُعقد في التوقيت الذي تريده قنصليّتك. بينما ليس يستطيع ذوو المصري الضحيّةِ الحصولَ على حقّه، لا من القضاء ولا من الشرطة. كان مِن المستحيل أن تستمر هذه الانتهازية التي فرضتها معاهدة الامتيازات".
ضخَّمت هذه الامتيازات ثروات الرعايا الأوروبيين وزادت من معاناة الفلاحين المصريين. أَجبر القضاء المختلط والقنصليّ الفلاحين على بيع أراضيهم للتجار الأجانب عند عجزهم عن سداد ديونهم. واضطرّ غيرهم القبول بشروط الأجانب بالتحوّل لزراعة القطن، ذي العائد الاقتصادي الذي يمكّن التجّارَ اقتطاعَ نصيبٍ أكبر منه، بدلاً من البقوليات والقمح التي توفّر الغذاء للمزارعين. وبحسب ديفيد لاندز، تحولت مصر في سنواتٍ قليلةٍ من أكبر مُصَدِّرٍ للبقوليات والقمح في حوض المتوسط إلى مُصَدِّرٍ للقطن. اضطرّت مصر استيراد المواد الغذائية للتغلب على أيّ مجاعةٍ متوقعة. وزاد سعر القمح ثلاثة أضعافٍ، وكذا الزيت والخضروات وأسعار الحبوب عامّةً. فزادت معها معاناة الفلاحين وثروات الأجانب، بعدما صارت البلاد "مزرعة للقطن".
يفسر هذا السياق غضبَ المصريين على المحاكم المختلطة، التي استُخدِمت لإفقارهم ونزع ملكياتهم لصالح الأجانب. ومع اندلاع شرارة الثورة العرابية بين يوليو وسبتمبر 1882، صبَّ المصريون غضبهم على هذه المحاكم. فكانت الحادثة الأولى التي يؤرَّخ لها على هامش الثورة الهجومَ على مبنى المحكمة المختلطة في الإسكندرية وحرقه.
تَرَسَّخ الوضع المميَّز للأجانب بعد الاحتلال البريطاني سنة 1882، فزادت معدلات وفودهم. في مذكراته التي نشرها سنة 1971 بعنوان "ذكريات يوناني عاش في الإسكندرية"، كشف الشاعر اليوناني تيمو مالانوس دخولَه مصر بلا أيّ أوراقٍ ثبوتيةٍ أو جواز سفر. كانت أبواب مصر وقتئذٍ "مفتوحةً على مصراعيها". فتمكَّن الأجانب بفضل الامتيازات من خيرات البلاد ومواردها، "ولم تكن مصر ملكاً للمصريين سوى بِالاسم".
في السنوات اللاحقة، استمرت المحاكم المختلطة في تحويل ملكية الأراضي الزراعية إلى الأجانب. يحوي أرشيف المحاكم المختلطة، المحفوظ بدار الوثائق المصرية، ملفات عشرات القضايا التي رفعها فلاحون من الدقهلية والشرقية والبحيرة بين سنتَيْ 1893 و1944، يتهمون فيها يونانيين وإيطاليين بالاستيلاء على أراضيهم الزراعية. انتهت أغلب هذه القضايا بأحكامٍ لصالح الأجانب بعد أن عجز الفلاحون عن سداد ديونهم.
منحت الامتيازات الأجانبَ حقَّ تَملّك الأراضي بلا قيودٍ، فأسسوا شركاتٍ متخصصةً في الزراعة واستصلاح الأراضي. ولم يكن ثمّة قانونٌ ينظم عمل الشركات الأجنبية حتى سنة 1947. كان للشركات غير المصرية امتيازاتٌ، منها الإعفاءات الضريبية والجمركية وحقّ العمل بلا تصاريح. أضف إلى ذلك الاقتصار على تشغيل الأجانب والسيطرة على مجالس الإدارات، ولا يحقّ لأيّ وزارةٍ الإشراف عليها.
زادت هذه السياسات حجمَ ملكيات الأجانب الزراعية، وضاعفت الفجوات بينهم وبين الفلاحين. بحلول سنة 1950، امتلك 2740 أجنبياً ومصرياً قرابة مليونين ونصف مليون فدّانٍ، أي نحو 42.4 بالمئة من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية. أما بقية الأراضي، فتوزّعت على نحو قرابة مليونين وستمئة ألف فلاحٍ، متوسّط نصيب الواحد منهم أقلّ من فدّان.
ومكَّنت الامتيازات الشركاتِ المملوكةَ للأجانب من تملّك آلاف الأفدنة. مثلاً، بلغت ملكية شركة البحيرة للأراضي الزراعية، وهي شركةٌ بريطانيةٌ يونانيةٌ، نحو خمسين ألف فدّانٍ سنة 1949. فيما تجاوزت ملكية شركة الكروم للأراضي الزراعية، المملوكة ليونانيين، ثلاثين ألف فدّان. وفي الجملة، بلغ حجم الأراضي الزراعية التي يملكها أو يزرعها ويديرها يونانيون يعيشون في مصر سنة 1930 نحو مليونٍ وتسعمئة ألف فدّانٍ. وذلك وفقاً لدراسةٍ نشرها نيكولا تسارافوبولو، القيادي بالجالية اليونانية بمصر، سنة 1948 بعنوان "اليونانيون المقيمون في مصر".
لم تقتصر الاستفادة من الامتيازات الأوروبية على كبار ملَّاك الأراضي الزراعية، بل استفاد منها الأوروبيون من مختلف الطبقات وفي سائر المهن. إذ منحت الامتيازات الرعايا الأوروبيين الحقَّ في العمل بلا ترخيصٍ، وتأسيسَ ورشٍ ومصانعَ وشركاتٍ دون إخطار الجهات المعنية أو الرقابة عليها، مع الإعفاء الجزئيّ من الضرائب.
وقَّعت الحكومات المصرية المتعاقبة اتفاقياتٍ تقلِّص الامتيازات الأجنبية. في سنة 1936، وقَّعت الحكومة المعاهدةَ المصرية البريطانية التي نصَّت على سحب جميع قوّات الاحتلال البريطاني من مصر باستثناء اللازمة منها لحماية قناة السويس والمصالح الأجنبية. وفي العام التالي، وقَّع رئيس الوزراء مصطفى النحّاس معاهدةَ مونترو التي نصَّت على السحب التدريجي للامتيازات الأجنبية وإلغاء المحاكم المختلطة. دخلت المعاهدة حيِّز التنفيذ في أكتوبر 1937، وحدَّدت فترةً انتقاليةً للتنفيذ الكامل تمتدّ اثني عشر عاماً، انتهت سنة 1949.
تراجع الوجود الأجنبي بالتزامن مع توقيع هذه الاتفاقات. بحسب الإحصاءات الرسمية المصرية واليونانية، استمرت أعداد الأجانب اليونانيين والإيطاليين في الصعود في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. ثم بدأت تتراجع في العقد الرابع، واستمر تراجعها في العقدين الخامس والسادس، أي قبل اعتلاء عبد الناصر سدّة الحكم. ويُظهر الإحصاء الصادر عن هيئة الإحصاء اليونانية بين سنتَيْ 1931 و1940 تراجعَ تفضيل اليونانيين مصرَ وجهةً للهجرة عقب توقيع اتفاقية 1937 بعد أن كانوا أكثر الأوروبيين هجرةً إليها. إذ ارتفع عدد الراحلين عن مصر من نحو ألفٍ وتسعمئة يونانيٍّ سنةَ 1931، إلى نحو ألفين وخمسمئةٍ بعد سنةٍ من توقيع الاتفاقية. وتراجع عدد المهاجرين إلى مصر من نحو ستّة آلاف يونانيٍّ في النصف الأول من الثلاثينيات إلى نحو أربعة آلافٍ وخمسمئةٍ في الفترة بين سنتَيْ 1937 و1940.

المصدر: التعداد العام للسكان في مصر وإحصاءاتٌ صادرةٌ عن الخارجية اليونانية
لماذا آثر الأوروبيون الرحيلَ عن مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين بعد استقرارهم فيها عقوداً؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بدراسة تحوّلات الجالية اليونانية، أكبر الجاليات الأوروبية في مصر في بدايات القرن العشرين، وأكثرها تنوعاً. تظهر الدراسة ارتباط الخروج بتقليص الامتيازات ثم إلغائها، لا بالتأميم اللاحق.
يربط أنجلو دالاخاني، أستاذ التاريخ الحديث في مركز الأبحاث الفرنسي، هذا التراجعَ بإلغاء الامتيازات. في بحثه "هجرة اليونانيين من مصر خلال السنوات الأولى بعد الحرب،" المنشور في مجلة الشتات الهيلينيّ سنة 2009، يحاجِج دالاخاني أنّ الامتيازات كانت "عاملَ جذبٍ" للأوروبيين. فقد فتحت لهم أبواب العمل والربح السريع، بفضل جنسيّاتهم لا لكفاءتهم. ومع إلغائها لم تَعد جنسياتهم الأوروبية كافيةً لتحصيل الأموال، فتراجع وفودهم لمصر سريعاً.
كانت الجالية اليونانية الأكبر والأكثر انخراطاً في المجتمع المصري. يرصد يورغو أثاناسياذي، مدير المعهد الفنّي اليوناني بالقاهرة بين سنتَي 1929 و1944، في دراسته "إشكالية الهيلينية المصرية والتعليم" المنشورة سنة 1948 أوضاعَ اليونانيين الاجتماعيةَ في مصر. شكَّلت الطبقة العاملة نحو 95 بالمئة من الجالية، ستون بالمئة منهم من العمّال، و35 بالمئة من الموظفين وأصحاب الأعمال الحرّة المتوسطة والصغيرة، مثل الخياطة والمقاهي وورش صيانة السيارات والصيد ومحالج القطن.
الامتيازات التي حازها اليونانيون في مصر جعلتهم يخططون للاستقرار الأبديّ فيها. في سنة 1913 اجتمع أنطونيو ساكتوري، القنصل اليوناني بالإسكندرية، مع قياداتٍ وعمّالٍ يونانيين وسألهم عن خطّتهم للعودة إلى وطنهم حالَ تصاعد الحسّ القوميّ عند المصريين. كان ردّهم، كما نقل القنصل في خطابٍ أرسلَه لحكومته في اليونان في العشرينيات، أنهم لا ينوون الرحيل عن مصر أبداً "إلّا إذا جفّ النيل، وهذا مستحيل". تروي المؤرخة اليونانية ماتولا سيذيري هذه الحكاية في دراستها "العائلات اليونانية في الإسكندرية" المنشورة سنة 2004، ومعها تعليق القنصل بأن "معاهدة الامتيازات أنْسَت الأوروبيين أنهم في مهجرٍ وليسوا في وطنهم".
أدرك القنصل ارتباط هذا الاستقرار ببقاء الامتيازات. إذ نقلت عنه سيذيري تنبّؤَه برحيل الأوروبيين "جماعياً" عن مصر إذا استمرت "يقظة المجتمع المصري ضدّ السيطرة الأجنبية" وتحوَّلت أمراً واقعاً يؤثر على السياسات الحكومية. فالأوروبيون، بحسب القنصل، "اعتادوا على امتيازاتٍ ترفعهم درجةً عن أبناء البلد، ولن يستطيعوا التأقلم مع أيّ وضعٍ آخَر". أما توقعهم البقاء أبداً، فكان بسبب اقتناعهم بدوام الامتيازات. وهي القناعة التي "غطّت أبصارهم وشوّشت حكمتهم" لدرجةٍ منعتهم من الاستعداد للحظة الرحيل. في السنوات اللاحقة، تآكلت امتيازات الأوروبيين الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فبدأ خروجهم من مصر قبل أن يجفّ النيل.
في المقابل شهد التعليم الأجنبي في مصر تراجعاً ملحوظاً مع بدء رحيل الأجانب. حيث تراجع عدد الطلاب بنسبة 24.5 بالمئة في الفترة من 1935 وحتى 1955. وانخفض عدد المدارس من 690 مدرسةً سنة 1935 إلى 284 سنة 1955. المدارس اليونانية الأكثر انتشاراً، انخفض عددها من 100 إلى 82 مدرسةً، وتراجع عدد طلابها من أكثر من اثني عشر ألفاً إلى تسعة آلاف طالب.
حدا تراجع التعليم الأجنبي في مصر بالحكومة المصرية لتسنّ قانوناً ينهي هيمنة الأوروبيين على التعليم. فأصدرت سنة 1948 قانوناً يمكِّن وزارة المعارف من الإشراف على المدارس الأجنبية، مع إلزامها تدريسَ اللغة العربية وتنقيح مناهج الجغرافيا والتاريخ. أثار هذا القانون قلقاً لدى بعض الجاليات. فقد زعمت السفارة اليونانية في تقريرٍ لها سنة 1952 أن القانون يعبّر عن تصاعد "النبرة القومية" في مصر، ما دفع مزيداً من الأوروبيين إلى مغادرتها. وذكر التقرير أن "الرحيل المستمر للأساتذة اليونانيين من مصر يؤدّي إلى تنامي الاستعداد النفسي بين اليونانيين بضرورة الرحيل عن البلاد. لأنه ما دام الأصدقاء قد غادروا وما دام معلّمو الأطفال يغادرون والمدارس تغلق أبوابها، فلا داعيَ لأن نطيل البقاء هنا". وفي تقريرٍ آخَر أرسلته السفارة إلى أثينا في أغسطس 1962، حذّرت من استمرار أزمة نقص المعلمين في مدارس الجاليات التي أدّت لإغلاق بعض المدارس وزيادة وتيرة رحيل العائلات اليونانية، مؤكّدةً أن رحيل المعلمين يغذّي الشعور العامّ بضرورة مغادرة مصر.
لم تقابِل الجاليات الأجنبية قانونَ سنة 1948 وإلغاءَ الامتيازات بالسعي للتقارب الثقافي مع المصريين. فبحسب وثيقةٍ صادرةٍ عن السفارة اليونانية بالقاهرة سنة 1951، تقدّم طه حسين وزير المعارف المصري حينئذٍ بمقترحٍ لإدخال الدراسات اليونانية القديمة إلى الجامعات المصرية، طالباً من السلطات اليونانية الدعمَ الأكاديميَّ لتنفيذه. في يناير 1951 أرسل القنصل اليوناني بالإسكندرية أليكس لياتس إلى حكومته في أثينا اقتراحاً بعدم الموافقة على تخصيص ميزانية لهذا الأمر. وبرّر ذلك بأن "التعليم والثقافة يلعبان دوراً ثانوياً فقط بين العرب"، فلا فائدة من تخصيص ميزانيةٍ للتعاون الثقافي أو التعليمي مع مصر، وإنما يجب الاهتمام بكيفية الاستفادة من التعاون الاقتصادي وحسب.
كانت التقارير الصادرة عن السفارة اليونانية بالقاهرة تكرّر التأكيد على ضرورة اهتمام أبناء الجالية بدراسة اللغة العربية. وتشير إلى أن تجاهل ذلك منع تأقلمهم مع القوانين بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية. ودَعَت في خطابٍ أرسلته إلى أثينا سنة 1951 إلى الاهتمام بالعربية الفصحى "قبل فوات الأوان".

وقع ما حذّرت منه السفارة اليونانية. إذ ساهم إحجام المدارس الأجنبية عن تعليم اللغة العربية في إفقادهم مزيّةً مهمةً في سوق العمل، بعد أن أصبح إتقان اللغة العربية من شروط الاستمرار في الوظائف الكتابية والحسابية، خاصّةً في الشركات المساهمة والبنوك. ووفقاً لدراسة "من الأفندي إلى الانفتاح" للمؤرخ ريلي شيشتر المنشورة سنة 2009، فإن تطوّر التعليم وظهور الطبقة المتوسطة فرضا إيجادَ حلولٍ لتشغيل المصريين المتعلمين في الوظائف التي كانت حكراً على الطبقات المتعلمة من الجاليات الأجنبية.
كان القانون تتويجاً لصعود نجم العمالة المصرية وتزايد الاستعانة بها على حساب الأجنبية. ترصد هذا الصعودَ مخاطبات السفراء الأوروبيين في مصر في الفترة بين الحربين العالميتين. فقد أرسل سفير اليونان في القاهرة إي ذيلموزو خطاباً إلى الخارجية اليونانية في يوليو 1937، اطّلعت الفِراتْس على نسخةٍ منه، رصد فيه التطوّرَ الملحوظ والمستمر للمهنيين والعمال المصريين. وحذَّر السفير من احتمالية "الرحيل الجماعي للأوروبيين" بسبب تزايد استعانة الشركات بالعمالة المصرية على حساب الأجنبية و"تطور المهنيين والعمال المصريين بشكلٍ ملحوظٍ يوماً بعد يوم".
لم يقتصر هذا الإدراك على الدبلوماسيين، بل امتدّ للمثقفين والصحف الأجنبية في مصر. في سنة 1936، نشر الكاتب اليوناني كوستا ماغا ثمانيَ حلقاتٍ بمجلة "بان إغبتيا" السكندرية تحت عنوان "القضية الملتهبة.. موقعنا الحائر الآن في مصر"، متوقعاً انتهاءَ سيطرة العمال الأجانب على السوق المصرية ورحيلَهم عن مصر. إذ ليس متصوَّراً في بلدٍ يناضل للاستقلال "أن يسمح للعنصر الأجنبي، خاصّةً المنتمي إلى الطبقة العمالية والمهنية، بأن يظلّ هو المسيطِر. بل إنّ أوّل ما سيشغل بال المصريين الأحرار هو وضع قوانين تحمي العمالة المصرية".
وفَّرت السيطرة الأجنبية على سوق العمل حمايةً مؤقتةً للأوروبيين من آثار هذا الصعود، فأضرّت بالمصريين وزادت شعورَهم بالظلم. في دراستها "البطالة والمجتمع المصري" المنشورة سنة 2016، ترصد الباحثة سماح إبراهيم غريب احتكارَ العمالة الأجنبية الوظائفَ التي كانت متاحةً للمتعلمين. في المقابل اقتصر عمل المصريين بالشركات والمصانع الأجنبية على الوظائف الهامشية. تعضد سجلات الشركات المحفوظة في أرشيف مصلحة الشركات بوزارة المالية المصرية هذه الخلاصة. إذ تكشف سجلّات شركتَيْ كفر الزيات للقطن والإسكندرية لحلج الأقطان، على سبيل المثال، شَغْلَ اليونانيين جميع المناصب الإدارية فيهما. أدّى ذلك لزيادة نسب البطالة بين المتعلمين المصريين، فارتفعت من 28 بالمئة سنة 1938 إلى 38 بالمئة سنة 1945.

سرعان ما غيَّر القانون خريطةَ سوق العمل، وبدأت الشركات تستبدل الموظفين المصريين بالأجانب. في مارس 1948 أبلغت الغرفة التجارية اليونانية بالإسكندرية السلطاتِ الدبلوماسيةَ اليونانيةَ في مصر أن قانون الشركات سيؤدي لتسريح 40 بالمئة من العمالة اليونانية في مصر في سنتين. وفي السنة نفسها، أعدّت القنصلية اليونانية بالإسكندرية مذكّرةً أشارت فيها لمغادرة عددٍ كبيرٍ من اليونانيين مصرَ بلا عودةٍ، ومنهم العاطلون عن العمل. وتكشف وثيقةٌ صادرةٌ عن وزارة المالية المصرية في نوفمبر 1950 فصلَ شركة "سباتس" 33 بالمئة من موظفيها الأجانب لتطبيق النسبة القانونية الخاصّة بعدد العمالة المصرية.
مع استمرار صعود الحركة الوطنية، استمرت الحكومة في سَنّ القوانين الرامية لإنهاء هيمنة الأوروبيين على سوق العمل، على نحوٍ دفعهم للرحيل عن مصر. وبعد سنة 1950، شرعت قوانين لمنع الأجانب من العمل في 65 مهنةً، منها الطبّ والصيدلة والمحاماة. فلم يجد هؤلاء بدّاً من الرحيل.
طوت هذه التطورات صفحةَ الامتيازات، وأحالتها ماضياً يحنّ إليه الأوروبيون. في فبراير 1951 أرسل السفير اليوناني في القاهرة خطاباً لأثينا، أشار فيه إلى حنين اليونانيين "لعهد الامتيازات الذي انتهى حيث انعدام منافسة المصريين لهم، والإعفاء الكامل من الضرائب، والأرباح التي لا حدود لها مقابل جهدٍ محدود". وفي فبراير سنة 1954 أرسلت القنصلية اليونانية في القاهرة مذكّرةً إلى أثينا، عرضت فيها أوضاعَ العمال الأوروبيين في مصر. ركّزت المذكرة على فقدان العمال الحمايةَ التي وفّرتها لهم الامتيازات، والتي سهَّلت عليهم تأمين ضروريات معيشتهم ومراكمة الثروات أحياناً، وأكّدت أن تغيُّر الأوضاع "بشكلٍ جذريٍّ" فاجأ العمال، وأنهم لم يستفيقوا منه.
تكشف الصراعات داخل الجالية اليونانية هذا التباين في المواقف. في سنة 1946، شكَّلت الجالية لجنةً قانونيةً ضمَّت القناصلَ لبحث وسائل تفادي خضوع اليونانيين لقوانين الإقامة والعمل. اقترحت اللجنة توقيعَ معاهدةٍ مع الحكومة المصرية تمنح اليونانيين حقَّ الإقامة في مصر بلا قيودٍ ومساواتَهم في الحقوق مع المصريين. إلّا أن بعض الصحف اليونانية عبَّرت عن رفضها المقترحَ، وعدّته محاولةً من قيادات الجالية وأصحاب رؤوس الأموال إبقاء الامتيازات بصورةٍ أخرى بدلاً من دعم مساعي المصريين للاستقلال.

وتكشف تقارير مفتّشي مصلحة الشركات محاولةَ بعض أصحاب الشركات اليونانيين التحايلَ على القوانين. فقد رصدت التقارير عرضَ الشركة اليونانية "سباتس للمشروبات" بياناتٍ وهميةً عن عدد العاملين الأجانب بها في بين سنتَي 1948 و1951. إذ صرّحت الشركة في نوفمبر 1950 بأن نسبة موظفيها المصريين 80 بالمئة، في حين كانت النسبة الفعلية 66 بالمئة.
استمرّ تحايل أصحاب الشركات على القوانين بغرض توظيف الأوروبيين لا المصريين. في أغسطس 1952، صدر قانونٌ يلزِم جهات العمل التي تشغِّل الأجانب إخطارَ الجهات المختصة بذلك، وفَرَضَ على الأجانب الحصولَ على تصاريح عمل. لكن كثيراً من الأجانب لم يمتثلوا للقانون. بحسب تقريرٍ نشرته صحيفة الأهرام في نوفمبر 1960 تقدّم 2250 أجنبياً بطلب الحصول على التصريح، من أصل نحو مئةٍ وخمسين ألف أجنبيٍّ كان يعمل في مصر حينها، وفق إحصاء وزارة العمل والشئون الاجتماعية. فسّر أناستاسيوس ثيوذوراكي، رئيس الجالية اليونانية حينئذٍ، الامتناع عن التسجيل في مذكرةٍ عنوانها "سرّي للغاية" أرسلها إلى منظمة العمل الدولية في يناير 1956 بمعرفة الرأسماليين الأجانب أن القانون استهدَف الحدَّ من سيطرة العمالة الأجنبية على السوق. وبيّن أن امتثاله سيخرج بعض الأوروبيين من سوق العمل ويضطرّهم للرحيل من مصر، عادّاً القانون اضطهاداً للأجانب.
وأمام هذا الإصرار على التمايز عن المصريين، اختار فريقٌ آخَر من الأجانب الاندماجَ في المجتمع والحصول على الجنسية المصرية. حين صدر قانون الجنسية سنة 1929، ومنح الأوروبيين المولودين في مصر أو المقيمين فيها عشر سنواتٍ حقَّ الحصول عليها شريطة تنازلهم عن جنسياتهم الأصلية، اختار الأوروبيون عدم الحصول عليها لئلّا يفقدوا الامتيازات التي تضمنها لهم جنسياتهم الأوروبية. تغيّر الوضع بعد توقيع اتفاقية سنة 1936، فعدّ السفير اليوناني في القاهرة الحصولَ على الجنسية المصرية "حلّاً استراتيجياً ومضموناً لبقاء اليونانيين في مصر والحفاظ على ممتلكاتهم".
تباينت مواقف اليونانيين من سؤال التجنيس. في كتابه "مشكلات الغربة" المنشور سنة 1946 يرى التاجر والكاتب اليوناني كوستا تسنجاراذيس، الذي عاش في صعيد مصر بين العشرينيات والأربعينيات، التجنّسَ "وصمة عارٍ" ستلاحق كلَّ يونانيٍّ يوافق عليها، لأنه يهدّد هويّةَ اليونانيين وقوميّتهم. انتقدت صحيفة "باريكو" هذا الموقفَ مطالبةً أبناء الجالية باللجوء الجماعي للتجنيس لضمان البقاء في مصر.
سرعان ما بدأت خطط الخروج، فنقل بعض الرأسماليين الأجانب جزءاً من استثماراتهم إلى خارج مصر. وفقاً لألكسندر كازاميس، فإن تخلّي الرأسماليين اليونانيين عن الطبقة العاملة وتركَها دون قيادةٍ أو حمايةٍ عزّز "روح الرحيل" لدى الجالية اليونانية في مصر. يعزّز هذا الرأيَ مقالٌ نشرته صحيفة "باريكوس" في ديسمبر 1960. وَصَفَ المقال بعضَ الرأسماليين اليونانيين بأنهم "أنصار الاستعمار" الذين يرسلون اليونانيين من مصر إلى استثماراتهم في الخارج من أجل استغلالهم "والمضاربة" بهم.
رصدت الصحافة اليونانية جانباً من هذا الاستعداد النفسي للخروج. في مايو 1954، نشرت صحيفة باريكوس مقالاً للكاتب سقراط كالياريكو بعنوان "صفارات الهجرة"، أشار فيه إلى حزم بعض أفراد الجالية اليونانية حقائبهم واستعدادهم للرحيل في أيّ وقت. حتى وإن لم يقرّروا بعد وجهةَ الرحيل ووقتَه، إلّا أنهم يعتقدون أن مصر لم تعد تحمل مستقبلاً لأبنائهم. ولَفَتَ الكاتب لتشاؤمٍ يسود الجاليات "تغذّيه دعايةٌ مستمرةٌ بأن الحلّ الوحيد هو الرحيل". وهو نفس ما ذهب إليه الطبيب النفسي نيكوس سيذيري في بحثه عن "الصدمة النفسية التي ضربت الأوروبيين بعد إلغاء الامتيازات" المنشور في مجلة الشتات الهيليني سنة 2009. فقال سيذيري "في هذه السنوات سادت سيكولوجية الحنين الشديد إلى العصر الذهبي المفقود، بجانب سيكولوجية التشاؤم وضرورة الرحيل من البلاد.
هذا المَيل النفسي لمغادرة مصر، رغم استثناء اليونانيين على سبيل المثال من كثيرٍ من القوانين لدعم استمرار بقائهم في البلاد، كان مرتبطاً داخلهم بثلاثة تقييمات. تقييمٌ موضوعي للتغيرات الجديدة في مصر، وتقييمٌ سياسي، وتقييمٌ تخيّلي. هذا التقييم الأخير طغى على الموضوعي والسياسي. فأصبح الشعور بالقلق من المستقبل وألم فقدان الحاضر وضياع الفرص التي كانت في الماضي هما المحرّكان لكلّ قراراتهم". ولَفَتَ الطبيب النفسي اليوناني إلى أن مقارنة الأجانب وضعَهم في الخمسينيات بعصر ما قبل الثلاثينيات التي يعدّونها "عصراً ذهبياً" عمّق تشاؤمهم وشعورهم بضرورة مغادرة البلاد، حتى وإن لم تكن أوضاعهم في الحقيقة سيئة.
