محمد لم يزُر تعز قطّ منذ مغادرته مع عائلته. ويصفها بكلماته كما يعبّر عنها تصويراً في لوحته بأنها "مكانٌ يبكي فيه الكبار عندما يذكرونه"، في حين يعدّ المخيمَ "الوطنَ الذي نعرفه". فمنذ بدأ الصراع بين جماعة الحوثي وقوات الحكومة اليمنية نهاية 2014 وتطوّر إلى تدخلٍ خارجيٍ سنة 2015، شهدت اليمن نزوحاً قسرياً واسعاً. وحسب تقرير صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) بلغ عدد النازحين بحلول سنة 2025 نحو 4.8 مليون نازحٍ جلّهم من الأطفال. وقد وُلد كثيرٌ من هؤلاء الأطفال في مخيمات نزوحٍ موزعةٍ في أرجاء البلاد حيث ما يزالون يعيشون حتى اليوم.
قوّضت الحرب وما نتج عنها من نزوحٍ أُسُسَ التعلق الآمِن عند كثيرٍ من اليمنيين، لاسيما الأطفال منهم، فكانت النتيجة هُوياتٍ قائمةً على الخوف وعدم الثبات، تظهر في اضطرابات القلق وصعوبة تصور مستقبل جيد. فالنزوح تعدّى الانتقال الجغرافي ليصبح فضاءً مؤقتاً تُعاد فيه صياغة الهُوية بتفكيك الذاكرة الجمعية وإعادة تركيبها شكلاً جديداً. ويبرز ذلك أولاً في استغلال الفراغ في المعنى والمستقبل لجعل بعض الأطفال جنوداً في الحرب. وثانياً في تغير اللهجات واللغة في مناطق النزوح ومعها تحول الانتماء إلى سلعةٍ يمكن تسويقها. وثالثاً في إعادة كتابة الذاكرة الجمعية بقلم الحرب وبمقياس أطراف الصراع تحت نظامٍ تعليميٍ رسميٍ متهالكٍ أو غير موجود. بهذا أحدث النزوح شرخاً عميقاً في نسيج الهُوية الوطنية اليمنية، القائمة على قيمٍ وتقاليد مشتركةٍ بين أنحاء الدولة، وإن ظهرت ثَمَّ مبادراتٌ لرأب شيءٍ من هذا الصدع وإعادة استكشاف هُوية ما قبل النزوح.
بهذا دخل اليمنيون دوامةً من الشتات والنزوح داخل البلد وخارجها، حتى انقلبتْ التركيبة السكّانية في عدّة مناطق. فقد قفز عدد سكّان محافظة مأرب منذ اشتعال الحرب سنة 2014 من ثلاثمئة ألف نسمةٍ إلى أكثر من ثلاثة ملايين سنة 2023، ثلثيهم من النازحين. خلقت أزمة النازحين تحدياتٍ إنسانيةً كنقص الغذاء وصعوبة الوصول إلى ماءٍ صحّيٍ وأزمة التعليم وازدياد العنف وانتشار الأمراض والأوبئة، كالكوليرا التي انتشرت في 2016 حتى وصل عدد المصابين في 2025 ما يقارب اثنين وسبعين ألف يمنيٍ حسب منظمة الصحة الدولية.
غير أن جلّ التقارير التي تتعامل مع الأزمة اليمنية، التي عدّتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مارس 2025 واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، تركّز في العادةِ على أزماتٍ جسديةٍ مؤقتةٍ يمكن حلّها بالدعم المالي والغذائي وتسهيل عمل المنظمات والمؤسسات العاملة في مجال الرعاية. لكن حالة اللجوء والنزوح تتجاوز الغذاء والملجأ لتُحدِث تغييراتٍ بنيويةً في نسيج المجتمع اليمني تعيد تشكيل الهوية.
لهذا في تحليله ظاهرة النزوح في اليمن يربط الكاتب الصحفي اليمني زهير علي هذه الظاهرة بقضايا الانتماء واللغة والذاكرة. ويشير علي في حديثه للفراتس إلى أن "النازح بعد أن يفقد حماية الدولة غالباً ما يلجأ إلى الانتماءات الأولية أو يقع في فخ اغترابٍ مزدوجٍ، فلا هو قادرٌ على الانتماء لوطنه المنهار ولا إلى المجتمع الجديد الذي استقبله". في هذا السياق تتحول الذاكرة الجمعية الحاملة اللغةَ والتجارب المشتركة إلى ساحة صراعٍ توظفها الأطراف المتحاربة لتحقيق مصالحها السياسية.
استدعت الحكومة اليمنية، مثلاً، رموزاً تاريخية لتأكيد شرعيتها، مطلقةً على الحوثيين تسمية "الإماميين الجدد" في بعض خطاباتها الرسمية. فقد قال وزير الداخلية إبراهيم حيدان في حديثه يوم 22 سبتمبر 2024 مع وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" بمناسبة عيد ثورة 26 سبتمبر، أنّ الثورة "كشفت واقع حال الشعب اليمني وفداحة الكارثة التي كان يعيشها في ظل الحكم الإمامي الاستبدادي والقمعي الذي كرس ثلاثي الجهل والفقر والجماعة [. . .] ". في ذلك إشارةٌ لنضال اليمنيين التاريخي ضد المملكة المتوكلية ونظام الإمامة الذي ثاروا عليه سنة 1962، وتحويراً للصراع الحالي ليغدو امتداداً لتلك الحرب الأهلية.
بالمقابل، استخدمت جماعة الحوثي الخطاب الإعلامي لتحويل معاناة النازحين اليومية إلى رواياتٍ تُحمّل الخصم المسؤولية الكاملة عن الألم. وعليه صار الخطاب الإعلامي ورقة ضغطٍ وأسلوباً تعبوياً. فمثلاً نشرت صحيفة الثورة التابعة للحوثي في أبريل 2019 مقالةً بعنوان "العدوان يلاحق اليمنيين إلى مخيمات النازحين" موجهةً الاتهامات إلى التحالف العربي بقيادة السعودية حينها باستهداف مخيمات النازحين بالطيران بقصد "إحداث مأساة إنسانية غير مسبوقة" لآلاف الأسر النازحة. ووجّه زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي في 16 أكتوبر 2025 على قناة "المسيرة" التلفزيونية التابعة للجماعة اتهاماتٍ للمنظمات الدولية مثل اليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي بالمشاركة في "أنشطة تجسسية وعدوانية" لصالح إسرائيل.
ولا ينتهي الأمر بتسيس الخطاب، فتأثير النزوح على بنية الهوية يمتد أيضاً للعمل الإغاثي. ففي محافظة مأرب التي تستقبل أكبر عددٍ من النازحين، تتحول المساعدات الإنسانية من شريان حياةٍ إلى عملةٍ سياسيةٍ في يد أطراف النزاع. في حديثه للفراتس قال الباحث الاقتصادي بجامعة تعز، فهمي المعلم، لم يعُد توزيع بطاقات التموين يعتمد على الحاجة بقدر ما يعتمد على الولاءات. إذ تَحُول الأطراف المتنازعة دون وصول المساعدات إلى المناطق غير الموالية. هذه الممارسات توثقها تقارير دوليةٌ، مثل تقرير "هيومن رايتس ووتش" السنوي لسنة 2024 الذي رصد عرقلة الأطراف المتصارعة في اليمن، ولاسيما الحوثيين، وصول المساعدات إلى المدنيين ومصادرتها شحنات الغذاء والدواء لتحويلها إلى المجهود الحربي.
تقع الحكومة اليمنية في الفخ نفسه. فهي تستغلّ وجود المنظمات الدولية أداةً لتعزيز شرعيتها. على سبيل المثال، استغلّ معمر الأرياني، وزير الإعلام والثقافة والسياحة، في يونيو 2025 تجاوزات جماعة الحوثي على المنظمات الإنسانية مُجَدِّدَاً دعوة الحكومة المنظماتِ الدوليةَ لنقل مقارِّها إلى عدن، عاصمة الحكومة اليمنية. وجاء التصريح بعد انتشار أخبارٍ نقلتها مصادر يمنيةٌ مطلعةٌ، حسب قناة العربية، مفادها أن جماعة الحوثي اقتحمت في مايو 2025 مقارّ منظمة "أنقذوا الطفل" في مناطق سيطرتها وصادرت أصولاً تابعةً للمنظمة قُدّرت بنحو أربعة ملايين دولارٍ أمريكيّ. وذلك بعدما أعلنت المنظمة إغلاق مكاتبها في صنعاء وعددٍ من المحافظات ذلك الشهر.
سواءً بالتحشيد الخطابي أو باستغلال المساعدات والإعلام وسيلةً للتعبئة، خلقت هذه الأوضاع نظاماً طبقياً جديداً داخل المخيمات. أصبح النازح المتبنّي خطاباً مؤيداً للأطراف المتحكمة هو الأكثر حظوةً بالدعم، في حين يُحرم الرافضون أو المحايدون من حصّتهم من الغذاء والدواء. بهذا أنتج النزوح هُوياتٍ هجينةً أو متغيرةً بين النازحين المهمَّشين، فهم الأكثر عرضةً لتبنّي عناصر ثقافيةٍ جديدةٍ أو الذوبان في المجتمعات المضيفة، أو التحول إلى جماعاتٍ تنفصل عن المجتمع وتُوالي أيّ قوّةٍ توفّر لها البقاء، مما يهدد النسيج الاجتماعي التقليدي. فغياب المعنى وعدم وضوح المستقبل ملأته الجماعات المسلحة بوعودها بالانتماء والبطولة وإعادة الكرامة، وقد طال ذلك الأطفالَ بلا ريب.
يضيف البكاري أن اضطرابات القلق وصعوبة التركيز ومشاعر العار المرتبطة بالانتماء للمخيم (وإن لم تكن واعيةً) ردُّ فعلٍ طبيعيٌّ على واقعٍ غير طبيعيٍ، ليصبح التشرد الإطار الوحيد الثابت في حياتهم. لكن هذه الاضطرابات النفسية – من قلقٍ وصعوبة تركيزٍ – لا تبقى حبيسة دواخلهم للأبد، بل تتحول إلى تربةٍ خصبةٍ للاستغلال. فالأطفال المثقَلون بمشاعر العار والضياع، الذين يفتقدون أبسط مقومات الاستقرار، يصبحون فريسةً سهلةً لمن يقدم لهم بديلاً عن هذا الواقع المأساوي. فَمَن رسم بيتاً يحلم به، حسب البكاري، قد يتحول إلى طفلٍ ينضمّ لجماعةٍ مسلحةٍ لأنه يبحث عن بيتٍ بديلٍ وعن هويةٍ وانتماءٍ لم يجدهما في عالمه المحطّم في مخيم النزوح.
في هذا السياق، جاء في دراسةٍ نشرها مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية لمجموعةٍ من الباحثين بعنوان "ظاهرة تجنيد الأطفال في مأرب" في أكتوبر سنة 2024، أن ظاهرة تجنيد الأطفال تنتشر بين أطراف الصراع كافةً، ويشمل الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي والحوثيين. فحتى مع توقيع الحكومة اليمنية على اتفاقية حظر استخدام الأطفال في القتال سنة 2014، تشير الدراسة إلى أنّ ظاهرة التجنيد تبرز عند "الجماعات المسلحة غير الحوثية في كلٍّ من مأرب وشبوة". مضافاً لذلك اعتماد الجيش الوطني التابع الحكومةَ على "عددٍ كبيرٍ من النازحين الذين يعيشون في مدينة مأرب" ليحفز الأطفال للانضمام إلى صفوفه، خصوصاً أولئك الذين لهم ثأرٌ مع جماعة الحوثي.
تورد الدراسة كذلك أنّ الحوثيين أجبروا القبائل الواقعة تحت سيطرتهم على دعمهم بالمقاتلين "بمن فيهم الأطفال، في ظلّ جهود التعبئة العسكرية المتواصلة التي تبذلها الجماعة للحرب". إذ يتبع الحوثيون آليّةً للتأثير على الأطفال في المدارس يلقنونهم فيها عقيدة الجماعة بمحاضراتٍ "ذات صبغةٍ طائفيةٍ، وعادةً ما تكون متاحةً أولاً لالتحاق طلاب المرحلة الإعدادية".
سألتْ الفراتسُ عبد الرحمن القباطي، مدير مشروع إعادة تأهيل الأطفال الذي انطلق في محافظة مأرب في 2017، عن العلاقة بين تجنيد الأطفال وصناعة هويتهم. فأجاب بأنهم "يتعلمون كراهية أماكن لم يزوروها، ويحملون سلاحاً ضد أوطانٍ وهمية". وكذا حذّر زهير علي في حديثه للفراتس، بأنّ الجماعات المسلحة تقدّم نفسها ملاذاً وأنّ "هذه الهويات البديلة القائمة على العنف تقدّم حلّاً سحرياً للمعنى في حياةٍ بلا معنىً، لكن الثمن طفولةٌ مسلوبةٌ ومستقبلٌ محطم". وهو ما بدا مطابقاً للواقع في حالة حسين، وعمره 14 عاماً، وهو أحد أطفال المخيمات الذين انضموا لجماعةٍ مسلحةٍ تابعةٍ للحوثيين بعد أشهرٍ من العيش تحت الخيام ومعاناته من التنمر المستمر. قال لنا حسين "أخبروني [الحوثيين] أن البندقية ستجعل الناس يحترمونني، وسأصبح مدافعاً عن المظلومين مثلي"، مخفياً يده اليمنى المشوهة بسبب شظية.
وفي نسقٍ مشابهٍ، يحذّر عمار مهيوب، الباحث في العلوم السياسية بجامعة تعز، في حديثه مع الفراتس من تحوّل طفولة جيلٍ كاملٍ إلى وقودٍ لهذه الحرب. ويشير إلى استغلال تجار الحرب يأسَ هؤلاء الأطفال وهشاشةَ وضعهم القانوني. فيجندونهم حمّالين في أسواق السلاح أو حرّاساً للمستودعات في خطوط التماسّ بأجورٍ زهيدةٍ لأنهم غير مرئيّين في سجلّات الدولة الرسمية.
بهذا يهزّ النزوح من الداخل بنى المجتمع التقليدية التي حكمته قروناً. ومن ثمّ يشرح للفراتس الخمسينيُّ أبو ياسر، النازح من صعدة والساكن مخيمَ الأمل بمحافظة الجوف، كيف تحولت علاقات القبيلة التي كانت إطاراً للحماية في الماضي إلى ذريعةٍ لابتزاز النازحين وإجبارهم على دعم جماعاتٍ مسلحةٍ تحت شعارات الانتماء. يرى أبو ياسر أن هذه الظاهرة ليست عفويةً، بل نتاج إستراتيجيةٍ ممنهجةٍ تهدف إلى تفريغ الهويات التقليدية من مضمونها وتحويلها إلى أوعيةٍ فارغةٍ تُملأ بعقيدة الحرب.
يتفق مع أبي ياسر الكاتب إبراهيم حسان في حديثه معنا، إذ يقول: "لم تعد سلطة الأب أو الشيخ مقدّسةً هنا. الأهمية الآن لمن يملكون علاقاتٍ مع منظمات الإغاثة أو يستطيعون التفاوض للحصول على الخدمات. كبار السنّ، حماة التقاليد، يفقدون نفوذهم لصالح الشباب الأكثر قدرةً على التكيف مع لغة المنظمات الدولية وشبكات التواصل الحديثة". بهذا خلق النزوح تناقضاً داخلياً، إذ بينما ذوّب كثيراً من الفوارق التقليدية القائمة على البعد القبلي والمناطقي، ساهم في خلق انقساماتٍ جديدةٍ قائمةٍ على هوية النزوح نفسه. وهي المعضلة التي يلخّصها أحمد حسن، معلم الاجتماعيات في تعز، بقوله إن "المراهق الذي لا يعرف اسم جدّه، سيفخر بلقب 'المقاوم' لأنه الشيء الوحيد الذي يملكه".
وفي خضم تفكك البنى التقليدية هذا نشهد ولادة أشكالٍ جديدةٍ من الوعي والانتماء. فوسط الرماد، كما يبدو، نبتت هوياتٌ ولهجاتٌ هجينةٌ في محاولةٍ للتعايش مع واقع النزوح أو طريقةً للاندماج وسط البيئة الجديدة، على ما يحمله ذلك من بذور تحوّلٍ ثقافيٍ عميق.
يلاحظ خليل أيضاً اختفاء مصطلحاتٍ قبليةٍ مثل "فخيذة"، أيْ أحد فروع القبيلة العربية، أو "حمية" قبلية من قاموس أطفال المخيمات. تحلّ محلّ هذه المصطلحات هوياتٌ مرتبطةٌ بالمكان، كأن يقول أحدهم إنّه "نازح في مخيم الخوخة". ويخلص خليل إلى أن "القبيلة إطاراً للحماية وهويةً جمعيةً باتت تذوب أمام واقع التشرد اليومي".
غير أن محاولات التأقلم مع واقع النزوح ليس السبب الوحيد وراء "التغير في اللهجة"، فتغير سبل التعليم النظامي أو غيابه له دورٌ كذلك.
حرم التنقّل القسري المستمر كثيراً من الأطفال من الانتظام في الدراسة، ودفع آخرين إلى التعليم المؤقت أو غير النظامي، فيما انقطع بعضهم عن التعليم تماماً، بحسب تقرير مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية بعنوان "من رَحِم النزوح: ولادة ونشأة جيل من أطفال اليمن النازحين" صدر سنة 2022. في خضمّ هذه الظروف تجذّرت تأثيراتٌ عميقةٌ تمسّ اللغة وتنعكس على مجتمع النازحين.
يخبرنا أمين اليزيدي، عميد كلية التربية وأستاذ الأدب والنقد بجامعة المهرة، أنه "من الطبيعي أن تتشكل وتنشأ ممارساتٌ لغويةٌ لدى الأطفال النازحين. فرغم غياب دراساتٍ لغويةٍ محصّنةٍ يمكن أن نفترض أن هؤلاء الأطفال قد نشأت لديهم ممارساتٌ لغويةٌ مرنةٌ، فهم يختلطون مع أطفالٍ من أصولٍ لهجويةٍ متنوعةٍ، وربما يتأثرون باللهجات المحلية لمكان النزوح أو المخيم، وبمصطلحاتٍ من بيئاتٍ قريبةٍ أو من العاملين في المنظمات الإغاثية. مثل هذه الممارسات لا تُعدّ 'لهجة رصينة' من قبيل لهجة قبيلةٍ أو مدينةٍ، بل لهجةً هجينةً أو لغة مخيماتٍ أو نزوح. مزيجٌ وظيفيٌّ مؤقت".
يتابع اليزيدي موضحاً أن هذه الظاهرة ليست جديدةً على سياقات النزوح حول العالم، وما لها من تأثيرٍ على اللغة والهوية. ويرى أن "العوامل البيئية كالانتقال والتنوع اللغوي بين نازحين من محافظاتٍ مختلفةٍ، والافتقار إلى التعليم النظامي، والتداخل مع العاملين في الجهات الإغاثية، له أثره في استقرار اللغة واللهجة لدى الأطفال [. . .] بل وحتى بتحوّل لغوي عبر الأجيال". ولا يفوت أستاذ الأدب التنويه لغياب الدراسات البحثية المتخصصة بتوثيق الظاهرة في اليمن. يقول: "إلى الآن لا توجد دراسةٌ منشورةٌ تتناول تحديداً لهجة مخيماتٍ يمنيةٍ بوصفها ظاهرةً لغوية: فلا يتوفر تحليلٌ لغويٌ أو سوسيولغوي [اجتماعيٌّ لغويٌّ] يرصد ظهور هذا 'الاختلاط' بين لهجات المناطق اليمنية، أو يعامله باعتباره لهجةً مستقلةً تخصّ جيل المخيمات".
في هذا السياق يصبح الانتماء سلعةً تخضع لقانون العرض والطلب. اضطرت مثلاً إحدى النازحات، التي طلبت عدم الكشف عن اسمها، لتبنّي لهجةٍ شماليةٍ بعد رفض المجموعة المسلحة المسيطرة على منطقتها توزيع المساعدات على من يتحدثون بلهجةٍ تعزية. تقول للفراتس: "تعلمتُ أن أقول 'شكراً' بدلاً من 'متشكّرة'، وغيّرتُ نبرة صوتي كي أُصدر صوتاً أشبه بصوتهم". وأما حسين النازح من إب، فالقضية تتجاوز البعد الآنيّ للعرض والطلب. تزوج في نزوحه فتاةً من ذمار، شأنه شأن كثيرٍ من أقرانه في مخيمات النزوح في مأرب، لذا يرى أن التغيرات اللغوية ستكون أكثر بروزاً مستقبلاً، "أطفالنا سيتحدثون لهجةً لا تنتمي لأرضٍ، لكنها ستكون لغتهم الأمّ".
بالإضافة لتطور لهجة المخيمات إلى لهجةٍ هجينةٍ، وُلدت لغاتٌ سرّيةٌ بين الشباب النازحين. في مخيمات الحديدة مثلاً ابتكر المراهقون "لغة الإشارة النازحة" مزيجاً من إيماءاتٍ تقليديةٍ ورموزٍ مستوحاةٍ من لغة الإشارة، لإخفاء معاني كلامهم عن المليشيات. يشرح أحمد، وعمره 15 عاماً، مثالاً على ذلك بقوله: "عندما أريد قول 'القصف قريب'، ألمس أذني اليسرى ثلاث مرّات".
وفي "لغة المخيمات" لاحظ المعلم خليل تغيراً نحوياً أيضاً. إذ تُستبدل بصيغ الماضي البعيد أزمنةٌ مضارعةٌ تعكس حالة التأقلم الدائمة. يقول خليل: "يتحدث النازحون عن الماضي كحلمٍ، وعن المستقبل كضباب. لغتهم تعيش في الحاضر".
وبعيداً عن دقة تفسير خليل من عدمها، يبقى التغير اللغوي ثابتاً، تأقلماً أو حاجة. وبمعيّة ذلك يجد الطفل اليمني في مخيمات النزوح نفسه قد اكتسب هُويةً جديدةً غير واضحة المعالم. وما يزيدُ من أزمته هذه أنّ التعليم، إن وُجِدَ، يعمل ضدّ فهمهِ نفسَه وفهمِه اليمنَ. فبدلاً من أن يُعِينه التعليم على بناء هُويته الأصلية، فإنه يساهم أحياناً في تفكيكها.
عندما تتاح فرص التعليم، فإنها غالباً محدودةٌ وزائلةٌ، وتعتمد على برامج مؤقتةٍ أو مبادرات "التعليم التعويضي" التي تهدف إلى تعليم القراءة والكتابة والحساب فقط، دون معالجة الفجوات المعرفية في التاريخ والهوية الوطنية والثقافة العامة. وفي هذا السياق، تشير اليونيسيف في موقع برنامجها في اليمن إلى أن هذه الظروف تسهم في نشوء جيلٍ يتلقى تعليماً ناقصاً أو مشوّهاً، ما يتيح إعادة صياغة وعيه الوطني وفق مصالح الجماعات المسيطرة.
يتحول الصف الدراسي في هذه الظروف أحياناً إلى منصةٍ لغرس الولاء للفصيل أو الجماعة المسيطرة بدل أن يكون مساحةً للتعلم النقدي أو التاريخي. يذكر أحمد ناجي، الباحث غير المقيم سابقاً في مؤسسة كارنيجي، في دراسته "التعليم في اليمن: حين تتحول الأقلام إلى رصاص" المنشورة سنة 2021، إنّ الأطفال منذ الصغر يتعلمون فهم الوطن من زاويةٍ أحاديةٍ، ما يضعف فرص بناء هويةٍ وطنيةٍ جامعة.
يقول ناجي عن السياق اليمني: "يبدو أن تنامي سيطرة الفصائل على المدارس والتدخّل في مناهجها سرّعا وتيرة التراجع الحاصل في المستوى التعليمي. تُشرف الحكومة المعترف بها دولياً على التعليم في المناطق التي أفلتت من قبضة الحوثيين [. . .] لكن في بعض المناطق التي يُفترض أنها خاضعةٌ لسيطرة الحكومة، يبرز المجلس الانتقالي الجنوبي كمتحكّمٍ بالمؤسسات الحكومية على الأرض، ويملك حرّية تصرّفٍ حيال إعادة توجيه المدارس والهيئات التعليمية في مناطقه".
بهذا يواجه الأطفال في المخيمات نقصاً حاداً في المعلمين المؤهلين، حسب ناجي، "يطال المعلمين اليمنيين الذين تعرّضوا إلى أعمال تخويفٍ وعنفٍ على أيدي الفصائل المسلحة، بما في ذلك مداهمة المدارس. لكن المشكلة الأكثر شيوعاً تتمثّل في عدم انتظام دفع رواتبهم". وهكذا يضطر كثيرٌ منهم لتدريس أعدادٍ كبيرةٍ من الطلاب في ظروفٍ صعبةٍ وغياب المواد التعليمية الأساسية، ما يجعل التعليم الرسمي شبه معدوم. فينشأ جيلٌ بمعرفةٍ جزئيةٍ ومشوهةٍ، ما قد يجعل هويته الوطنية عرضةً لإعادة التشكيل وفق مصالح الفصائل المسيطرة، بدلاً من أن تنمو على أساسٍ معرفيٍ متينٍ وتاريخٍ مشترك.
يضاف إلى ذلك تأثير التعليمِ الرمزيُّ في المخيمات. إذ تُعيد البرامج التعليمية تشكيل سرديات التاريخ، وتحذف شخصياتٍ وطنيةً غير متوافقةٍ مع توجهات الفصيل المسيطر، وتُضفي قيمةً خاصةً على الرموز والأحداث التي تدعم الولاء لها. يضاف لذلك التغييرات التي طالت المناهج الدراسية وخاصةً التاريخ لتعكس روايةً أحادية. فقد أدخل الحوثيون شعاراتٍ سياسيةً مثل "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل" في كتب الصفوف الأولية، كما يوثق عبد الكريم بن أسعد اليماني، الأستاذ بجامعة صنعاء، في كتابِه "المناهج الدراسية اليمنية والتغييرات التي أحدثها الحوثيون" المنشور سنة 2021.
هنا يبدو أن التعليم في المخيمات يمثل ساحةً مزدوجة. فمن جهةٍ يسهم في سدّ فجوة التعلّم ولو جزئياً. ومن جهةٍ أخرى يُستخدم أداةً لإعادة تشكيل الهوية الجمعية وغرس ولاءاتٍ محدّدةٍ، وإعادة إنتاج الانقسام الاجتماعي والثقافي. لذلك فالجيل القادم، تحت هذه الظروف، قد يكون معرَّضاً للنشوء بهويةٍ هجينةٍ جزئيةٍ تجمع بين الواقع اليومي في المخيم والتوجهات التعليمية المفروضة من الفصائل المسيطرة. ما قد يجعل مستقبل المصالحة الوطنية وبناء وطنٍ مشتركٍ رهيناً بمدى قدرة التعليم على تجاوز هذه الانقسامات وتحقيق تعليمٍ متكاملٍ وموحد.
على ذلك، ثمّة بصيص أملٍ في المخيمات بوجود بعض أوجه مقاومة هذا الواقع التي قد تساعد على صياغة هوية الجيل الناشئ.
تتحول الفنون أيضاً إلى جبهة مقاومة. في مأرب، تنظِّم نساء مسرحاً بسيطاً يظهر شخصية جدّةٍ تسافر بين القرى المدمرة لتحكي عن زمن السلام. تجمع هذه الحكايات بين التراث الشفوي وتقنيات المسرح الحديث، بهدف كسر حاجز الخوف لدى الأطفال وتحفيزهم على التعبير.
وتظهر محاولاتٌ أخرى لإعادة بناء الاقتصاد المحلّي الهشّ. إذ بدأت مجموعاتٌ نسائيةٌ في مخيمات مأرب بإنتاج سلالٍ من خوص النخيل تحمل رسوماً لمعالم يمنيةٍ تاريخية. تقول مريم عبد الله، إحدى هؤلاء النسوة: "عندما تطلب منا منظمةٌ صنع سلّةٍ عليها رسم صنعاء القديمة، نشعر بأننا نحفر في الذاكرة لنستعيد ما حاولت الحرب محوه". هذه الممارسات، على بساطتها، تغرس بذوراً لمقاومةٍ يوميةٍ تحاول الحفاظ على هويةٍ يرنو الصراع لطمسها.

