ومن لم يُكتب لهم العبور وللحج سبيلاً، يستريحون على الضفة ويزورون واديها حيث مقام عابد زاهد يمتدّ نسبه للنبي. اسمه أبو الحسن الشاذلي، ومات في وادي حميثرة على شاطئ المدينة مبتسماً وقد تراءت له الكعبة التي اشتاق إليها في موضعه. حجّ إليها بقلبه دون أن يعبر البحر كما تقول الحكاية المتوارثة. بات مقام الشاذلي قبلةً لمن لم يستطع إلى ركن الإسلام الخامس سبيلاً. وهناك يقف الزوار ملتمّسين أن يمنّ الله عليهم بالحج كما منَّ على من مات دون أن يدرك الكعبة.
إنها مدينة القُصيْر الواقعة جنوبي شرق مصر التي تضمّ موانئ تاريخية، أشهرها ميناء عيذاب، محطة ارتحال واستقبال حجاج البيت العتيق. إلا أن المدينة باتت الآن مهملة تتداعى مبانيها التراثية رغم تراثها المعماري والأثري الفريد وتاريخها الموغل في القدم ميناءً فمحطة انطلاق الحجيج شرقاً. كفّ ميناؤها عن استقبال رحلات من الهند والصين وكل بلاد المشرق التي كان يستقبلها قبل ثلاثة آلاف سنة. يتهدد تراثَها الزوال بينما يجاهد قليل من أبنائها لتسجيل تاريخ المدينة الطويل والحفاظ على ما تبقى من بهائه قبل أن يندثر. ومع أن الحكومات المصرية المتعاقبة أعلنت عن خططٍ عدة للحفاظ على تراث المدينة وصيانته واستغلاله سياحياً، وأحدثها خطة وزارة السياحة والآثار الموضوعة في 2018، إلا أن الواقع وأبناء المدينة الذين التقتهم الفِراتْس يشهدون بأن هذا الاهتمام لم يتجاوز حدود البيانات الإعلامية.

أنشأ حكام مصر القدماء ميناءها الذي مازال قائماً إلى اليوم، ليكون محطة انطلاق إلى دول جنوب آسيا وشرقها والساحل الشرقي لإفريقيا. اختصّ الميناء القديم في القصير باستيراد خشب الأبنوس والعاج من بلدان إفريقيا، والحرير من الصين، والبخور من الهند واليمن. واختصّ بتصدير المعادن التي اشتهرت بها الصحراء الشرقية لمصر من عصر الدولة الوسطى، وخصوصاً النحاس والرصاص والذهب.
ظّلت أهم رحلة سُجّل انطلاقها من "تاعوا"، وهو الاسم المصري القديم للقصير، رحلة حتشبسوت لأرض بُنت. أعطت الملكة أوامرَها ببناء السفن في النيل ثم أبحرت السفن جنوباً حتى وصلت إلى ثَنية قنا، حيث أقرب نقطة للنيل من البحر الأحمر. هناك فكك العمال السفن ونقلوها على ظهر الحمير إلى البحر الأحمر حيث أعيد تركيبها لتبحر جنوباً. كان المجموع خمس سفن كبيرة، كما يسجّل كتَّاب جدران معبد حتشبسوت في الدير البحري بالأقصر. وقد أبهرت السفن سكان تلك البلاد الذين عجبوا لشجاعة رُسل الملكة وجرأتهم في عبور البحر.
ورث البطالمة، الذين بدأ حكمهم مصر في القرن الثاني قبل الميلاد واستمر نحو ثلاثمئة عام، القصير عن المصريين القدماء. وأقاموا بها ميناءً جديداً أسموه "ليكوس ليمن"، أي الميناء الأبيض. ومن بعدهم في سنة 30 قبل الميلاد، جاء الرومان الذين سَمّت وثائقهم منطقةَ القصير وميناءها "ميوس هورموس" أي ثغر القواقع، حسبما ينقل الباحثان لوسي بلو وديفيد بيكوك في دراستهما "ميوس هورموس: قصير القديم" الصادرة سنة 2011.
الدراسة المتضمنة في العدد السادس من مجلة الحفائر "الأركيولوجي" الصادرة عن جامعة ساوث هامبتون البريطانية، تستقرئ وثائق وحفريات وجدَتها بعثة أثرية عملت في المدينة في الفترة بين سنتي 1999 و2003. وخلصت إلى أن ميناء القصير شكّل مركز التجارة الرومانية مع الهند والشرق بكامله. الدراسة نفسها وثّقت العثور على كميات هائلة من العملات والبرديات والشُقَف "الأوستراكا"، وهي قطع فخارية استخدمت في مصر القديمة سطحاً للكتابة. يشهد هذا على حيوية الميناء والمدينة منذ عهد المصريين القدماء الذين استخدموا الشقف في التدوين. وظلّ المصريون يستخدمونها، فيما لم يستخدمها اليونان ولا الرومان.
وجدتْ الدراسة نفسها من الشواهد الأثرية أن الميناء ظلّ نشيطاً يؤدي الدور نفسه، رابطاً مصر بالهند ودول الشرق عقب انتهاء الحكم الروماني وبداية الحكم الإسلامي. استفاد حكام مصر المتتالين من وقوع الميناء في منطقة "ذات مناخ جاف وأمطار نادرة وتيارات بحرية هادئة في معظم شهور السنة"، ما جعل القصير وجهةً مضمونةً للإبحار والتجارة.
مع دخول الإسلام مصر في القرن السابع الميلادي وترسّخه في المنطقة، ظهر للقصير ومينائها وواديها غرض جديد. فغدت المدينة بوابةً لنقل الحجيج المصريين والأفارقة إلى المشاعر المقدسة على الشاطئ الآخر للبحر الأحمر. استمرت تلك الأهمية حتى تراجعت الحملات الصليبية في نهايات القرن الثالث عشر، وباتت السبل نحو الشرق من جهة الشمال في مصر آمنة. فنشطت الطور لنقل الحجيج براً.

ومع إحياء العثمانيين موانئ السويس بعد بسط سيطرتهم على مصر في بداية القرن السادس عشر، انتقل الراغبون في العبور بحراً إلى مكة إلى موانئ السويس بدلاً من القصير. يظهر ذلك في كتاب "الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة" لعبد القادر بن محمد الأنصاري الصادر في طبعة محققة سنة 2002.
ويرى الجوهري أن من أسباب ازدهار القصير في تلك الحقبة قربها الشديد من قُوص، أكبر حواضر قنا، وهي الحاضرة العلمية والتجارية في صعيد مصر في ذلك الوقت. يقول: "فكانت تتجه من قوص القوافل شرقاً في الصحراء إلى ميناء القصير وعيذاب، وتستغرق الرحلة إلى القصير من 17 إلى 20 يوماً، وتصلها بحـراً سفن التجارة من الحبشة واليمن وبلاد العرب والهند وزنزبار".
سجّل ابن خلدون نزوله بالقصير أثناء رحلة عودته من الحج سنة 790 هجرية. فقال: "ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور. فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي، ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر".
تذكر أستاذة الجغرافيا التاريخية في جامعة طنطا، أحلام سلامة، في دراسة سنة 2018 عنوانها "طريق الحج المصري من القاهرة إلى عقبة أيلة" أن طريق الحج عبر مصر من البحر المتوسط إلى القصير ضمّ ثماني محطات كانت تَبيت فيها قوافل الحجيج للتزود بالماء والطعام وإراحة الدواب، قبل الوصول إلى القصير حيث يستقلون العبّارات والمراكب لموانئ ينبع أو ضبا أو جدة بالسعودية. وكان لقلعة القصير وشونة الغلال فيها دورٌ في حماية الحجيج وحماية المصريين أيضاً في موسم الحج. إذ أقيم بها مركزان للحجر الصحي يمكث فيهما الحجاج الذين تبدو عليهم أمارات المرض. أو في الأوقات التي كانت تظهر فيها الجوائح في الحجاز وخصوصاً وباء الريح الصفراء (الكوليرا) الذي تكرر ظهوره في الحجاز في مواسم حج متعددة في القرن التاسع عشر. ويبقى الحجاج في تلك الحالات ستين يوماً إلى أن تطمئن السلطات لخلوّهم من الأمراض المعدية، قبل أن يسمح لهم بالرحلة نحو بلدانهم.
في بداية القرن الخامس عشر بدأت أهمية القصير تتراجع تجارياً مع انتقال التجارة من طريق جدة قوص عبر القصير، إلى جدة القاهرة عبر الطور. وانطفأت المدينة إلى أن انتبه الحكام الجدد من العثمانيين إلى أهميتها العسكرية.

وفي كتابه "القصير في الوثائق العثمانية"، يذكر الجوهري واقعة كانت سبباً في إعادة تأهيل القصير حامية عسكرية وإعادة الحياة لقلعتها القديمة المُهملة بعد عقود طوال من التجاهل، تلت تراجعها ميناءً تجارياً ومحطة للحجاج. ففي سنة 1541 حطت على شاطئ القصير سفنٌ تحمل جنوداً وبحارة من البرتغال بقيادة الأدميرال دوم غوام دي كاسترو، الذي احتل القصير وأقام فيها حامية أراد منها أن تكون قاعدة انطلاق للسيطرة على طريق الإبحار القديم في البحر الأحمر وصولاً إلى السويس، ثم براً إلى المتوسط فبحراً إلى أوروبا. وهو الطريق الذي انقطع لصالح طريق رأس الرجاء الصالح.
لسبب لم تفصح عنه الوثائق، تراجع القائد العسكري البرتغالي عن خطته بعد أربعة أيام فقط من حلوله في القصير. فقرر تخريبها وقصفها بالمدافع، فهجرها سكانها واستقروا شمالاً مؤسسين مدينة جديدة حملت الاسم نفسه. تمددت المدينة الجديدة مع الزمن لتشمل حدودها المدينة القديمة وتهضمها داخلها.
بعد التهديد الذي شكّله الأدميرال البرتغالي، فطن العثمانيون إلى أن تلك المنطقة قد تشكّل خاصرةً ضعيفةً تنتزع بها إحدى القوى المعادية حكمَ مصر منهم. وانتبهوا أيضاً لمناجم الصحراء الشرقية، فبنوا قلعة لحماية القصير وما حولها. وأعيدت عمارة المدينة حاميةً عسكرية ومحطة للتنقيب عن المعادن واستخراجها.
شكلت القلعة التي بنيت في عهد سنان باشا، الذي حكم مصر سنة 1569، قلبَ مدينة القصير المُعاد إعمارها. ولاتزال أطلال تلك القلعة تتوسط المدينة. وقد استخدمتها بعد العثمانيين جيوش نابليون بونابرت الذي احتلّ مصر في مغامرةٍ قصيرةٍ دامت نحو أربع سنوات في نهاية القرن الثامن عشر.
أعيد بناء القلعة لاحقاً في عهد محمد علي باشا، واستخدمها قاعدة لانطلاق حملاته العسكرية ضد الوهابيين في أرض الحجاز في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبانتهاء حملاته الحربية، انطوت صفحة التاريخ العسكري لمدينة القصير وعاد الميناء المطل على البحر الأحمر إلى دوره القديم همزة وصل بين الشرق والغرب. ولكن مع افتتاح خط السكة الحديد الذي يربط بين السويس والقاهرة في 1858، ثم افتتاح قناة السويس سنة 1869، عاد التجار والحجاج لاستخدام ميناء السويس لسهولة السفر إليه.

وفي سنة 1864 اجتاحت القصير مجاعةٌ شديدة أتت على عدد كبير من سكانها. فانخفض عددهم من ثمانية آلاف إلى ثمانمئة نسمة فقط، بحسب البيانات المذكورة في الموقع الرسمي لمحافظة البحر الأحمر التي تتبعها القصير إدارياً. لم تعد الحياة للمدينة إلا سنة 1912، عندما افتُتحت الشركة الإيطالية للفوسفات. فكتبت شهادة ميلاد جديدة للمدينة القديمة المُنهَكة، مضيفة تركيبةً سكانية ميزت المنطقة قروناً.
هذا المزيج البشري الذي وفد إلى القصير للتجارة واستوطن بعضه فيها، شكّل تراثاً يروي حكاية التعايش بين تلك القبائل والأعراق. والآن يعيش في القصير عائلات من البجة والعبابدة والجراكسة وأبناء الحجاز واليمن، والصعايدة أبناء جنوب مصر والإيطاليين. ومع هذا الزخم الثقافي والتاريخي، إلا أن المدينة غير مدرجة على خريطة السياحة الثقافية في مصر. وتراثها المادي وغير المادي يحفظه أهل المدينة ويجمعونه بمبادراتٍ محلية لا تلقى أي دعم أو التفات من الدولة المصرية.
تحظى القصير بخدماتٍ حكومية أساسية، مثل النظافة ورصف الطرق والمياه وبعض الخدمات الصحية والتعليمية، إلى جانب منصتَي خدمات ثقافية يتمثلان في قصر ثقافة القصير ومكتبة مصر العامة. ومع أن المكتبة تمثل ساحة للقاء أبناء القصير ونشاط "جمعية المحافظة على تراث القصير"، إلا أنها تخلو من مكتب مخصص للفعاليات الثقافية أو التراثية أو حتى مكتب مسؤول عن خدمة المباني التراثية والأثرية بالمدينة ومتابعتها.

قلعة القصير هي المكان الوحيد الذي به موظفون تابعون وزارةَ الآثار، ولا يتجاوز عددهم الاثنين في أي ساعة تزور فيها القلعة في المواعيد الرسمية. أما باقي معالم القصير الأثرية المسجّلة بوزارة الأثار، مثل شونة الغلال وميناء القصير ومسجد الفران، فلم تحظ من الاهتمام بما يتخطى نصب لوحة مكتوباً عليها تاريخ الأثر ونبذة عنه وصورة للمكان قديماً مرسومة باليد فقط. إذ تفتقد للحراس والمسؤولين من وزارة الأثار، حتى إن الشونة وهي أحد أهم المناطق الأثرية بالمدينة مغلقة ويتولى سكان المدينة المجاورون لها شرح تاريخها للزوار تطوعاً.
زرت مدينة القصير أكثر من مرة على مدار عامين. وفي كل مرة أستمع إلى حكاياتٍ مختلفة عن تاريخ المدينة من سكانها. وذلك لأنني اخترت في كل زيارة أن أقضي فترة الزيارة داخل المدينة القديمة، مقيمةً في بيتٍ أثري قديم في وسط المدينة أمام ساحل القصير.
يدرك أهل المدينة ثقلها التاريخي والثقافي، إلا أنهم يصفونها بالمدينة المنسية. فهناك مبادرات فردية أو من المهتمين بتراث المدينة للحفاظ على تراث القصير. لكنها تظلّ محاولات أهلية لا تكتمل لغياب التعاون الحكومي اللازم، لأن المعالم الأثرية مملوكة لوزارة الآثار.
وتحتفظ المدينة حسب الموقع الرسمي للمحافظة بمبانٍ ذات طراز معماري خاص، إذ يروّج الموقع لأنماط السياحة بالمدينة التي تشتهر بها منذ انتهاء عصر التعدين. فذكر أن بها عدداً من الفنادق والمنتجعات السياحية، وبها أنماط مختلفة للسياحة الترفيهية والثقافية والأثرية والعلاجية والدينية (في إشارةٍ لوادي حميثرة ومقام الشاذلي)، إلى جانب سياحة الغوص والتخييم في الصحراء.
طوال خمسة آلاف عام عمرت فيها المدينة، تراكم تراثها طبقات كاد يمحو بعضها بعضاً. لكن يبقى وسط المدينة الحالية – الذي يتشكل من المدينة القديمة التي خَلَت بسبب القصف البرتغالي القديم – صاحب الأهمية الثقافية والتراثية. ففي وسط المدينة حيث القصير التراثية، يجد الزائر الحي القديم المقسم إلى حارات هي الحارة الشرقية (حارة فوق) والحارة الوسطى وأشهر معالمها شونة الغلال والحارة الغربية (حارة تحت) ثم شارع البازارات (المحال التجارية)، وأخيراً الطابية وحولها تلك الكتلة السكنية القديمة.

كثيرون من أبناء المدينة القديمة انتقلوا إلى "منطقة الأمل"، وهو حي جديد مليء بمبانٍ خرسانية لا يتجاوز ارتفاعها أربعة طوابق، وجوار كل عمارة خزان للمياه وبعض المحال التجارية. منطقة الأمل هي أرض جديدة بعيدة عن وسط المدينة، أتاحتها الوحدة المحلية للسكان للتمليك وبناء منازلهم. وفضّلها كثيرون على البقاء في المنازل القديمة بوسط القصير التي تعاني من الانهيار أو النزاعات الأسرية بين الورثة.
تزداد الرحلات السياحية بالقصير في فصل الشتاء، فهي مشتى معروف للأجانب والمصريين. أما في الصيف، فتكاد أن تختفي الرحلات السياحية إلا من بعض الزوار من محبي المدينة نظراً لارتفاع درجات الحرارة الشديد التي قد تصل في ساعات النهار إلى أكثر من 45 درجة مئوية مع ارتفاع درجات الرطوبة وزيادة معدلات الجزر في البحر.
تتميز مدينة القصير دون غيرها من مدن مصر الساحلية بأن شاطئها مفتوح ومجاني حتى الآن، ولم تغلق مناطق منه لصالح المشاريع الاستثمارية. ما يجعل الشاطئ مقصداً للنزهات المسائية لعائلات القصير وزوارها القليلين.
أبناء محافظة قنا بصعيد مصر مثلوا كتلةً كبيرةً من سكان المدينة. أغلبهم جاء إلى المدينة وعاش فيها بالتزامن مع اكتشاف الفوسفات واستقدام عمالة من الصعيد للعمل في المناجم. وكثُر القناوية بين المستقدَمين لأنهم الأقرب بين سكان الوادي من القصير. ومن بين هذه العائلات، عائلة المؤرخ المتخصص في تاريخ القصير طه حسين الجوهري الذي ولد وتربى وعاش في المدينة بعد أن وفد والده إليها للعمل في مناجم الفوسفات.
بسبب عمل الشركة، أعيد تشكيل الكتلة السكانية في المدينة لتضمّ أبناء العبابدة والبشارية الذين سكنوا المدينة تاريخياً وهجرها معظمهم بعد تراجعها تجارياً وقلة فرص الرزق بها، ثم اجتمعوا مع الأجانب والصعايدة القادمين للعمل في المناجم. تعرّف أهل المدينة على مهن جديدة غير الرعي والصيد وركوب البحر.ز فقد أسست الشركة الإيطالية واقعاً اجتماعياً وعادات جديدة لأبناء المدينة، خاصة مع اختلاطهم بالأجانب وأبناء الصعيد ذوي العادات المختلفة.

أسست الشركة الإيطالية مستعمرة للعمال بجوار المناجم. وبعد زيادة اكتشافات مناجم الفوسفات، زاد معدل السكان بالمدينة ووصل عدد العمال إلى سبعة آلاف بأسرهم. فتحت الشركة أبوابها لعمالٍ مصريين من أبناء القصير وأبناء محافظة قنا والمحافظات المحيطة بجانب مهندسين إيطاليين.
أسست الشركة سنة 1926 عربةَ سينما متنقلة لترفيه أبناء العمال، وقدّمت وجبات للعمال أيضاً. ما حفز عمالاً أكثر للقدوم من الصعيد، كما يسجل الجوهري في كتابه "القصير صفحات من الماضي" الصادر في 2019. خصص الباحث فصلاً كاملاً بعنوان "حي المستعمرة" الذي عاش فيه صغيراً، ويصف فيه حياة العمال وأسرهم في مستعمرات الشركة. يؤكد الجوهري أن سكان القصير، قبل غلق الشركة، لم يعانوا من البطالة. فيقول: "كل الخدمات المقدمة داخل المدينة كانت لخدمة الشركة، وفور تخرج أي شاب من أبناء القصير من الجامعة يعمل في وظيفة داخل الشركة أو وظيفة في خدمة تخص الشركة".
استمرت الشركة الإيطالية للفوسفات بالعمل تحت الاسم نفسه حتى سنة 1964 الذي شهد ترحيل عدد كبير من الأجانب خارج مصر. وأغلقت الشركة لفترةٍ وجيزة ثم افتتحت بعد تعيين إدارة مصرية، وحملت اسم شركة النصر للتعدين.
في سنة 1981، بدأت المناجم تنضب وغادرت الأسر الجبل إلى مدينة القصير. ومن بين الأسر التي غادرت الجبل، أسرة الجوهري "بعد غلق المناجم بعد ما الناس مشيت انقطع التواصل بينها. مجرد ما الناس الكبيرة ماتت، العلاقات بين الصغار انتهت". وبدأ مجلس المدينة في إزالة خط القاطرات المعلقة "التلفريك" الذي أقامته الشركة لنقل العمال بين الجبل والمدينة. أُغلقت مقار الشركة بالقصير نهائياً في التسعينيات.
ومع مرور أكثر من مئة عام على إنشاء مباني الشركة، إلا أنها غير مسجلة ضمن قائمة الآثار أو التراث. رصد أستاذ الآثار الإسلامية وائل بكري في دراسة بعنوان "الاستراحات الملكية بصعيد مصر (قنا - القصير)"، نُشرت سنة 2021، ثلاث استراحات بين قنا والقصير حملت اسم "استراحات الملك فاروق". منها استراحة موجودة داخل مباني الشركة الإيطالية للفوسفات تطل على البحر.

قالت الدراسة إن تلك الاستراحة تُعرف خطأ بأنها استراحة الملك فاروق، وهي عبارة عن مبنى لشركة الفوسفات أنشأه المهندسون الإيطاليون ليستقبل كبار الزائرين. شُيِّد المبنى من الحجر وله سور يحيطه وحديقة. وبه "فسقية"، وهي حوض ماء به نافورة صغيرة لترطيب جو البيت. وللمبنى أربع واجهات مكشوفة، ومكون من طابقين. الطابق الأول يحتوي على دار للضيافة، أما الثاني فقد خُصّص للمبيت حيث الغرف وأجنحة المعيشة لكبار الزوار.
أطلال الشركة التي زارتها الفِراتس تتكون من مكاتب إدارية ومخازن ومخازن وقود وورش خراطة ومتحف والاستراحة وكنيسة لاتزال قائمة وتستقبل المصلّين.
ومازال المقر الإداري للشركة قائماً تعلو سوره لافتة ممسوحة المعالم، بجوارها بوابة دخول لا يوجد أمامها إلا خفير واحد يترك بابها مفتوحاً طوال الوقت. أصبحت أطلال الشركة ضمن المزارات السياحية للقصير القديمة وساحة انتظار للسيارات. ويحتوى متحفها على زواحف بحرية وحشرات برية وخرائط لتقسيم مناطق إنتاج الفوسفات وخريطة للطرق البرية في الصحراء الشرقية في العصر الروماني، وأخرى تحوي رسماً بيانياً لإنتاجية الشركة من الفوسفات منذ سنة 1916 حتى سنة 1966. يضم المتحف معملاً لتحليل درجة نقاء الفوسفات وفحصه وتجهيزات أخرى في حالة جيدة.
وحاليا تحتل جمعية المحافظة على تراث القصير مبنى المستشفى الإيطالي لعلاج العمال وأهل المدينة الذي أقامته الشركة. وكانت الشركة تتكفل بعلاج العمال وأسرهم، بحسب شهادة الباحث طه حسين الجوهري للفِراتس.
صدر قرار بيع أرض شركة فوسفات البحر الأحمر بالقصير ومحتوياتها سنة 2019 لصالح إنشاء مشروع "مارينا عالمي لليخوت". تقدّم محامون من القصير ببلاغٍ للنائب العام لمنع قرار الهدم. وطالبوا رئيس مجلس الوزراء بالتدخل لوقف إجراء المزاد العلني المقرر لبيع محتويات مقر الشركة الأثري، وضمّها إلى قائمة الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار، ووضع خطة عاجلة لتأهيلها وضمها لقائمة التراث الجدير بالحفظ. إلا أن مجلس الوزراء وافق على نقل ملكية نصف مليون متر مربع من أراضي الشركة إلى الوحدة المحلية لمدينة القصير لإقامة مشروعٍ سياحي عالمي ومرسى لليخوت، وتعويض الشركة بأرضٍ بديلة، بعدما قدّر قيمة الأرض بنحو ملياري جنيه مصري.

كان مصطفى سباق، مدير فندق القصير، أحد المعارضين لتحويل الشركة لمرسى يخوت. ويقول للفِراتس إن نمط الحياة الذي خلّفته الشركة وأصوات أجراسها التي تشير لدخول العمال وغلق المحال التجارية في موعدٍ واحد، وهو الساعة الواحدة ظهراً لاستراحة الغداء، باتت تراثاً تربّي عليه القصير أبناءها. يقول مصطفى سباق: "وعينا على نهاية الشركة واستوعبنا أن كل ما كان يحصل كان خطأ. مكنش المفروض تتخصص ويتشال التلفريك، ومكنش المفروض مباني الشركة يحاولوا يشيلوها. هُنَّا لما هانت علينا الشركة، هما هانونا كمان".
خصّص الجوهري جهده العلمي باحثاً في التاريخ والوثائق كي ينقب عن تاريخ القصير. وله أكثر من عشرين مؤلفاً يوثق لتاريخ القصير، من بينها كتب "القصير صفحات بين الماضي والحاضر" و"القصير.. صفحات من الماضي" و"حول تراث مدينة القصير".
اصطحب طه الجوهري الفِراتس في جولةٍ بالقصير القديمة، التي يرى أنها تفتقر إلى التسويق السياحي الجيد "رغم أن السياحة أحد مصادر الدخل الرئيسية لأهل المدينة". وقال إن طريق القصير – قفط، وهو الطريق الذي كان يستخدم في الحج، وقبله في الرحلات التجارية بين الوادي والميناء، أصبح طريقاً مهملاً سياحياً مع ما فيه من آثار مصرية قديمة، وآثار مملوكية تتمثل في الاستراحات المقامة لخدمة الحجيج. لكن كل تلك الآثار لا تحظى بأي اهتمام.
يعتز أبناء القصير بتاريخ المدينة ميناءً للحجيج، حتى القادمين منهم من قنا وجهات أخرى بالصعيد ليستوطنوا المدينة. وتشكل علاقة هؤلاء بالمدارس الصوفية سبباً آخر في فخرهم. وفي القلب من هذا مقام القطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي، الذي بات ازدهار الزيارات إليه في موسم الحج أحد مصادر السياحة المتجددة في المدينة.
ويظهر هذا الفخر بالكتابات المنتشرة على جدران البيوت والتي تزدحم، مثل كثيرٍ من بيوت المناطق الشعبية والقرى المصرية، بعباراتٍ مثل "حج مبرور وذنب مغفور". ويظهر كذلك في رسومات للمراكب والعبّارات التي كانت تنقل الحجيج قديماً إلى المشاعر المقدسة. إلا أن الجوهري يرجع ذلك إلى عادات أهل الصعيد الذين جاؤوا للعمل في القصير. فقد اشتهروا برسوم الحج وفنونها، ونقلوها إلى مناطق أخرى في مصر مع ارتحالهم بحثاً عن الرزق.
ليس الميناء فقط هو الذي يعاني من الإهمال، ولكن المناطق التراثية والأثرية أيضاً في المدينة. يقع شارع البحر أمام ميناء القصير، وهو شارع حيوي، وبه العديد من المطاعم والمحال التجارية والمباني المهملة مع طابعها المعماري المميز. يتفرع من شارع البحر عدد من الحواري الضيقة، مسجَّل بها العديد من المباني لدى الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة. ولكنها تظلّ مهملة، لا يرى منها سوى أنقاض وقمامة تسعى فيها الحشرات، تتخللها منازل قليلة مازالت قائمة. بعضها مأهول والبعض الآخر مهجور ومغلق بالأقفال.
وعلى بعد أمتارٍ قليلةٍ من الميناء، تقع شونة تخزين الغلال (شونة السلطان سليم الثالث)، وهي من الآثار المسجلة. استُخدمت وقت اعتماد الميناء على تصدير الحبوب. وكذلك لتخزين الغلال وتصديرها للحجاز لإطعام الحجيج، كما تبيّن دراسة بعنوان "الأدوار التي لعبتها شونة الغلال بالقصير [. . .]" نُشرت سنة 2024 للباحثَين حسن بدوي وطه حسين أحمد.

باتت الشونة الآن مغلقة ببوابةٍ خشبية ولا يُسمح بدخول الزوار إليها. تحيطها القمامة من كل اتجاه، ويجلس بجوارها ستّيني من أبناء المدينة يُدعى سيد محمد، عيّن نفسه حارساً عليها بلا مقابل. يتطوع سيد محمد لسرد تاريخ الشونة الذي يحفظه عن ظهر قلب لكل مار يهتم ويقف للإنصات. ويؤكد للفِراتس أن الشونة لم تستقبل أي زيارة رسمية من أي مسؤول استجابة لمطالبات أهل المدينة بترميمها وتنظيفها والحفاظ عليها، على عكس الاهتمام القليل الذي تلقاه قلعة القصير.
وتحوي القصير مناطق تصنَّف مواقع أثرية ومئات المباني التراثية ذات الطابع المعماري المميز. من بين المباني المهملة التي ينطبق عليها قانون التنسيق الحضاري، مبنى قسم الشرطة القديم الكائن أمام الميناء على بعد أمتارٍ من مسجد الفران. وهو مبنى أبيض عليه شعارات الشرطة المصرية، إلا أنه مهجور وسُرقت واجهته وشبابيكه وأبوابه الخشبية المميزة. وبات مأوى للحشرات وما تسكنه من قمامة، حسب ما رصدت الفِراتس في زيارتها.
يقول طه الجوهري إن المبنى لم يكن مجرد قسم شرطة، وإنما مثّل مقر إدارة سواحل البحر الأحمر الممتدة من السويس حتى الصومال في عصر محمد علي باشا. وعدّ الباحث الممشى الذي يطلّ عليه القسم أثرياً. وقد عبّده محمد علي في 1838 بالحجر الجيري الذي يُسرق الآن، والممشى مزروع بأشجار الدوم والصبار المعمرة.
وفيما يشكو أهالي القصير من إهمال التنسيق الحضاري ووزارة الآثار معالمَ المدينة التي تحتاج للترميم والتنظيف والصيانة، يمنعهم القانون من اتخاذ أية إجراءات لحماية تلك الآثار بأنفسهم. ولايزال الأهالي يطالبون بإنشاء متحفٍ لآثار القصير التي تستخرجها البعثات الأثرية القادمة من برديات وشُقَف وتماثيل وعملات.
يشير الجوهري في حديثه للفِراتس لتجاهل الجهات المسؤولة طلبات السكان. ويقول كذلك إن ألفَي قطعة أثرية استخرجت في القصير، صوَر بعضها معلّقة في مكتبة مصر العامة. لكن مصيرها غير معروف، وربما لاتزال قابعة في مخازن الوزارة.
في سنة 2018 أصدرت وزارة الآثار بياناً قالت فيه إن الدكتور جمال مصطفى، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار وقتئذ، تفقَّد آثار القصير بصحبة لجنةٍ أثريةٍ للوقوف على الإجراءات ودراسة مشروع تطوير آثار المدينة. وذكر البيان أنهم يدرسون مشروعاً متكاملاً لتطوير آثار مدينة القصير بالتنسيق مع محافظة البحر الأحمر. وأنه "جرى اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحلّ كافة معوقات بدء المشروع، وتطوير شبكات المياه والصرف الصحي التي تتداخل مع المواقع الأثرية [. . .]. من المقرر أن يتم إعداد دراسات خاصة لترميمها وتطويرها وكيفية الاستغلال الأمثل لها، لتكون مقصداً سياحياً هاماً ومركزاً ثقافياً بالمدينة". لم ينفَذ أي من تلك التعهدات إلى اليوم.
أغلب منازل حواري القصير القديمة مبنيّة من الطوب اللَّبن، وهو نوع من القرميد البدائي. ومازال بعضها يشغلها سكان جددوا بيوتهم. أما غالبية سكانها القدامى، فهجروها وتركوا البيوت للزمن والإهمال يعملان فيها أثرهما. ومع تسجيل كثير من تلك البيوت ضمن قوائم التراث المعماري المميز بالتنسيق الحضاري، إلا أنها متروكة أيضاً ليد الإهمال.
بالصدفة مررت على منزلٍ قديمٍ مبنيّ بالطوب اللبن، مكوَّن من طابقين يربطهما سلّم خشبي ضيق، وأبوابه مفتوحة للزوار بلا قيود في حارةٍ ضيقة. للبيت بابٌ خشبي يوصل إلى ممرّ ٍصغير ٍضيّقٍ يجلس في آخره الحاج الستيني عبدالقادر مبارك أبو سعد، مالك البيت.
عمل عبدالقادر موظفاً في وزارة الأوقاف، وكان يومياً يستقبل الزائرين والسائحين القادمين لمشاهدة البيت في جولة المدينة التي ينظمها بعض المرشدين السياحيين. يأتون إلى بيته لأنه نموذج باقٍ من بيوت القصير القديمة. البيت معروف بين السكان والمرشدين السياحيين الذين اعتادوا زيارته باسم "بيت أبو سعد"، نسبةً إلى قبيلة أبو سعد من مركز جهينة بمحافظة سوهاج، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الحاج مبارك.
يسكن المنزل هو وزوجته فقط بعد أن تركه أبناؤه للعمل. ولايزال محتفظاً بالبيت على طرازه القديم الذي بني به قبل أربعمئة سنة. اشترى والده البيت حين وفد إلى القصير في حركة الهجرة من الصعيد إلى القصير إبان إنشاء شركة الفوسفات في مطلع القرن العشرين، وعاش ابنه فيه من بعده.
البيت مجهّز بأجهزةٍ كهربائيةٍ قديمة الطراز، وبه دكة خشبية وبعض التصميمات التي تجذب أنظار السائحين. لكنه معرّض للانهيار في أي وقتٍ على حدّ قول مبارك. ولم تعرض عليه أي جهة ترميم البيت، "البيت ده شادد حيله بنفسنا وبوجودنا فيه". ويؤمن الحاج عبدالقادر أنه فور انقطاع الزيارات عن البيت، فإنه سينهار على الفور.
"اللوكندة"، كما يسمّيها الأهالي، أيضاً واحد من تلك المباني التراثية. يشترك في ملكيته أكثر من وريث. بُنيت "اللوكندة" لتكون استراحةً ملكيةً للملك فاروق الأول. وبيعت وتملّكتها عائلة محمد عبدالرحيم عبدالسلام، مدير مكتبة مصر العامة الذي التقى الفِراتس في مكتبه. يوضح محمد عبدالرحيم أن أهل القصير أطلقوا على الاستراحة اسم "اللوكندة" لأنها البيت الوحيد المقام من ثلاث طوابق، في حين لا تعلو بيوت أهالي المدينة عن طابقين.
بعد سلسلة من المستأجرين، عاد البيت إلى أسرة عبدالرحيم. فقرر أحدهم ترميمه وافتتاح مطعم إيطالي به مطلّ على البحر، ولكن المشروع توقف. وحالياً سُجّل المبنى ذو طراز معماري فريد بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ولم تعد العائلة قادرة على ترميمه أو هدمه بدون موافقة الجهاز. فتُرك البيت مهملاً، وهو الآن معروض للبيع.
يضيف عبدالرحيم أن المحافظة اقترحت تمويل عمليات الترميم وتحويل البيت إلى فندقٍ، كما يوحي اسمه المتداول. ولكن بعض الورثة لم يوافقوا، فظلّ البيت مهملاً ومعرّضاً للسرقة.
من الأوضاع القانونية التي تَحول أيضاً دون صيانة مباني القصير، أن أغلب عائلات القصير تمتلك حججاً قديمة للمنازل (صكوك ملكية أو بيع يتعدى تاريخها مئة سنة). بعضها غير موثق، وبعضها الآخر وثّقه أصحابه في المجلس المحلي الذي أنشئ سنة 1968. وبعض المباني عقودها صادرة من المحاكم المختلطة. مباني شارع البحر بالكامل هي مباني ملك ورثة من أبناء المدينة، وبعضها تشارك فيه وزارة الأوقاف. أما البعض الآخر، فيحتاج إلى توثيق عقد ملكية العقار. وهذه إجراءات طويلة خاصة مع زيادة أعداد الورثة.
أمام مكتب عبدالرحيم بمكتبة مصر العامة، يقع قصر الحكم العثماني القديم بالبحر الأحمر. وهو حالياً مرتع للحشرات والقمامة، بعد أن كان قصراً يسكنه حاكم ولايات البحر الأحمر التابعة للحكم العثماني. ومع تسجيل عددٍ من المباني التراثية في القصير، إلا أن المسجل منها يفتقر حتى لوجود أي لوحاتٍ تعريفيةٍ تشرح تاريخه.
يعتبر أهل القصير كل هؤلاء من "أولياء الله الصالحين"، فأقاموا لكثير منهم مقامات وأضرحة، ولكل ضريح حارس. وتستقبل المدينة زيارات لتلك الأضرحة سواء من السكان أو من القادمين للصلاة والعبادة في موسم الحج في وادي حميثرة. زارت الفِراتس نحو عشرين ضريحاً ومقاماً، بعضها يضمّ رفات وبعضها الآخر تذكاري. ومثل ما طال مباني القصير من إهمال، فقد بدا أن هذه الأضرحة عانت من نفس المصير. وأبرز الأضرحة في وسط المدينة، ضريح "الفاسي" نسبةً إلى مدينة فاس في المغرب.
يقول الجوهري إن لهذه الأضرحة طقوس دينية خاصة، إذ يحيي أبناء المدينة المناسبات الدينية على طريقتهم في رحاب تلك الأضرحة، مثل احتفالات شهر رمضان وعيدَي الأضحى والفطر. أهم تلك الاحتفالات احتفال ليلة النصف من شعبان، وهو التوقيت الذي اعتادت فيه مصر إرسال كسوة الكعبة. وفي ليلة النصف من شعبان كل عام، ينظّم أهل المدينة إلى اليوم رحلةً تحاكي رحلة "المحمل" أو ما يسمونها "الهوادج". يصمّمون هودجاً لكل شيخ أو ولي من هؤلاء، ويوضع على سنم الجمل وتخرج تلك الهوادج مجتمعةً من أمام كل ضريح لتطوف بالمدينة، بمشاركة الأهالي وتستمر الاحتفالات حتى منتصف الليل.
بمبادرة "بذور أفلام" التي أسستها المخرجة المصرية راندا أبو الدهب، أنتج شباب المدينة ثلاثة أفلام. وثق أحدهم التراث المعماري للقصير القديمة. قالت راندا للفِراتس إن المبادرة اختارت مدينة القصير ضمن ورشها لأنها محرومة من الورش والتدريبات الثقافية والفنية، و"بها تراث معماري وثقافي مبهر. والتركيبة السكانية بين الصعايدة والبدو والأجانب ساهمت في خلق ثقافةٍ مختلفةٍ لدى أهل القصير".
يلفت طه الجوهري إلى أن سلاسل الفنادق المحلية والعالمية اختارت أن تقيم منتجعاتها خارج القصير القديمة. فانتقت الطريق من القصير إلى سفاجا والقصير إلى مرسى علم لاستثماراتها. تقدِّم هذه المنتجعات خدماتٍ ترفيهية وأنشطةٍ بحرية كالغوص، ولا تهتم بالسياحة الثقافية. وتقتصر في زيارة المدينة القديمة على يومٍ واحدٍ برفقة مرشدٍ سياحي لشرح معالم المدينة القديمة فقط. وهي في نظره لا تكفي للتعرّف على تراث المدينة وتاريخها ولا توفر فرص عمل أو دخل لسكانها، ولا تخلق زخماً يلفت أنظار المسؤولين للاهتمام بهذا التراث.

حاول مصطفى سباق، الشاب الثلاثيني ابن قبيلة العبابدة، إدارة فندقٍ داخل مدينة القصير نفسها بمنطقٍ مختلف سنة 2018. إذ يوفر للسائح تجربة العيش في بيتٍ قديمٍ وسط المدينة القديمة، ومعايشة التجربة المحلية. في مدة قصيرة، أصبح تصنيف هذا الفندق الأعلى بين جميع فنادق القصير، بما فيها المنتجعات السياحية ذات الأسماء العالمية، مع أنه مكوّن من ثلاثة طوابق وست غرف فقط.
"فندق القصير" هو بيت الشيخ توفيق جبران جد مصطفى لوالدته. بناه سنة 1910 وعاش فيه خمسين سنة، ثم أغلقته العائلة بعد وفاته. يربط بين طوابق البيت سلالم خشبية، فالبيت مبني من الحجر والخشب.
وفي سنة 1998، قدم للقصير سويدي يدعى بيتر وليم بيرغ ورمم البيت على نفقته ضمن خطةٍ لترميم البيوت التراثية في المدينة. لاحقاً، حوّل مصطفى البيت إلى "فندق القصير". يقول مصطفى للفِراتس: "وليم تعاون مع أهل المنطقة وجاء بمهندسين معماريين للعمل على ترميم بيوتها، وتكفّل بترميم بيت جدي بالكامل".
عمل بيرغ مع جمعية المحافظة على تراث القصير التي كان من مؤسسيها، ليتسنى له تيسير إجراءات الترميم أو الحصول على المنح المخصصة للترميم قانونياً.
ومع غياب القصير عن الخطط السياحية لوزارة السياحة وهيئاتها، يستخدم أبناء المدينة وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لها. وسار أصحاب الفنادق الشعبية الأخرى على نفس طريق مصطفى في توفير تجربةٍ محليةٍ للسائح والاختلاط بأهل المدينة. فأصبحت القصير في مواسم الأعياد والإجازات "كامل العدد"، حسبما يقول مصطفى.
أكد أن هناك خطة "لتحويل القصير لمتحف مفتوح، ونحتاج إلى تمويل. وهناك خطط كثيرة، لذلك عقد مؤتمر في جمعية المستثمرين للحفاظ على تراث المدينة. وهناك موافقة لتطوير شارع في كل مدينة داخل محافظة البحر الأحمر، سواء من مستثمرين القصير ورجال الأعمال أو منح دولية للحفاظ على المباني الأثرية". ورداً على سؤال الفِراتس حول مصير المباني التاريخية لشركة الفوسفات، قال إن "الموضوع لا يزال معلّقاً ومطروحاً للمناقشة".
أستاذة العمارة والتصميم العمراني في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وعضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، سهير زكي حواس تشرح للفِراتس أن ميزانية الجهاز "قليلة جداً ولا تكفي لفتح مكاتب إقليمية في المحافظات حتى يتمكن من ممارسة دوره في كل إقليم". وأضافت: "وبالتالي نعتمد على اللجان الدائمة التي تشكّل بقرار المحافظ لحصر المباني. وبعد تسجيل المبنى، أي تدخل في المبنى تتولاه المحافظة، ثم ترسل للجهاز في القاهرة لمراجعته. فرؤساء لجان الحصر هم فقط خبراء تابعين لوزارة الثقافة. أما اللجنة، فتتبع المحافظة ولا تتشكل من خبراء مختصين، لكننا نرسل المهندسين من القاهرة للمعاينة".
نوّهت حواس كذلك أنه، لتسجيل المباني في أي محافظة يجب أن تتوافر إرادة لدى المحافظين لتبنيّ أي مشروع لحماية هذه المباني. "هناك محافظين لا يعترفون بقانون 144 لسنة 2006 [قانون التنسيق الحضاري] ويرفضون تشكيل اللجنة الدائمة لحصر المباني ذات الطابع المعماري المميز". واقترحت أستاذة العمارة أن يكون لكلّ منطقةٍ تراثيةٍ مجلس أمناء من أبناء المنطقة، لديه علم بالمكان وأهميته والمباني المهمة فيه.
في موسم الحج كل عام، تحضر مدينة القصير على سطح الاهتمام المحلي، وتنشط صفحات المبادرات الشبابية للسياحة الداخلية لتنظيم رحلات إليها. أما قلوب المحبّين، فلا تنتظر دعوة من شبكات التواصل الاجتماعي. ويرتحل أصحابها ممن لم يستطيعوا للحج سبيلاً إلى وادي حميثرة، مرددين:
سر نحو عيذاب وأرض حميثرا وانظر مقام الشاذلي غوث الورى
وادخل رحاباً شرفت بجنابه وأسل دموع الشوق في ذاك الثرى
وبينما تستقبلهم المدينة وأهلها بشوقٍ وتقدير، تبقى المدينة نفسها أسيرة بطء الجهاز الحكومي وخطط تطوير تتكاثر على الورق دون أن تنفذ. فيما تستمرّ المدينة وتراثها في التداعي، وتغدو أثارها بيوتاً آمنة للحشرات والقوارض.
