لكن ما جرى ليلتَها تجاوز حدود الخلافات الكنسية. فبحسب مصدرٍ كنسيٍ تحدث إلى الفراتس، لم يدخل دميانوس الدير وحده. بل "اقتحمه" محاطاً بعشرةٍ إلى خمسة عشر ملثماً طردوا الرهبانَ المعارضين إلى خارج الأسوار وأغلقوا الأبواب خلفهم. في مقطع فيديو حصلت عليه الفراتس، يظهر الأب أكاكيوس وهو يقود الملثمين من "قلاية" (خلوة) إلى أخرى، حيث أُخرج ثلاثة عشر راهباً بالقوة. رفض بعض الرهبان مغادرة قلاياتهم، فحُطمت الأبواب والنوافذ، واقتيدوا حفاةً إلى خارج الدير. وفي المقطع المصور، يُسمع أحد الرهبان يصرخ باليونانية: "يا رفاق… اتركوني"، فيما يأمره المقتحمون بلهجةٍ مصريةٍ بالخروج: "اطلع.. يلا"، قبل أن يصرخوا بالإنجليزية: "غو غو [امضِ، امضِ]".
شكَّل هذا المشهد ذروة أزمةٍ متصاعدة. بدأت الأزمة قبل ذلك بثلاثة أشهرٍ، حين أصدرت محكمةٌ مصريةٌ حكماً بملكيةِ الدولة المصرية أراضيَ الدير غير ذات الطبيعة الدينية (أي الأراضي الزراعية وما يقع عليها من منشآت)، وإجلاءِ رئيسه ورهبانه اليونانيين عن منشآته الواقعة خارج حدوده، وقصرِ نشاطهم على ممارسة الشعائر داخل جدرانه العتيقة. أخرج الحكمُ النزاعَ من أسوار الدير إلى ساحات السياسة والقانون، فتردّدت أصداؤه في القاهرة وأثينا.
لم يكن الأمر مجرد خلافٍ على أراضٍ أو مبانٍ، بل بداية سلسلةٍ من التطورات المتسارعة. فالمطران، الذي يحمل الجنسيتين المصرية واليونانية، لجأ للبرلمان اليوناني طالباً تشريعاً يمنح الدير صفةً قانونيةً يونانيةً، تدير به أثينا أصولَه وممتلكاتِه بدلاً من رهبان الدير. فيما مضت القاهرة في مساراتٍ قضائيةٍ ودبلوماسيةٍ واقتصاديةٍ لتثبيت حكمها وإحكام سيادتها، واضعةً الدير في قلب مشروعها السياحي "التجلّي الأعظم فوق أرض السلام".
بين حكمٍ قضائيٍ يصادر أراضيه التاريخية، وقانونٍ يونانيٍ يمدّ سلطته إلى أصوله وممتلكاته، وُضع دير سانت كاترين في قلب صراعٍ محمومٍ تحوّل فيه إلى غنيمةٍ تتنازعها القاهرة وأثينا. إذ شهدت الأشهر والأسابيع الأخيرة غلقَ أبواب الدير في وجه الحجّاج والسائحين مرّاتٍ كثيرةً لتكثف الصراعات على النفوذ داخله، وتحوّله أداةً للتفاوض على المشروعات الاقتصادية بين القاهرة وأثينا، وتنازعهما السيادة عليه، بما يهدّد بتآكل قيمته الروحية التي صمدت خمسة عشر قرناً.
يقصد الديرَ اليهود والمسيحيون والمسلمون على السواء. ومع شهوده كثيراً من الغزوات والحملات على مدار قرونٍ، من الحملات الصليبية والتتار إلى الاحتلال الفرنسي والإنجليزي لمصر ثم الإسرائيلي لسيناء، لم تنقطع إقامة الشعائر الدينية في الدير أبداً.
يصف المؤرخ نعوم شقير الديرَ في كتابه "تاريخ سيناء والعرب" الصادر سنة 1916 بأنه "أشهر بناء في شبه الجزيرة". ويُرجع صمودَه في قلب الصحراء، التي يختلف رهبانه عن أهلها ديناً وجنساً وعاداتٍ، إلى أسبابٍ أبرزها حصانة موقعه، واشتراك أتباع الديانات الثلاثة في تقديسه، و"العُهدة النبوية"، أو وثيقة أمان المسيحيين وبِيَعهم المنسوبة إلى النبيّ محمد. ويشير شقير إلى نقل السلطان العثماني سليم الأول نسخة العهدة الأصلية إلى الأستانة (إسطنبول) عند دخوله مصر سنة 1517، وتركه ترجمةً عثمانيةً للرهبان لا تزال محفوظةً في الدير.
لم يتوقف التعايش عند حدود الوثيقة. فخلال حكم الفاطميين في القرن الثاني عشر، شيّد الرهبان داخل أسوار الدير مسجداً لا يزال البدو وزوار الدير من المسلمين يصلّون فيه إلى اليوم. كذلك ارتبط الدير بأهالي المنطقة بعلاقاتٍ متبادلةٍ، فعالَ فقراءَهم ووفّر لهم فرص العمل في مزارعه واستفادوا من زيارة الحجاج والسائحين للدير.
تعاقب على الدير رهبانٌ من سائر الأعراق والأجناس. أقام فيه سوريون وأرمن وأحباشٌ ولاتينيون ومصريون. ثم غلب الأرمن في القرنين الثامن والتاسع، وتلاهم اللاتينيون، قبل أن تعود الغلبة لليونانيين. وبحسب شقير، بلغ عدد رهبان الدير في بدايات القرن العشرين ستين راهباً، كلّهم يونانيون. تراجع العدد على مدار قرنٍ وربعٍ، حتى بلغ بضعاً وعشرين راهباً جلّهم من اليونانيين، بحسب حديث أحد رهبان الدير مع الفراتس.
يرفع الديرُ علمَ اليونان. ومحلُّ النزاع إحدى وسبعون قطعة أرضٍ، منها الأرض التي بُنِيَ عليها الدير، وأراضٍ أخرى بعضها زراعيٌ وبعضها أراضي فضاءٍ، وبعضها يضمّ كنائس وصوامع وأضرحةً ذات طابعٍ أثريٍ فريدٍ في مناطق جبل الطور وجبال كاترين وموسى والتجلّي والمناجاة.
واستناداً إلى قيمة الدير التاريخية والروحية، طلبت مصر من منظمة اليونسكو إدراجه وجبل موسى والأراضي المحيطة به ضمن قائمة التراث العالمي. استجابت اليونسكو للطلب سنة 2002، ووضعت آلية تعاونٍ بين الدير والمجلس الأعلى للآثار المصري في أيّ أعمال صيانةٍ أو ترميمٍ، مع الاعتراف بتبعية الدير للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وتمتعه بالحكم الذاتي وفق النظام الكنسي. تغير هذا الوضع جذرياً بعد الحكم القضائي الأخير الذي صادر قرابة نصف أراضي الدير.
تبدل المشهد بعد ثلاثة أسابيع. ففي الثامن والعشرين من مايو، أصدرت محكمة الاستئناف في الإسماعيلية حكماً بملكية الدولة المصرية ديرَ سانت كاترين وأراضيه. أكدت المحكمة في حكمها أن تبعيةَ الديرِ الروحيةَ للروم الأرثوذكس لا تمنحه أيّ امتيازاتٍ قانونيةٍ داخل مصر. ولم يذكر الحكم اليونانَ إلا مرةً واحدةً، في سياق التدليل على أن مصر تكفل حرية العقيدة والتبعية الروحية كما هو الحال في اليونان.
استندت المحكمة في حكمها بملكية الدولة الأراضي إلى عدم تقديم المطران أي سندٍ قانونيٍ يثبت ملكيته لها، وعدم تسجيلها بعد صدور القانون رقم 147 لسنة 1957، الذي حظر تملّك أراضي الدولة بالتقادم. وعدّت عدم سعيه للتسجيل طيلة هذه المدة دليلاً على اعترافه بملكية الدولة الأراضي، وأنه إنما يحوز الأرض بصفته الدينية، استناداً إلى قرار تعيينه مطراناً ومنحه الجنسية المصرية سنة 1974.
قسّمت المحكمة الأراضي المتنازع عليها بين الدير والحكومة المصرية إلى أربعة أقسام. يتكون الأول من إحدى عشرة قطعةً تقع خارج نطاق الدير، وهي أراضٍ صحراويةٌ صخريةٌ قليلة الأشجار، ألحقتها المحكمة بمحمية سانت كاترين الطبيعية تحت إشراف جهاز شؤون البيئة.
ويحوي القسم الثاني تسعاً وعشرين قطعة أرضٍ داخل نطاق أراضي الدير، منها مبنى الدير وأراضي عليها بعض الكنائس والمزارات ، منحت المحكمة الرهبانَ والمطرانَ حق "الحيازة الدينية" عليها للإقامة وممارسة الشعائر، مع تأكيد بقائها أملاك دولةٍ تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار.
وفي القسم الثالث سبع عشرة قطعةً عليها كنائس صغيرةٌ ومرافق رهبانيةٌ، تتناولها عقودٌ ابتدائيةٌ بين الدير والوحدة المحلية لمدينة سانت كاترين، رأت المحكمة أنها عقودٌ لا تنقل الملكية بل تحدّد التزاماتٍ متبادلة.
أما القسم الأخير ففيه خمسٌ وعشرون قطعةً زراعيةً أطلقت عليها المحكمة "أراضي الطرد". قضت المحكمة بطرد المطران من هذه الأراضي، بحكم وضع يده عليها "غصباً". وأضافت في حكمها أن خدمة الدير لا تسوّغ مخالفة القانون أو الاستيلاء على حقوق الدولة، وأن المطران، بصفته الدينية، ينبغي أن يكون قدوةً في احترام القانون.
وبهذا الحكم، رسّخت المحكمة ملكيةَ الدولة المصرية لأراضي الدير ومحيطه التي استخدمها الرهبان منذ القرن السادس الميلادي، مع منحهم حق الانتفاع والحيازة الدينية في نطاقٍ محددٍ، ووضع جميع التصرفات تحت الإشراف المباشر للسلطات المصرية.
أشار المطران دميانوس إلى هذا التراجع في تصريحاته لصحيفة ذا ناشيونال هيرالد اليونانية بعد يومين من صدور الحكم. إذ قال: "تُوُصِّل إلى اتفاقٍ مع السلطات المصرية، خاصةً في جنوب سيناء، بمشاركة الحكومة اليونانية. جاء وفدٌ رسميٌ من اليونان، واتفقنا على نصٍّ يمنح الدير حريةً أكبر في العمل واعترافاً بحقوقٍ معيّنةٍ، لأن الحياة لا تقوم على الروح وحدها، فالحاجات المادية قائمة. ولو لم تكن لدينا أراضٍ، كيف سنعيش على التبرعات وحدها؟ ولكن بعد الاتفاق، غيَّروا النص وقدَّموا لنا شيئاً مختلفاً تماماً".
وعلى خطى المطران، صعّد المسؤولون اليونانيون من حدّة انتقاداتهم للحكم، إذ وصف رئيس أساقفة أثينا وسائر اليونان، إيرونيموس، الحكمَ بـقوله "فضيحة تمثّل انتزاعاً ومصادرةً لممتلكات الدير"، مؤكداً في بيانٍ نشرته الصحف اليونانية في 30 مايو 2025 أن الحكومة المصرية سعت، بجرّة قلمٍ، إلى شطب وجود الدير وإلغاء أنشطته وعبادته وروحه وثقافته، على الرغم من تعهداتها السابقة. التعهدات نفسها أشار إليها الأرشمندريت بورفيريوس فرانغاكوس، ممثل الدير في أثينا، معتبراً أن الحكم "يحوّل الدير متحفاً وينقض اتفاقاً تُوُصِّل إليه مع مصر في ديسمبر 2024". وكشف عن تفاصيل الاتفاق قائلاً: "أعددنا تسويةً وديةً خارج المحكمة مع ممثلين مفوضين من الحكومة المصرية. اعترفت خلالها مصر بملكية الدير للأراضي الإحدى والسبعين، وقَبَلَها الجانبان، وكانت في طريقها للتوقيع. وظلّت الوثيقة تتنقل بين الوزارات المصرية أشهراً، وكنّا مستعدين للتوقيع في أيّ لحظة. وفجأةً صدر الحكم… متناقضاً مع ما أُبرم".
في المقابل، عدّت الحكومة المصرية، عبر وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، الحكمَ "إنجازاً تاريخياً"، كونَه يحدّد للمرّة الأولى وضعَ الدير قانونياً، على نحوٍ يحافظ على مكانته الدينية الفريدة.
ساهم هذا الموقف في إغضاب الرهبان. فقال المطران في حديثه للصحيفة اليونانية، إن المصريين "يزعمون محبّتهم للدير، لكنهم في الحقيقة يخنقونه". وانتقد إلغاء الاتفاق بحججٍ "واهية" رغم رغبة الرئيس السيسي "الواضحة" على توقيعه"، مشدداً على أن القضية ذات بعدٍ دوليّ.
وفي خلفية المشهد الملتبس، نشرت صحيفة كورييري ديلا سييرا الإيطالية، في الأول من يونيو، تقريراً رأت فيه نزاعَ الملكية جزءاً من صفقةٍ مصريةٍ يونانيةٍ أوسع. ونقلت الصحيفة عن مصادر دبلوماسيةٍ يونانيةٍ أن القاهرة تسعى لاستغلال الأراضي المحيطة بالدير ضمن مشروعٍ سياحيٍ، مقابل تمرير اتفاقٍ إستراتيجيٍ مع أثينا يقضي بمدّ ألف كيلومترٍ من الأسلاك البحرية لنقل الكهرباء النظيفة من مصر إلى اليونان ومنها إلى أوروبا، فيما يسمّى "مشروع الربط الكهربائي" البديل للغاز الروسي.
هذا المشروع ليس جديداً. إذ وقّع البَلَدان مذكرة تفاهمٍ في أكتوبر 2021 لبناء سلكٍ كهربائيٍ عملاقٍ حمل اسم "غريجي". وبقي الاتفاق حاضراً منذ ذلك الحين في جميع البيانات المشتركة والمحادثات الرسمية بين القاهرة وأثينا، باعتباره أحد أبرز محاور التعاون الإستراتيجي بينهما.
أعاد مسؤولٌ يونانيٌ سابقٌ ترويج هذه الرواية لتفسير تغيّر الموقف المصري. فذهب ماركوس بولاريس، النائب السابق لوزير الخارجية اليوناني لشؤون الثقافة والعلاقات الكنسية، إلى وجود "صفقة دبلوماسية سرية" شارك فيها مطران الدير، "الرئيس المسنّ"، لاستغلال الدير ورقةَ تفاوضٍ في ملفّ الطاقة. واتهم بولاريس، في منشورٍ على صفحته بمنصّة فيسبوك، الحكومةَ اليونانية "الضعيفة دبلوماسياً والخالية من الحسّ الوطني" بالمساومة على تسليم الدير، وخداع الشعب بإنشاء 'دير سيناء' في اليونان، دون إخطار الرهبان، "وبتمثيلٍ صوريٍ من الرئيس المسنّ الذي لم يكن يملك أيّ تفويضٍ من الدير الأم".
خلال الحملة، اتهم رجائي الرهبانَ اليونانيين بالاستيلاء على نحو 20 بالمئة من أراضي جنوب سيناء، وبناء "مستعمرات يونانية" عليها. كذلك نشَر سنة 2014 كتاباً بعنوان "بروتوكولات رهبان كاترين" دعا فيه لاسترداد الأراضي وإعادة تسميتها بأسماءٍ مصريةٍ وإسلامية. تبنّى هذه الدعوات لاحقاً بعض المقربين من السلطة، مثل رئيس مكتبة الإسكندرية الأسبق مصطفى الفقي، الذي وصف الديرَ بأنه "مستعمرة أجنبية" وطالب بإخضاعه للكنيسة الأرثوذكسية المصرية.
انحازت الحكومة المصرية في البداية للدير في مواجهة دعاوى عطية، وطالب محاموها المحكمةَ برفض دعواه لعدم وجود صفةٍ ومصلحةٍ له. لكنها سرعان ما بدّلت موقفها. في سنة 2015، تقدّم محافظ جنوب سيناء ورئيس الوحدة المحلية لمدينة سانت كاترين بدعوىً مستقلةٍ طالب فيها بطرد مطران الدير من تسعٍ وعشرين قطعة أرضٍ وتسليمها للدولة، مع إلزامه بدفع خمسة ملايين جنيهٍ تعويضاً. وفي سنة 2016، انضمت وزارة الآثار وجهاز شؤون البيئة إلى الدعوى مطالبين برفع التعويض إلى عشرة ملايين جنيهٍ، وتوسيع النزاع ليشمل اثنتين وأربعين قطعةً إضافيةً، ليصل الإجمالي إلى إحدى وسبعين قطعة أرض.
أسفر المسار القضائي عن حُكمين بارزين. صدر الحكم الأول عن محكمة جنوب سيناء الابتدائية في مايو سنة 2022 ، وقضى بطرد المطران وتسليم الأراضي إلى الدولة. أما الثاني، فصدر عن محكمة الاستئناف في مايو 2025، ومنح الرهبانَ حقَّ الانتفاع دون الملكية. فيما يبقى الحكم الحاسم بيد محكمة النقض، التي يُنتظر أن تضع حدّاً نهائياً لأحد أطول النزاعات القضائية في مصر حول موقعٍ دينيٍ وتاريخيٍ استثنائي.
وقبل صدور الحكم الأخير، قصد الاتفاق غير المكتمل بين مصر واليونان طيَّ صفحة النزاعات القضائية عبر تسويةٍ شاملةٍ وتصالحٍ في القضايا المتبادلة، مع الالتزام بقرار اليونسكو القاضي بإدراج الدير وممتلكاته على قائمة التراث العالمي. إلا أن بنود الاتفاق الثمانية، التي كشف عنها مسؤولون يونانيون للفراتس، جاءت في معظمها لصالح الدير، مانحةً الأفضليةَ للطرف اليوناني على حساب الموقف المصري، من دون أن تُلزِم الديرَ بأيّ تنازلاتٍ مقابِلة.
الاتفاق غير المكتمل بين مصر واليونان حول ملكية أراضي الدير
نصّ الاتفاق على ملكية الدير إحدى وسبعين قطعة أرضٍ تعود للطائفة الأرثوذكسية اليونانية. كذلك ضَمِنَ استقلاليتَه في إدارة شؤونه الدينية والإدارية، بإشراف رئيسه بصفته رئيس أساقفة سيناء المعترف به رسمياً في مصر. وأقرّ خضوعَ أعمال الصيانة والبناء فيه لإشرافٍ مشتركٍ بين السلطات المصرية وإدارة الدير، مع التشديد على الحفاظ على طابع المكان التاريخي والروحاني. وتضمّن الاتفاق إشارةً مقتضبةً إلى "مشروع التجلّي الأعظم" الذي أعلنه الرئيس المصري سنة 2020 بالقرب من الدير، إذ نصّ على "الالتزام بخطة تنميةٍ للمناطق المحيطة وفق إدارةٍ صارمةٍ تتفق مع التزامات مصر باعتباره موقعاً للتراث العالمي".
جمَّد حكمُ محكمة الاستئناف الاتفاق. إذ منح الرهبانَ حقَّ الانتفاع بستٍ وأربعين قطعة أرضٍ دون تملّكها، وطردهم من خمسٍ وعشرين قطعةً أخرى. وبعد صدور الحكم، لوّحت الحكومة المصرية بإمكانية إعادة الاتفاق إلى الطاولة. ففي الثامن من أغسطس، صرّح وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال زيارته أثينا بأن التفاهم مع اليونان بات وشيكاً، وأن احتفال توقيع الاتفاق الرسمي "قريب جداً"، وهو ما قابله نظيره اليوناني يورغوس غيرابيتريتيس بالتعبير عن ثقته في التزام القاهرة بوعودها.
سرعان ما عاد النزاع إلى ساحات القضاء. في النصف الثاني من أغسطس، قدّم الدير طعناً على الحكم أمام محكمة النقض، وقدمت الحكومة المصرية طعناً موازياً، وفق ما أكده في حديثٍ مع الفراتس محامٍ في وزارة الآثار طلب عدم ذكر اسمه. وهو ما يعني أن مصير أراضي الدير ما زال معلقاً بانتظار حكم محكمة النقض.
في المقابل، أكد مصدرٌ حكوميٌ بمحافظة جنوب سيناء – طلب عدم ذكر اسمه – أن "الأزمة الحالية تعود في جوهرها إلى رغبة المطران دميانوس في تملّك الأراضي الخاصة بالدير بجنوب سيناء". وكشف أن المطران تقدّم سنة 2004 بطلبٍ رسميٍ إلى الوحدة المحلية للحصول على ملكية أراضي الدير والمناطق المحيطة التي اشتراها من بعض البدو. ووصف المصدر الخطوةَ بأنها "غلطة فادحة"، لأن تلك الأراضي، بما فيها مبنى الدير الأثري، مسجلةٌ مواقعَ أثريةً ومحميةً طبيعيةً منذ تسعينيات القرن الماضي، ولا يجوز قانوناً تملّكها سواءً من الرهبان أو البدو، الذين يقتصر حقّهم على الانتفاع بها وفق نظامٍ معمولٍ به في سيناء لاعتباراتها الإستراتيجية.
أضاف المصدر أن العقود التي يستند إليها الدير "مجرد عقودٍ ابتدائيةٍ صادرةٍ عن مجلس المدينة لمساحاتٍ صغيرةٍ لا تتجاوز خمسين إلى خمسةٍ وسبعين متراً"، ولا تتناول جلّ الأراضي محلّ النزاع القضائي. لافتاً إلى أن بعض هذه الأراضي لا تتعدى بضع أشجار زيتونٍ قديمةٍ متناثرةٍ قرب الدير وجبل موسى وفرش إيليا، وليست زراعاتٍ واسعةً كما يروَّج. أما عن الموقف القضائي، فأوضح المصدر أن الحكم المصري الأخير لم يمسّ وجود الرهبان أو مكانة المطران، قائلاً: "الحكم كان واضحاً: عيشوا في الدير، مارسوا شعائركم، ولكم حقّ الانتفاع الكامل بالأرض، لكنها ليست ملكاً لكم".
التوجه المصري بتأكيد السيادة وحظر تملّك أراضي الدير، أيّده محمد الكحلاوي، عضو اللجنة العليا للتخطيط التابعة لمجلس الوزراء، ورئيس المجلس العربي لاتحاد الآثاريين العرب. إذ قال للفراتس إن دير سانت كاترين يتبع السيادة المصرية، وأن هناك "وثيقة أمان" لرهبانه يجب الالتزام بها. لكنه شدّد في المقابل على أن اليونان لم تؤمّن الدير تاريخياً في أيّ مرحلة. وأضاف: "لاعتبارات السيادة، لا يمكن تمليك أراضي الدير للرهبان اليونانيين".
استشهد الكحلاوي بحادثةٍ وقعت عقب اتفاقية كامب ديفيد، حين لقي قائدٌ كبيرٌ بالجيش الإسرائيلي مصرعَه مع زوجته في حادث سيارةٍ أثناء زيارته للدير، فدفن في الموقع. ومع توافد أفواجٍ سياحيةٍ إسرائيليةٍ لتحويل قبره إلى مزارٍ، تدخّل الرئيس السابق محمد حسني مبارك وأمر بإزالة المقبرة حتى لا تتحول لمزار. ويخشى الكحلاوي تورّط إسرائيل في تأجيج الجدل حول أراضي سانت كاترين. "فأطماع إسرائيل في سيناء لا تتوقف، ونحن أمام عدوٍّ يتربص بنا".
يتّفق السفير السابق بلال المصري مع رأي الكحلاوي. وفي دراسةٍ بعنوان "أزمة السيادة على دير سانت كاترين: قضية أمن قومي مصري" نُشرت في يونيو 2025، أكّد المصري استثنائية سيناء باعتبارها مركز الثقل العسكري والأمني المصري، ما يستوجب خضوعها الكامل للسيادة المصرية، ورصد ومتابعة كل العناصر الأجنبية فيها، سواءً كانوا رهبان الدير أو أفراد القوة متعددة الجنسيات المنتشرة في سيناء منذ سنة 1982، والتي تضمّ نحو ألفٍ وسبعمئة جنديٍ، إضافةً إلى خمسة عشر مراقباً مدنياً أمريكياً.
وقال السفير السابق إن تملّك الرهبان للدير، وفق أيّ سيناريو، سيجعلهم بمنأىً عن التدابير الأمنية والاعتبارات السيادية، ما قد يحوّل الدير "ثقباً أمنياً يتّسع مع الزمن" ويهدد بفقدان السيطرة على سيناء. ويضيف أن الخطر يتضاعف مع ما يُتداول عن نية السعودية إتاحة جزيرة تيران لإقامة قاعدةٍ أمريكيةٍ تخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، وهو ما يضع ملفّ سانت كاترين في قلب معادلة الأمن الإقليمي.
سافر دميانوس إلى اليونان عقب صدور الحكم القضائي الذي قضى بملكية الدولة المصرية أراضيَ الدير. وبعد شهرين، وتحديداً في 28 يوليو 2025، ألقى مطران دير سانت كاترين كلمةً داخل البرلمان اليوناني شكر فيها أعضاءَ لجنة التعليم والشؤون الدينية على إقرارهم مشروعَ القانون الذي تقدّمت به وزيرة التعليم، والهادف إلى تمثيل الدير في اليونان ومنحه صفة مؤسسةٍ عامّةٍ يونانية. وفي 30 يوليو 2025، ردّ رهبان الدير بإعلان عزل دميانوس، من خلال بيان حصلت الفراتس على نسخةٍ منه، وقّعه خمسة عشر راهباً، أعلنوا فيه عزل مطرانهم البالغ من العمر إحدى وتسعين سنة. كذلك وجّهوا في البيان إخطاراً إلى بطريرك القدس، ثيوفيلوس الثالث، باعتباره السلطة العليا المسؤولة عن تعيين المطران أو عزله وفقاً للائحة الدير، ودَعَوه إلى اعتماد القرار رسمياً.
وبحسب ما أكّده أحد الرهبان في حديثه إلى الفراتس من داخل الدير، فإن القانون اليوناني، وقبله الحكم المصري، كانا بمثابة القشة التي دفعت الرهبان إلى التحرك لإنقاذ الدير والحفاظ على استقلاليته مؤسسةً دينيةً ذات وضعٍ خاصٍ، على غرار الفاتيكان.
وأوضح الراهب أن دميانوس زار الدير زيارةً قصيرةً لم تستغرق سوى دقائق قبل ثلاثة أيامٍ من كلمته في البرلمان اليوناني، وتحديداً في 25 يوليو 2025،، غادر بعدها إلى الفندق الملحق بالدير. وخلال الزيارة، تحدث محامي دميانوس إلى الرهبان عن القانون باقتضابٍ، لكنهم طالبوه بضرورة عرض نصّ القانون على مجمع الدير قبل التصويت عليه. كذلك طلب عددٌ من الرهبان لقاء المطران في الفندق لمناقشته في واقعة إبعاد ثلاثة رهبانٍ من الدير وتبديلهم بآخرين، والتقوا مساء 26 يوليو. لم يدُم اللقاء، الذي حضره محامي المطران، سوى دقائق، طالبه الرهبان خلالها بالاستقالة أو مواجهة العزل.
عاد المطران إلى أثينا مرّةً أخرى، وفي اليوم نفسه الذي وقف فيه أمام البرلمان، أرسل الرهبان رسالةً إلى وزيرة التعليم اليونانية أخبروها فيها برفضهم لمشروع القانون الذي لم يطلعوا عليه. وفي 29 يوليو، أعلن البرلمان اليوناني موافقته النهائية على القانون، ليُصدر الرهبان في اليوم التالي قرارَهم بعزل دميانوس.

ويضيف الراهب إن "الدير ورهبانه يدفعون ثمن التدهور الصحي المتدرج لرئيس الأساقفة وما خلّفه من فراغٍ إداريٍ وروحيٍ أفسح المجال لمتسللين استغلوا شؤون الدير بطرقٍ غير مشروعةٍ، وسط تدخلٍ مباشرٍ من جهازٍ سياديٍ مصريٍ ولا مبالاةٍ واضحةٍ من الدولة اليونانية". ويضيف أن المطران يقيم بشكلٍ شبه دائمٍ في اليونان منذ سنواتٍ، ولا يزور الدير سوى مراتٍ معدودةٍ سنوياً ولمددٍ قصيرةٍ، ويقيم غالباً خارج الدير، متغيباً عن الاحتفالات والمناسبات الكبرى بما فيها عيد القديسة كاترين الذي لم يحضره في سنتَيْ 2022 و2023، وحضر سنة 2024، لكنه غادر الدير فوراً بعد القداس.
وشدّد الراهب على أن الدير يعيش حالةً من الفوضى بسبب غياب سلطةٍ عليا تتابع شؤون الرهبنة وتدير القضايا الروحية والإدارية. واتّهم المطرانَ بالسعي وراء "مكاسب دنيوية" بالتصرف في أموال الدير وبيع ممتلكاته دون إعلام مجمع الدير أو موافقته، مستشهداً ببيعه عقارين من ممتلكات الدير في اليونان في أثينا وسالونيك في الأشهر الماضية، بالمخالفة للوائح الأساسية التي وضعها بنفسه عند انتخابه رئيساً لأساقفة سيناء سنة 1973. كذلك استشهد الراهب باتفاقيةٍ أبرمها المطران بقرارٍ منفردٍ منه بعدما رفضها رهبان الدير سنة 2017، منح بموجبها حقوق رقمنة المخطوطات النادرة في الدير لجامعة كاليفورنيا دون رقابةٍ من الدير. وفقاً للراهب، ألقت سلطات مطار القاهرة القبضَ سنة 2020 على أحد أبناء سكرتيرة المطران بتهمة اختلاس المواد الرقمية للمخطوطات، بما في ذلك جميع الأجهزة الإلكترونية من حواسيب وأقراصٍ صلبةٍ، ما أضرّ بسمعة الدير في مصر وأوقف مشروعات الرقمنة، وهو أمرٌ يخضع للتحقيق من السلطات المصرية في الوقت الحالي بعدما تلقّت بلاغاتٍ رسميةً من الرهبان بهذا الشأن. ولم يتسنّ للفراتس التأكّد من نتائج التحقيقات بعد.
وبحسب الراهب، فإن "السلطات المصرية تريد السيطرة على أراضي الدير، فيما يسعى المطران لنقل قراره إلى اليونان". ويعدّ الحكم القضائي المصري "كارثياً" لأنه يضع رهبان الدير في وضعٍ هشٍّ مقارنةً ببقية الأديرة في مصر، إذ لا يحمل الجنسية المصرية سوى المطران، بينما يقيم بقية الرهبان الأجانب بتصاريح سنويةٍ يمكن إيقافها في أيّ وقتٍ، وهو ما حدث فعلاً عدّة مراتٍ على نحوٍ يمهّد لتلاشي أخوية سيناء "رهبان سيناء" سواءً بالتوقف عن تجديد إقامات الرهبان الحاليين أو منح إقاماتٍ مصريةٍ لرهبانٍ آخرين أو حتى التوقف عن منح إقاماتٍ شيئاً فشيئاً، ما يفتح الباب لتحويل الدير "متحفاً أثرياً" بقرارٍ رسمي. لكن الراهب يرى أن القانون الذي أصدرته اليونان في أغسطس 2025 بطلبٍ من المطران "أشد خطراً"، إذ أنشأ مؤسسةً عامةً في أثينا بِاسم "الدير اليوناني الأرثوذكسي المستقل لجبل سيناء" مُنحت صلاحياتٍ واسعةً لإدارة أموال الدير وتبرعاته ورحلات الحج إليه.
وأشار الراهب إلى ارتكاب المطران مخالفاتٍ ماليةً أخرى. إذ لم يتخذ اللازم لتحصيل إيرادات المقارّ والمؤسسات التابعة للدير في اليونان، بل منح اليونانَ الديرَ كلّه وممتلكاتِه على طبقٍ من فضة. وضرب الراهب مثالاً، في سنة 2024، إذ بلغت الإيرادات الرسمية لمقرّ الدير في أثينا قرابة 539 ألف يورو، استلم الدير منها، بما يشبه التسوّل، نحو 61 ألف يورو فقط، وحصل المطران نفسه على قرابة 63 ألف يورو من الإيرادات، ولا يُعرَف مصير باقي الأموال.
غير أن رئيس الدير دميانوس لم يتراجع، ومن مقرّ إقامته بأثينا وصف معارضيه بالخونة. فيما واصل الرهبان المقيمون بالدير في جنوب سيناء تحركاتهم القانونية والدبلوماسية لإبطال القانون، ماضين في انتخاب قيادةٍ انتقاليةٍ جديدةٍ للدير.
لكن المشهد انقلب مجدداً مع عودة المطران المفاجئة إلى الدير أواخر أغسطس، حيث عزل معارضيه وطردهم خارج أسواره وأعلن في تسجيلٍ مصوّرٍ أن "الدير عاد إلى الشرعية والنظام الكنسي". بالتوازي، تقدم ثمانيةٌ من الرهبان بمحاضر للشرطة المصرية مطالبين بتمكينهم من دخول الدير والتحقيق في اتهامات الاعتداء عليهم من مرافقي المطران، لتتوقف العبادة داخل الدير ويغلق أبوابه أمام حجاجه وزائريه.
في الثاني من سبتمبر 2025 أوفدت الحكومة اليونانية ممثلها جيورجوس كالانتزيس إلى الدير، حاملاً مقترحاً بدا وكأنه إعلان تخلٍّ رسميٍ عن رئيس الدير. نصّ المقترح اليوناني على انعقاد المجمع المقدس في السابع من سبتمبر لانتخاب خليفةٍ له. غير أن رئيس الدير لم يردّ على مقترح أثينا. وعاد ممثل الحكومة اليونانية إلى بلاده دون الوصول إلى إتفاق. في تلك الأثناء استدعت بطريركية القدس رئيسَ الدير للمثول أمامها للتحقيق في مخالفاتٍ داخل الدير، وهو ما رفضه دميانوس أيضاً وقابَلَه بإصدار بيانٍ في الرابع من سبتمبر، أكّد فيه أنه بدأ في إجراءات اختيار خليفةٍ له بالتنسيق مع عددٍ من الكنائس وبعلم الحكومة اليونانية.
وكشف مصدران حكوميان مصريان أن الأمن المصري التزم الحياد ولم يتدخل لترجيح كفّة المطران أو الرهبان. غير أن هناك مباحثاتٍ بين مسؤولين مصريين وبين المطران والرهبان لاحتواء الأزمة وفتح أبواب الدير أمام السياح، ما أسفر عن خروج مجموعةٍ من الحراس الشخصيين الذين رافقوا المطران خلال عودته للدير، تمهيداً لفتح أبواب الدير وسفر المطران إلى اليونان دون التحقيق معه في اتهامات الرهبان. وهو ما تحقق بالفعل في السادس من سبتمبر عندما أرسلت اليونان طائرةً خاصةً نقلت المطران وسكرتيرته وتسعةً من الرهبان الموالين له إلى أثينا، لتفتح أبواب الدير ويعود إليه رهبانه، فيما تطوى صفحة دميانوس. وقد عاود دميانوس الظهور بعد سفره لليونان، طالباً في بيانٍ أصدره في الثامن من سبتمبر جميع رهبان الدير بالتوحد حول رفض الحكم المصري وانتخاب خليفةٍ له في 14 سبتمبر 2025، قائلاً: "إنني أتخذ قراري الخاص بالاستقالة. والانتخابات يجب أن تكون نقطة بدايةٍ جديدةٍ لمسيرةٍ طويلةٍ في حياة الدير".
ومن جانبه، يرى الباحث في الشؤون الكنسية والمسكونية جرجس حنا، في حديثه للفراتس، أن رحيل المطران دميانوس واعتماد الحكومة المصرية موقفاً محايداً في أزمته مع الرهبان، يمهّدان لتقنين الوضع القانوني لأراضي دير سانت كاترين، التي بقيت قروناً بلا سند ملكيةٍ رسمي.
وأضاف حنا أن الاتفاقية المرتقبة بين مصر واليونان لن تمسّ الدير واستمرار العبادة داخله، بل ستعزز المنفعة المشتركة بالنظر إلى مكانة سانت كاترين الدينية والسياحية والأثرية العالمية. مشيراً إلى أن اختيار رئيس الأساقفة الجديد سيكون خطوةً أساسيةً نحو توقيع اتفاقيةٍ بين الطرفين المصري واليوناني تؤطّر حدود حقوق كل طرفٍ تجاه الدير، فيما يتبقى على رهبان الدير مسؤولية التفاوض مع الجانب اليوناني حول إدارة ممتلكاته.
بدأ المشروع في يوليو 2020، حين أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال زيارةٍ للدير تكليفه من الرئيس بالبدء الفوري في تطوير مدينة سانت كاترين. وأكد مراعاةَ أعمالِ التطوير حرمةَ الوادي المقدس والمحمية الطبيعية. وفي سبتمبر من العام نفسه، أطلق السيسي على المشروع اسمَ "التجلّي الأعظم فوق أرض السلام".
من جانبه، أكد ماهر استينو، عضو اللجنة العليا للتخطيط بمجلس الوزراء واستشاري مشروع التجلّي، أن المشروع لا يمسّ الجزء الأثري من الدير ولا حرمته. وأضاف في حديثه مع الفراتس: "لم نقترب من المناطق الأثرية أو البيئية المغلقة، بل عملنا فقط داخل المدينة المدمرة. لم تُبنَ طوبةٌ واحدةٌ داخل الدير أو محيطه"، مؤكداً أن سانت كاترين ظلّت "مدينة منسية" عقوداً، تستقبل أعداداً محدودةً من السياح الذين يكتفون بزيارةٍ قصيرةٍ لصعود جبل موسى والدير ثم يغادرون، تاركين خلفهم نفاياتٍ ضخمةً دمّرت البيئة. ولم تكن بالمدينة خدماتٌ سياحيةٌ، وانهارت الزراعة فيها بسبب الجفاف وشحّ الأمطار.
مِن هنا، بحسب استينو، صُمّم المشروع لتعظيم الاستفادة من الموقع دون الإضرار بخصوصيته الروحانية والبيئية، عبر إنشاء نُزلٍ بيئيٍ جديدٍ يضمّ مئتي غرفةٍ مدفونةٍ تحت الأرض وفندقاً جبلياً بطاقة مئةٍ وخمسين غرفةً ومركز زوّارٍ و"ساحة سلام" تَسَع نحو أربعمئةٍ وعشرين شخصاً. وللحفاظ على منظر المكان الكلّي، سيُبنى هذا كلّه تحت الأرض، وسيُلغى الطريق الإسفلتي في وادي الأربعين ويُحوَّل ممشىً للجمال، وتزرع سبعة آلاف شجرة زيتونٍ بإشراف رهبان الدير، ويدقّ أحد عشر كيلومتراً من ممرات المشاة، مع قصر الحركة داخل المنطقة على السيارات الكهربائية فقط.
كذلك عالج المشروع الأوضاعَ المعيشية للسكان المحليين. فأبقى على الأسواق القديمة، وحوّل الطرق الرئيسة ممرّات مشاةٍ، ونفّذ شبكاتٍ جديدةً للصرف والكهرباء والمياه، بينها خطٌّ بقدرة خمسة آلاف مترٍ مكعب يومياً بدلاً من ثمانمئةٍ، إضافةً إلى محطة تحلية.
وردّاً على الانتقادات بشأن استخدام الخرسانة في بعض المباني، يوضح استينو أن "التكامل مع البيئة لا يعني بناء القباب، بل يمكن تحقيقه بإخفاء المباني تحت الأرض وفق تضاريس الموقع". ويؤكّد أن المشروع حصل بالفعل على موافقة رهبان الدير، ومنظمة اليونسكو، والسكان المحليين.
مشروع التجلي الأعظم نقلا عن استشاري المشروع ماهر استينو
لكن موقف اليونسكو تبدّل قبيل الاجتماع السنوي للجنة التراث العالمي في باريس في يوليو 2025. إذ أصدرت منظمة "ووتش" المعنيّة بمراقبة مواقع التراث بياناً اتهمت فيه اليونسكو بالتساهل مع مصر، ودعت إلى مراجعةٍ عاجلةٍ وإدراج دير سانت كاترين على قائمة المواقع المهددة بالخطر.
تحت هذه الضغوط، غيّرت اليونسكو خطابها في الدورة السابعة والأربعين للجنة، وأبدت تحفظاتٍ واضحةً على المشروع، مطالبةً بإجراء تقييمٍ شاملٍ لتأثيراته التراثية والبيئية، ووقف أيّ تدخلاتٍ جديدةٍ حتى استكمال الدراسة. كذلك أوصت بإعداد خطةٍ متكاملةٍ لإدارة السياحة وحماية الممتلكات الثقافية، وألزمت الحكومة المصرية بتقديم تقريرٍ مفصلٍ عن حالة الموقع وآليات تنفيذ الرؤية المقترحة في موعدٍ أقصاه الأول من فبراير 2026.
ورغم هذه التوصيات، استبعد خبير الترميم باليونسكو صالح لمعي في حديثه للفراتس أن تترتب عليها نتائج ملموسةٌ في الدورة الثامنة والأربعين المقبلة، في ظلّ اقتراب الحكومة المصرية من إنجاز المشروع، وتوجيهاتٍ رئاسيةٍ بافتتاحه في وقتٍ قريب.
