حياة صغيرة في قلب الموت.. تجارب النساء مع الحمل والولادة في غزة

تواجه نساء غزة حرباً إسرائيلية تحرمهن أبسط الحقوق.

Share
حياة صغيرة في قلب الموت.. تجارب النساء مع الحمل والولادة في غزة
الحرب والحصار يضاعفان حالات الوفاة قبل وأثناء وبعد الولادة | خدمة غيتي للصور

في 18 مارس 2025 قتل الطيران الإسرائيلي عائلةَ عمّي محمد الجماصي في قطاع غزة باستهدافٍ مباشر. كان بين الضحايا ابن عمّي عبيدة وزوجته ملك فراونة وطفلاهما سوار ومحمد. كان محمد قد ولد يوم 19 يناير 2024 إبّان الحرب، وعاش النزوحَ والمجاعة. وانتهت حياته في الليلة الأولى من الجولة الثانية للحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023.

لم يكن محمد، حفيد عمّي، فريداً في حكايته. فحتى 28 مايو 2025، سجّلت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة مقتل 356 طفلاً وُلدوا في أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومقتل 932 طفلاً لم يتمّوا سَنَتَهم الأولى في الحياة. كذلك لم يكن مقتل ملك، أمّ محمد، استثناءً. فبحسب تقرير هيئة الأمم المتحدة للمرأة في يناير 2024، تُقتل أُمَّان في القطاع كل ساعةٍ منذ بداية الحرب. وإذا كانت أم محمد مثل كثيرٍ من الأمّهات الغزّيات، قُتلت مع ابنها وجاورته في قبره، فإن غيرها من الأمهات – اللاتي يعانين الأمرَّين في الحمل والولادة ثم يتنقلن بأولادهن فراراً من القصف – يحملن فلذات أكبادهن إلى قبورهم أو يتركنهم ويَمُتْن. لا بسبب القصف، ولكن بسبب الحصار والنزوح في الحرب.

تعيش الأمهات وأطفالهن في غزة معاناةً جسيمةً منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع. بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، قتل القصف الإسرائيلي حتى 28 مايو 2025 أكثر من اثنتي عشرة ألف وأربعمئة امرأةً، ومعهنّ أكثر من ثمانية عشر ألف طفل. ومع القتل، ضاعفت الحرب أزمةَ الصحة الإنجابية للنساء على وجه الخصوص، بتدمير القطاع الطبّي على نحوٍ حرم الفلسطينيات الحدَّ الأدنى من الرعاية الضرورية قبل الحمل وأثناءه وحتى الولادة، وحرم الأطفالَ الرعايةَ الصحية الضرورية بعد الولادة. واستمرّ ذلك بالحصار الذي منع دخول الغذاء والدواء والمستلزمات الصحية اللازمة للحوامل والأطفال، وبالنزوح المستمر الذي فرض على نساء غزة ظروفاً قاسيةً في الحمل والولادة.


وضع الحصار المستمر على غزة منذ سنة 2006 أهالي القطاع على حافة كارثةٍ إنسانيةٍ، قبل أن تدفعهم الحرب الحالية إليها. ظهرت آثار الحصار في سنوات ما قبل الحرب على القطاعات الحيوية المختلفة، وعلى رأسها القطاع الصحي الذي أنهكه ضعف الموارد. ثم دمّرت الحرب ما تبقى منه وتركت أهالي القطاع، لاسيّما النساء الحوامل والأطفال الرضّع، بلا رعايةٍ صحية.

تُبرز تقارير وزارة الصحة الفلسطينية في غزة هذه المعاناة. ففي سنة 2022، أصدرت الوزارة تقريراً كشفت فيه عن عدم توفر نحو 40 بالمئة من قائمة الأدوية المطلوبة بالقطاع، ونفاد مخزون 18.5 بالمئة من المستلزمات الطبّية. كذلك أشار التقرير إلى ازدياد الضغط على البنية التحتية وخدمات الأمراض المزمنة مقارنةً بسنة 2021، وتزايد حاجة القطاع الصحّي لتحويل المرضى للعلاج خارج غزة.

منع الحصار تَوفّرَ الموارد اللازمة لرعاية نساء غزة. بحسب إحصائيات الجهاز المركزي الفلسطيني، قدّمت أكثر من عشرة مستشفياتٍ وخمسين مركزاً صحّياً رعاية الحمل والولادة سنة 2022، بلغت نسبة الأَسِرّة فيها 1.55 سريراً لكلّ ألف نسمةٍ، أي أقلّ من نصف المعدل العالمي الذي يبلغ 3.3 سريراً لكلّ ألف نسمة.

دمّرت الحرب ما تبقّى من القطاع الصحّي في غزة. منذ السابع من أكتوبر سنة 2023، بلغ عدد الهجمات الإسرائيلية عليه ستمئةٍ وسبعين هجوماً، وفق تقرير الأمم المتحدة في 25 مارس 2025. ووثّقت الإحصائيات الرسمية مقتل 1580 عاملاً في القطاع الصحّي حتى 28 مايو 2025. بينما تعرّض 38 مستشفى و82 مركزاً صحياً و164 مؤسسةً صحيةً للتدمير الجزئي أو الكلّي. ووصلت نسبة المستهلَكات الطبّية التي نفدت مخزوناتها إلى 59 بالمئة، ونسبة الأدوية 37 بالمئة.

كان قطاع الصحة الإنجابية من أكثر القطاعات تضرراً. وبحلول مايو 2025، لم تَبْقَ إلّا سبعة مشافي في محافظات القطاع المختلفة تقدّم خدمات الولادة والرُضّع. كلّها تعمل بطاقةٍ جزئيةٍ، ومعها أربعة مشافي ميدانية. وبحسب تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في مارس 2025، استهدف الجيش الإسرائيلي مرافقَ الرعاية الصحية الإنجابية في القطاع، وشنَّ هجماتٍ مباشرةً على أجنحة الولادة وعيادة التلقيح الصناعي الرئيسة فيه، إلى جانب استخدامه التجويع سلاحَ حرب. وإبّان الحرب، قتل القصف والاستهداف الإسرائيلي ثمانيةً على الأقلّ من العاملين في مجال الصحة الإنجابية. منهم الطبيبان الشقيقان باسل ورائد مهدي، اللذان حوصرا وقُصفا مع عائلتيهما داخل مستشفى المهدي للولادة، والطبيبة ناهد الحرازين رئيسة قسم النساء والولادة في مستشفى الشفاء، والطبيب إياد الرنتيسي الذي اعتقله الجيش الإسرائيلي وعذّبه حتى قُتل في مراكز التحقيق الإسرائيلية.

عانت الطواقم الصحية في مجال الصحة الإنجابية أشكالًا متباينة من الانهيار. وثَّقت الفِراتْس شهاداتٍ طبيباتٍ يعملن في مواقع مختلفةٍ في القطاع. نوران التلباني التي تعمل في مركزٍ صحيّ بدير البلح جنوب قطاع غزة، وياسمين س. في مستشفى أصدقاء المريض وبعض العيادات الصحية في مدينة غزة، وتغريد العماوي في مستشفى كمال عدوان ومراكز صحية أخرى في شمال قطاع غزة، ورُبى المدهون في مستشفى الشفاء في الشمال ثم مجمع ناصر الطبي وغيره في الجنوب. وبحسب هذه الشهادات، بدأ نفاد المستلزمات الطبّية بعد أسبوعين من بداية الحرب. وقد لوحظ غياب المضادّات الحيوية في شمال القطاع وجنوبه، بسبب الزيادة الكبيرة في الإصابات أثناء الحرب، وقلّة الاحتياطي بسبب الحصار قبلها.

تأثرت نساء غزة الحوامل بهذا الاستهداف. وفق إحصائية صندوق الأمم المتحدة للسكان، بلغ عدد النساء الحوامل في غزة في مايو 2025 نحو ستّين ألف امرأة. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، تواجه نصفهنّ حملاً عالي الخطورة، مقابل نسبة الثلث قبل الحرب. وفي مارس 2025، قالت رئيسة لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، نافي بيلاي، إن الانتهاكات الإسرائيلية تؤثر على الصحة العقلية وآفاق الإنجاب والخصوبة للفلسطينيين.


تبدأ معاناة نساء غزة مع الولادة من قبل الحمل، وتستمر إلى ما بعد الولادة. وبينهما، يُهدَر حق النساء في الحمل الآمن.

تمنع الحرب نساء غزة من اختيار توقيت الحمل. تعدّ الأمم المتحدة قرارَ الإنجاب في الوقت المناسب من أول حقوق الصحة الإنجابية للنساء، وتُحرَم نساء غزة هذا الحق بسبب صعوبة الوصول لوسائل منع الحمل والرعاية الصحية. لاحظت التلباني ارتفاع عدد حالات الحمل غير المخطط له خلال الحرب. وفسّرت ذلك باضطرابات الدورة الشهرية، والنقص الحاد في الموانع المتوفرة، أو عدم ملاءمتها لجميع الحالات. وأشارت إلى عدم تفضيل النساء استخدام اللولب لصعوبة التردد على الأطباء بانتظامٍ خلال الحرب. أكدت ياسمين س. وجود المشكلة نفسها خلال عملها في مستشفى أصدقاء المريض في مدينة غزة. ومع عدم توفر الموانع، يمنع الحصار دخول فحوصات الحمل، فيصعب على النساء التأكد من وجوده.

يؤكد البحث الميداني كلام الطبيبات. في مقابلاتنا مع النساء اللاتي مررن بتجربة الحمل أو الولادة، أكدت تسعٌ من أصل اثنتي عشرة امرأةً سعيَهنّ للحصول على موانع الحمل. حصلت بعضهن على حبوب منع الحمل أو اللولب من عيادات الصحة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا". أما البعض الآخر، فلم يحصلن عليها لعدم توفرها في العيادات أو الصيدليات المجاورة، أو عدم مناسبة الموانع الموجودة لهن. فيما ألجأت صعوبة الحصول على الموانع المناسبة أخرياتٍ للمانع الطبيعي، وهو ما أدّى لارتفاع نسبة الحمل غير المخطط له.

تزداد أوضاع النساء سوءاً بعد الحمل إذ يصعب عليهن الوصول للرعاية الصحية، خاصةً في أماكن القتال. كما يمنع الحصار دخول الأدوات اللازمة لفحوصات الحمل. قالت التلباني إن فحوصات الحمل المتوفرة تتراوح بين الفحوصات المنزلية السريعة أو تحليل الدم أو البول. وغالباً ما تَوفَّر فحصٌ واحدٌ منها فقط، مقابل ثماني فحوصاتٍ أو زياراتٍ للطبيب تتطلبها رعاية الحمل، بحسب دراسةٍ نشرتها منظمة الصحة العالمية سنة 2016. وبحسب الدراسة نفسها، ينبغي للحامل تناول مكملات الحديد وحمض الفوليك، وهو ما لا يتوفر لنساء غزة الحوامل، ومنهن التلباني نفسها التي شكت صعوبةَ الوصول للفحوصات أو المكملات.

كذلك أفقدت الحرب النساءَ الخصوصية. بحسب الطبيبات اللاتي تحدّثن مع الفِراتْس، فإن مشكلة انعدام الخصوصية في حال توفّر الفحص من أكثر ما يزعج النساء ومقدّمي الرعاية الصحية. فارتفاع أعداد الحوامل ومحدودية الكوادر الطبية واستهدافها يَحول دون توفير الخصوصية. قدّرت الطبيبات أعداد الحالات اليومية بين مئةٍ إلى مئةٍ وعشرين حالةً، بين فحوصات الحمل والولادة وأمراضٍ نسائيةٍ عامة.

اختلفت بعض مؤشرات الحصول على الرعاية بين شمال وادي غزة وجنوبه، خاصةً بعد الفصل بينهما، مع نقص الرعاية الشديد في الجانبين. تقول ياسمين س. والعماوي إن مخزون المغذيات والفحوصات نفدا تماماً في فترة الحصار والمجاعة التي تعرّض لها شمال القطاع. في حين أشارت التلباني في الجنوب إلى توَفّر بعض الفحوصات والمكملات، دون وفاء الكمّيات باحتياجات النساء. ولجأت العماوي خلال حملها لتخزين بعض أدوية التخدير لولادتها القيصرية.

كان مستشفى العودة في النصيرات والمستشفى الإماراتي في رفح الوجهتين الأساسيتين للحصول على الرعاية في الجنوب. وأتيحت فرصة زيارةٍ طبّيةٍ واحدةٍ لثلاث زياراتٍ للسيدات فداء الجماصي وسامية السويركي وسارة ش. ورهام ج. في الجنوب. أمّا النساء في الشمال، فلم تُتَح لهنّ إلا زيارةٌ واحدةٌ أو اثنتان. وبعضهن لم يحصل على رعايةٍ خلال الحمل حتى الولادة، بحسب علا نبهان، التي لم تعرف جنس مولودها إلّا بعد ولادته. وأخبرتنا ياسمين س. والعماوي أن بعض أجهزة الحمل، مثل جهاز التصوير، لم تتوفر لدى كثيرٍ من المراكز الصحية في شمال القطاع، وخاصةً بعد فترة اقتحام المشافي وحرقها.

اضطرّت نساء غزة لشراء المكملات اللازمة من الصيدلية. كانت مكملات مثل الحديد والفوليك أسيد والأوميغا 3 والفيتامينات توزَّع على الحوامل مجاناً قبل الحرب عبر عيادات الأونروا. ومع اندلاع الحرب، اضطرّت دعاء ش. ونبهان والجماصي للبحث طويلاً في صيدليات الشمال لشرائها. كان الوضع في الجنوب أفضل نسبياً. وأخبرتنا رهام ج. وسارة ش. بحصولهن على المكملات بضِعف السعر. وقالت التلباني إن المكملات التي توفرت للتوزيع للحوامل كانت محدودةً للغاية.

أجرت الفِراتْس اثنتي عشرة مقابلةً مع سيدات عايشن الحمل أو الولادة أو كليهما خلال حرب السابع من أكتوبر، أجمعن على الخوف من تكرار التجربة مرّةً أخرى في هذه الظروف. لا تنصح دعاء ش. (33 سنة) أيّ امرأةٍ بالحمل في الظروف الراهنة، وتشعر سامية س. (31 سنة) برهابٍ من الحمل والإنجاب. وقالت صفاء م. (33 سنة) وعلا ن. (24 سنة) إنهما تتمنّيان ألّا تتكرر التجربة.


تتنوع الأمراض والاضطرابات الصحية التي تواجهها نساء غزة خلال مدة الحمل، وتمنع الظروف التي تفرضها الحرب توفير الدواء اللازم لها. لاحظت الطبيبات ارتفاعاً كبيراً في نسب الالتهابات مع محدودية القدرة على علاجها، بسبب عدم توفر الأدوية اللازمة وتكرار الإصابة بالمرض نتيجة الازدحام وقلة النظافة وعدم توفر المياه.

أخبرت خمس نساءٍ الفِراتْس بإصابتهنّ بالالتهابات خلال مدة الحمل. وقالت ياسمين ج. إنها تناولت مضاداً حيوياً للعلاج بلا جدوى، لعدم إمكانية عمل فحصٍ مخبري لتحديد السبب ونوع العلاج اللازم.

عانت نساء غزة الحوامل من ارتفاع احتمالية الإجهاض والولادة المبكرة. إذ زاد الإجهاض بنسبة 300 بالمئة منذ بدء الحرب، بحسب الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة. أكدت التلباني وياسمين والعماوي ازدياد نسب الإجهاض في الحالات المشاهدة ضمن عملهن. وأشارت العماوي إلى ارتفاع حالات تشوّه الأجنة ووفاتهم خلال مدة الحمل.

تعرّضت بعض نساء غزة اللاتي قابلناهنّ لتجارب مؤلمة. عاشت دعاء ش. قلق فقدان جنينها لعجزها عن توفير إبر "هيبارين" التي تمنع جلطات الدم خلال الحمل. بحث زوجها عن الإبر في الصيدليات تحت القصف دون جدوى، فاضطرت أثناء نزوحها في مدرسةٍ للتمدد على الأرض طيلة الوقت للتقليل من الخطر. أما نبهان، فواجهت خطر الولادة المبكرة خلال حصار جباليا الأول. وأنجبت العماوي طفلها في شهر الحمل الثامن، ووُضع في الحضَّانة لعدم اكتمال نموّ رئتيه، قبل أن يتوفى بسبب غياب الرعاية الصحية اللازمة.

تأثرت الحوامل كذلك باستعمال إسرائيل التجويع سلاحاً في حربها. بحسب منظمة الصحة العالمية، تعاني 90 بالمئة من النساء الحوامل والمرضعات في غزة سوء التغذية الحاد. خلال  الأشهر الأولى من سنة 2024، لم تجد نساء الشمال اللاتي التقتهن الفِراتْس إلّا معلبات الفاصولياء أو الأرز والمعكرونة، التي كان الحصول عليها معاناةً كبيرة. كذلك ارتفعت أسعار الغذاء الضروري، مثل الطحين. واقتسمت ياسمين كيس الطحين، حين تَوفّره، مع عائلاتٍ أخرى. وفي جنوب القطاع، عانت الحوامل الهزال والصداع نتيجة نقص التغذية. توفَّرت اللحوم والخضروات أحياناً، لكنها لم تفِ بحاجة الحوامل وفاقت أسعارها قدرة معظم الناس، فاعتمدت الحوامل على الحلاوة والبقوليات والمعلبات المتوفرة.

استمرّ خطر المجاعة مع موجة التصعيد التي أعقبت الهدنة في مارس 2025. مع قطع المساعدات وإغلاق المعابر، يواجه المجاعة نحو مليونين وأربعمئة ألف مدنيٍّ، منهم نحو مئةٍ وخمسين ألف امرأةٍ حاملٍ ومرضعة، حسب تقرير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ مايو 2025. أخبرتنا صفاء م. وشيماء ن. بعجزهنّ عن توفير الطعام الضروري. فلم تتناول شيماء اللحوم طيلة مدة حملها، وأظهر فحص الحمل تأخر جنين صفاء في النمو نتيجة نقص التغذية.

فاقم النزوح المتكرر والازدحام في مراكز النزوح المؤقت معاناةَ الحمل. نزحت جميع الشاهدات ثلاث مراتٍ على الأقل، وبعضهنّ أكثر من خمس مرات. وعاشت نبهان حصاراً في منزلها واجهت فيه خطر الولادة المبكرة قبل اضطرارها النزوح. نزحت الحوامل إلى مدارس ومنازل وخيمةٍ سكنَّ فيها مع أكثر من عشرين شخصاً. ولم تقتصر معاناتهنّ على نقص الخدمات مثل المياه والمأوى، بل زادها انعدام الخصوصية وأماكن الراحة، ما اضطرهنّ للبقاء محجّباتٍ معظم الوقت.

وكان توفير مستلزمات الولادة للأم والطفل من أوجه معاناة النساء في قطاع غزة خلال العدوان. تبدأ النساء عادةً تجهيز مستلزمات الولادة في أواخر الثلث الثاني من الحمل. ولكن جميع الشاهدات لم يستطعن توفير ملابس لأطفالهن إلا عند الولادة عبر مناشداتٍ عامةٍ أو من الأقارب، وحصلن فقط على ملابس قديمة. أخبرتنا العماوي أنها ولّدت بعض النساء دون وجود ملابس للطفل، وكنّ يبحثن عن ملابس بعد ولادته من المستشفى، أو من العوائل في مراكز النزوح.

واستطاعت قلّةٌ من النساء شراء ملابس بأسعارٍ مرتفعةٍ مع إغلاق معظم المحال التجارية في الحرب. واضطر كثيرٌ منهنّ إلى ارتداء ملابس غير مناسبةٍ خلال الولادة أو بعدها. مثلاً، اضطرت حياة ك. لارتداء ملابس خفيفةٍ خلال الشتاء لأنها لم تجد سواها.

إضافةً إلى الصحة الجسدية، أثّرت هذه الصعوبات على صحة الحوامل النفسية. ويظهر ذلك في تعاظم مخاوف الولادة المبكرة أو المؤلمة، وتراجع الرغبة في الإنجاب أو تكرار التجربة، إضافةً إلى خوفهن من اكتئاب الحمل أو ما بعد الولادة. وتتباين صور الدعم النفسي المتوفِّر للنساء بسبب غياب الزوج والعائلة أحياناً. وعَزَت بعضهنّ إكمالَ الحمل إلى وجود الزوج. بينما كانت تجربتا نور وعلا أصعبَ مع فقدان الزوج بسبب انقطاع الاتصال والنزوح لأماكن مختلفة. وزادت صعوبة الحمل عند الإقامة في مدرسةٍ أو خيمةٍ، كما عبّرت دعاء ش.


تبلغ معاناة نساء غزة ذروتها وقت الولادة، التي يفقدن فيها ما تبقّى من حقوقهن الأساسية. إذ تَحول ظروف الحرب دون تمتعهن بأيّ قدرٍ من الخصوصية خلال الولادة، وتمنعهن من رعاية أطفالهن على النحو اللازم بعدها. تؤدي هذه المعاناة لارتفاع نسب الوفيات بين النساء والأطفال.

لا تحظى النساء بالخصوصية الكافية أثناء الولادة. مثلاً، وصلت سامية السويركي المستشفى الإماراتي في رفح ساعةَ المخاض، وظلّت واقفةً حتى فرغ أحد كراسي الانتظار، فجلست عليه في انتظار الولادة وسط المستشفى المليء بالنازحين. أخبرتنا العماوي بتجارب مشابهةٍ، رأتها خلال عملها في شمال القطاع. فمع تحوّل المشافي مآويَ للنازحين، صَعُبَ توفير الخصوصية للنساء في ساعة الولادة. أجرت العماوي عشرات عمليات الولادة في مدرسة إيواءٍ بين آلاف النازحين في برد الشتاء.

كذلك تعاني نساء غزة رعب احتمال الولادة في ساعات القصف الكثيف أو ساعات الليل المتأخرة. اضطرت دعاء النزوح مرتين في يومين متتابعين قبل ولادتها، وكانت الدبابات بجوار مجمع الصحابة الطبي، مستشفى الولادة الوحيد في مدينة غزة آنذاك. وعاشت نبهان ساعة الولادة في جباليا ضمن فترة منع التجوّل من السادسة مساءً حتى الخامسة صباحاً. واضطرت النساء في شمال غزة للمشي مسافاتٍ طويلةً حين المخاض لعدم وجود سيارات الإسعاف، بحسب العماوي. وفي الجنوب، قضت سارة ش. ثماني عشرة ساعةً من المخاض قلقةً في مستشفى العودة بالنصيرات والقصف متواصلٌ في محيطه.

لاحظت التلباني وياسمين في الجنوب ارتفاع نسب الولادة القيصرية عن معدّلها الطبيعي قبل الحرب. وأرجعت التلباني ذلك لحالة النساء النفسية السيئة التي تزيد مخاوفهنّ من الولادة وتؤخر المخاض، وضغط الطواقم الصحية، خاصةً في المناطق المزدحمة بالنزوح الكثيف، الذي يدفعها لتسريع الولادة بالعمليات القيصرية. أما العماوي في الشمال، فتؤكد اضطرار الأطقم الطبية إلى تقليل إجراء العمليات القيصرية أحياناً نتيجة عدم توفر موادّ طبيةٍ لازمةٍ أو خوف النساء من إجراء عملياتٍ قيصريةٍ دون تخديرٍ، فيمنحون الحامل وقتاً إضافياً لمحاولة الولادة الطبيعية.

أكدت جميع الطبيبات شحّ المواد الطبية اللازمة لإجراء الولادة الطبيعية والقيصرية. وأكدت التلباني والمدهون في الجنوب نقص إبر التخدير الموضعية مثل الليدوكائين، والغرز والمعقمات الطبية والمضادات الحيوية، حتى أن المركز الصحي كان يضطر أحياناً لطلب توفير الأدوية من المريضة نفسها.

كانت الأوضاع في مدينة غزة وشمالها أسوأ. بحسب ياسمين، اضطَرّ شحّ المواد الطبية الأطقمَ الطبية إلى استخدام أدواتٍ ومعداتٍ قديمةٍ، ومقصاتٍ عاديةٍ عوض الجراحية. عايشت القابلة عبير عيسى الوضع نفسه، وحكت عن اضطرارها التوليد في منزلها بالمقص العادي والخيوط دون تخدير. وشكت العماوي عدم تَوفّر الأدوات، سوى القفازات غير المعقمة في بعض الأحيان، واضطرارها استخدام ملقط غسيلٍ عاديٍّ لإمساك الحبل السرّي. واضطر الأطباء إلى إجراء تدليكٍ يدويٍّ للرحم أكثر من نصف ساعةٍ، أو وضع ثلجٍ لشدّه. ومع محاولة استخدام أقلّ قدرٍ ممكنٍ من الأدوية الموجودة، لجأ الأطباء لمنح النساء حبّةً أو حبتين من أدوية تحفيز الولادة أو وقف نزيف ما بعد الولادة، بدلاً من خمس حبّات.

تركت هذه التجربة ذكرياتٍ مؤلمةً للنساء، فتشبّه عُلا مثلاً تجربتها في الولادة بخروج الروح. إذ كانت محاصَرةً في جباليا حيث مُنع التجوّل وانعدمت سيارات الإسعاف، فاضطرت المشي مسافةً طويلةً للوصول مستشفى العودة لتلد قيصرياً هناك. بعد الولادة بساعةٍ، اضطرت عُلا للنزوح بسبب خطر قصف المستشفى. تتذكر دعاء ش. التي ولدت قيصرياً في مجمع الصحابة الطبي شعورها بآلام الجراحة بسبب قلة التخدير، وتقول إن ألمها لم يخف إلا عند سماع صوت طفلها، قبل أن تُجبر على مغادرة المستشفى بعد ثلاث ساعاتٍ من الولادة.

لم تكن الولادة الطبيعية أسهل، وإن كانت أقل خطراً. وضعت نور وياسمين ج. وسارة ش. أطفالهن تحت وابل القصف أو على ضوء الكشاف، ولم يفارقهما الخوف من الإخلاء مفاجئ أو القصف حتى حملتا ابنيهما بين أيديهما. تمنّت ياسمين ج. الحصول على إبرة لتخفيف الألم، ولكن لم تتوفر الإبرة ولا متخصصٌ لحَقنِها أيضاً. ونتيجة الخوف والألم امتدّت فترة الولادة عشرين ساعة.

يعدّ وجود داعمٍ نفسي وعائلي حين الولادة من الحاجات الأساسية للأمهات الجدد. تمنّت ياسمين ج. وجود أمّها أثناء الولادة، لكن الولادة ليلاً وصعوبة التحرك منعا حصولها على هذا الدعم. كذلك حُرِمت حوامل أخرياتٌ وجودَ أزواجهن أثناء الولادة بسبب انقطاع سبل التواصل. وعاشت سامية خلال فترة الحمل وما بعد الولادة مقتل أكثر من خمسين فرداً من أعمامها وأخوالها.


تمنع الحرب نساء غزة من الحصول على عناية ما بعد الولادة. بعد أن تنتهي المرأة من الولادة، تحتاج رعايةً صحيةً تشمل التغذية المناسبة، وتوفير المستلزمات الصحية مثل الفوط النسائية والتطعيمات والفيتامينات، وتوفير احتياجات الطفل مثل الحفاظات والأغذية الأساسية مثل الحليب، والمتابعة المستمرة لنمو الطفل. وبسبب الحرب والنزوح والحصار، يصعب على النساء الحصول على أي من هذه الخدمات، أو توفيرها لأطفالهن.

تزداد مضاعفات ما بعد الولادة للأم والجنين بسبب الحرب. ضاعف نقص المسكّنات آلامَ سامية ورهام ج.، واضطرت ثماني نساءٍ تحدّثن مع الفِراتْس إلى الخروج من المستشفى بعد الولادة مباشرةً، سواءً بسبب القصف أو لازدحام المستشفى. عانت معظم النساء من مضاعفات، مثل التهاب الجروح وتقيّح الغُرَز وارتفاع درجات الحرارة وطول فترة التئام الجروح وضعف أنسجة الجروح الملتئمة. ولم تتوفر لهن إلا مسكناتٌ ضعيفة التأثير، مثل الأكمول والتروفين. وأخبرتنا ياسمين س. بازدياد حالات الاستسقاء الجنيني، إذ تتجمع السوائل في تجاويف الجنين المختلفة مثل البطن والرئتين. يزيد خطر حدوث المضاعفات في حالة الولادة القيصرية، نتيجة شحّ المعدّات والأدوية، كما أكدت العماوي والمدهون.

لم تسلم النُطَف والخُدّج من آلة الحرب. في ديسمبر 2023 قصف الطيران الإسرائيلي عيادة البسمة، أكبر عيادة خصوبةٍ في قطاع غزة، فقتل نحو أربعة آلاف من أجنّة أطفال الأنابيب وألف عيّنة حيواناتٍ منويةٍ وبويضاتٍ غير مخصّبة. وعدّ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة القصفَ "عنفاً جنسياً وإنجابياً" غيرَ مبرَّرٍ، يستهدف البنية التحتية للرعاية الصحية الجنسية والإنجابية وينتهك حقوق المرأة والفتاة. كذلك شهد العالم أزمة موت الأطفال الخُدّج عند اقتحام مستشفى الشفاء ومستشفى النصر للأطفال، التي توفّي فيها سبعة أطفالٍ على الأقلّ بعد انقطاع الكهرباء عن الحواضن في مستشفى الشفاء، وأُجلي الباقون بعد بضعة أيام. أما الأطفال في مستشفى النصر، فمُنعت جميع محاولات إجلائهم رغم مناشدات المؤسسات الدولية.

أمّا من سلم من القتل من الأطفال، فواجه الجوع والعطش. يولد في غزة يومياً نحو مئةٍ وثلاثين طفلاً، يعاني حوالي 20 بالمئة منهم نقص الوزن أو الولادة قبل الأوان أو مضاعفات ما بعد الولادة، بحسب صندوق الأمم المتحدة لدعم الطفولة "يونيسف". كذلك سجلت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة مئةً وأربعين حالة تشوّهٍ خلقيٍّ نتيجة القصف وسوء التغذية خلال الحرب. وتؤكد العماوي أن نسبة التشوه زادت خلال الحرب إلى نحو 5 بالمئة من إجمالي الولادات خلال الحرب، بعد أن كانت نحو 1 بالمئة قبلها.

تحاول الأمهات في شمال القطاع تعويض الأبناء عن نقص الغذاء. بحسب حياة ك. وياسمين ج. ودعاء ش. وعلا، تطعم الأمهات أولادهن العسل وخبز الشعير وما تَوفَّر من المجففات مثل الزبيب، وتطحن بعضهن الأعلاف وتخبزنها. واشترت جميع النساء اللاتي تحدثن من الفِراتْس الماء بأسعارٍ باهظةٍ لحماية الرضيع من آثار نقص النظافة. ومع استمرار نقص الغذاء وحاجة الأمهات إليه للرضاعة، اعتمدن على الحلاوة والتمر والحمص والبقوليات، كما أفادت حياة ك. ودعاء ش. في شمال القطاع. واضطرت أكثر النساء للاعتماد الجزئي على الحليب الصناعي، الذي قلّ وجوده وارتفع سعره. ومع توفير مؤسساتٍ دوليةٍ الحليبَ والمكملات الغذائية والمواد الطبية اللازمة لعمليات الصحة الإنجابية، فإن الكميات التي تسمح إسرائيل بدخولها القطاع مع الحصار المفروض عليه تَقصر عن الوفاء باحتياجات الأمهات والأطفال.

يزيد ضعف الرعاية الصحية احتمالية مرض الأم والرضيع بعد الولادة. عانت حياة ك. (31 سنة) من فتقٍ بعد الولادة، ولم تستطع زيارة الطبيب إلا بعد أشهر. وأصيب رضيع فداء بالجفاف ومرضٍ فيروسي اضطرهما البقاء في المستشفى. بينما أصيب رضيع نور مرّتين بالأميبا، وهو التهابٌ معويٌّ معدٍ، وكانت معاناةً مضاعفةً لتأخّر اكتشافه ثم صعوبة تحصيل العلاج. ويعاني ابن علا، ذو السنة وأربعة أشهرٍ، القِصَرَ وعدمَ ظهور أسنانه فيما تعاني ابنة حياة ك. تقوّس القدمين نتيجة نقص الفيتامينات. ومنع نقص المياه إحدى الشاهدات من الاستحمام ستة عشر يوماً، فأُصيبت وطفلتها ذات الأربعين يوماً بالقمل وحشرات الرأس.

ويحول الحصار دون تَوفّر المستلزمات الأساسية للأطفال، فتجتهد الأمهات في توفير بدائها. قلّلت بعض النساء عدد الحفاظات اليومي للأطفال، فتسبب ذلك – في حالة حياة ك. – في إصابة ابنتها بأمراضٍ جلدية.

وحال الحصار دون دخول التطعيمات الأساسية التي يحتاجها الأطفال. زاد حرص الأمهات على التطعيم بعد اكتشاف أول حالةٍ من فيروس شلل أطفال في 17 أغسطس 2024. واشتكت جميع النساء اللاتي تحدثن من الفِراتْس من العجز عن تطعيم الطفل في الوقت المناسب بسبب انقطاع اللقاحات. وتقول علا إن أول تطعيمٍ أُتيح لرضيعها كان في عمر ثلاثة أشهر. وعاشت دعاء ش. ونور الجماصي وياسمين ج. وسارة ش. ورهام ج. تجربةً مشابهة. وحتى عند توفر التطعيم، فقد احتاجت الأسر إلى السير مسافاتٍ طويلةً والانتظار لساعات وقوفاً ضمن ازدحام المراجعين، وعادت بعضهنّ دون تطعيم لانتهاء القدر الموجود.

ومع استمرار الحصار المفروض على القطاع، أكدت منظمة الصحة العالمية نقص 51 بالمئة من إمدادات الأم والطفل اللازمة، واحتجاز الحواضن المحمولة وأجهزة التنفس لحديثي الولادة ومضخات الأكسجين وأجهزة الموجات فوق الصوتية. إضافةً إلى أكثر من مئة وثمانين ألفاً من اللقاحات الروتينية المخصصة للأطفال حتى عمر سنتين، يبلغ عددهم أكثر من ستين ألف طفل.


انتهك الاحتلال الإسرائيلي جميع مواثيق القوانين الدولية في حربه على قطاع غزة. وحذّرت المؤسسات الدولية من انهيار الرعاية الصحية بعد أسبوعين فقط من اندلاع الحرب، لكن ذلك لم يَحُلْ دون استمرارها. فألقت بظلالها القاسية على الحياة اليومية للنساء الحوامل والمرضعات.

اشترك في نشرتنا البريدية