بين صوت الشارع وصوت السلطة.. تاريخ الراب العربي

تحوّل الراب العربي من صوت احتجاج إلى منتج ترفيهي يعاد تدويره ضمن منطق السوق والسلطة، بشكل يتناسب مع الواقع السياسي والاجتماعي.

Share
بين صوت الشارع وصوت السلطة.. تاريخ الراب العربي
يتحوّل الراب العربي الذي ولد فعل مقاومة إلى جزء من البنية التي كان يهاجمها | تصميم خاص بالفراتس

"وين الحكام العرب؟ وين القادة؟ إخواتي في غزة اليوم تتعرض للإبادة [. . .] هما كلمتين: إما النصر أو الشهادة". أتت هذه الكلمات ضمن أغنية "راجعين"، التي صدرت في نوفمبر 2023 بمشاركة خمسة وعشرين فناناً من أحد عشر بلداً عربياً، دعماً لغزة في ظلّ الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023. أتت الأغنية معبرةً عن الواقع السياسي للشعوب العربية وعن سخطهم مما رأوه حدوداً مصطنعة وتفاوتاً في المعايير التي يتعامل بها العالم معهم. لم تكن كلمات الأغنية وحدها اللافتة، بل كذلك مشاركة مغنّي راب بارزين مثل المصريين بابلو وعفروتو، والمغربي نوردو. ظهرت لحظة نادرة اجتمع فيها بعض مؤدي هذا اللون الغنائي المعروف بأنه يؤدى بانفراد، مشكلين خطاباً سياسياً جماعياً.

بدت هذه اللحظة كأنها "عودة" للفن بشكله السياسي. وقد ظهرت بعض أمثلته في فترات سابقة من تاريخ المنطقة، مثل أغنية "القدس هترجع لنا" مع انطلاق انتفاضة الأقصى سنة 2000، وأدَّاها مجموعة من الفنانين المصريين. وسبقتها أغنية الحلم العربي سنة 1996 بعد عدة شهور من مجزرة إسرائيل في قانا بجنوب لبنان. وكان انطباعي أن أغنية "راجعين" أظهرت قدرة المنظومات الرأسمالية، التي تمثلها شركات الإنتاج، على استدعاء الأصوات وإعادة توجيهها مؤقتاً بلا تغيير في بنيتها وتوجهاتها الأصلية. فلم تكن الأغنية فعلاً مقاوماً وصوتاً احتجاجياً، بقدر ما كانت تنفيساً لحظياً للغضب، قبل أن يعود كل فنان لخطابه الفردي مجدداً.
مع ولادته في بداية التسعينيات لم يكن الراب العربي فعلاً سياسياً احتجاجياً مباشراً، بل صدىً للثقافة الغربية والعولمة. لكن مع تراكم الضغوط الاجتماعية والسياسية قبل الربيع العربي سنة 2011، تحوّل الراب تدريجياً إلى أداة مقاومة. وبفضل تكلفته المنخفضة انتشر تعبيراً عن نبض الشارع وصوتاً لقطاعات شابة، مع غيابه عن المنصات الرسمية. ولكن مثلما سُلّع الراب في مسقط رأسه في الولايات المتحدة بعدما بدأ أداةً لنقد الرأسمالية والظلم الاجتماعي، تدرج الراب العربي"صناعةً" وجزءاً من السوق، يستدعى في لحظات الذروة السياسية للتنفيس عن الغضب، ثم يعاد استخدامه ضمن منطق السوق.
التغيرات التي حاقت بفن الراب العربي جاءت ربما نتيجة تفاعل بين ثلاث قوى، السلطة بما تملكه من أدوات ضبط وتحكّم في السوق والمجال العام. والمجتمع بما يحمله من تصورات عن الهوية. والثقافة بما تصوغه وتعيد إنتاجه من قيم وذوق. ولعلّ هذا التفاعل أنتج ما يمكن تسميته بثنائية الراب صوتاً مقاوماً، وفن "التراب" المندرج من الراب تياراً فردياً محايداً سياسياً لكنه أكثر تكيّفاً مع شروط السلطة والسوق. وبذلك فإنّ هذا "التحوّل" قد يشكّل انعكاساً لمعادلة هيمنة تعيد صياغة العلاقة بين الفن والسلطة والمجتمع، إذ لا يُمنع صوت الاحتجاج، بل يعاد تدويره ضمن منطق السوق. وتتجلى هذه المقاربة من النظر في تجارب خمسة دول عربية، سوريا وفلسطين وتونس ومصر والسعودية، مدخلاً لفهم كيف تغيّر موقع هذا الفن في كل دولة وفقاً لظروفها وتاريخها.


ظهر فن الراب في الولايات المتحدة في السبعينيات في "غيتوهات السود" (أحياء معزولة) تعاني الفقر والإقصاء والتفكك الاجتماعي. جاء ذلك مع تراجع زخم حركة الحقوق المدنية، التي امتدت من سنة 1956 إلى 1968، وكانت تنادي بالقضاء على التمييز العنصري في البلاد. يقول الأناسي الفرنسي مارتن لاموت في دراسته "ريبلز وذاوت إي بوز" (متمردون دون توقف)، إنّه في تلك الفترة في أحياء "ساوث برونكس" في نيويورك، ظهرت حفلات الحيّ مساحةً بديلةً يمارس فيها الشباب السود واللاتينيون شكلاً جديداً من التعبير عن أنفسهم ومشكلاتهم. استخدموا في ذلك إيقاعاً متكرراً وقصائدَ ارتجالية. فبدأوا بتسجيل تجاربهم داخل ما سُمِّي لاحقاً ثقافة "الهيب هوب"، التي ضمّت عناصر مثل الراب والدي جي والرقص والرسم بالدهان على الجدران وأسطح المساحات العامة.
وفي ظلّ الإقصاء لم يكن أمام كثير من الأمريكيين السود خيارٌ سوى المقاومة، والتي يجادل لاموت بأنّها تمثلّت في "الديمقراطية الثقافية"، وتعني حرية من شاء بتعريف ثقافته وصياغتها كيفما يرى. فصار الراب جزءاً من هذه المقاومة ووسيلة لنيل الاعتراف في مدن بدت أنها لفظتهم وتخلّت عنهم. منحهم هذا النوع من الفن منصّة مستقلة لمساءلة منطق الإقصاء وما اعتبروه عنفاً ممنهجاً ضدهم، لاسيما من الشرطة. ولخلق طريقة مختلفة للوجود عبر تشكيل هوية سوداء غاضبة تتحدى التيار السائد.


هذا الصوت الغاضب الذي انبثق من الشارع ليحطّم أسوار "الغيتو الأسود" لم يلبث أن تغيّر. فمع صعود شركات الإنتاج الفني، وتحوّل موسيقى الراب إلى منتَج جماهيري، بدأت تدريجياً عملية تسليعه. وهو ما تشير إليه الباحثة سوزانا كوبي، في أطروحتها للدكتوراه في جامعة كاليفورنيا سنة 2016، بعنوان "فروم ذا برونكس تو ذا بانليز [. . .]" (من البرونكس حتى البانيليز [. . .]). تقول كوبي إنّ صعود قيم "المنظومة النيوليبرالية" التي تعتمد سياسة السوق المفتوحة وسيطرتها على أنماط الحكم في العالم، أدى إلى تحويل الراب لمنتج استهلاكي خاضع لمنهج الربح. وتوضح أنّ سيطرة شركات الإنتاج متعددة الجنسيات على وسائل الإنتاج الثقافي والموسيقى، أدّت إلى إدماج الفنانين ضمن المنظومة المؤسسية.
يسمي كريستوفر جونسون في دراسته "دانسيبُل كابيتلزم" (الرأسمالية الباعثة للرقص)، الباحث في المركز الأمريكي للتضامن العمالي العالمي، هذه الظاهرة "تسليع السود". ويقصد بهذا تحويل العجلة الرأسمالية منتجاً ثقاقياً خرج من أحياء السود إلى سلعة مادية، مبعثها الربح ويحكمها اقتصاد السوق.
يتفق هذا الطرح مع ما صاغه البريطاني مارك فيشر في كتابه "كابيتاليست رياليزم: إز ذير نو ألتيرنتِف؟" (واقعية الرأسمالية: أليس هناك بديل؟) الصادر سنة 2009. جادل فيشر بأنّ ما سماه "المنظومة الرأسمالية الواقعية" قادرة على تجاوز العيوب البنيوية في المجتمع، وبدلاً من محاولة تغييرها أو تحسينها، فهي تبني عليها وتخضعها لمبادئ السوق. بهذا فالرأسمالية الواقعية لا تقمع المقاومة بل تحتويها وتعيد تدويرها منتجاً قابلاً للاستهلاك، عبر سحب "المتمردين" في فلكها، وتشكيل هويتهم ضمن ثقافة تسليعية تعاملهم ضمن منطق العلامة التجارية. يتأتى ذلك بتأطير المطالب السياسية فرصاً للتسويق، لا للاحتجاج. وبهذا يمكن المحاجة بأن تسليع الصوت الغاضب للراب يجعل التنفيس لحظياً يشوبه إحساس زائف بالتحرر من القمع والاضطهاد السياسي أو الاجتماعي.
تبين هذا القمع والاضطهاد في تحول مغنيي الراب المتمردين هدفاً لمضايقات الشرطة. ويجادل الباحث إريك نيلسون في دراسته "هير كوم ذا كابس: بوليسينغ ذا ريزيستينس إن راب ميوزك" (عندما تأتي الشرطة: مراقبة المقاومة في موسيقى الراب)، بأنّ تعرض مغنيي الراب إلى مضايقات الشرطة أنتج شعوراً دائماً بالمراقبة. بل وصار التعبير عن هذا الشعور وتبعاته جزءاً من مكونات أغانيهم.
ففي أغانٍ لمغني الراب الأمريكي "آيس كيوب"، وأخرى لفرقة "غودي موب" الأمريكية، التي بدا أنّها تقاوم الضغط الشرطي والمراقبة، يُلحظ فيها اعترافٌ ضمنيٌ بأنّ المقاومة تصبح غالباً غير مجدية عند توجيهها لخصم أقوى وأشد تنظيماً. وفي أغاني فرق أخرى مثل "غيتو بويز" الأمريكية وأغنيتهم الشهيرة "مايند بلاينغ تريكس أون مي" (توقف عن خداعي) سنة 1991، يتسرّب إحساس بأنّ المعارضة تقود إلى فخّ يشمل ثقافة الراب بأكملها. وهو ما يدلّ، وفق نيلسون، على أنّ القدرة على المقاومة الجماعية تضرّرت كثيراً بسبب ثقافة المراقبة التي نشأ فيها هذا الفن. فبينما كان مغنّو الراب يتعلّمون كيف يقاومون السلطة، كانت السلطة تتعلّم كيفية الرد عليهم، واحتوائهم إما قمعاً أو بدمجهم جزءاً من المنظومة التي طالما تمردوا ضدها.
شكّلت التجربة الأمريكية نموذجاً لما قد تؤول إليه أشكال التعبير الغاضبة حين تحاصَر وتُحتوى داخل منطق الاستهلاك. وأظهرت أنّ الفن الذي نشأ وسيلةً لنيل الاعتراف والمقاومة يمكن أن يُفرغ من محتواه، ويعاد توجيهه نحو "الذات"، بدلاً من "الآخر". ونحو الاحتفال بالحياة، بدلاً من مساءلة شروطها. وهذا ما يجعل تتبع تحوّلات الراب في السياق العربي أمراً ملحاً. إذ بدأ هذا الأخير من الموقع الذي انتهى عنده الأول، لكن هل انتهى إلى المصير نفسه.


ظهر الراب العربي في أواخر التسعينيات وامتد إلى مطلع الألفية أداة تعبير عن الذات لدى شباب يعيشون في مدن عربية مغلقة على التقاليد، ومنفتحة في الوقت ذاته على عالم متغير بسرعة. كان الراب آنذاك صوتاً فردياً متأثراً بأساليب الأداء الأمريكي. ومع خلوّه في بداياته من البعد السياسي والقضايا الاجتماعية الكبرى، إلا أن هذا الفن شكَّل تمرداً على القيود الاجتماعية والتقاليد المتوارثة. فجاء لغةً بديلةً تسعى إلى التحرر من سلطة المجتمع، ومحاولة لإعادة تشكيل الذات خارج وصاية الأجيال السابقة. رفض الجيل الشاب أن يكون امتداداً لوعي لا يشبههم، حتى وإن كان ذلك بتبني وعي آخر - الوعي الغربي - لا يشبه مجتمعهم. من هنا، تبنى مغنّو الراب ثقافة مغايرة في الشكل والمضمون. فملابسهم بدت غير مألوفة ولغتهم صدامية وطريقتهم في التعبير عن الذات لا تخضع لأي رقابة.
هذا الانفصال قوبل بردّ فعل اجتماعي سلبي. إذ يورد عدي المعصراني في مقالته "الراب في العالم العربي: من الرفض إلى التأثير" على موقع "نون بوست" سنة 2020، أن فناني الراب وُصموا بأوصاف من قبيل "شاذون" و"منحلون"، بل وأحياناً "عبدة الشياطين" و"مفسدين للقيم". كذلك ضيق عليهم في الإعلام ولوحقوا أمنياً.
يشير الصحفي وصانع الأفلام الأمريكي الذي تركز عمله على الثقافات الموسيقية الفرعية في العالم العربي، جاكسون أليرز، في مقابلة مع "أفرو- بوب" سنة 2013، وهي إذاعة مقرها الأساس الولايات المتحدة وتَبث موسيقى إفريقية للأفارقة في المهجر، إلى أنّ الراب العربي ظهر أولاً في دول المغرب العربي ذات الماضي الاستعماري.
بدا ذلك الظهور امتداداً لعلاقة "الهيمنة الثقافية" بين تلك الدول وفرنسا، التي تعدّ ثاني أكبر دولة في مجال الراب. والهيمنة الثقافية في هذا السياق تتقارب في معناها مما طرحه الإيطالي أنطونيو غرامشي بسيطرة "الطبقة الحاكمة" بجعل مصالحها وما يرتبط بها من قيم وسيلةً تُتبع وكأنها النظام الطبيعي. وهو ما يعني ضِمناً أنّ هذا الفن استُورد في بداياته كما هو بلغته وثقافته الفرنسية. ومع ذلك، يشير أليرز إلى وجود تباين في الآراء حول تحديد من أوّل من غنّى الراب باللغة العربية. ويعتقد أنّ من أوائل من قدموا أعمالاً باللغة العربية تحمل طابع الراب الحقيقي كانوا مغنّي راب فلسطينيين من داخل الخط الأخضر مثل"أم دبليو آر" و "دام"، الأولى من عكا والثانية من اللد. بالتزامن مع مجموعة من مغني راب لبنانيين مثل "بلود وايستد" و"عكس السير" و"قطاع بيروت".
هوجِم مغنو الراب باعتبارهم أصواتاً رديئة ومزعجة، لا تمتلك أي مقومات غنائية. ويرى الصحفي اللبناني شادي علاء الدين، في مقال في موقع "المجلة" في أبريل 2024، تحت عنوان "فن الشارع: عن تصدّر الراب وانتصارات الصوت الرديء"، أنه نُظر إلى الراب مولوداً مشوّهاً لفترة التسعينيات التي أشاعت الأصوات الغنائية الضعيفة والهشة، وعمّمتها بديلاً عن مرحلة الأصوات العريضة والواثقة. وقد جعل مغنو الراب من رداءة الصوت ركيزة أساسية في تشكيل هوية فنهم عنصراً يميّزهم عن التراث الغنائي الذي يسعون للتحرر منه بالأساس. بالإضافة إلى أنّ هذا الصوت يعبّر عن حالة من الغضب والتيه يعيشها هؤلاء الفنانون في عالم يشعرون فيه بعدم الإنصاف. فهنا يقدَّم الراب لا "صوتاً قبيحاً"، بل تجلٍ غاضبٍ لعالم قبيح، وعالم عربي بسياقاته المتعددة أيضاً قبيح.


كان لسياق كل دولة عربية وطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية فيها دورٌ في تأخير أو تسريع التحوّل من الفردانية أو التمرّد على المجتمع إلى الاحتجاج السياسي. فمع بداية الألفية بدأت تتشكّل تدريجياً لغة جديدة داخل الأغاني، تتناول قضايا مثل الفقر والبطالة وقمع الحريات وتحكّم النخب بالمشهد العام. شكّل هذا التحوّل انعكاساً لضغط اجتماعي متصاعد داخل المدن العربية، وتحدياً مباشراً لطبقة سياسية بدت شرعيتها مهزوزة أمام جيل جديد لم يعِش لحظة الاستقلال وبناء الدولة، لكنه ورث بعدها القمع والفساد.
في فلسطين ظهر التوجّه المقاوم مبكراً نتيجة واقع الاحتلال. وقد برزت فرقة "دام"، إحدى المجموعات التي نجحت في تقديم راب سياسي يهاجم الاحتلال والتمييز العنصري. وبحسب مقال على موقع "منشور"، للكاتبة ندى حنان في مارس 2017 تحت عنوان "أنا إرهابي؟ صوت فرقة الراب الفلسطينية دام يزعج إسرائيل"، لم تعبّر أغنية "مين إرهابي" لفرقة دام الصادرة سنة 2001 عن معاناة الفلسطينيين فقط، بل أزعجت الاحتلال. إذ اعترضت وزيرة الثقافة الإسرائيلية السابقة، ميري ريغيف، وكانت تشغل حينها منصب رئيس قسم الرقابة العسكرية على وسائل الإعلام، على مقطع في الأغنية يقول: "ديمقراطية؟ والله إنكم نازية، من كُتر ما اغتصبتوا النفس العربية، حبلت، ولدت ولد اسمه عملية انفجارية، وهين ناديتنا إرهابية". اتهمت ريغيف تامر نفار، أحد أعضاء الفرقة، بـاستغلال "كل فرصة متاحة أمامه للتحريض ضد إسرائيل لأنها دولة الشعب اليهودي"، وسعت لإلغاء حفلاته.
ويبدو أنّ مضامين هذه الأغنية، التي تشير إلى الانتفاضة الثانية، والتي انخرط فلسطينيو الداخل فيها في بداياتها، أسهمت في كسر حاجز الصمت المفروض على فلسطينييّ الداخل المحتل. وطرحت خطاباً سياسياً شعبياً بديلاً يتجاوز النخب السياسية التقليدية وخطاب السلام الرسمي الذي ساد بعد أوسلو في أوائل التسعينيات.
وعلى شاطئ متوسطي آخر في تونس، أصدر مغني الراب المسمى "الجنرال" أغنيته "ريّس البلاد" في نوفمبر 2010، مهاجماً مباشرةً نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. انتقد فيها الفساد وإثراء الرئيس وحاشيته وقمْع الشعب التونسي. الأغنية التي سجّلها في غرفته ونشرها على منصة فيسبوك، انتشرت بسرعة وتناقلها الناس، فاعتقل واستجوب قبل أن يطلق سراحه إذعاناً للضغط الشعبي. ومع إضرام الشاب التونسي محمد بوعزيزي النار في جسده واندلاع شرارة الثورة في تونس في ديسمبر 2010، أصدر الجنرال أغنيته الثانية بعنوان "تونس بلدنا". ودعا فيها إلى "إرجاع تونس للتونسيين وتحريرها من طبقة الحكم الفاسدة"، حسبما أشارت الباحثة المختصة باللهجات العربية والثقافة الشعبية، إيناس الدلاجي، في دراستها سنة 2013 بعنوان "تونيزيان راب ميوزيك آند ذا آراب سبرينغ" (الراب التونسي والربيع العربي).
أما في مصر فقد امتاز الراب في بداية الألفية بتركيزه على القضايا الاجتماعية، مع تناوله السياسية تلميحاً، خوفاً من الرقابة الأمنية. تشير الصحفية أماني عماد في مقال نشر سنة 2016 على موقع "شبابيك"، بعنوان "من أم تي أم إلى زاب ثروت"، إلى أنّ فريق "أم تي أم" (مؤلف من ثلاثة أعضاء: محمود وتاكي ومايكل)، أصدر سنة 2003 مجموعته الغنائية الأولى بعنوان "أمي مسافرة". وتلفت إلى أنّ هذا الفريق كان أول من حقق انتشاراً واسعاً للراب إعلامياً. وتضيف الكاتبة إنّ أغانيه عبّرت عن واقع الشباب المصري، وما يواجهونه من مشكلات وضغوط يومية، إلى جانب طموحاتهم وأحلامهم. وتطرح أماني مثالاً آخر، هو أغنية "بلد الشهادات" التي أصدرها كريم نجيب سنة 2008، وتناول فيها أزمة التعليم في مصر. وقد تميّزت أغاني كريم باستخدام السخرية للتعبير عن المشاكل الاجتماعية.
وفي ذات الإطار، تقول الصحافية كورديليا هيبلثويت، في مقال على موقع "بي بي سي" البريطاني في يوليو 2011، تحت عنوان "إز هيب هوب درايفنغ ذي أراب سبرينغ؟" (هل يقود الهيب هوب الربيع العربي؟)، إنّ موسيقى الهيب هوب (الإطار الأوسع الذي يشمل الراب) بدأت تكتسب زخماً ملحوظاً في الأشهر التي شهدت تصاعد الاحتجاجات في العديد من دول "الربيع العربي". وتتوقف الكاتبة عند تجربة مغني الراب المصري محمد الديب، المعروف باسم "الديب". يقول الديب في مقابلة ضمن المقال إنه كافح لإيجاد موطئ قدم لأغانيه ذات الطابع السياسي في مشهد غنائي طغت عليه أغاني الحب التي كانت تهيمن على الأثير في مصر قبل الثورة. وعلى الرغم من الطابع السياسي في موسيقاه، إلا أنه كان مضطراً للمراوغة وانتقاء كلماته بعناية تجنّباً للملاحقة في ظلّ حالة القمع التي كانت سائدة قبل الثورة. يقول: "كنت أقول هم أو الكبار. لم أقل أبداً الحكومة، ولم أقل أبداً مبارك".
وقبيل ثورة 25 يناير بأيام، أصدر مغني الراب المصري رامي الدنجوان أغنية بعنوان "ضد الحكومة"، كانت من أوائل الأغاني التي هاجمت نظام حسني مبارك مباشرةً. وعبّر في الأغنية عن غضب الشعب من الحكومة والظلم الممنهج، بعبارات مثل "ضد الحكومة والبلطجة والظلم" و"دمك مسيحينه، قتلك محليلينه، وطنك مبهدلينه، دينك مستهدفينه". ودعا صراحةً إلى الثورة قائلاً: "فلتسقط الحكومة، فليسقط النظام".
ويشير محمد كريم في مقالته "الراب السياسي: ثورة بلا ميدان" على موقع العربي الجديد في 2016، أنه برزت تلك الفترة أصوات عدة في ساحة الراب، من بينها مارشال مدحت، الذي قدّم أعمالاً مثل "خافي منا يا حكومة" و"أرحب بيك في مصر". وكذلك مروان موسى وشهرته "الكابوس" والجوكر، وجميعهم انتقدوا أداء الحكومات المتعاقبة بعد ثورة يناير، مستفيدين من هامش الانفتاح السياسي والاجتماعي الذي ساد المرحلة.
في أماكن أخرى في العالم العربي، ظل الراب بعيداً عن هذا التحوّل النوعي. ففي الخليج العربي مثلاً، ظلّ هذا الفن متأرجحاً بين التعبير الذاتي والترفيه، ولم ينخرط في خطاب احتجاجي واضح. ويعود ذلك، ولو جزئياً، إلى طبيعة العقد الاجتماعي القائم بين السلطة والشعب. إذ توفّر الدولة الرفاه الاقتصادي، مقابل ابتعاد المواطن عن المطالبة بالحقوق السياسية، وهي الآلية التي يسميها حازم صاغية "الرشوة الاجتماعية"، في كتابه الصادر سنة 2014 بعنوان "الانهيار المديد". فغابت التجارب السياسية الجمعية مثل التي عرفتها تونس أو مصر، ولم يكن الفن في مواجهة الدولة لأنّ الأخيرة سبقت إلى احتوائه وتدجينه.


بعد أن شهد الراب العربي ذروة حضوره في 2011، بدأ مسار جديد يتشكّل في السنوات التالية. فلم يعد السؤال فقط عمّا يقوله الراب، بل ما الذي تبقّى له ليقوله. فمع تعثّر الثورات في عدد من البلدان العربية، بدا أنّ السياق قد دخل في مرحلة "فضّ الاشتباك". لا بمعنى التسوية، بل إعادة توزيع مواقع القوى بين الدولة والمجتمع والفن. وضعت كثير من الأصوات الاحتجاجية على طاولة التفاوض مع السوق، وتحت أعين المراقبة، وفي خضمّ معركة من أجل البقاء. وفي هذا المشهد تبلورت معادلة جديدة أعادت تشكيل موقع الفن، تقوم على مثلث سلطة تسعى إلى الضبط والاحتواء، ومجتمع منكفئ ومنسحب من المجال العام، وفنّانين يتحسّسون طريقهم خوفاً من الرقابة الأمنية، أو سعياً وراء السائد.
في هذا السياق، انقسم المشهد الفني إلى مدرستين. الأولى، يمكن وصفها بمدرسة الراب والتي ما تزال تحتفظ بروح المقاومة والاحتكاك المباشر مع البنى السياسية والاجتماعية. أما المدرسة الثانية، فهي "التراب"، والتي صعدت بقوة بعد الثورات، متماهيةً مع منطق السوق ومتجنبةً الخوض في السياسة أو الاشتباك المجتمعي. واتخذت هذه المدرسة من الفرد وهمومه ومساحاته النفسية موضوعاً رئيساً.


في فلسطين استمرّ حضور الراب بسبب استمرار ثنائية الاحتلال والمقاومة. فترسّخ النَفَس المقاوم اعترافاً بالحق في الوجود. فالاحتلال لا يصادر الأرض فحسب، بل يحاول أيضاً محو اللغة والذاكرة. وفي مواجهة ذلك جاء الراب مساحةً لبلورة خطاب بديل ومضاد.
ويمكن القول إن فرقة دام تمثّل التجسيد الأكثر اتساقاً مع هذا التوجه. إذ وظّفت الراب لتفكيك رواية الاحتلال من الداخل، وفضح منطق الدولة الاستعمارية التي تجرّم الفلسطيني وتصوره إرهابياً، كما في أشهر أعمالهم: "مين إرهابي؟". يقول تامر نفّار، أحد أعضاء الفرقة، في مقال بعنوان "وان باليستنين آرتيستس دو إن ذا فيس أوف أور سلوتِر" (ما لفناني فلسطين فعله في مواجهة المقتلة) بمجلة "+972" في يوليو 2024: "كنت أعتقد أنّ الفن قادر على تغيير العالم، أمّا الآن فقد أصبح أشبه بالصندوق الأسود للطائرة: فهو لا يستطيع تحديد مسار الهبوط، بل يستطيع فقط توثيق الحادث".
وبالعودة قليلاً في الزمن نجد في مجموعة أغاني "دديكايشن" (إهداء)، الذي أصدرته دام سنة 2006، أغنيات مثل "مالي حرية" و"إنقلاب" و"نغير بكرة"، تنتقد منطق النظام العالمي بعبارات مثل "وين ما بروح بشوف حدود ساجنة الإنسانية، ليه أطفال العالم حرة وأنا مالي حرية". بالإضافة إلى أغنية "بورن هير" (مولود هنا) التي قُدِّمت باللغتين العربية والعبرية، موجهةً للداخل الإسرائيلي. وتعيد الأغنية ترسيم الحدود بين "الداخل" و"الخارج" في وعي الفلسطيني الذي يعيش في المدن المختلطة (يهود وفلسطينيين) مثل اللد والرملة ويافا، حيث ينتشر عنف الأجهزة الأمنية ضد الفلسطينيين من مواطني إسرائيل. لا بل يأخذ شكل قوانين، ومناهج تعليم. وهو ما تعبّر عنه الأغنية بالقول: "ما تعزل مني الأمل بجدار فاصل، ولو السور يدور أنا مربوط بفلسطين".
تجدر الإشارة إلى أنّ فرقة دام لم تكتفِ بمواجهة الاحتلال وتفكيك مظاهر التمييز العنصري، بل سعت أيضاً إلى تفنيد الاتهامات الموجهة إلى فلسطينيي الداخل، التي تعتبر وجودهم داخل إسرائيل شكلاً من أشكال التطبيع أو الاندماج الطوعي (الأسرلة). وتعدّ هذه المسألة من الأكثر حساسية وتعقيداً في النقاش الفلسطيني العربي، لما تحمله من التباسات تاريخية. فتأتي أغنية "أنا مش خاين" في 2012 ردّاً على تلك الاتهامات. تقول الأغنية: "عرب إسرائيل؟ كيف وصلتوا للتحليل؟ إسرائيل روّجت جملة وانتوا عملتوا تطبيع [. . .] نسبتونا للمستعمرين، للمحتلين، إحنا طالبين بتحسين المعاملة تنادوناش [لا تنادونا] بأسامي ماخترنهاش، ابدوا [ابدؤوا] في مساهمة، في تصحيح، في تفهيم القضية". هذه الكلمات تبرز موقفاً نقدياً، فتدين الاستعمار وقمعه، وفي الوقت نفسه ترفض الوصاية الأخلاقية أو المزايدة التي تمارسها بعض النخب الفلسطينية والعربية على مجتمع يعيش تحت الاحتلال، ولو حمل أفراده جنسية دولته.
بالمقابل، يظهر مغني الراب الفلسطيني عدي عباس من بلدة كفر عَقب في الداخل والمعروف باسم "شب جديد"، امتداداً لتجربة الراب السياسي الفلسطيني لكن بنبرة أكثر غضباً وبسخرية لاذعة. فهو يمثل الجيل الذي أتى بعد فرقة دام، من دون أن يتماهى معها لناحية اللغة السياسية التقليدية. فبينما تحافظ دام على خطاب سياسي مباشر، يقدم شب جديد نبرة هجينة تجمع بين مدرستي الراب والتراب، من خلال الدمج بين المقاومة والنقد الساخر، مستخدماً لغةً بسيطة من قلب الشارع. ويعلل ذلك بالقول في بودكاست "سردة" في سبتمبر 2023: "أنا لم أذكر فلسطين ولا مرة بأغنياتي، ولا حتى إسرائيل، أنا بحكي عن الواقع اليومي".
على نفس النهج، ويقول شب جديد في أغنية "دحية": "أنا مش فنان أنا طابعة [. . .] بلبس نايك [علامة تجارية للملابس الرياضية] مش كوفية، وكلّ الرفاق بشكّوا فيي"، ليؤكد أنّه مجرد انعكاس لواقعه.
وفي أغنية "إن أن" المشتركة مع مغني الراب المقدسي "ضبّور"، يمكن تلمّس هذه المقاربة التي تربط الحياة اليومية بالاحتلال، من دون خطاب مباشر. ففي هذا العمل الصادر في أبريل 2021، يستخدم شب جديد وضبّور ألفاظاً نابية للتعبير عن الغضب. ولم تكن الأغنية ترويجاً لخطاب سياسي تقليدي، بل تمجيداً للمقاومة الفلسطينية ورجال الأنفاق في غزة (من غير الإشارة للمقاومة الفلسطينية باسمها فصائلياً)، فضلاً عن إعادة الاعتبار لقوة الشارع المنتفض. كذلك لم تكن الألفاظ المستخدمة خروجاً عن النص، بل كانت هي النص نفسه. إذ جاءت في لحظةٍ يصبح فيها "التهذيب" نوعاً من أنواع الوقاحة، ويُجبر فيها الفرد على أن يعبّر عن غضبه كما هو بطريقة قاسية ومباشرة.
بهذا التمايز، تتشكّل في السياق الفلسطيني ثنائية تعبّر عن نضج واضح في الراب المقاوم. فمن جهة نجد فرقة دام، التي وظفت ولازالت الراب قبل الربيع العربي وبعده، أداةً لتفكيك الخطاب الاستعماري وفضح المنطق العنصري الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، يقف شب جديد رأس حربة لجيل جديد، لا ينشغل بالتبرير أو التنظير، بل يطلق غضبه كما هو. وهذان الصوتان قد لا يتعارضان وإن بديا كذلك، بل يكملان بعضهما البعض بما يثري المشهد ويمنح مساحة أوسع للتعبير.


أما في سوريا يشير تقرير على موقع "أورينت نت" سنة 2014 بعنوان "نهضة فن الراب في ظل الثورة السورية"، أن فن الراب قبل الثورة، وبسبب التقييد على الحريات، كان محصوراً في مواضيع مثل الحب والخيانة وبعض المهاترات الشخصية. وقليل من تجرأ على الخوض في الوضع المعيشي من غير التطرق المباشر للسياسة. ومن أشهر مؤدِّي الراب وقتها كان "شهبا إم سيز" و "شام إم سي".
على وقع موجات الربيع العربي وما أتى بعدها، صار يحكم تجربة الراب السوري عاملان. أولهما النظام القمعي شديد المركزية الذي احتكر المجال العام وقمع كل تعبير مستقل ومثَّله حزب البعث. وثانيهما اندلاع الثورة السورية سنة 2011، وما أعقبها من عنف واسع النطاق.
في هذا المناخ ظهر صوتان بارزان ساهما في رسم ملامح الراب السوري المقاوم وهما: "بو كلثوم" و"إسماعيل تمر". ومع انطلاق كلٍّ منهما من خلفية مختلفة، إلَّا أنهما يشتركان في توظيف الراب أداةً للاحتجاج على القمع ورثاء الوطن ورفض التسييس الفج أو الاصطفاف الطائفي.
بو كلثوم المولود في دمشق والذي انتقل لاحقاً إلى برلين لاجئاً، قدّم نفسه صوتاً نقدياً حاداً، لكنه بعيد عن الانتماءات الموجهة يصوغ مواقفه انطلاقاً من ضميره الفردي. في أعماله مثل "تركها" سنة 2015 و"لا يمت" الصادرة في مايو سنة 2024، تتجلى حساسيته تجاه فقدان الوطن والهوية، وتبرز كتاباته تعبيراً عن جيل سوري ممزق بين الثورة والمنفى.
في "لا يمت" يقول بو كلثوم: "ممنوع على أولاد جنسي الفرحة، وشو يجمعنا إن لم تجمعنا الترحة؟ يشعل فيني كل جروحي جرحك وتقسمنا نفس الورطة، وعاشت كل الوجوه المنسية وكل قصصنا المو محكية [. . .] تعبت روحي وهي تهيم لوطن، جواتي براكين تغلي غضب". بهذه الكلمات يعكس تمزق الداخل السوري، وتجربة جيلٍ تتشكل هويته وانتماؤه في ظلّ التيه والنزاع. كذلك فالأغنية ليست مجرّد استدعاء للذاكرة الجمعية، بل محاولة لإعادة تعريف البطولة والمقاومة خارج ثنائية الشهيد والناجي. إذ يغدو الصمود ذاته فعلاً بطولياً والبوح فعل مقاومة.
وفي أغنيته السابقة "قوم وصلنا" سنة 2014، ينتقد بو كلثوم المؤسسات الدولية التي تدَّعي الاهتمام باللاجئين وتعاملهم حدثاً استعراضياً. يقول: "ليك اللي بيقلك إنه حاسس فيك كاذب [. . .] بيغنوا لميت لاجئ حناجرهن اسفنج عازل".
ويظهر هذا الشعور بالغبن بالتوازي في أغنية "تركها"، حين يتحدّث بلسان السوريين المستنزفين من الحرب والغاضبين ممن يُنظّرّون على واقعهم. فيقول بو كلثوم: "كمنشرة الوطن بسلاحه باعه لمن اشترى، فبنشر الدولاب بنص شارع الثورة، سماع للشارع، سلاح أبيض أو ملون الإثنين بيجرحوا، السكان نفسهم كلاب الحي التنين بينبحوا، تركت أصل المشكلة وأشكالك عن مين السبب: الأربعة على تخت مشرقي عم يستبيحوا البلد [. . .] ما حدا ابن البلد كله مدّعي التنظيم".
أمّا إسماعيل تمر، فمع أنه بدا أكثر اندماجاً في فلك السوق عبر أغانٍ ركزت على مواضيع عاطفية مثل "يا مليكتي" في 2016 ولاحقاً "أول لقاء" في بداية 2025، إلا أنّه ظلّ يحمل مشروعاً يسعى لسرد المعاناة اليومية للسوريين. ففي أغنيته "لا مبالي" الصادرة سنة 2023، يعبِّر تمر عن حالة اليأس الشعبي السوري والانفصال بين القيادات الدينية والشعب. فيقول: "فحوى محتوى الفتاوي راح تقسموا الشيوخ، العقل زينة لكن يلي حامل العقل مسلوخ، إنسان عابس راقد فاقد الأمل من حاله [. . .] كل ما نطلع من قاع ننزل لقاع تاني [. . .] منسوب مستوى الثقافة صاير منخفض متل فيزة شب سوري مصيرها ترتفض".
ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، أصدر إسماعيل تمر أغنيته "آمالنا" في 2024، وانتقد فيها الصمت العربي والدولي، والتواطؤ الذي حوّل القضية الفلسطينية إلى مجرّد ملف تفاوضي. ويقول في الأغنية: "وطي صوت الكوكب وعلي الكوفية، خلي صوتك الناطق الرسمي للناس المنسية، ما لها دية شتات الأمة بيخنق القضية، وغزة هي لمت الشمل فـتنفسوا حرية [. . .] سامعين صرخاتك من أفعال الجاحدين، هل تسمعون هل تنظرون، أين الملأ مما يفعلون؟". بهذه الكلمات يعيد تمر مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي، بعدما دُفعت إلى هامش النسيان تحت شعارات الواقعية السياسية.
الرجل الذي خرج من رحم الحرب السورية وعاين الهزيمة والانقسام والتشظي، أدرك أنّ الراب ليس فقط منبراً للغضب، بل أيضاً أداة للكتابة ضد النسيان. وهنا تبرز أهمية أغنيته "ساروتنا"، التي كتبها بعد سقوط الأسد في ديسمبر 2024، تكريماً لعبد الباسط الساروت، المنشد ولاعب كرة القدم وأحد رموز الثورة السورية الذي قتله النظام في 2019. في هذه الأغنية، يقدم تمر سردية تحمي الثورة من التحوّل إلى ذكرى محايدة أو مناسبة للاحتفاء فقط، بل يخلّد اللحظة الثورية بكل ما حملته من قوة وضعف. ويقول: "يا بلادي قومي ولادك سقَّطوا العصابة [. . .] ولك كسر السقف اللي حجب سمانا، 25 مليون إنسان سوري عانى [. . .] هتفنا ارحل فكسروا الحناجر [. . .] مجرم بلدنا لاجئ والسوري قاعد بقصره، وجنة وجنة ساروتنا بالشام غنا: جنة جنة جنة".
فتمر مع دخوله إلى عالم السائد والمحتوى السهل، إلا أنه ما زال يوازن بين ربط اليومي بالسياسي، من دون الوقوع في فخ التحول للمؤسساتية أو الاندماج التام في الصناعة الموسيقية. وبهذا، تحجز أعماله موقعاً في خريطة الراب العربي، في دليل على أنّ الواقع السياسي والاجتماعي للشعوب قادر على دفع الفن نحو المقاومة، حتى وإن أحتُوي بدرجة ما.


وفي واقع مشابه لبقية بلدان الربيع العربي، لعب الراب في تونس دوراً هامشياً قبل الثورة، لكنه كان ينبض بالاحتجاج الكامن. فكان هذا الفن يتشكّل في هوامش العاصمة والمناطق الفقيرة، بعيداً عن دوائر الإعلام الرسمي أو القنوات الإنتاجية السائدة. فأسّس الشباب التونسي علاقته بالراب انطلاقاً من تمرّد اجتماعي، ورفض وجودي لواقع يعجّ بالفساد، والبطالة، والقمع. لكن التحوّل النوعي في المشهد بدأ مع أغنية الجنرال "ريّس البلاد"، والتي صدرت في نوفمبر 2010.
ووفقاً لدراسة إيناس الدلاجي "الراب التونسي والربيع العربي"، واصل الجنرال بعد الثورة إنتاج أغنيات تتمحور حول القضايا السياسية والمظالم الاجتماعية. فأعرب عن خيبة أمله من الأوضاع في تونس في أغنيته "دوزييم ريفولوسيون" (الثورة الثانية)، الصادرة في يوليو 2011، وطالب فيها بثورة ثانية، معتبراً أنّ الأولى لم تحقق أهدافها كما يجب. وفي سنة 2014، نشر أغنيته "ريس البلاد 2" التي انتقد فيها الأوضاع بعد سنوات من الثورة بعبارات مثل "عطيناكم ثقتنا قتلتوا ثورتنا بالفرد [. . .] ياخي هاذي حكومة ثورة ولّا حكومة بن علي؟". لكن الأغنية لم تلقَ رواجاً آنذاك، نتيجة تحوّل الجمهور إلى أنماط أخرى من الراب.
ووفقاً لمقال ضياء البوسالمي، نشر في موقع "رصيف 22" في مارس 2017 تحت عنوان "هل نقول وداعاً لجنرال الراب في تونس؟"، بدأت مسيرة الجنرال بالانحدار إثر محاولته اللحاق بالموجات الجديدة من الراب واعتماده على الأغاني التجارية. ففي 2016، وبعد توقف جزئي عن الكتابة، عاد الجنرال بفيديو موسيقي "ماشية تزيد"، إلا أن العمل لم يحقق النجاح المطلوب.
وفي ما يشبه الإقرار بالتراجع، توقّف لاحقاً عن الكتابة، مبرّراً ذلك بالقول: "الجنرال سيكون دائماً الجنرال، لكن ربما هناك شخص أكثر ثورية مني الآن. كما هو الحال في كرة القدم [. . .] نقول إن ليونيل ميسي هو الأفضل على الإطلاق، لكن ربما يظهر لاعب كرة قدم أفضل منه على الساحة في غضون بضع سنوات"، حسب تصريح أدلى به إلى "بي بي سي" في يوليو 2023.
أما مغني الراب التونسي "كلاي بي بي جي"، فمثله مثل شب جديد الفلسطيني، لا ينشغل خطابه بالجدل الموجّه، إنما يركّز على الواقع كما هو: قمع الشرطة، الإحباط من سياسات الدولة، والسخط من الفجوة بين وعود الثورة ونتائجها. وإن كان شب جديد يوظّف الغضب واللغة الحادّة لتحويل المواجهة في الشارع إلى طاقة تُمجّد المقاومة وتُعرّي الاحتلال بلا إشارة مباشرة لمسبب هذه المظلوميات، فإن كلاي يستخدم الأدوات نفسها لتفريغ غضب مجتمع ما بعد الثورة، حين اكتشف أن الأوضاع الجديدة لم تحمل معها العدالة والكرامة الموعودة. فكلاهما ينطلق من موقع اجتماعي مهمّش، ويأتي خطابهما فجاً ومباشراً، ومشحوناً بالألفاظ النابية والسخرية القاسية من السلطة ورموزها.
صعد كلاي في سنوات ما بعد الثورة رمزاً لمعارضة مزدوجة. أولاً ضد الدولة وأجهزتها الأمنية التي لم تتغيّر جذرياً بعد سقوط نظام بن علي. وثانياً ضد الهيمنة السياسية الجديدة التي مثلتها حركة "النهضة" الإسلامية، والتي رأى فيها امتداداً لآليات القمع نفسها ولكن بعقيدة مختلفة.
في أغنيات مثل "شغل، حرية، كرامة وطنية" في 2012 و"البوليسية كلاب" سنة 2013، يربط كلاي بين البطالة والفقر والتهميش من جهة، وبين فساد الطبقة السياسية واستغلالها الثورة من جهة أخرى، مستخدماً عبارات مثل: "الزرم [الشعب] عايش في فقر والسلطة فيه لا تعترف، والحكومة هبلتنا، نطقتنا [. . .] زرعت بيناتنا الفِتنة".
وفي مقابلة مع موقع "فايس" الأمريكي في نوفمبر 2013، خلال فترة حكم حركة النهضة في تونس، اعتبر كلاي أنّ "القواعد الاجتماعية الصارمة لم تتحسّن بعد الانتخابات (انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 والتي أسفرت عن صعود حركة النهضة للحكم)، بل تغيّر فقط الخطاب المحيط بها. فما كان ممنوع سابقاً، أعادت النهضة تعريفه بالمصطلحات الإسلامية على أنه حرام". بعد أغنية "البوليسية كلاب" حُكم على كلاي غيابياً بالسجن ستة أشهر بتهمة إهانة الشرطة وخدش الحياء العام بأغانيه.
ومع استمرار تراكم الخيبات السياسية وتكبيل المجال العام، قدّم كلاي أغنيات أقسى، عكست نبرة غضب أعلى ولساناً أحدّ. ففي أغنية "عربائيل" الصادرة سنة 2019، التي شاركه فيها مغني الراب "إم سي غزة" (من غزة واسمه إبراهيم غنيم)، شنّ كلاي هجوماً لاذعاً على صمت الأمة العربية بعد إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل سنة 2017. واستخدم عبارات قوية مثل: "عربائيل يلعن والديكم، ووالدين الحكام اللي تحكم فيكم [. . .] الشرف انعدم ترامب اغتصبكم علناً في الحرم".
بل وحتى المقاطع التي تُصنّف ضمن إطار "الديس تراكس" - وهي أغانٍ تشبه الهجاء في الشعر العربي، يرد فيها المغنون على بعضهم البعض - لا تخلو من الإشارات السياسية المبطنة والألفاظ النابية. ففي أغنية "البركان" التي أنتجها سنة 2019، يضع كلاي نفسه في مواجهة مع منافسيه، وفي ذات الوقت مع مجتمع يعاني من الفقر المادي والمعنوي. فيقول: "برشا وذنين بموزيكا صلّحت [أصلحت آذان كثيرة بالموسيقى]، زرعنا حصدنا في بلاد القحط، يمكن ساهل تكتب تتر، أما يصعب عليك النحت، الراب أعطيته من دمي [. . .] لا قففنا لا دولة لا نمي، ماو قلنا ما نتباعوش". تحمل هذه الكلمات إحالة مباشرة لإخلاصه للراب أداة مقاومة، ورفضه البيع أو التنازل أمام إغراءات السوق أو السلطة.
ومن هذا المزج بين الشخصي والسياسي، تتحول "الديس تراكس" عند كلاي إلى مساحة أوسع للمواجهة، إذ يصبح النقد اللاذع للآخرين مرآةً لانتقاد الواقع التونسي بعد الثورة، بكل ما يحمله من إحباط وتراجع.


وبينما تجلت أزمات تونس في مشهد راب عكس الإحباط الاجتماعي والسياسي بعد الثورة، نجد في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 لحظة ثورية مماثلة. انكسر حاجز الخوف ووجد الراب لنفسه موطئ قدم في قلب الميدان، إلّا أنّ هذا الانفتاح لم يدم طويلاً.
فمع تعثّر الثورة وتغيّر موازين القوى السياسية، دخلت البلاد في طور انكماش حاد في المجال العام. فتراجعت المساحات المفتوحة للتعبير، وأُعيد ضبط المشهد الفني وفق معادلة ثلاثية. سلطة تحكم قبضتها عبر الرقابة والضبط الأمني، ومجتمع منكفئ على ذاته ومثقل بخيبة الأمل والإحباط، وسوق متنامٍ يفرز ذوقاً عاماً يتجنّب الصدام السياسي ويفضّل الترفيه. إذا يقول جستن كي في مقالة عنوانها "راب آند ريفولوشن" (الراب والثورة) الصادرة عن مجلة "هارفارد إنترناشيونال ريفيو" سنة 2019، إن الراب المصري بعد الثورة عايش ما عايشه هذا الفن في الولايات المتحدة في التسعينيات. إذ بدأ يقع تحت رقابة الدولة وأجهزتها.
وبخلاف بعض التجارب العربية التي حافظت على خطوط مقاومة واضحة، شهدت الساحة المصرية تراجعاً للراب الاحتجاجي. لا بسبب اندثاره بل بفعل ما بدا احتواءاً تدريجياً بتسليعه أشكالاً أقل تهديداً، على نمط شابه "تسليع الراب وتذويبه في الولايات المتحدة"، الذي أشار له جستن كي في مقالته. بدأ السوق النيوليبرالي بالدفع نحو نمط غنائي جديد، أقرب إلى "التراب"، يركز على قصص النجاح الفردي والمشاعر الشخصية، متجنباً المواجهة المباشرة مع الهياكل السياسية والاجتماعية.
يُعدّ أحمد ناصر، المعروف باسم "الجوكر"، واحداً من أبرز وجوه الراب الاحتجاجي في مصر منذ 2011. استخدم الراب في فضح الفساد وانتقاد القمع. في أغنيته "في اختلافنا رحمة" الصادرة سنة 2012، اشتبك مع الإشكاليات الطائفية التي برزت حينها. ويرد في الأغنية: "الفتنة الطائفية في مصر بمفهومها الجديد، إنك تلقى إن ابن دينك بيحاربك زي الغريب [. . .] بقى اللي خارج عن جماعتي معناها إنه ضدي". وفي مقطع ثان يقول: "عايزينا صم بكم والدليل بيحاربوا فكري، تهديد مهزنيش، من إمتى صوت الحق بيجري؟". وبهذه العبارات، وظّف الجوكر صوراً واستعارات تعبّر عن واقع الجيل الذي خرج في 25 يناير ليبحث عن العدالة والكرامة في بلد يعيد إنتاج أنماط السلطة نفسها.
سنة 2014 حملت مرحلة جديدة تلت الإطاحة بالإخوان المسلمين، لتشكّل اختباراً جديداً لصوت الاحتجاج. ففي ظلّ حالة من التوتر السياسي والاجتماعي، وانكماش المجال العام واشتداد الرقابة، وجد الجوكر نفسه أمام معادلة صعبة. إمّا الاستمرار في خطابه الصدامي المباشر مع ما يحمله ذلك من مخاطر، أو إعادة تشكيل فنه ليبقى حاضراً في المشهد. فاختار الاستمرار بأسلوب انتقائي.
زوّد الجوكر جرعة الاشتباك السياسي المباشر في بعض أعماله، كما في أغنية "أخطاء الثورة" سنة 2014 التي تناول فيها تعقيدات ما بعد الثورة. ومن كلمات الأغنية: "يا ودن صرخت فيها بالحرية مسمعتيش [. . .] لسه فيكِ موت، كتم صوت، كتر خوف، حتى اللي تشوفه طوق بيغرقنا أكتر من الموج، بيقولولنا تحيا الوحدة للخروج من المحنة مع إن الفرقة كانت منهجهم اللي ما زال دابحنا، كانت فين وحدتكم لما كانت مطلب جماهيركم، والله الشعارات تتبدل يوم عن يوم عشان تناسبكم".
وكان الجوكر مرر رسائل مبطنة عن خيبة الأمل في أعمال أخرى سابقة مثل "إعدام ميت" في 2012 ثم "راح مرجعش" في 2013، اللتين عبّرتا عن حالة الضياع وانكسار الحلم الجمعي في شكل علاقة عاطفية. ففي أحد مقاطع "إعدام ميّت" يقول: "والعمر مني اتسرق والقلب عليكِ اتحرق، ولسه ماسك قلمي وحبري بينزف على الورق، ضيق بحس بيه في كل مرة وأنتِ السبب، حياتي ملكي ولا ملكك ولا تحت الطلب؟".
سنة 2021، أصدر الجوكر بعد فترة انقطاع عن الكتابة، أغنية "باشا رقم واحد ده مش أنت". وجاءت الأغنية صادمة لمتابعيه قبل منتقديه، واتُّهِم بالتخلي عن أسلوبه لصالح السائد، وفق مقال لسيد عبد الحميد في موقع "رصيف 22" في نوفمبر 2021 تحت عنوان "من الرغبة في كتابة رواية إلى قدرته على التعبير عن جيل التسعينيات [. . .] الأوجه المتعددة للجوكر".
وفي ظل تعدد الأساليب التي ميّزت مشهد الراب الاحتجاجي في مصر بعد 2011، برز زاب ثروت الذي اختار طريقاً بدا أكثر هدوءاً، لكنه لا يقل حضوراً في المشهد الاحتجاجي.
انطلق ثروت بثنائية تمزج بين الراب والتراب، موظفاً كلماته في الدفاع عن قضايا اجتماعية وحقوقية. ففي عمليّ "نور" و"مين السبب" في 2016، اللذين قُدّما بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تعرّض لقضايا العنف ضد النساء والمساواة بين الجنسين، مقدماً نفسه صوتاً شبابياً إصلاحياً يميل إلى خطاب التوعية بدلاً من المواجهة والصدام. هذا الاختيار وضعه في موقع وسط بين الحراك الفني المقاوم من جهة، ومنطق السوق والشراكات المؤسسية من جهة أخرى.
غير أنّ هذه المسافة الوسطى لم تكن حاسمة ولم تمنعه من الانخراط في لحظات ذات طابع سياسي، كما في أغنية مبكرة بعنوان "اثبت مكانك" قدّمها مع فرقة "كايروكي" سنة 2012. وقد عبّرت الأغنية عن التمسك بالثورة والميدان، بعبارات مثل: "مطلوب منك السكوت تكون إنسان بديل، مطلوب تسكت تموت أو تعيش أسير، عايش في أكبر سجن بس من جوايا حر [. . .] أنا إللي ثابت مهما قالوا ومهما زودوا الأسى".
واتخذ موقفاً أكثر وضوحاً في أغنيته "إحنا جيل وأنتوا جيل" الصادرة سنة 2014. إذ انتقد الأجيال التي أيّدت الارتداد على الثورة، مهاجماً جيل "العواجيز" الذي بارك الاستقرار على حساب التغيير. ويقول: "أنت راضي الحقوق تضيع وتبقى عادي [. . .] إحنا جيل يحاول إحنا جيل يغير، وإنتوا جيل في الحرية عمره كان قصير".
غير أنّ زاب، شأنه شأن الجوكر، لم يكن بمعزل عن تضييق المجال العام وتحوّل المشهد الفني في مصر. فمع تقلّص المساحات المتاحة للنقد المباشر، وسيطرة السوق على الإنتاج الفني، وجد نفسه أمام خيار الانخراط في أعمال أقل صداماً وأكثر انسجاماً مع الأجندة التجارية. وهو ما دفع البعض لاتهامه بـالتسطيح أو الابتعاد عن السياسة والقضايا الاجتماعية.
ومع دخول مصر مرحلة ما بعد 2014، تحوّل المشهد الفني للراب جذرياً. فالجيل الجديد لم يرَ في الميادين أو في شعارات الثورة مصدر إلهام مباشر، إذ وُلد فنياً داخل بيئة مغلقة سياسياً ومنكفئة اجتماعياً، ومهيمَن عليها اقتصادياً. فالمعادلة الثلاثية التي قيّدت تطور الراب الاحتجاجي، الرقابة السياسية والإحباط المجتمعي والسوق الاستهلاكي، أصبحت هي التربة التي نما فيها أبناء هذا الجيل من مؤدي الراب. تحوّل مضمون الأغاني من التعبئة السياسية إلى التعبير عن المزاج الشخصي والاضطرابات النفسية والمشكلات العاطفية. وقد يكون هذا التحوّل استجابةً بنيوية لشروط السوق والمجال العام. إذ بات الفنان مضطراً لبناء قاعدة جماهيرية واسعة، وتجنّب الاصطدام بأي خطوط حمراء قد تهدد حضوره على المنصات أو فرصه في الرعاية والحفلات.
برز "ويجز"، واسمه الحقيقي أحمد علي، أحد وجوه موجة "التراب" في مصر بعد 2016. ويشير محمد السيد في مقال بموقع "درج" في أبريل 2022 بعنوان "ويجز ومغنو الراب في مصر [. . .]" إلى أنّ أغانيه تتمحور حول الذات ومعاناته الشخصية. فنجد أغانيَ مثل "دموعي مالحة 2" و"تايه" في 2018، و"كان نفسي" بعدها بعام، تدور حول المعاناة أو العلاقات العاطفية. بدا أن الانكسار الذي خلّفه واقع ما بعد الثورة، أعيدت صياغته في مثل هذه الأعمال حكايات فردية، لتجنّب الصدام المباشر مع السلطة. ففي أغنية "منحوس" التي صدرت في 2020، يمرّر ويجز نقداً ضمنياً للواقع العام بقوله: "جيلي اتمرد، جيلي اتغرّب، جيلي جرّب، جيلي عارف فين الصح، جيلي عارف قيمته برا، إحنا حبينا واتعلمنا، في لحظة وقعنا واتألمنا، واتعلمنا مفيش غير رجولنا تشيلنا".
ويبرز "ليجي سي" أحد الوجوه الأخرى للموجة نفسها، لكنه أكثر انسجاماً مع المنطق التجاري. فإذا كان ويجز يترك مساحة للتفاعل الضمني مع الواقع، فإن ليجي يقدّم خطاباً يتمحور حول العلاقات الشخصية والاستعراض الفردي. فنظرة واحدة إلى مجموعاته الغنائية مثل "أجزخانة" الصادرة في 2020 و"بلاسيبو" في 2024، تكشف تمحورها حول الحب والخيانة والنجاح الشخصي. وحتى في لحظات الانكسار التي يتناولها في أغنيات مثل "مفيش مانع" الصادرة سنة 2020 و"في الجليد" سنة 2024، تبقى التجربة عاطفية بحتة، لا تتجاوز حدود الحكاية الشخصية. وفي هذا الإطار، لا ينفصل "ليجي سي" عن شروط السوق التي صاغت موجة التراب في مصر بعد 2016، إذ يتموضع خطابه الفني بالكامل داخل مسار قابل للتسويق الجماهيري والاستهلاك.
وفيما راوح الحال في دول الربيع العربي بين راب متمرد على السياسة والمجتمع أو احتواءٍ ضمن إطار السوق، كان الحال مختلفاً في دول عربية لم تعايش نفس ظروف الثورات العربية، وأهمها المملكة العربية السعودية.


في الحالة السعودية، تفاعلت عناصر المعادلة الثلاثية بطريقة مغايرة لما شهدته دول الربيع العربي وفلسطين. فبدل أن يظهر الراب أداة احتجاج سياسي مباشر، جاء أغلبه خاضعاً لمنطق السوق واحتواء السلطة المسبق، في ظلّ مجتمع يتأرجح بين المحافظة من جهة والرغبة في الانفتاح من جهة أخرى. هذا الإطار أنتج موجة فنية تشكّلت في بيئة لم تشهد صدامات ثورية أو احتجاجات جماهيرية، بل عرفت تحولات اجتماعية تدريجية أعادت تعريف ما هو مقبول أو مرفوض في المجال العام نسبياً.
وعلى عكس نقابات المهن الموسيقية في الدول العربية، التي ترفض عادةً الاعتراف بمغني الراب فنانين، اتخذت جمعية الثقافة والفنون في جدة مساراً مختلفاً. إذ أدرجت الجمعية سنة 2017 فن الهيب هوب، ضمن ما تقدمه وتدعمه من فنون، شرط أن يكون المحتوى في "سياق اللباقة والاحترام"، حسبما أشارت كرستين حبيب في مقال بصحيفة "الشرق الأوسط" في أغسطس 2022، في مقال بعنوان "الهيب هوب السعودي: صعود متأنٍّ واعترافٌ رسمي وشعبي".
جاء هذا الاعتراف ضمن إطار أوسع من السياسات الثقافية لرؤية 2030، التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط. وتقودها "هيئة الترفيه" التي تأسست سنة 2016 بقيادة تركي آل الشيخ. إذ تمنح السلطات السعودية لمغني الراب فرصة الظهور والتعبير عن أنفسهم على المسارح الرسمية، لكنها تبقي هذا التعبير ضمن نطاق لا يصطدم بالثوابت السياسية أو الاجتماعية. وهو ما يخلق مشهداً فنياً معترفاً به رسمياً وشعبياً، لكن مضبوطاً وفق منطق الدولة.
في هذه البيئة، برزت أسماء مثل "بلاكبي" و"سلو مو" ضمن موجة التراب السعودي بعد 2016. وقد قدّما خطاباً يركّز على الاستعراض الشخصي والهوية المحلية والحياة اليومية، بجرعة محدودة من النقد الاجتماعي غير الصدامي. فـبلاكبي، وهو أحد أبرز وجوه التراب السعودي ضمن الجيل الجديد، بنى مشروعه الموسيقي على تصوير الحياة اليومية للشباب وهمومهم النفسية والعاطفية. وفي أغنيات مثل "ما يدرون" المنتجة سنة 2024، يتحدّث عن صراعه الذاتي للنجاح والاستمرار في الكتابة. فيقول: "إني بصارع نفسي لي أكثر من خمس سنين، عشان ألاقي نفسي في مساحة من يقين [. . .] آسف لأن الحزن اللي كتبته هو اللي إشتهر، واللي حاولت أبيعه يوم كنت مجتهد ما إنذكر".
تأتي معظم أغنيات بلاكبي على هذا النحو، خالية من البعد السياسي أو الصدام المجتمعي. هذا النمط يتسق مع بيئة إنتاج تخضع لإشراف مؤسسي مباشر، وتستفيد من القنوات الرسمية والخاصة التي تدفع باتجاه موسيقى شبابية "آمنة" لا تهدد الدولة. ويتضح هذا التوجّه في تصريحه لجريدة الشرق الأوسط: "هناك أمور لا أرضى أن أتفوّه بها كإنسان وليس كفنان فحسب. أحرص على القيَم والقوانين. هذا لا يعني أنني أقمع نفسي، لكنّي لا أرضى الإساءة إلى أحد، وأطمح إلى رفع راية السعودية من خلال فنّي".
أما "سلو مو"، فبدأ مسيرته بخطاب يختلف جذرياً عن موجة التراب التي برز لاحقاً جزءاً منها. ففي مقابلة منشورة على موقع "عرب نيوز" سنة 2012، قال إنّ هدفه هو "الوصول إلى العالم الخارجي ونشر قوة الإسلام بلغة عالمية". وأكّد أنّه يخطط لأن يكون "قدوة حسنة بنشر الجوهر الإسلامي والابتعاد عن الحديث عن الحب أو الجنس أو المخدرات أو المال والشهرة". قدّم نفسه آنذاك صوتاً شبابياً ملتزماً، أقرب إلى ما يمكن وصفه "الراب الدعوي".
أدّت محدودية المساحات المتاحة للمحتوى السياسي أو النقدي لدفع سلو مو نحو التماهي مع خطاب الترفيه السائد. ومع مرور الوقت، تحوّل إلى إنتاج أعمال أكثر انسجاماً مع منطق السوق والدولة، متخلياً تدريجياً عن محظوراته الأولى، بل ومقترباً من موضوعات كان قد أعلن رفضها، في محاولة لمواكبة الذوق الجماهيري وضمان الاستمرارية في بيئة تنافسية مغلقة. ففي أغنيته سنة 2018 "لا تستغرب" يبدأ المقطع بالإنجليزية بما يبدو متحدياً من يصفهم بالكارهين من منافسيه من مغني الراب. ثم يواصل بالعربية ليقول: " يقولوا الغيبة إن طالت تجيب غنايم [. . .] ما يدروا إني غايب طول دي الفترة لأني نايم". ويواصل منتقداً منافسيه: "ليش يا رابر؟ متبري من لسانك [. . .] وإنت تمثل فن سعودي لازم تدرك حد كلامك قل له [. . .] قل له كيف تجيك جراءة تتكلم عن أي إنجاز [. . .] وإنت خليت الراب السعودي كأنه فن وصف الشواذ".
يبدو أنّ بلاكبي وسلو مو، مع اختلاف أسلوبيهما، يشتركان في صيغة تضع السوق محوراً رئيساً في عملية الإنتاج. موسيقى غير صدامية، وموضوعات تنسجم مع صورة السعودية الجديدة بلداً منفتحاً اقتصادياً وثقافياً. وإذا كانت المعادلة الثلاثية في دول مثل مصر أو تونس، أنتجت صداماً بين مغني الراب والسلطة، فإنها في السعودية أفرزت منذ البداية، نموذجاً متوافقاً بين الطرفين. إذ يتقبّل المجتمع، خاصة الشباب، هذا الفن الجديد طالما جاء في إطار ترفيهي. فيما تسمح السلطة به طالما لا يصطدم معها. أمّا السوق، فيتبناه لأنه يحقق انتشاراً وربحاً من دون مخاطر.


تقول أطروحة مارك فيشر حول "واقعية الرأسمالية" إنّه من الأيسر أن نتخيّل نهاية العالم على أن نتخيّل نهاية الرأسمالية، فإنّ مسار الراب العربي من الاحتجاج إلى الاندماج في التيار السائد، يضعنا أمام النسخة الثقافية من هذا المأزق. فالمعادلة الثلاثية، سلطة تُحكم قبضتها على المجال العام، ومجتمع مثقل بالانكفاء وفقدان الثقة، وسوق قادر على ابتلاع أي خطاب وتحويله إلى سلعة، لا تُنتج فقط موسيقى أقلّ صخباً سياسياً، بل تعيد صياغة الأفق نفسه الذي تُصنع وتُستمع فيه هذه الموسيقى.
وهكذا يتحوّل الراب، الذي ولد فعل مقاومة، إلى جزء من البنية التي كان يهاجمها. ومع ذلك يحتفظ أحياناً، على نحو مراوغ، ببذور التمرّد داخل نصوصه وإيقاعاته، حتى وإن كانت مموّهة أو مقنّعة بسرديات فردية. واليوم من فلسطين إلى تونس ومن سوريا إلى مصر والسعودية، لم يعد السؤال: هل خفت صوت المقاومة؟ بل هل صار هذا الخفوت هو الشكل الجديد للمقاومة؟ وإذا كان السوق قادراً على احتواء حتى أكثر الأصوات غضباً، فهل يظلّ الراب العربي قادراً على تخيّل ما هو خارج هذا الاحتواء؟ أم أنّنا، كما في أطروحة فيشر، عالقون في إيقاع لا يعرف نهاية إلا بنهايتنا نحن؟

اشترك في نشرتنا البريدية