وصل الجدل حول تصريحات طه الفحصي الذي اشتهر باسم طوطو إلى قاعة البرلمان المغربي. ثم تبعها ملاحقة قضائية انتهت بإدانته بتهمة "استهلاك المخدرات والتحريض على ذلك والإخلال العلني بالحياء"، والحكم عليه بالحبس ثمانية أشهر مع وقف التنفيذ. لكن كل ذلك الغضب الرسمي لم يؤثِّر كثيراً في شعبية مغني الراب المتمرِّد في أوساط الشباب المغربي.
يعكس الغضب الرسمي الذي وصل إلى قاعات البرلمان والقبول الشعبي الواسع في أوساط الشباب الجدلَ حول الغراندي طوطو في حالةٍ تكشف عن انقسام المجتمع المغربي. فبينما يرى نقاد وباحثون في هذا النمط من الغناء دليلاً على تراجع القيم الفنية والأخلاقية، وأن السلطة تسمح به من باب احتواء الغضب، يرى الشباب المغربي في فن طوطو صوتاً يجسد إحباطاتهم وقضاياهم اليومية. يجعل ذلك طوطو ظاهرةً اجتماعيةً تعكس هشاشة الروابط المجتمعية وتغير مفاهيم الهوية، وتفاوتها بين أجيال تركن إلى وداعة الماضي والموروث وجيلٍ جديدٍ يجد نفسَه في صوت طوطو المتمرد.
انكشفت هذه التقاطعات جلياً حين استقبلت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا)، أكثر من مئة وتسعين شكاية في الأيام الأولى من شهر يوليو 2025، بعد بث القناة الثانية المغربية حفل طوطو في مهرجان موازين. وبحسب البيان الذي نشرته الهيئة للإعلان عن تلقيها الشكاوى، فإنّ "المشتكين اعتبروا أن حفل طوطو تضمن تعابير ومشاهد منافية للأخلاق الحميدة والآداب العامة، ومن شأنها أن تؤثر سلباً على تربية الناشئة".
ومع قرار الهيئة حفظ الشكاوى المقدمة إليها جميعها، إلا أنها أقرَت أنّ القناة الثانية لم تضع الإشارات التي تفيد أنّ محتوى الحفلة لا يناسب من هم دون السن القانوني. لكنها اعتبرت أنّه وفقاً لمبدأ التناسبية الذي يقنن الإعلام ويلزم الهيئة باحترام التعددية، "لا يُستساغ فرض الرقابة على فنان أو وصم جمهوره". وأنّ المطلوب حثُّ متعهدي الاتصال السمعي البصري على ضرورة اعتبار سياق البث، وتعزيز استخدام التدابير والوسائل المنصوص عليها لضمان حرية التعبير والتنوع الثقافي وحماية الجمهور بسائر فئاته. أما الحفل فقد أعلنت القناة الثانية أن عدد مشاهديه بلغ نحو خمسة ملايين.
قبل بداية الأغنية، يُنبِّه طوطو مشاهديه أنّ "أغنيته غير مناسبة للجمهور العام، وقد تسيء إلى بعض الأشخاص"، ويبدأ بعدها مقطعه الأول بإشعال سيجارة حشيش وسط أصدقائه في السيارة التي تقله للمؤتمر الصحفي. ومع تنبيه صديقه له أنه متجه إلى حيث تترصده الصحافة، يقول له طوطو: "كفى مبالغة، لا أدخن الأفيون".
بعد وصوله إلى المؤتمر الصحفي يبدأ طوطو الغناء "أركب سيارة إمبالا، في كازا أدخن حشيشا قاتلا"، ويضيف بعد ذلك: "حولني الشارع إلى زومبي"، متهماً الشارع والمجتمع بالمسؤولية عن لجوء الشباب للمخدرات. ثم يسلط الضوء على مشاكل الشباب من فقر وبطالة وقمع يلجأون بسببها للمخدرات، وهو بذلك ينفعل في وجه الصحفيين رداً على سؤالهم المتكرر "هل تدخن الحشيش؟" مجيباً بطريقته الخاصة.
جمل أغنية الراب الغاضبة تتفق مع ما توصل إليه الباحث المغربي عبداللطيف كداي في دراسته عن "التحولات الاجتماعية القيمية للشباب المغربي، محاولة للرصد والفهم" المنشورة سنة 2015. في دراسته يحلل الباحث المختص في علم الاجتماع ما يراه تحولاً قيمياً وثقافياً يعيشه شباب المغرب "لا يمكن فصله عما يعرفه العالم اليوم من تغيرات شملت مختلف جوانب الحياة الاجتماعية". يخلص كداي إلى أن تأثيرات العولمة لم تقف عند الجوانب المادية، "بل أثرت على عقلية الإنسان ونمط تفكيره وقيمه وثقافته، بفضل حيازتها على منظومة معرفية شاملة جاهزة ومنظمة". ويرى أن الشباب المغربي "شهد خلال العقود الأخيرة تحولاً ثقافياً عميقاً بفعل اجتياح سمعي بصري متواصل، وثورة تقنية جعلت أدوات الاتصال الحديثة في متناول الجميع".
لا تختلف تلك الخلاصة عن الدراسات العربية الشبيهة التي سعت لدراسة أثر "العولمة" أو الإتاحة الثقافية التي مكنتها شبكة الإنترنت على المجتمعات العربية. ووجد كداي أن الجيل الجديد صار بإمكانه إعادة بناء هويته، وانتمائه الثقافي الخاص والمتفرد وربما المتمرد. وهو ما تكشف عنه مضامين التعبيرات الفنية التي تجد اهتماماً واسعاً لدى هذه الشريحة من المجتمع، لغة وأسلوباً ومظهراً، قد تبدو للبعض "مقاومة ثقافية ناعمة ضد القيم ومن أجل نموذج ثقافي جديد تفرضه العولمة".
تظهر إحصائيات موقع "ستاتيستا" (وهي منصة إلكترونية عالمية متخصصة في تقديم الإحصاءات والبيانات السوقية والاقتصادية من مصادر موثوقة)، أن سوق الموسيقى الرقمية في المغرب في تصاعد مستمر. إذ يُتوقع أن تصل إيراداته في المغرب إلى نحو خمسة عشر مليون دولار أمريكي سنة 2025، مع نمو سنوي مركب قدره نحو 5 بالمئة من سنة 2025 إلى 2030.
يرى جيل طوطو من صناع الموسيقى ومستمعيها أن ما يقدمه طوطو فنٌ يتعاطى مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها هذا الجيل، وعلاقته بتحولات التعبير الموسيقي والغنائي في إطار تحولات الموسيقى عالمياً. فيما ينظر له نقادٌ وباحثون قلقون على الأخلاق العامة، تهديداً لأخلاقٍ ورؤىً متوارثة، يرونها جامعة ومشكِّلة الهويةَ المغربية.
من هذا المنظور يرى سعيد بنكراد الباحث المختص بالخطاب والصورة، في حديثه للفِراتس، أن "ما يطلق عليه موجة جديدة في الغناء ليس سوى تصريف لطاقة عنيفة لم تجد طريقها إلى التحقق السليم". ويضيف: "الأمر يتعلق في هذا الصراخ باستنفار لطاقة انفعالية تنتشر في كامل الجسد للعودة به إلى سكينة ستساعده لاحقاً على قبول كل السائد في السياسة والأخلاق والدين".
يجد هذا التحليل صداه في الكثير من الإنتاجات الغنائية وما يرافقها من تصوير للمغني طوطو. فأعماله تعبّر عن هذا "التوتر والانفعال الهوياتي" و"الغليان الداخلي" أيضا الذي يعيشه الشباب، مثل أغنيته "سيلويت". يظهر طوطو كلماتٍ في نهاية أغنية يقول فيها بالدارجة المغربية:
"حنا مجتمع واحد، ولكن ماشي جيل واحد، ماشي رأس واحد، ماشي تفكير واحد، ماشي ثقافة واحدة. باراكا مندوّرو السّينتة القديمة.
حنا أولاد الوقت، جيل مقوّد، ذنبنا كنهضرو ديريكت، ماكنعرفوش للزوّاق، ماعندناش مع النفاق. كنآمنو بالحب. كنصدموكوم؟ما تصدموش.
غير كنورّيوكم وجهنا وجهكم فالمراية. آمنوا بنا. حنا الحرية، حنا المصالحة، حنا اللي فالقلب على اللسان. مبغيناش نهرّسو داك الشي اللي كيجمعنا، بغينا نبنيو، نبنيو قصة (فنية) ما تنساش. خلّيونا الواقع كيف هو، الصورة كيف هي. ماشي غير الظل ديال الصورة، الظل ديال الواقع.
كلامنا خاسر؟ خلعكم؟ برزطكم؟ والخسورية فالمجتمع هانية؟ لااااا ما ميمكنش".
وتعني تلك الكلمات بالعربية الفصحى: "نحن مجتمعٌ واحد، لكننا لسنا جيلاً واحداً، ولا رأساً واحدة، ولا تفكيراً واحد، ولا ثقافة واحدة. كفى من اجترار الكلام نفسه نحن أبناء هذا الزمن، جيلٌ مجنون، ذنبه أنه يتكلّم مباشرةً. لا نجيد التزييف، ولا نتقن النفاق. نؤمن بالحب. هل نصدمكم؟ لا تنصدموا. نحن نريكم وجهنا ووجوهكم في المرآة.
آمنوا بنا، فنحن الحريّة، نحن المصالحة، نحن من يجعل القلب على اللسان.
لا نرغب في تهشيم ما يجمعنا، بل نسعى لبناء حكاية فنية لا تُنسَى.
دعونا نظهر الواقع كما هو، الصورة كما هي، لا ظلَّها فقط، بل ظل الواقع أيضاً.
كلامنا خاسر فوضوي؟ هل أخافكم؟ أزعجكم؟ والخراب في المجتمع عادي؟ هذا غير ممكن".
تلك الكلمات الختامية لأغنية "سيلويت"، سجلت خمسةً وعشرين مليون مشاهدة في ظرف سنتين على يوتيوب. تؤكِّد ما قاله بنكراد أن هذه الموجة الغنائية تجسد "تصريفاً صريحاً لطاقة هوياتية مشحونة"، تبحث كما قال طوطو عن الاعتراف وعن المصالحة، وعن التحرر أيضاً.
يقول بنكراد إن الأجيال الشابة تميل إلى ابتكار أشكال فنيَّة قادرة على استيعاب منظورهم الجديد للكون والحياة. وتصنف عادة جهداً في اتجاه مقاومة اليأس والظلم والإقصاء. "كل الأشكال الفنية كانت احتجاجية في عمقها، والاحتجاج ليس ترفاً، إنه تعبير عن حاجة".
ينسجم استنتاج بنكراد مع قراءة الأكاديمي عبد الفتاح الحجمري، الذي شدد في مقالته "موسيقى المُهمّشين أمْ بلاغة الخَراب؟ .. "الراب" صرخة فلسفية في وجه العالم" المنشورة في يوليو 2025، على أن "ما يميّز الرابّ في صورته المعاصرة هو تحوّله إلى مرآة عاكسة لانهيار الذوق الكلاسيكي. لا بوصفه انقطاعاً عرضياً، وإنما باعتباره مؤشّراً على تبدّل عميق في منطق التلقّي وشروط التعبير". يضيف الحجمري أن القواعد الجمالية "لم تعد تُقدَّس، ولم يعد التطريب غاية فنية، فقد صار التعبير المباشر، والصوت الغاضب، واللهجة النابية، أدوات لاحتلال المشهد".
تقول حليمة الجندي الباحثة المختصة في علوم الاتصال في حديثها للفِراتس، إن العالم يمر بما تسميه "لانظام ثقافي جديد" يعتمد على تفكيك ما تعارفت عليه كثير من المجتمعات من قواعد وقيم تظنها أساس وحدتها وتناغمها واستقرارها، وذلك مع "ثورة الإنترنت الثانية" التي جعلت من الأفراد مساهمين مباشرين في الاتصال وليسوا مجرد متلقين كما كان الحال وقت سيادة وسائل الاتصال التقليدية. تقول الجندي إن "ثورة الإنترنت الثانية سمحت بظهور الشبكات الاجتماعية، ومكّنت الفرد العادي ربما لأول مرة في التاريخ من أن ينتج ويقود ويؤثر". من أثر ذلك برأيها "خلق نخبٍ جديدة موازية ومتحررة من قبضة الواقع وقوالبه وشروطه"، لا تخضع لقواعد الإنتاج أو التقييم المعتمدة في الواقع. لذلك حسب الجندي "لا نتحدث مثلاً عن مغنٍ أو صحفي أو مخرج بل عن صانع لمحتوى ما، دون تحديد مؤهلات أو التدليل على استحقاق".
وإذا كانت وسائل التواصل في سنوات بروزها الأولى قد وُوجهت بالاستخفاف لأنها "مجرد عالم افتراضي" منبت الصلة عن الواقع والقدرة على التأثير فيه، فإن هذا التصور سرعان ما دحضته معطيات الواقع. توضح الجندي "شاهدنا جميعاً وبالأخص خلال سنوات ما عرف بالربيع العربي، ما أحدثه التقاطع بين الواقع والافتراض"، وبين ما ينتجه الفرد وما تنتجه المؤسسات مثل الأحزاب ووسائل الإعلام، وما ترتب عن ذلك من تغييرات على الأرض، ثم ما تلاه من تلاحم متزايد بين الفضاء الواقعي والفضاء الافتراضي.
ترى الجندي أن حالة "اللانظام الثقافي الجديد" التي أفرزتها تحولات عميقة في طريقة تواصلنا في "الفضاء الرقمي"، ترتب عليها ما تسميه "حالة فوضى ثقافية" لها تمثلات مختلفة خصوصاً بين الأجيال الأصغر سناً". وتميز الباحثة بين هذه الفئة وبين الأجيال التي عاشت بين زمنين أحدهما قبل طفرة الإنترنت والآخر بعده. هؤلاء تصفهم الجندي بأنهم "أجيال لديها بواقي ارتباط وجداني بواقع ثقافي سابق ومختلف على كل ما نشهده ونعيشه اليوم. لديها ذاكرة تقيس عليها، واقعاً آخر، ونوع آخر من الأغنية ومن الرواية ومن ألوان الفنون والآداب تقارن به المتاح اليوم". في حين أن الفئة الأصغر لا تعرف إلّا واقعاً واحداً لا بديل عنه، هو ما أفرزه "اللانظام الثقافي الجديد"، حسب تعبيرها.
يسجل تقرير "إدماج الشباب عن طريق الثقافة" الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو إحدى المؤسسات الدستورية المستقلة في المغرب، توصيفاً مماثلاً لما يعتبره "حالة انفصال مرجعي" يعيشها كثيرون من "جيل الشباب الجديد". يقول التقرير الصادر سنة 2012، إن هؤلاء الشباب يضعهم الفضاء الرقمي "في قلب عوالم رمزية لا تحكمها كثيراً قيم الإنتاج والتفاعل والاستهلاك". ويضيف إن المغرب شهد تداخلاً بين ثلاث تحولات، وهي تعميم التعليم وانتشار الاستهلاك السمعي البصري والثورة الرقمية، والتي عدها التقرير دعامات تربوية واستهلاكية وسلوكية مختلفة.
يرى التقرير أن تغيرات وسائل اكتساب الشبابِ الثقافةَ ونشرها واستهلاكها يجعل الأساليب القديمة في حفظ المعارف ونقلها ومخزونات الذاكرة والتواصل بين الأجيال غير قادرة على تأمين النقل الموضوعي وضمان التواصل. ويعجز هذا – في نظر واضعي التقرير – الجيل الجديد عن بناء علاقة متينة مع تراث ثقافي موحد (ذاكرة يقاس عليها بتعبير الجندي)، بينما يجد الجيل السابق نفسه أمام واقع متغير، قد يفقد معه أدوات القياس والتقييم التقليدية للمعنى وللنخب التي تُنتج ذاك المعنى.
في دراستها "هيب هوب هاي وايز: مابينغ كومبليكس أيدنتيتيز ثرو موراكان راب" (الطرق السريعة للهيب-هوب: رسم خريطة الهويات المعقدة عبر الراب المغربي)، الصادرة سنة 2014، توثق الباحثة أنيشا بات البدايات الأولى لفن الراب في المغرب.
حسب الدراسة تعود أولى محاولات الراب المغربي إلى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، على يد شباب مهاجرين ممن عملوا في فرنسا وبعض البلدان الأوروبية، وتأثروا بالفنون التي شهدوها أثناء إقامتهم على الجانب الشمالي للبحر المتوسط. لكن الإسهام الأكثر أصالة، جاء على يد مجموعة "بوزيتيف سكول" التي تأسست سنة 1993 بمدينة الدار البيضاء، لكنها لم تصل إلى الشهرة التي عرفها آخرون لاحقاً. وفي سنة 1996، أسس أربعة شبان مجموعة "آش كاين" بمدينة مكناس المغربية.
ساهمت هذه الفرقة الشبابية حينها في إرساء الراب على الطريقة المغربية، بدمجه مع إيقاعات تقليدية محلية، بعيداً عن لغة العنف أو المواجهة أو النقد، وهو ما خوّل لها مساحة في التقدير الرسمي وبالتالي في الذاكرة الفنية المغربية.
ولأنّ سؤال الهوية شكّل قاسماً مشتركاً في تجارب العديد من مغنيي الراب، اختارت مجموعة "آش كاين" أن تتفق مع ما استقر على كونه هوية جمعية. فلم تتبن خطاباً تسكنه معاني الرفض أو نقد السائد، ولم تتحدَّ أي سلطة مجتمعية كانت أو سياسية، وإنما غنت مضامين عبرت عن الأمل والتفاؤل. على العكس من فناني راب لاحقين وظفوا صور العنف والشغب وسيلة فنية لمواجهة الظلم والقمع والتهميش، مثل توفيق الحازب الملقب "البيغ" ومعاذ بلغوات الملقب "الحاقد".
أصدرت مجموعة "آش كاين" سنة 2010 أغنيتها "جيل جديد"، ضمن ألبومها الثالث "آش كاينولوجي"، وغنّت فيها لتحرير الطاقة الإيجابية الكامنة في هذه الجيل الذي يمكنه أن يقود مسؤولية التغيير. وتوّج مسار المجموعة بمنحها وسام الاستحقاق من درجة ضابط من الملك محمد السادس، وتعيين عناصرها سفراء للنوايا الحسنة للشباب والأهداف الإنمائية للألفية، الموضوعة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالمغرب سنة 2011، تقديراً لدورها المجتمعي والتوعوي.
وإذا كانت فرقة "آش كاين" قد جسّدت نبض الجيل الجديد من لغة الراب الحديث وآليات التعبير الحضارية، فإن العودة إلى مجموعات غنائية سابقة مثل "ناس الغيوان"، "لمشاهب"، و"جيل جيلالة" يكشف عن امتداد عميق لما يمكن اعتبارها روح المقاومة والتعبير عن قضايا الهوية والهامش.
وإن اختلفت الوسائل والأساليب، فقد شكّلت هذه المجموعات في سياقاتها، صوت الشارع المغربي قبل أن يُنقل لاحقاً إلى إيقاع مختلف مع جيل "الراب".
قال الأكاديمي محمد همام في مداخلة له في ملتقى ثقافي نظم يناير سنة 2025 عن "ظاهرة ناس الغيوان مساهمة في النبوغ المغربي"، إن ناس الغيوان شكلت عنوان مرحلة جديدة في المغرب وفي المحيط الإقليمي، تميزت بتنوع روافد أعضائها وسيرهم، وبخبرتها في كلام المغرب، وبموضوعاتها المحلية والوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية، من الحب والسلام إلى الحق والحرية ومن سبتة ومليلية إلى إفريقيا إلى فلسطين إلى لبنان (صابرا وشاتيلا).
واعتبر الأستاذ همام أن مجموعة ناس الغيوان برعت في إخراج ألحان الهامش وموسيقى المهمشين إلى السطح، وغنّت بلسان المعذبين والمقموعين. و"في كيمياء الأداء الغيواني، تتفاعل الإيقاعات الكناوية والحمدوشية والعيساوية والأمازيغية والحسانية والعروبية والعربية، وتخترق صيحاتهم وآهاتهم الآفاق مكسرة حواجز الانطلاق، ومفجرة مكبوتات الحرية والانعتاق".
هذا العمق في التعبير لدى مجموعة ناس الغيوان كان له نظير في عمل مجموعات "جيل جيلالة" و"لمشاهب"، وكان الثلاثي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي رائداً في التعبير عن هموم الشعب المغربي بلغة موسيقية جديدة. فهو يستحضر ارتباط الفن بقضايا المجتمع، وهو ما يمكن أن نستشف تقاطعاته لدى بعض مجموعات الراب المغربي، التي وإن اختلفت أدواتها الإيقاعية واللغوية، إلا أنها في تلاقٍ مع تجربة الأغنية المغربية الملتزمة التي ركزت في طرحها على قضايا الهوية والتهميش والعدالة الاجتماعية والفقر.
يخرج غناء طوطو عن هذا الإطار، ولكنه مع ذلك يحظى بشعبية لا شك فيها. فهل يعني هذا أن غناءه يمثل مقاومة ثقافية ناعمة ضد أشكال السلطة. إجابة بنكراد الحاسمة هي: لا. يقول للفِراتس: "هؤلاء [يقصد طوطو وجيله من مغني الراب مثل حليوة وديزي دروس] لم يشككوا أبداً في أي شيء، لا في النظام السياسي ولا في النظام الأخلاقي، ولا في القيم الاجتماعية ولا في التفاوتات الطبقية. إنهم في الأصل لا يهتمون بالحرية باعتبارها قيمة حياتية، تحدد علاقة الفرد مع نفسه ومع الآخرين ومع السلطة".
يسهب بنكراد أن ما يعني شريحة واسعة من هؤلاء الشباب وفئات عمرية أخرى، هو ممارسة طقوس على هامش النفعي والرمزي في الحياة وخارج ضوابط القانون، بمفهومه التقني لا بمفهومه السياسيّ. يقول بنكراد إن "السلطة دائماً سخية في هذا المجال. إنها تمنحهم منصات خاصة ليخرقوا قوانينها خارج الفضاء العام، وخارج ما يمكن أن يهدد المؤسسات. فهي تعرف أنهم لا يهددون أمنها، ويمارسون الخرق في فضاء يقع تحت سيطرتها. إن خرق القانون ليس مرادفا لطلب الحرية، بل هو تنفيس عن مكبوتات، والشتيمة عندهم ليست نيلاً من المضطهِد بل تُذكر بالملاكم الذي يوجه لكماته إلى المجسم الذي يمثل الخصم".
