ثمة سوابق تاريخية لتوطين وفود من المهاجرين إلى سوريا. في القرن العشرين لجأ إلى سوريا الآشوريون والأرمن واليونان والألبان ومجموعات من الأكراد، ولجأ إليها الفلسطينيون بعد نكبة 1948 ثم بعد نكسة 1967. وقبلها في القرن التاسع عشر لجأ الشركس والشيشان والجزائريون إلى سوريا، وفي القرون التي سبقته وفدت إليها القبائل التركمانية. ويلخّص حالَ بلاد الشام نكتة انتشرت في دمشق تقول "تسكن حيّ المهاجرين، وأنت من بيت المصري، ومتزوج من بيت الداغستاني، وأخوالك من بيت الأفغاني، وعملك في حارة المغاربة. وتقول هؤلاء أجانب؟ خلصْ لفّها".
تشبه سوريا صخراً رسوبياً ضخماً من عناصر شتى وطبقات متراكبة متداخلة. في كل طبقة ثمة مكون مهاجر، إما انصهر في المجتمع أو بقي مكوناً متمايزاً. يشبه العروق في ألواح الرخام، فهي مختلفة قليلاً عن بعضها ولكنها مندمجة.
يفيد البحث في الهجرات إلى سوريا وفي تاريخها ودوْرِها في التكوين الاجتماعي والسياسي والثقافي لسوريا المعاصرة في اكتشاف البنية المركبة للمجتمع السوري وثقافة أفراده. ويبدو أشبهَ بحكّ طبقة الجلد الظاهرة لاكتشاف ما يقع تحتها. وتكشف مذكّرات الهجرات الألبانية والجزائرية سيرة بعض هؤلاء المهاجرين، الذين باتوا جزءاً من نسيج المجتمع السوري.
جاءت الهجرة الألبانية الأولى إلى سوريا من إقليم كوسوفو بعد ضمّه إلى يوغسلافيا سنة 1918 بعد الحرب العالمية الأولى، فقد تعرض مسلمو البلقان في سنوات تلك الحرب وبعدها إلى مذبحة صامتة. يقدِّر مؤرِّخون أن عدد مسلمي البلقان انخفض إلى الربع بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومنهم المؤرخ الأمريكي جستن مكارثي في كتابه "الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين" المنشور بالعربية سنة 2005. وكان للأمة الألبانية النصيب الأكبر من ذلك، فقد سُلخت أجزاء كبيرة من أراضيها لصالح دول الجوار، يوغسلافيا ومقدونيا واليونان والجبل الأسود. ولكن المأساة الأكبر كانت ضم كوسوفو إلى مملكة يوغسلافيا، لأن عدد سكان الإقليم الألباني المنزوع كانوا يعادلون تقريباً عدد سكان دولة ألبانيا حين اعتُرف بها وانضمت إلى عصبة الأمم سنة 1920.
في مملكة يوغسلافيا تعرض الألبان إلى اضطهاد ديني وثقافي، فهاجر مِئة ألف منهم بين سنتي 1918 و1938 إلى تركيا، ومن هناك شقت بعض الأسر طريقها إلى دمشق، أو "شام شريف" كما كان يسمّيها الأتراك. يسرد الشيخ السوري محمد المجذوب حكاية أحد هؤلاء المهاجرين الألبان في قصة "الهارب بدينه" المنشورة سنة 1987 في كتاب "الألغام المتفجرة وقصص أخرى". تحكي الواقعة عن تاجر حبوب مسلم من إقليم كوسوفو، عُرِف بالاستقامة والنزاهة. تشرح القصة التحديات التي خلقتها تلك الفترة لمسلمي البلقان بعد ضم كوسوفو إلى يوغسلافيا، فقد نظرت إليهم بعض شعوب البلقان المسيحية على أنهم من بقايا الاحتلال العثماني، ونظروا للإسلام ثقافةً محتلة. وفي إحدى زيارات التاجر إلى جنوب النمسا يكتشف أن عميله النمساويّ يضع مصحفاً خلفه مع أنه مسيحي الديانة، ويخبره أن جده كان مسلماً ورثوا عنه هذا المصحف، ولكنّ والده غيّر دينه إلى المسيحية. في تلك اللحظة اتخذ التاجر المسلم قرار الهجرة، لأنه رأى مستقبل أسرته إن بقي في يوغسلافيا، فصفّى تجارته وهاجر إلى بلاد الشام .
بدأت الهجرة الثانية بعد استقلال ألبانيا واستلام الملك أحمد زوغو السلطة. صار زوغو وزيراً للداخلية في ألبانيا سنة 1920 ثم رئيسَ وزراء فرئيسَ جمهورية، حتى نُصِّب ملكاً سنة 1928. تبنى زوغو إصلاحات تغريبية على النمط الأتاتوركي لجعل ألبانيا جزءاً من الغرب، ولإنشاء "إسلام ألباني" يتماشى مع الطابع الأوروبي. فقد اعتُمد الحرف اللاتيني لكتابة اللغة الألبانية بعد صراع طويل مع الحرف العربي، وصدرت أول ترجمة ألبانية للقرآن الكريم. تحولت ألبانيا وقبلها كوسوفو إلى "دار كفر" في نظر المتدينين، ومنهم نوح نجاتي والد المحدث محمد ناصر الدين الألباني، الذي أسس في دمشق تياراً سلفياً ينسب إليه.
كان الدافع الديني المؤثر الأهم في هجرتي ألبان كوسوفو ثم مواطني دولة ألبانيا نفسها، خاصة من مدينة شكودرا في شمال ألبانيا، التي كانت مركزاً للإسلام المحافظ. ومن الشخصيات التي وصلت إلى دمشق في الهجرة الثانية الفقيه الحنفي سليمان غاوجي سنة 1925، وبقي في دمشق ثلاثة أشهر، قبل أن تطلب منه السلطات الفرنسية المغادرة فعاد إلى ألبانيا، ثم عاود الهجرة لاحقاً مع أولاده سنة 1937. وفق ما روى ابنه شوكت غاوجي في كتابه "ذكرياتي عن ألبانيا ومصر وبلاد الشام في القرن العشرين" المنشور سنة 2011.
يقول المؤرخ السوري الألباني محمد موفاكو الأرناؤوط، في كتاب "هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية" المنشور سنة 2023، إن المهاجرين سكنوا أولاً في جوار مقبرة الدحداح. وبعد ذلك انتقلوا إلى حي الديوانية في ثلاثينيات القرن العشرين وأسسوا داخله حارة الأرناؤوط، وبنوا جامعاً عرف باسم "جامع الأرناؤوط" مع أن اسمه الرسمي "جامع عمر بن الخطاب". ثم أسسوا لاحقاً تجمعاً لهم في جنوب دمشق مقابل حي القدم، واختلط سكان التجمع الألباني لاحقاً بنازحي الجولان، بعد احتلال إسرائيل أراضيهم في 1967.
تبع هاتين الهجرتين هجرةٌ ثالثة انضمّ فيها جيل جديد من المهاجرين الألبان إلى سكان سوريا.
عندما كنتُ طفلاً وقفتُ بدافع الفضول عدة مرات بالقرب من سور المزرعة، ورأيت خلايا خشبية لتربية النحل مختلفةً عن الخلايا الطينية التي كانت منتشرة حينها في سوريا، وذاتَ مرة لمحتُ رجلاً نحيلاً طويلاً بانحناءة صغيرة في أعلى الظهر. بقي هذا الرجل لغزاً لي حتى قرأتُ بعد نحو ثلاثين سنةً مقالاً عنه كتبه محمد موفاكو الأرناؤوط في جريدة الحياة.
عرفتُ أن اسم هذا الرجل هو ماتو مراد، وأنه ألباني كان يسكن مدينة اللاذقية ويربي النحل في قلعة المضيق. يقول موفاكو إنّ ماتو ولد سنة 1904 في قرية كوتش جنوبَ ألبانيا، وكان سليل عائلة معروفة. كان جدّه مفتار علي مقرباً من علي باشا يانينا، الذي استقلّ بمنطقة جنوب ألبانيا وشمال اليونان، وكانت له علاقات تجارية ودِبلوماسية مع دول أوروبا قبل أن تحاصره القوات العثمانية وتُنهي مشروعه سنة 1822.
انضمّ حفيدُه ماتو في السادسة عشرة من عمره إلى انتفاضة 1920 ضد الاحتلال الإيطالي في ألبانيا، وأدّت الانتفاضة إلى جلاء هذه القوات واستقلال ألبانيا. ثم أنهى دراسته الجامعية في روما وعاد ليعمل في أجهزة الأمن الألبانية حتى أصبح قائداً للشرطة الألبانية سنة 1942. في تلك الأثناء كانت كوسوفو قد ضُمّت الى ألبانيا بعد انهيار يوغسلافيا في ربيع 1941، ما وسّع دائرة عمله. وسنةَ 1943 عُيّن مديراً للشرطة في محافظة شكودرا التي تضمّ ألبانيا الشمالية. استولى الشيوعيون على جنوب ألبانيا، وتجمعت القوات اليمينية في شكودرا، وعيّنته الحكومة قائداً عاما للدفاع عنها. ولكنه لاحظ بعد أيام أن المعركة خاسرة فخاطب زملاءه قائلاً "لن أتحمل مسؤولية حرب أهلية [. . .] هذا الشعب يبدو أنه يميل إلى الشيوعية لأنه لا يعرفها [. . .] ولكن عندما يعرفها جيداً سيكون الوقتُ متأخراً جداً".
انسحب ماتو مراد مع كثير من الزعماء القوميين إلى إيطاليا التي حاربها في شبابه. وغدتْ إيطاليا معسكراً كبيراً للاجئين الألبان الهاربين من الحكم الشيوعي الجديد.
من المعسكرات الإيطالية بدأت قصة نزوحٍ ألبانيّ جديد إلى دمشق. وهي قصة يرويها شوكت غاوجي في كتابه. يقول غاوجي إنه قابلَ الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بيك، الذي تنحدر والدته من أصل ألباني، وبعد ذلك أصدرت وزارة الخارجية السورية تأشيرات دخول للاجئين الألبان في المعسكرات الإيطالية. وبأمْرٍ من القوتلي استأجرت وزارة الأوقاف ثلاثة فنادق مع الغرف الموجودة في التكية السليمانية، وساعدتهم بعضُ الجمعيات الخيرية مالياً. استمرّ ذلك حتى وصول اللاجئين الفلسطينيين عقب نكبة 1948، فوُجّهت مواردُ الجمعيات الخيرية والدولة إليهم.
كانت هذه موجة الهجرة الألبانية الثالثة إلى سوريا منذ بداية القرن العشرين، ويلاحَظ أنها كانت هجرة مثقفين وضباط بسبب وصول الشيوعيين إلى الحكم. وانضمّ منهم الضابطان مول باير الحتاني وحمزة دريني إلى جيش الإنقاذ، الذي حارب في فلسطين بقيادة الضابط السوري فوزي القاوقجي. أما الضابط الألباني نشأت كولونيا، فانضمّ إلى الجيش السوري وحمل رتبة نقيب حتى تقاعد سنة 1956.
وتضيء قصة ماتو مراد على تجمعات أخرى للألبان لم تقتصر على مدينة دمشق.
يقف قصر الأرناؤوط في منتصف مدينة حماة شاهداً على هذا الحضور الألباني الذي سبق الهجرات. يعود تاريخ القصر إلى حاكم حماة في العهد العثماني في القرن السابع عشر أحمد باشا الأرناؤوط، إذ انتهى بناؤه سنة 1620. تحوّل القصر في عهد الانتداب الفرنسي إلى مقر للفرنسيين، وبعدها إلى مقر للسجل المدني، ثم إلى سجن مركزي لمحافظة حماة. واستمر كذلك حتى سنة 1982 حين قصفته دبابات نظام الأسد التي اجتاحت المدينة في أثناء صراع النظام ضد الإخوان المسلمين الذي انتهى بمذبحة حماة. دخل بعدها في طور الإهمال والنسيان، مع أن وزارة السياحة السورية طرحته عدة مرات موقعاً استثمارياً دون جدوى.
سكن مدينة حماة عدة عائلات من الألبان أغلبهم ينحدرون من كوسوفو، وانخرط بعضهم في أحداث الثمانينيات، في الصراع بين الإخوان المسلمين وحافظ الأسد، بينهم الطبيب هشام الأرناؤوط الذي نُفي وشُطب من نقابة الأطباء في سوريا وقتئذ. وبعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024 عاد إليها، واستعاد عضويته في نقابة الأطباء التي ألغاها النظام السابق. والطبيب هشام هو شقيق بسام الأرناؤوط، الذي كان من قادة تنظيم الطليعة المقاتلة (تنظيم مسلح أسسه عناصر الإخوان المسلمين في السبعينيات)، ونفذ عمليات أمنية ضد ضباط نظام الأسد حتى مقتله سنة 1980.
تنحدر عائلة بسام الأرناوؤط من إقليم كوسوفو، وقد وصلت حماة مع الهجرة الألبانية الأولى واندمجت مع سكان المدينة. صعد اسم بسام أواخر السبعينيات حين أرسل النظامُ اللواءَ محمد قوشجي محافظاً لحماة، فانتشرت قصص شعبية عن شجاعة بسام في مواجهته. إحداها أن المحافظ استقبل وفداً من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، فدخل بسام متنكراً بزيّ رجل دين مسيحي، وحين كان المحافظ يودعّ الوفد عرّفه بسام على شخصيته الحقيقية واختفى ما أرعب المحافظ.
لم تكن إسهامات الألبان في سوريا مقتصرة على هذا النشاط العسكري، فقد كان إسهامهم الثقافي والديني أكبر.
يقول الألباني إن نعم الله عليه كثيرة أهمّها اثنتان، وهما "هجرة والدي إلى الشام ثم تعليمه إياي مهنته في إصلاح الساعات. أما الأولى فقد يسرت لي تعلم العربية، ولو ظللنا في ألبانيا لما توقعت أن أتعلم منها حرفاً، ولا سبيل إلى كتاب الله وسنة رسوله إلا عن طريق العربية. أما الثانية فقد قيضت لي فراغاً من الوقت أملؤه بطلب العلم، وأتاحت لي فرص التردد على المكتبة الظاهرية وغيرها ساعات كل يوم"، حسب ما روى عنه محمد المجذوب في كتابه "علماء ومفكرون عرفتهم" المنشور سنة 1999.
في المقابل نجد شخصية ألبانية انتقلت من الرابطة العثمانية إلى القومية العربية، دوّن سيرتها الكاتب السوري الشركسي نزار أباظة في كتابه "أديب الصحفيين وصحفي الأدباء معروف الأرناؤوط" المنشور سنة 2011. استند فيها إلى كلمة عضو مجمع اللغة العربية في دمشق سامي الدهّان الذي خلف معروفاً في كرسي المجمع بعد وفاته سنة 1948، وجعل كلمة استقباله عن صديقه.
وُلد معروف في بيروت سنة 1892، بعد أن أوفدت السلطنة العثمانية جدّه حسن آغا المولى لإدارة الأمن في بيروت بعد انسحاب قوات إبراهيم باشا من بلاد الشام سنة 1840. وبعد إتمام معروف دراسته وتخرجه، انهمك في الكتابة وترجمة المسرحيات والروايات من الفرنسية إلى العربية، وبدأ انحيازه إلى العروبة حينها. مع بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914 سيق إلى الخدمة العسكرية في إسطنبول، ومن هناك تابع أهوال الحرب وأخبار البلاد العربية، وبعد سنتين فرّ من الجيش العثماني والتحق بقوات الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي في مدينة العقبة (في الأردن حالياً). ودخل مع جيش الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق في أكتوبر 1918 وشهد قيام الحكومة العربية. انضمّ في دمشق إلى النادي العربي الذي ضمّ المثقفين والمناضلين في الحركة العربية، وكانت رسالة النادي "العمل على إحياء تاريخ العرب ومجدهم وتحقيق وحدتهم".
بدأ معروف مشواره مع الصحافة، فترأس تحرير جريدة "الاستقلال العربي" التي ورثت جريدة "الشرق" العثمانية، بتكليف من الأمير محمد سعيد الجزائري الذي تولى حكم دمشق قبل دخول قوات الثورة العربية. ثم أصدر مجلة "العَلَم العربي" سنة 1919 التي أصدرت عدداً واحداً فقط، وأسس جريدة "فتى العرب" سنة 1920 التي استمرت بإدارته حتى وفاته. وكتب مسرحيات وروايات كثيرة ذات نزعة قومية عربية واضحة، بينها مسرحيته عن القائد العثماني أحمد جمال باشا الملقّب "السفاح" سنة 1919، وروايته الأشهر "سيد قريش" سنة 1929، التي كانت سيرة للعرب منذ الجاهلية حتى بعثة النبي محمد. وانتُخب بعدها عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1930.
برزت شخصيات ألبانية أخرى في الفنّ السوري المعاصر، يذكرها المؤرخ محمد موفاكو الأرناؤوط في كتابه "هجرة الألبان إلى دمشق". من أبرزها الرسّام التشكيلي أنور الأرناؤوط الذي استوحى الحرف العربي في كثير من رسوماته، وكان والده ضابطاً عثمانياً استقر في دمشق. عمل أنور في وزارة الثقافة السورية، إذ أشرف على تنظيم المعرض السنوي للفنانين السوريين في المتحف الوطني الذي افتتح إحدى دوراته الرئيس السوري شكري القوتلي سنة 1957. من الألبان المؤثرين ثقافياً أيضاً الشاعر والرسّام عبد القادر الأرناؤوط الذي عمل أيضاً في وزارة الثقافة، والرسّام زهير جلال الدين الذي رسم معالم دمشق الأثرية، وبين الشعراء السوريين الألبان الشاعر مصطفى خلقي، والإخوة الثلاثة عبد القادر وعبد اللطيف وعائشة الأرناؤوط.
هاجر الألبان إلى دمشق بعد سنوات قليلة من هجرة الجزائريين، الذين أصبحوا جالية مؤثرة في المشهد السياسي والثقافي أيضاً.
بدأت الهجرات الجزائرية إلى المشرق العربي منذ سنة 1832، بحسب هلال، وارتبطت بقرارات الاحتلال الفرنسي وتزايد اضطهاده الجزائريين، مدفوعة بأسباب دينية واقتصادية وسياسية. فكما شهدت بلاد البلقان فتاوى أنها "دار كفر" بعد انسحاب السلطنة العثمانية منها، دفعت رغبةُ العيش في بلاد تحت حكمٍ إسلاميّ الجزائريين إلى الهجرة.
ساهمت الطرق الصوفية المنظمة في هجرة الجزائريين إلى سوريا. ففي سنة 1847 أرسل أحد شيوخ الطرق الصوفية من قبائل الزواوة عشرات العائلات إلى سوريا، وهاجر هو نفسُه عندما أبدت فرنسا نية واضحة لاحتلال بلاد القبائل في شمال شرق الجزائر. وكانت هذه أولى الهجرات الجماعية إلى سوريا بحسب هلال.
وفي المقابل شجّعت السلطنة العثمانية الجزائريين على الهجرة نحو ولاياتها في الشام، وأسس السلطان عبد الحميد الثاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مكتباً خاصاً لذلك، وأوفد دعاة من إسطنبول إلى الجزائر لحثّ السكّان على الهجرة.
حصل التحوّل الأهم في الهجرات الجزائرية عند استقرار الأمير المنفيّ عبد القادر الجزائري في دمشق سنة 1856، قادماً برفقة مئة وعشرة أشخاص من عائلته ورفاق ثورته، بعد هزيمته واستسلامه أمام الفرنسيين في الجزائر سنة 1847. ضمّت هذه الهجرة متعلّمين ووجهاء وجدوا موقعهم فوراً بين أعيان دمشق ونخبتها، ووجّه وجود الأمير أنظارَ الجزائريين إلى دمشق موقعاً للاستقرار بعيداً عن حكم الفرنسيين، ومكانَ تجمّع للمقاومين وعوائلهم.
بحسب هلال، تضاعف عدد الجزائريين عشرَ مرّات في دمشق بعد أربع سنوات من استقرار الأمير عبد القادر هناك، وتحوّلوا إلى مجتمع مؤثر في المدينة سكانياً وعسكرياً. ففي أحداث سنة 1860 التي شهدت هجوماً على المسيحيين ومذبحة بحقهم في دمشق، جنّد الأمير ألفاً من أتباعه لحماية المسيحيين، وكان بمثابة الحاكم غير الرسميّ للمدينة.
بعد استقرار الأمير في دمشق أصبحت الهجرة الجزائرية أشبه بنهر صغير مستمرّ الجريان، ولكنّه يمرّ بمواسم فيضان. فقد كانت الهجرة تزداد عند كل اضطراب بسبب المستعمر الفرنسيّ، أو بسبب مواسم الجفاف والجوائح الطبيعية في الجزائر. فقد تسببت هزيمة بعض الثورات بهجرات أخرى، مثل هزيمة ثورة "أولاد سيدي الشيخ" سنة 1864، وثورة "الشيخ بوعمامة" سنة 1888. وسببتْ مواسمُ الجفاف والمجاعة التي ضربت الشرق الجزائري موجاتِ هجرة كبرى في عدة سنوات بين 1888 و1911 من بينها "هجرة تلمسان الكبرى".
في دراستها "الهجرة الجزائرية إلى بلاد الشام في مطلع القرن العشرين" المنشورة سنة 1987، تقول الكاتبة الجزائرية ناديا طرشون إن ما حرّض على الهجرة قانونان أصدرتهما فرنسا. هما قانون فصل الدين عن الدولة سنة 1907 وقانون التجنيد الإجباري سنة 1910.
هدّد القانونُ الأول المساجدَ بالإغلاق، لأنه رفع عن الدولة التزام تمويل المساجد، خاصة بعدما وضع الفرنسيون يدهم على الأوقاف وألحقوها بأملاك الدولة مقابل تعهدهم برعاية المساجد. شعر الجزائريون بتضييق ديني أكبر، زاده أن الفرنسيين كرروا منع السفر إلى الحج بقرار رسمي، كما فعلوا بين سنتي 1898 و1902، ثم سنة 1908. وفي بقية السنوات عقّدت إجراءات استخراج جواز السفر اللازم للحجّ.
أما القانون الثاني فقد استهدفت به فرنسا تداركَ نقص عدد المجندين الفرنسيين بعد تخفيض مدة الخدمة الإلزامية من ثلاث سنوات إلى سنتين، وقررت تعويضهم بالتجنيد الإجباري للجزائريين، بعد أن كان الانضمام للجندية طوعياً قبلها. شعر الجزائريون وقتها أنهم سيُرسلون أبناءهم لمقاتلة إخوانهم المسلمين مع الجيش الفرنسي الذي يحارب في مراكش (في المملكة المغربية)، وأن فرنسا تسلبهم أبناءهم بعد أرضِهم. ولكنه أثار أيضاً مخاوف أطراف أخرى، فالمستوطنون الفرنسيون في الجزائر خافوا من تدريب الشبان الجزائريين على السلاح. والألمان الذين كانوا حلفاء العثمانيين توجّسوا من زيادة عدد الجيش الفرنسي فشجعوا الهجرة لتخسر فرنسا جنودها المحتملين، بحسب دراسة طرشون.
كانت النتيجة موجة هجرة غير مسبوقة نُسبت إلى أهالي تلمسان في غرب الجزائر، ولكنها ضمّت في السنوات نفسها أعداداً كبيرة من شرقها أيضاً، حسب هلال.
كان من الرواد الأوائل لهذه الهجرة موظف حكومي اسمُه سي الأخضر في وادي الشولي التابع لتلمسان، هاجر مع أفراد عائلته مع أن الفرنسيين لم يتعرضوا له، وحين وصل دمشق راسل معارفه لإغرائهم بالهجرة. تبدو دمشق في مراسلاته التي نقلتها طرشون أشبه بأرض أحلام، فهناك يتخلصون من تسلط الفرنسيين، ويعيشون بترحيب أهل الشام والحكومة العثمانية، ويمكنهم فتح مقاهٍ ومصالح تجارية بمبالغ بسيطة دون ترخيص.
أحد أحفاد هؤلاء المهاجرين الطبيب ناصر بوكلي الذي كان محاضراً في برامج الصحة العامة والأوبئة ضمن وزارة الصحة السورية، وتعرفت إليه هناك حين كنت أختصّ بطبّ الجلدية في تسعينيات القرن العشرين. وبعد سنوات طويلة عرفت أنه من أبناء المهاجرين الجزائريين من تلمسان، وأنه لم يزر مدينة أجداده سوى سنة 2012 بعد اضطراره للخروج من سوريا خلال الثورة. في هجرتهم الأولى من تلمسان غادر جدّه وشقيق جدّه وابن عمّهم مع عائلاتهم، فخرجوا إلى مراكش أولاً ومنها أبحروا إلى بيروت ثم وصلوا دمشق. نبّهني بوكلي أن اسم "حارة المغاربة" في دمشق قُصد بها الجزائريون.
سألت بوكلي إن كان قد استردّ الجنسية الجزائرية، كما فعل كثير من أحفاد المهاجرين الجزائريين، خاصة بعد الثورة السورية سنة 2011. ولكنه أخبرني أنه وعائلته لم يحملوا الجنسية السورية أصلاً، لأن جدّه احتفظ بجنسيته الأصلية حين وصل دمشق، وكان تاجراً كثير الأسفار ما حماه من القانون الفرنسي الذي يقضي بإسقاط الجنسية الجزائرية عمّن يتغيّب عن فرنسا ومستعمراتها ثلاث سنوات.
لعلّ هذه العائلة تقدّم نموذجاً مختلفاً عن المهاجرين الجزائريين الذين اندمجوا تماماً في سوريا وقطعوا صلاتهم القانونية ببلدهم الأم. وكان هؤلاء المهاجرون أسماء معروفة، أثّرت في الحياة الثقافية والسياسية في سوريا طيلة قرنين.
كان الجزائريون محلّ ترحيب في دمشق. ولم ينظر لهم سكّانُها على أنهم غرباء، وهم لم يتصرفوا كذلك. لم يقتصر دور المهاجرين السياسي في دمشق على الأمير عبد القادر الجزائري، بل ساهم بقية المهاجرين وجيل أبنائهم وأحفادهم كذلك في الحياة السياسية السورية.
بين هؤلاء كان سليم الجزائري، الذي وُلد في دمشق بعد نحو ثلاثين سنة من قدوم جده الفقيه المالكيّ صالح السمعوني سنة 1847، الذي أصبح مفتي المذهب المالكي في دمشق. كان سليم شاعراً وباحثاًِ في الرياضيات وضابطاً في الجيش العثماني حقق إنجازات عسكرية كبيرة، إذ كان أحد القادة العسكريين في المعركة التي استعادت أدرنة من البلغاريين سنة 1913، وشارك في المعارك بين العثمانيين وقوات الحلفاء في مضيق الدردنيل بين سنتي 1915 و1916. وحينها نُقل إلى إزمير ثم لبنان، حيث اعتُقل وأعدم مع ناشطي الحركة العربية في السادس من مايو 1916 في بيروت، بسبب نشاطه في الحركة وعضويته في جمعيات العهد والقحطانية وفتيان العرب، التي طالبت بحقوق العرب ضد سياسة جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة آنذاك.
وتولّى الأمير سعيد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر، حكمَ دمشق مع انسحاب القوات العثمانية، وأسس فيها أول حكومة عربية وسورية في سبتمبر 1918 استمرت أياماً قبل دخول قوات الأمير فيصل. وبعد عقود غادر دمشق إلى الجزائر برفقة جثمان جدّه، وكتب هناك سيرته "مذكراتي عن القضايا العربية والعالم الإسلامي" سنة 1968.
وشارك حفيدٌ آخر للأمير عبد القادر، هو عز الدين الجزائري، في قيادة معارك الثورة السورية الكبرى التي اندلعت ضد الانتداب الفرنسي سنة 1925، حتى أعدمه الفرنسيون في مايو 1927 بعد نفاد ذخيرته في معركة "عين الصاحب" بريف دمشق. ودرس سيرتَه الباحثان الجزائريان وسيلة زويجة وحمادي بن موسى في دراستهما "الجزائريون في بلاد الشام ودورهم في الثورة السورية الكبرى" المنشورة سنة 2022.
وفي الثورة السورية سنة 2011، شارك سوريون من أحفاد المهاجرين الجزائريين في المظاهرات والنشاط الثوري. كان بينهم أحد أحفاد الأمير عبد القادر، وهو طبيب الأسنان والفقيه خلدون الحسني الجزائري. وقد اعتقلته قوات النظام السابق في يونيو 2012، وبعد سقوط النظام عُثر على وثائق تؤكد إعدامه في سجن صيدنايا في أغسطس 2015.
كانت مشاركة السوريين الجزائريين بارزة أيضاً في تأسيس التعليم في سوريا، ولعلّ أشهرهم طاهر الجزائري وجودت الهاشمي. أما طاهر فهو ابن الفقيه صالح السمعوني. وُلد في دمشق سنة 1852، وساهم في تأسيس مدارس دمشق الابتدائية في العهد العثماني بتأسيسه مع علماء آخرين الجمعية الخيرية الإسلامية التي تحوّلت إلى ديوان المعارف سنة 1879. بات ديوان المعارف هو المؤسسة المسؤولة رسمياً عن التعليم. وفي السنة نفسها أسس المكتبة الظاهرية التي جُمعت فيها المخطوطات والكتب النادرة من مكتبات دمشق العامة والخاصة، وأسس بعدها مكتبات عامة في سوريا وفلسطين.
ولطاهر الجزائري عشرات المؤلفات التي كرست مكانته العلمية الدينية. وقد انتُخب في عهد الحكومة العربية لعضوية مجمع اللغة العربية بدمشق عند تأسيسه سنة 1919، ثم توفي بعد سنتين. وفق كتاب أستاذ كلية الشريعة في جامعة دمشق حازم زكريا محيي الدين "الشيخ طاهر الجزائري: رائد التجديد الديني في بلاد الشام" المنشور سنة 2001
وأما جودت الهاشمي، واسمه الأصلي أحمد الحسني، فكان من رواد التعليم أيضاً. وُلد الهاشمي في سورية سنة 1887. وبعد دراسته الرياضيات في باريس وقيام الحكم الفيصلي، عاد إلى سوريا وشهد بداية الانتداب الفرنسي سنة 1920. وضع الهاشمي مناهج رياضيات عربية لقطع الطريق على محاولة الانتداب التدريس باللغة الفرنسية. وكان يدرّس الرياضيات في "مكتب عنبر" المؤسس منذ العهد العثماني، والمدرسة الثانوية الحكومية الوحيدة في دمشق وقتها. ثم تولّى إدارة أول مدرسة ثانوية حكومية تأسست في سوريا بعد العهد العثماني، هي مدرسة التجهيز التي افتُتحت سنة 1936 وحملت اسمه بعد وفاته سنة 1955. وعُيّن مديراً عاماً للمعارف السورية سنة 1943.
في سنة 1966 شق جثمان الأمير عبد القادر طريقه من دمشق إلى الجزائر بمراسم احتفالية رسمية، ليُعاد دفنُه في الجزائر. وبعد ذلك حصلت هجرةٌ عكسية للسوريين نحو الجزائر بعد انقلاب حافظ الأسد وتولّيه الحكم في سوريا سنة 1970، حين فرّ بعض أعضاء جناح حزب البعث المنافس الذي انقلب عليه الأسد، بينهم وزير الخارجية قبل الانقلاب إبراهيم ماخوس.
قبل منفاه شبه الإجباري عقب انقلاب الأسد، شارك ماخوس مع أطباء سوريين آخرين في الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي عبر خدمتهم في المستشفيات التي تداوي جرحى المقاومة أواخر خمسينيات القرن العشرين. وكان بين من شاركوا في الثورة الجزائرية أيضاً، الرئيس السوري السابق نور الدين الأتاسي، ورئيس الوزراء يوسف زعين، وكلاهما من الجناح البعثي الذي انقلب عليه الأسد لاحقاً، واعتقلهما.
هاجر السوريون المعارضون إلى الجزائر، وشكلوا مجتمعاً مصغراً هناك، ومُنح بعضهم الجنسية الجزائرية. ومثل المهاجرين الجزائريين إلى سوريا، فقد اندمج أبناء المهاجرين السوريين في المجتمع الجزائري.

