تُنسَب هذه المقولة إلى إبراهيم بن أدهم، الزاهد المتصوّف من القرن الثاني الهجري. بين طيّات العبارة إشارةٌ إلى حالة الصفاء الروحي التي يعيشها أهل الزهد والتصوف، ممّن تركوا الدنيا وزينتها تقرّباً إلى الله. وفي هذا القرب لذّةٌ وسموٌّ وجدانيٌّ بلغَ من سموِّه ونعيمِه أن يستلّ الملوك سيوفهم لينالوه. وفي هذا التجرد الروحي والسموّ الوجداني بُعدٌ تعبّديٌّ ارتبط في مخيّلة كثيرين بعزلة المتصوّفة، مرتدِي الصوف أو الخرَق، التي أبلاها الزمن في كهوفٍ أو صوامع بعيداً عن ضوضاء البشر. لكنه تجردٌ غير محصورٍ في هذا البعد التعبّدي الصرف. فمنذ القرون الإسلامية المبكرة، اختلط الفنّ الصوفي بحياة الناس. فاستعار من نثرهم وشعرهم وأنغامهم وسائل للتعبير عن الروحانية والتقارب مع الله.
يُعتقد أن الفن الصوفي عُرف في بداياته في المساجد تواشيحَ وابتهالاتٍ وقصائدَ وأناشيدَ دينيةً في مدح النبيّ محمد. وجد هذا الفنّ تعبيراً ووسيلةً له كذلك في التمثيل الفنّي البَصَري، في الخطّ العربي والمنمنمات والزخارف والعمارة الإسلامية، بل حتى في لغة الجسد وتمثَّل في رقص الدراويش.
تطوّر الفن الصوفي ليخرج من المسجد وحلقات الذكر إلى الفضاء العامّ الأوسع، في الحفلات والمناسبات الدينية، مثل ذكرى المولد النبوي. ففضلاً عن كونه ممارسةً روحانيةً سِمَتُها الخلوة والتعبير الرمزي، أضحى ممارسةً شعبيةً ذات بعدٍ روحانيٍّ دينيٍّ أيضاً، وجزءاً من الميراث الفنّي الشعبي. ففي مصر مثلاً، تنتشر عدّة طرقٍ صوفيةٍ مثل الرفاعية والشاذلية. لكلّ منها نمطٌ فنّيٌّ فريدٌ يتراوح بين الصوت الهادئ والإيقاع الحماسي. التعددية الفنية الصوفية ذاتها نجدها في الميراث الشعبي في بلدانٍ إسلاميةٍ أخرى. في جنوب شرق آسيا ووسطها وحتى بلاد المغرب العربي، وعَوْداً منها إلى سواحل الخليج العربي، وسلطنة عُمان ليست عن هذا بمعزل. للفنون الشعبية في عُمان جذورٌ تاريخيةٌ وحضورٌ اجتماعيٌّ واسعٌ، يبرز منها ويندمج فيها الفن الصوفي التقليدي.
وفيما نظر المذهب الإباضي السائد في سلطنة عُمان بشيءٍ من التسامح مع المنحى الصوفي وتعبيراته الفنية، خضعت اتجاهات المجتمع العماني، سواءً نحو التصوّف أو انصرافاً عنه، لظروفٍ تاريخيةٍ ومقولاتٍ مذهبيةٍ وتحولاتٍ اجتماعية. فقد اتفقت الإباضية والسلفية في اعتبار الصوفية الطرقية، والفلسفية، انحرافاً عقدياً وبدعة. هاجمت السلفية التصوّفَ بأشكاله المختلفة بخطابٍ سلبيٍّ. كان موقف الإباضية أقلّ حدّةً إزاء التصوف غير الفلسفي أو الطرقي، وحاولت تقديم بدائل إباضيةٍ للتصوف تركّز على الجانب السلوكيّ أو الخطابيّ منه.
في السنوات الأخيرة رافق الفنونَ التقليدية صعود نشاطات الفن الصوفي الحداثي، وشهدت حفلات الفرق الصوفية التي نظّمتها المؤسسات الثقافية إقبالاً شعبياً ملحوظاً. وأبرز هذه المؤسسات، دار الأوبرا السلطانية ومؤسسة بيت الزبير. بدأ المجتمع النبشَ في ذاكرته بحثاً عن الفنون التي شكّلت هويته الثقافية والدينية. ولعلّ هذا الصعود يكشف بحث المجتمع عن أنماط تديّنٍ جديدةٍ ومساحات هروبٍ من حالة الاغتراب السياسي والأزمات الاقتصادية. لكن هذه الحفلات واجهت أيضاً نقداً دينياً لم تستجب له السلطة السياسية. فهي تمثّل نشاطاً ثقافياً ودينياً مغايراً للتيار التقليدي السائد، وتمثّل مظهراً للصراع على تمثيل المجال العامّ وثقافة المجتمع.
الحمد لله الذي هدانا … آمين للدين والإسلام واجتبانا … آمين
سبحانه مِن خالقٍ سبحانه … آمين بفضله عَلّمَنا القرآن … آمين
نحمده وحقُّه أن يُحمدا … آمين ما ظَهَر الزُهْرُ وما طاح الندى … آمين
ثم الصلاة كلّما الحادي حَدا … آمين على النبيّ الهاشمي محمّدا … آمين
وكذلك تبرز التهلولة في الفن الصوفي، لاسيما في ولايات المنطقة الشرقية والداخلية. وهي احتفالٌ يقام في الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة، تبشيراً بقرب عيد الأضحى. يسير المنشد وخلفه صِبيةُ مدرسة القرآن الكريم وغيرهم هاتفين في كلّ بيتٍ شعريٍّ بالدعاء: "الله أكبر ولله الحمد" أو "سبحان الله لا إله إلا الله". وتبرز الشعبانية، وهي احتفالٌ في ولاية صور في المنطقة الشرقية في عُمان، ينطلق في ليلة النصف من شعبان. كذلك احتفال وداع رمضان، و"أحمد الكبير" الذي يؤدَّى في ولاية ظفار ثاني أيام عيد الأضحى.
كذلك فإن بعض الفنون الإيقاعية الجماعية في بعض مناطق عُمان، وخاصةً محافظة ظفار، ترتبط بالإنسان واغترابه ومصيره. أبرزها فنّ "الدان" الجنائزي في مدينة مرباط، وتشارك المرأة فيه الرجل. يَضرب فيه صفّ الرجال الأرضَ بأيديهم إيقاعياً، تعبيراً عن الحزن والمواساة.
ويبقى في مقدّمة الفنون الدينية "المالَد"، وهو تحريفٌ صوتيٌّ لكلمة المولد باللهجة الشعبية في سواحل شمال سلطنة عُمان. تنشَد في المالد مدائح نبوية غالباً. ولكن طقوس المالد الأكثر تصوفاً تنشد قصائد عن الأولياء الدينيين. يؤدّى النشيد بأساليب غنائيةٍ شعبيةٍ تقليديةٍ كادت تندثر.
وقد يلتقي فنّ المالد بالبَرْزَنْجي. كلّ مقطوعةٍ في غناء البرزنجي تسمّى "الرواية"، وفي ختام كلّ مقطعٍ يصلّى على النبيّ. وهو فنٌّ يعتمد أساساً قراءةَ سيرة النبيّ محمد بترتيلٍ معيّنٍ من كتاب البرزنجي، نسبةً للإمام وأحد أعيان المدينة المنورة في القرن التاسع عشر، جعفر بن إسماعيل البرزنجي. كذلك قد تُقرأ مقاطع من كتاب "التعطيرة الشريفة" للفقيه المصري محمد عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة 1622.
تحول فنّ المالد إلى نوعٍ من العلاج الروحي أيضاً، إذ يستدعي المنشد والمؤدّون أسماء الأولياء الأموات على إيقاع الدفوف وأصوات "الهوّيمة". وهؤلاء مجموعةٌ تنشد المقاطع جماعياً، مترافقةً مع استجاباتٍ جسديةٍ من المستمعين. تقاليد العلاج الروحي ليست غريبةً عن المجتمع العماني، وتُعرف شعبياً بِاسم "ثقافة مدح الأولياء"، و"علم الأوفاق" الذي يعني أسرار الحروف الروحية وطاقتها الغيبيّة.
يشبه طقس المالد الصوفي رقصة الدراويش (الدوران حول النفس والتأمل) في البحث عن لحظة الانفصال عن العالم الحسّي. يبدأ المالد من الشعر الذي يلقيه المنشد الديني على رأس الحلقة، فيستجيب الهوّيمة بإيقاعاتٍ جسديةٍ وصوتيةٍ تعبيرية. وتصل هذه الممارسة الذروةَ بدخولها لحظة "المتدوخل"، فينفصل الشخص عن العالم الحسّي ليتداخل في "مقام الشهود" مع أرواح الأولياء الغائبين، وهي حالةٌ وجدانيةٌ عاطفية. حينها، يُظهر المتدوخل للحاضرين ممارساتٍ خارقةً للعادة، كأن يأكل الجمر ويضرب نفسه بالسيف دون أن يحترق أو يُجرَح أو يموت.
تحضر المقامات والأضرحة وطقوس الاستشفاء الروحي هذه في الذاكرة والممارسة الشعبية، تؤطّرها وتجعلها جزءاً مما يشبه العُرف أو الثقافة الشعبية. فمثلاً كان الأهالي يتوجّهون إلى ضريح السيد محمد بوكشيشة في ولاية المصنعة، في منطقة الباطنة في الجزء الشمالي من السلطنة. هناك كانوا يحلقونَ شَعْر المواليد الجدد لينالوا البركة والحماية في حياتهم المقبلة. ويأتي إليه من يريدون الخلاص من مسٍّ شيطانيٍّ ليطهّرهم، وتغنّى له أناشيد صوفية. في حين تنتشر في بعض المناطق طقوس "الزار"، وهي طقوسٌ شعبيةٌ تُضرب فيها الدفوف ويُنفث فيها البخور. وتنفذها عادةً امرأةٌ هي "شيخة الزار" لعلاج المريض بمسّ الجنّ أو الأرواح الشريرة.
تُظهر هذه الأمثلة حضور الفن الصوفي بأنواعه، وطقوس العلاج الروحي، في الثقافة الشعبية. وبالاقتراب من هذه الأمثلة أكثر، قد يتبيّن تأثير السياسات الدينية والرسمية على قبول ظهورها العلنيّ أو رفضه. وفي كلا الحالتين، تضع هذه السياسات الفن الصوفي في إطار الجدل بين قوالب تقليديةٍ يحكمها نظرةٌ متشككةٌ في مشروعيته الدينية والعقدية – بل حرَّمته – وأخرى تراه فرعاً أساساً من الثقافة والميراث العماني. وما فتئت هذه الأطر تصطدم في مناسباتٍ عدّةٍ في الفضاء العماني العامّ.
نظرت الإباضية إلى التصوف الطرقي والفلسفي باعتبارهما انحرافاً دينياً ومذهباً دخيلاً. ويشير التصوف الطرقي إلى منهجٍ يعتمد العلاقة بين الشيخ والمريد، إذ يتبع المريد طريقة الشيخ مسلكاً روحياً إلى اللّه. وفي التصوف الفلسفي، يستخدم التفكر والمقاربات الفلسفية طريقةً للوصول إلى المعرفة باللّه. وفيما نظرت الإباضية لنمطَي التصوف هذين بعين التشكّك، تسامحت مع الكتابة الصوفية الوجدانية أو السلوكية التي ترتكز على التجربة الداخلية والروحية للمتصوف، أي تلك التي تقترب من الله من خلال الحدس والعاطفة.
في كتاب مروان المذهلي المعنون "حوارات فكرية في التاريخ والتصوف والحريات" والمنشور سنة 2023، يتكلم الأمين العامّ لمكتب الإفتاء في عُمان أحمد بن سعود السيابي عن العلاقة التي ظهرت في بعض المراحل بين التصوف والإباضية. يرى السيابي أن التصوف "نشأ في الحجاز عندما رأى الحجازيون أن السلطة والدولة انتقلت إلى الشام في عهد الأمويين، وهذا أصابهم بالإحباط". يشترك التصوف هنا مع رأي الإباضية بأن الأمويين ظاهرةٌ سياسيةٌ منحرفةٌ، ومع رؤية الإباضيين أنفسَهم حركةَ تقويمٍ دينيٍّ اجتماعيٍّ ضدّ الانحراف السياسي التاريخي.
كذلك يرى السيابي أن التصوف كان في البيئة الإباضية محض خطابٍ، بلا انتماءٍ طرقيٍّ أو فلسفيٍّ أو تأويلٍ مجازيٍّ صوفيٍّ للعقيدة. أي أن التصوف الإباضي يختلف عن التصوف السنّي بعدم اعتماده الطرق والمدارس الصوفية التقليدية. إنما يسلك الوعظ والتذكير بالآخرة والتحذير من المعاصي منهجاً روحياً، مع التركيز على العمل الصالح طريقاً للّه.
بهذا بقيت الشخصيات الإباضية المتصوفة مؤمنةً بالعقيدة الإباضية باعتبارها نسخة الدِين النقيّة الصحيحة، كما بقي التصوف الطرقيّ وفنونه في خانة الانحراف الديني. وفي هذا الطرح مساحةٌ لفهم العلاقة بين الأوضاع الاجتماعية والفنون الدينية الصوفية. إضافةً إلى توترها في فتراتٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ، والسياق الذي فكّرت داخله الشخصيات الصوفية العُمانية الأبرز، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهُم الفقيه والشاعر جاعد بن خميس الخروصي، الملقّب في الوسط الديني "الشيخ الرئيس" تشبيهاً بِابن سينا. وكذلك المحقق سعيد بن خلفان الخليلي والشاعر أبو مسلم البهلاني. وقد وفّرت هذه الشخصيات الإباضية تصوفاً محلّياً خطابياً، يحمي المذهب من تأثيرات المذاهب الخارجية.
لكن هذا التصوف الإباضي البديل لم يلغِ التوتر بين الإباضية والتصوف الطرقيّ والعقديّ. ونجد مثالاً على العلاقة المتوترة بين التصوف الفلسفي الطرقيّ والمذهب الإباضي في زنجبار، التي كانت تاريخياً في حوزة التأثير الثقافي والسياسي العماني، في عهد السلطان برغش بن سعيد الذي حكم بين سنتَي 1870 و1888.
في كتابه "العمانيون والتدافع الاستعماري على أفريقيا" المترجم للعربية سنة 2022، يطرح جون ولكنسون شخصية علي بن خميس البرواني المتوفى سنة 1885. أشيع عن البرواني تحوّله من الإباضية إلى المذهب السنّي السائد في شرق أفريقيا والجزيرة العربية، بتأثير العلماء الشافعيين والطرق الصوفية. وكان البرواني مرجعاً للعلماء وعائلات السادة والأشراف في زنجبار، بينما كان السلطان برغش مدافعاً عن المذهب الإباضي المرتبط بالعمانيين في شرق إفريقيا وعُمان. ولم يسمح بمحاولات إخضاع رعاياه الإباضيين لمذاهب أخرى، إذ عَدَّ التحول عن الإباضية مدخلاً لتحول الولاء السياسي. لذلك زجّ البرواني في السجن، ما يعني أن التصوف كان مدخلاً للخلافات المذهبية والتوتر السياسي. ولذلك اتجهت شخصيّاتٌ أخرى لتقديم تصوفٍ شكليٍّ إباضيٍّ، كما أشار السيابي.
كان للسلفية امتدادان رئيسان في عُمان. الأول ارتبط بقبائل تتبع المذهب الحنبلي تاريخياً، مثل قبيلة بو علي في منطقة جعلان شمال شرق السلطنة. رفضت هذه القبيلة الانقياد للإمامة الإباضية في القرن التاسع عشر، كما يشير المؤرخ والفقيه الإباضي نور الدين السالمي في كتابه "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" المنشور سنة 1913. أما الامتداد الثاني، فكان من خلال هجرات العمل من عُمان إلى الدول المجاورة، مثل السعودية والإمارات. هذا بالإضافة إلى تأثير القنوات الإعلامية التي تنشر هذا الفكر. يسّر هذا التواصل التأثر الاجتماعي بالتديّن السلفي وموقفه من الصوفية والغناء.
وهكذا، لا ترتضي الإباضية التقليدية ولا السلفية التصوفَ مسلكاً دينياً صحيحاً. مع أن الإباضية حاولت احتواء نزعة تصوفٍ شكليةٍ من خلال الشخصيات التي قدّمت بديلاً إباضياً للتصوف، ولكنها نظرت إليها بحذرٍ أيضاً على أنها تهديدٌ سياسيٌّ وفكري. غير أن الثابت أن السلفية ترفض التصوف بحدّةٍ أكبر، سواءً بشكله الطرقي أو الفلسفي، أو فنّه التقليدي والحداثي. فهو بالنسبة للسلفيين نوعٌ من البدعة والضلال. كذلك، تتفق السلفية والإباضية في النظرة السلبية إلى الفنون الإيقاعية والموسيقية التي تستند إليها الفنون الصوفية. وهو ما يشير إليه الباحث العماني بدر العمري في كتابه "الجمال الصوتي" المنشور سنة 2025. فيقول إن "المذهب الإباضي في جملة تراثه فيما يتعلق بهذا الجانب يميل إلى التشدد، لذا أكثر الآراء تميل إلى التحريم".
لذا، لربما لم يكن مفاجئاً أن يصبح الفن الصوفي في الفضاء الثقافي العماني العام حديثاً، كما كان قديماً، مسرحاً للجدل وساحةً للشد والجذب بين المؤسسة الدينية التقليدية واعتبارات مؤسسات الدولة وأولوياتها.
بيدَ أن نشاطات المؤسسات الثقافية لم تمرّ دون اعتراضٍ ديني. فمثلاً في سنة 2013، تجمّع متظاهرون أمام دار الأوبرا السلطانية احتجاجاً على قراءة أحد أفراد فرقةٍ أمريكيةٍ سورة الفاتحة مع خلفيةٍ موسيقيةٍ، واعتقلت السلطات بعض المتظاهرين. أصدرت دار الأوبرا بياناً تعتذر فيه عن الحادثة، وتؤكد أنها لم تكن بدافع الانتقاص من القرآن.
وفي تعليقه على الحادثة، أكّد مفتي عُمان الشيخ أحمد الخليلي مبدأ تغيير المنكر والوقوف مع الحريصين على تنزيه القرآن عن "الترّهات واللهو". وقال إنه يرجو أن تتحول دار الأوبرا إلى دارٍ للقرآن الكريم "يُستبدل فيها باللهو والطرب الذكرُ وقراءةُ القرآن، ويتنافس فيها المتسابقون من حفظة القرآن الكريم، وهو خير ما يصحح به الخطأ". اعتبر الخليلي بذلك دار الأوبرا خطأً لا بدّ من تصحيحه، وأيّد التدخل في النشاط الفنّي.
أظهرت الحادثة الصراعَ بين تياراتٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ، وبين مؤسساتٍ ثقافيةٍ تحاول استعادة التراث الصوفي والخروج عن النمط الفنّي التقليدي المقبول في التديّن السائد. لم تستجب السلطة السياسية لنداءات التيار الديني تحويلَ دار الأوبرا السلطانية إلى معهدٍ دينيٍّ، فاستمرت بتنظيم احتفالاتٍ صوفيةٍ تقليديةٍ وحداثية.
وعبّرت فعاليات الدار بعد الحادثة عن رؤيتها الفنية الحداثية المدعومة بقرارٍ سياسيٍّ، في مقابل رؤية التيار الديني. في سنة 2016 استضافت الدار الفنانَ التونسي ظافر يوسف، الذي يمزج موسيقى الجاز بأشكالٍ صوفيةٍ حداثيةٍ تنتمي لمحاولة ابتداع روحانيةٍ جديدةٍ، تستلهم أشعاراً صوفيةً معزولةً عن السياق الديني التقليدي. وفي سنة 2018 أقامت الدار ليلة إنشادٍ ومديحٍ صوفيٍّ. استضافت فيها فرقة المسرّة اليمنية وفرقة الزاوية العمانية للسماع العرفاني، وفرقة رحوم البقالي النسائية المغربية. وهي فرقٌ تغنّي الأناشيد التقليدية بتجديدٍ فنيٍّ على مستوى الموسيقى والألحان. وفي سنة 2022 أقامت ليلةً إنشاديةً، استضافت فيها فرقة أريج العمانية ومجموعة الشيخ حامد داود للإنشاد والتراث السورية وفرقة الرقص المولوي الدمشقية، وهي فرقٌ تغنّي النشيد الصوفي التقليدي أيضاً.
الحاضنة الأخرى في عُمان للفن الصوفي التقليدي والحداثي هي مؤسسة بيت الزبير، وهي مؤسسةٌ خاصةٌ معنيةٌ بالثقافة والفكر والفنون تأسست سنة 2005. ويرتبط الجانب الفنّي للمؤسسة بالدور الاقتصادي والسياسي لمؤسسها الشيخ محمد الزبير، وهو رجل أعمالٍ من أسرةٍ حاضرةٍ في السياق السياسي. أقامت المؤسسة مهرجانها الأول للموسيقى الصوفية سنة 2008 باستضافة فرقٍ صوفيةٍ من العالم الإسلامي، بينها فرقة سالار عقيلي الإيرانية، وفرقة الزاوية العمانية. نظّمت المؤسسة دورتين بعدها في سنتَيْ 2023 و2025.
سعت المؤسسة إلى توطين الفن الصوفي في عُمان. واستدعت مهرجانات المؤسسة شخصياتٍ صوفيةً وثقافيةً من تراث المجتمع العماني، كما فعلت فرقة الزاوية في إنشاد قصائد الشخصيتين الصوفيتين أبي مسلم البهلاني وابن أبي نبهان الخروصي. ويبدو استدعاء نماذج حداثيةٍ، مثل ظافر يوسف أو فرقٍ غير عمانيةٍ، مظهراً للإقبال على أنماطٍ فنيةٍ وثقافيةٍ جديدةٍ في المجتمع العماني. هذا وإن لم يكن ثمّة تماهٍ من المؤسسة الدينية التقليدية، على الأقلّ تجاه بعض مظاهر الفن الصوفي في الفضاء الثقافي العامّ.
ولكن يبقى الصراع بين التيار الديني السائد في عُمان والفنون الصوفية التقليدية والحداثية غير منتهٍ. ومع أن هذه الفنون التقليدية استمرت شعبياً، ونظمت المؤسسات الثقافية بموافقة الدولة احتفالات الفنون الحداثية، فإن موقعها في المجتمع مازال مضطرباً، وربما يشهد اعتراضاتٍ دينيةً واجتماعيةً إضافيةً مستقبلاً.
