التعديلات الدستورية، التي أَنْهَت تجربةَ التمثيل السياسيّ قصيرةَ الأمد، قُدِّمَت حلّاً لحالة التمييز بين المواطنين ومنعاً لتسييس الهويّات الفئوية داخل النسيج الاجتماعي القطري. هذا ما أكّده رئيس مجلس الشورى المنحلّ حسن بن عبد الله الغانم، في بيانٍ صحفيٍّ صادرٍ بتاريخ 28 أكتوبر 2024 من وكالة الأنباء القطرية، عندما قال إن التعديلات الدستورية جاءت للحفاظ على وحدة الشعب وتعزيز المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات وتعزيز اللحمة الوطنية وتوطيد أركان الدولة القائمة على العدل وسيادة القانون. هذا التلميح إلى تأثير الانتخابات على النسيج الإجتماعي نجده صريحاً في خطاب الأمير تميم آل ثاني في آخِر دور انعقادٍ لمجلس شورى الدولة في 15 أكتوبر 2024. فقد ذكر أن "مجلس الشورى ليس برلماناً تمثيلياً في نظامٍ ديمقراطيٍّ، ولن تتأثر مكانته وصلاحياته سواءً اختير أعضاؤه بالانتخاب أم بالتعيين". وذكر أيضاً أن "كلّنا في قطر أهل. والتنافس بين المرشّحين للعضوية في مجلس الشورى جرى داخل العوائل والقبائل، وهناك تقديراتٌ مختلفةٌ بشأن تداعيات مثل هذا التنافس على أعرافنا وتقاليدنا ومؤسّساتنا الاجتماعية الأهلية وتماسكها، إذ يتّخذ طابعاً هويّاتياً لا قِبَل لنا به، وما قد يَنجُم عنه مع الوقت من ملابساتٍ نحن في غنىً عنها".
قِصَرُ عُمرِ التجربة الانتخابية وما رافقها من توتّراتٍ قَبَليةٍ قد يَدفع لاستعجال الاستنتاج بأن المشاركة السياسية الديمقراطية لا تناسب المجتمعات العربية عامّةً والخليجية خاصّة. وقد يقال إن التجربة القطرية ليس لها عمقٌ اجتماعيٌّ وإنما سببُها الوحيدُ الأزمةُ الإقليميةُ بين قطر وخصومِها الأربعة، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، التي بدأت سنة 2017، وبانتهاء الأزمة سنة 2021 انتهت هذه التجربة البرلمانية. إلّا أن نظرةً أعمق في التاريخ السياسي القطري يكشف أن القوى والحركات الاجتماعية لم تفتأ تطالِب بالمشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرار. صحيحٌ أن تجربة (2021-2024) جاءت متأثّرةً بسياق الأزمة القطرية، إلّا أن النصوص الدستورية لهذه التجربة كُتبت سنة 2004 متأثّرةً بسياق حراكٍ مَطْلَبيٍّ تشكّل بعد حرب الخليج الثانية. أخيراً، إذا أنعمنا النظرَ في تنظيم انتخابات مجلس (2021-2024) وإدارتها والصلاحيات الحقيقية التي مُنحت لأعضاء المجلس، لَمَسْنا الدورَ الذي أدّته الحكومةُ وقوانينُها المتعلّقة بالجنسية في تسييسِ الهويّات القَبَلية وجعلِها تفعل فعلها في تلك الانتخابات.
قدمت بريطانيا سنة 1958 اقتراحين لإصلاح النظام الإداري والسياسي في قطر. استوحت الاقتراحَ الأوّلَ من نموذج الكويت، بأن ينشأ مجلس شيوخٍ يتولّى التنسيق بين المجالس المحلية والحكومة. ويقضي الاقتراح بتعيين شيوخٍ (أفراد من الأسرة الحاكمة) على رأس الإدارات الحكومية مع الاستعانة بالخبراء البريطانيين أو الأجانب ضمن الفريق العامل بهذه الإدارات وتأسيس قسمٍ للشؤون المالية أو وزارة ماليةٍ تحت سيطرة الحاكم. أما الاقتراح الثاني فكان مستوحىً من نموذج البحرين القائم على لجانٍ شعبيةٍ تكوّن من الشعب وتلحق بالحكومة. ووفقاً لموزة الجابر، مؤلّفة كتاب "التطور الاقتصادي والاجتماعي في قطر 1930-1970" الصادر سنة 2002، وجدت بريطانيا أن نموذج الكويت هو الأنسب لقطر، لقدرته على توسيع قاعدة الإدارة والحكم وذلك لتقارب طبيعة شيوخ الكويت وشيوخ قطر. لم يتحمس حاكم قطر آنذاك، علي بن عبد الله آل ثاني، لهذا الاقتراح معلّلاً ذلك بأن الأسرة الحاكمة في الكويت أقلّ عدداً منها في قطر.
انتهى اليوم الأوّل من المظاهرات الأكبر في تاريخ قطر آنذاك بلا مشاكل. واتفقت الجموع على مهرجانٍ خطابيٍّ آخَر في أرض فضاءٍ جنوب شارع الريان. إلّا أن التجمع الذي بدأ بهدف الاحتفال بالوحدة العربية سرعان ما تحوّل إلى مناقشة مطالب شعبيةٍ قطريةٍ عماليةٍ ومعيشيةٍ تعود جذورها إلى سنة 1956. منها شحُّ فرص العمل، وتدنّي مستوى المعيشة، والتضييق على حرية التعبير، وسياسة التجنيس، وتزايد منافسة التجّار الأجانب للتجّار القطريين، وزيادة مخصصات وامتيازات الأسرة الحاكمة المستفزّة للمواطنين. تبعت تلك الاحتفالات نداءاتٌ للالتفات إلى قضايا المجتمع القطري بحسب الكواري.
إلّا أن حادثةً مروّعةً حوّلت الحراك الاحتفاليّ إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ ذات مطالَباتٍ سياسية. وملخّص الحادثة أن عبدالرحمن بن محمد، وهو أحدُ أفراد الأسرة الحاكمة وابنُ أخي حاكم قطر حينها أحمد بن علي آل ثاني، مرّ بالمجتمعين وأطلق النار عليهم عشوائياً وقتل واحداً منهم. إثر هذه الحادثة قدّم مئةٌ وسبعة أشخاصٍ سَمَّوا أنفسَهم "لجنة الاتحاد الوطني" عريضةً بمطالب القطريين من الحكومة. تبع ذلك سلسلةٌ من الأحداث منها إعلانُ لجان عمّال النفط في مناطق حقول النفط في مسيعيد ودخان وراس أبو عبود إضراباتٍ جزئيةً تلاها إضرابٌ شاملٌ وسلسلةٌ من الاعتقالات.
نمّت مطالبُ العريضة عن وعيٍ سياسيٍّ متقدّم. بلغ عدد مطالبات العريضة خمسةً وثلاثين بنداً، ونصّ البندُ الخامس عشر على "انتخاب مجلسٍ بلديٍ ممثّلٍ لجميع طبقات الشعب". والبند السادس عشر ينصّ على "إشراك الشعب في الاطّلاع على المشاريع التي تقوم بها الدولة". والبند الثامن عشر ينصّ على "تعيين لجنةٍ تشرف على تصدير البترول شريطة أن يكونوا من المواطنين المخلصين". وهي بنودٌ تؤكّد الرغبة في التحوّل لمرحلةٍ جديدةٍ بالمطالبة بتحقيق المشاركة الشعبية والرقابة على السلطة في قطر. كذلك تضمّنت المطالباتُ العامةُ خفضَ امتيازات آل ثاني وتنميةَ الخدمات الاجتماعية. وكان منها، حسب الباحثة موزة الجابر، محاكمةُ مرتكبي حادث إطلاق النار، وخفضُ العمالة الأجنبية، وتسديدُ ديون التجّار، والاعترافُ باتحادات العمال والاتحادات التجارية، والسماحُ بإنشاء دارٍ للسينما والإذاعة، ووضعُ ميزانيةٍ للدولة.
ردّت حكومة قطر آنذاك على هذه المطالب بمعاقبة المشاركين من جهةٍ والاستجابة الباهتة لبعضها من جهةٍ أخرى. أصدرت الحكومة عدّة قوانين ومراسيم سنة 1963 تنظّم بلدية قطر وانتخاب أعضاء المجلس البلدي وتعيينهم. وعُدّت هذه هي الخطوة الأولى للمشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام في البلاد. وسنة 1964 أصدر الحاكمُ أحمد بن علي بن عبدالله آل ثاني قانوناً بإنشاء مجلس شورى يُعيَّن أعضاؤه، وعددهم خمسة عشر، من الأسرة الحاكمة ولكنّه ظلّ معطّلاً. ترى موزة الجابر أنّ ما دفع لإنشاء هذا المجلس قد تكون أحداث سنة 1963 والتأثيرات القادمة من مناطق الخليج، خاصّةً الكويت التي ستجري فيها أوّل انتخاباتٍ شعبيةٍ لمجلس الأمّة فيها في العام نفسه.
مرّت قطر في العقدين الأوّلين من عمرها بعد الاستقلال بهدوءٍ سياسيٍّ حتى جاء غزو العراق للكويت سنة 1990 ليشعل المطالبات السياسية والدستورية مجدداً في قطر وغيرها من دول الخليج. كتب الكواري في الجزء الثالث من سيرته "العوسج: سيرة وذكريات عود على بدء 1983-1992" عن دور الحرب في تحفيزه وآخَرين من أجل العمل نحو الإصلاح السياسي. يذكر الكواري أنه كتب مقالاً دعا فيه للمشاركة الشعبية ورقابة التنفيذ ضمن مطالباتٍ أُخرى قدّمها مع آخَرين لتفادي أخطاء حاكم قطر الماضية، وعُنْوِنَ هذا المقال "نحو دورٍ عربيٍّ أهليٍّ معنيٍّ بأزمة الخليج" ونُشر بتاريخ 17 نوفمبر 1990 في جريدة القدس العربي الصادرة من لندن، وأعادت طائفةٌ من الصحف العربية نشرَه بعد ذلك.
تطوّرت تلك المطالَبات حتى وقّع ناشطون قطريون من حراك "قطر نحو الإصلاح" عريضةً صدرت بتاريخ 21 سبتمبر 1991. دعت العريضةُ أوّلاً لقيام مجلس شورى ذي سلطاتٍ تشريعيةٍ ورقابيةٍ موسّعةٍ، وتحقيق المشاركة السياسية الفعالة من طريقه، إنفاذاً للوعد الذي قطعته السلطةُ على نفسها قبل عشرين عاماً، على أن "يأتي متماشياً مع ما يقرّه شرعُنا الإسلاميّ الحنيفُ من دعوةٍ للشورى والالتزام بها وتطوّر العالَم والنظام العالميّ الجديد مِن حولِنا". وأن تكون مهمّةُ هذا المجلس "التأسيسي"، كما نصّت العريضةُ، وضعَ دستورٍ دائمٍ يكفل الديمقراطية ويحدّد أُسسَ الحكم والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحضاري للبلاد. ضمّت قائمةُ الأسماء الموقّعة على هذه العريضة شخصياتٍ عديدةً، منها عيسى شاهين الغانم ومحمد صالح الكواري وعلي عبدالله المناعي وراشد لملوم المسيفري وناصر محمد سعد النعيمي.
لَم تردّ السلطةُ على تلك العريضة بل لجأت إلى مضايقة بعض موقّعيها. إذ مَنَعَت أحدَهم من السفر ما لم يُبْدِ اعتذاراً وينسحب منها، بحسب مذكرات الكواري. ويضيف الكواري "تبع ذلك اعتقال بعضهم، وممارسة ضغوطاتٍ على آخَرين من ضمنها عقوباتٌ قاسيةٌ مثل سحب الجواز، ومراجعة سلامة إجراءات حصول المُوِّقع على الجنسية، أو إثبات انتمائهم بأنهم قطريون بالسلالة". إلّا أن ذلك لَم يثْنِ القائمين على الحراك الإصلاحي عن تقديم عريضةٍ ثانيةٍ في شهر مارس سنة 1992 كان خليفة الكواري من ضحاياها بمنعه من السفر أربعة أعوامٍ، بالإضافة فرض عقوباتٍ أخرى بحقّه.
بعد سنواتٍ قليلةٍ انقلب وليُّ العهد القطريّ، حمد بن خليفة آل ثاني (1995-2013)، على والده خليفة في 27 يوليو 1995، وبدأت مرحلةٌ جديدةٌ من التاريخ الدستوري القطري. فبعدها بأشهرٍ في نوفمبر أعلن الأمير الجديد عن رغبته إجراء انتخابات بلدية، لمجلسٍ يتكوّن من تسعةٍ وعشرين عضواً. انتُخِب هذا المجلس البلديّ في يوليو 1999 وأصبح بذلك أوّل هيئةٍ منتخَبةٍ في قطر.
بعد انتخاب أوّل مجلسٍ بلديٍّ بخمس سنوات، أعلن أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني عن دستورٍ جديدٍ للبلاد في يونيو 2004. جاء في نصّ الإعلان أن الهدف منه هو تحقيقٌ " لأهدافنا في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي لوطننا العزيز، بإقرار دستورٍ دائمٍ للبلاد، يُرسي الدعائم الأساسية للمجتمع، ويجسّد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، ويضمن الحقوق والحرّيات لأبناء هذا الوطن المعطاء". وكانت الحكومة قد أجرت استفتاءً في أبريل سنة 2003 أعلن فيه الأميرُ دعوتَه للقطريين والقطريات للمشاركة في إقرار دستور البلاد، وافقت عليه أغلبيةٌ ساحقةٌ من مواطني قطر. نصّت المادّة 42 من هذا الدستور على أن: "تكفل الدولةُ حقَّ الانتخاب والترشيح للمواطنين، وفقاً للقانون". أمّا المادّة 59 فنصّت على أن "الشعب مصدرُ السلطات ويمارسها وفقاً لأحكام هذا الدستور". وذكرت المادّة 61 أن السلطة التشريعية يتولّاها مجلس الشورى على الوجه المبيّن في هذا الدستور. وحدّدت المادّة 76 صلاحيّات مجلس الشورى القطري. فهو من يتولّى سلطةَ التشريع، ويقرّ الموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابةَ على السلطة التنفيذية. ويمكن لمجلس الشورى الموافقةُ على مشاريع القوانين المختلفة والمسائل الأخرى المقدّمة إلى المجلس من خلال سلطتِه أو قبولِها أو رفضِها. لمجلس الشورى القطري أيضاً أن يقترح القضايا ذاتَ الاهتمام العام والنظرَ فيها. ونَصَّ الدستورُ الجديد على انتخاب ثُلثَي الأعضاء في مجلس الشورى، وأن يختارَ الأميرُ باقيَ الأعضاء.
احتاجت تلك الموادّ المتعلّقة بانتخاب مجلس الشورى وصلاحيّاته في الدستور القطري أكثرَ من ستّة عشر عاماً حتى تدخل حيّزَ التنفيذ. فبعد انطلاق ثورات الربيع العربي سنة 2011 بدأ خليفة علي الكواري تأسيس مجلسٍ ينعقد شهريّاً للتفاعل مع أحداث الربيع العربي. ضمّ المجلسُ أكثرَ من سبعين شخصاً من المهتمين بالإصلاح السياسي في قطر، منهم إبراهيم الباكر وحسن بوهندي وراشد الخاطر وعبدالعزيز العبيدان ومحمد المسفر. وعقد المجلسُ خمسةً وعشرين جلسةً امتدّت إلى منتصف سنة 2013. نوقشت في هذه الجلسات شتّى المواضيع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ففي اللقاء السابع بتاريخ 19 سبتمبر 2011، على سبيل المثال، قدّم خليفة الكواري ورقةً بعنوان "الحاجة للإصلاح في قطر"، محدّداً فيها ما أسماه أَوْجُهَ الخلل المزمنةَ الأربعةَ، وعلى رأسِها الخللُ السياسيّ في العلاقة بين السلطة والمجتمع وغياب الديمقراطية. وقدّم حسن عبدالرحيم السيد ورقةً عن الدور التشريعي لمجلس التعاون الخليجي، وعيسى بن شاهين الغانم مراجعةً نقديةً لخطة التنمية الوطنية لدولة قطر ومحمد هلال الخليفي ورقةً عنوانُها "عن الخلل السكاني في قطر من يوقف كرة الثلج".
غيرَ بعيدٍ، وعد الأميرُ حمد بن خليفة وعداً أوّل انتخاباتٍ تشريعيةٍ في النصف الثاني من سنة 2013. ففي الكلمة التي ألقاها أمام مجلس الشورى القطري المعيّن في نوفمبر سنة 2011 قال الأميرُ "أُعلِنُ من على منصة هذا المجلس أننا قرّرنا أن تجري انتخابات مجلس الشورى في النصف الثاني من العام 2013". وعوضاً عن تنفيذ هذا الوعد، أعلن الأميرُ حمد تنازلَه عن الإمارة لابنِه تميم في شهر يونيو 2013. ومع الصخب الإعلامي الذي رافق هذه الخطوة، خبا ذكرُ عدم تنفيذ الوعد، وتمدّد المجلس المعيّن أربع سنواتٍ أخرى.
اتخذت قطر إزاء هذا الهجوم عدداً من الخطوات والسياسات، من بينها تطبيقُ موادّ الدستور المتعلّقة بالانتخابات والمعطَّلة منذ إقرارها سنة 2004. وفعلاً، أُجريت الانتخابات القطرية في أكتوبر من سنة 2021. ولكن تَخلَّلَ إجراءَ الانتخابات ممارساتٌ تمييزيةٌ بين المواطنين، إذ اشترط القانونُ ألّا يقلّ عمرُ المترشّح عن ثلاثين عاماً وأن يكون من أصلٍ قطريٍّ، كما حدّده قانونُ الجنسية لسنة 2005. وهذا القانون يقسّم القطريين إلى قسمَيْن: قطريّون أصليّون، ويُعرّفهم بأنهم المواطنون في قطر قبل سنة 1930 الذين حافظوا على إقامتهم العاديّة فيها، واحتفظوا بجنسيّتهم القطرية حتى تاريخ العمل بقانون الجنسية سنة 1962. أمّا القسم الثاني فهُم مكتسِبو الجنسية القطرية. فمثلاً ينصّ قانون الجنسية القطرية على أنه "لا يجوز التسوية بين من اكتسب الجنسية القطرية وبين قطريٍّ، بالنسبة لحقّ شَغْلِ الوظائف العامة أو العمل عموماً، قبل انقضاء خمس سنواتٍ من تاريخ كسبِه الجنسية. ولا يكون لمن اكتسب الجنسية القطرية حقُّ الانتخاب أو الترشيح أو التعيين في أيّ هيئةٍ تشريعية".
وجد أفرادٌ من قبيلة آلِ مُرّةَ أنفسَهم ممنوعين من الترشّح للانتخابات بسبب شرط الأصل القطري هذا. ففي سنة 2005 جُرّد من الجنسية القطرية خمسةُ آلاف فردٍ من عشيرة الغفران، وهم فرعٌ من آل مُرّة. وكان السببُ المعلَنُ من السلطات القطرية هو ازدواج جنسيّتهم مع الجنسية السعودية، ممّا يتعارض مع الدستور القطري. وتُرجِع بعض المصادر السببَ إلى التوتر التاريخي بين أفراد هذه العشيرة والدولة القطرية لإسهامهم في محاولة الأمير خليفة بن حمد استعادةَ حكمِه سنة 1996. وفي معرض الأزمة والهجمات المتبادلة بين قطر وخصومها، نشرت "عرب نيوز"، الصحيفةُ السعودية الناطقة بالإنجليزية، وثائقيّاً بعنوان "غير المغفور لهم: اضطهاد قبيلة الغفران في قطر"، يُظهِر أفراداً من القبيلة للحديث عمّا حدث سنة 1996. يظهر في الفيلم حديثٌ عن التنازلات التي قدّمها بعض أفراد "الغفران" باعترافهم بالجنسية السعودية لحصولهم على الجنسية القطرية، أيْ أن يُقِرّوا أنهم سعوديون ليحصلوا على الجنسية القطرية بعد تنازلهم عن الجنسية السعودية، ليكونوا قطريين بالتجنيس.
اعترض بعضٌ من آل مُرّة على إقصائهم من العملية الانتخابية. فقد نشر المحامي هزّاع بن علي المَرّي مقطعاً مصوّراً موجّهاً للأمير واصفاً قرار استبعاد آل مُرّة بأنه "غبنٌ سياسيٌّ وانتقاصٌ للمواطَنة" مشيراً إلى الحرمان من المشاركة في إدارة الشأن العام وعواقبه، وأنّ أيّ حُرٍّ لا يمكن أن يقبل هذا التعامل. بل قال المَرّي "أتظنّون أننا كالأنعام" و"المماليك"، منوّهاً بوقوف القبيلة مع الأمير إبّان الأزمة الخليجية أو "الحصار"، كما عرَّفَته قطر. وقام غيرُه من آل مُرّة بالحشد والتعبئة، ما نتج عنه اعتقالُ السلطات القطرية هزاعَ المرّي وآخَرين بتهمة إثارة النعرات القبلية والعنصرية. تبع ذلك تجمّعٌ واعتصامٌ كبيرٌ لآل مُرّة قدّم مجموعةً من المطالب منها تغييرُ قانون الجنسية. وفي العاشر من أغسطس من العام نفسه حاصرت قوّاتُ الشغب الاعتصامَ، وانتهى في الحادي عشر من الشهر ذاته، بعدما استمرّ خمسةَ أيّامٍ مستدعياً في الذاكرة الجمعية القطرية أحداثَ سنة 1963.
مع إقصاء أقسامٍ من المواطنين على أساسٍ قَبَلِيٍّ، أدارت الحكومةُ العمليةَ الانتخابيةَ على نحوٍ يحفِّز تسييسَ الانتماءات القبلية. فعلى غرار الكويت، لَم يُسمح للقطريين التكتّلُ داخل أحزابٍ سياسيةٍ ذات برامج سياسيةٍ، ولم يُعْطَ الناخبُ حريّةَ الاختيار بين الناخبين على أساس البرنامج السياسي والحزبي. عوضاً عن ذلك، اعتمدت قطر على تدابير شائعةٍ في المنطقة، وتحديداً في الكويت، لتأطير السياسة المسموح تداولها والنقاش فيها. ومن بين تلك التدابير التحكّمُ بالدوائر الانتخابية التي تضمن تحقيقَ نتائج تريدها الحكومة. إذ اعتمدت قطر على سبع عشرة دائرةً انتخابية، حُدِّدَت حسب تركّز العوائل والقبائل فيها. فالوكرة على سبيل المثال قُسمت إلى وكرةٍ شماليةٍ ووكرةٍ جنوبيةٍ، ما يضمن وصولَ أطرافٍ محدَّدةٍ للمجلس. كذلك دفعت الحكومةُ المواطنين للتصويت حسب مسقط الرأس لا المكان الذي يعيش فيه المواطن.
ومع الصلاحيات الواسعة التي منحها دستور 2004 لمجلس الشورى، إلّا أنَّ المساحة الحقيقية التي مُنحت للمجلس المنتخَب بين 2021 و2024 كانت محدودةً جداً. فدورُه التشريعيُّ كان قاصراً، إذْ لم يُصدِرْ إلّا قانونَيْن يخصّان التأمينات الاجتماعية والتقاعد العسكري، وناقش بضعةَ مراسيم متعلّقةً بتعديلاتٍ لقوانين أُخرى قائمة. وصحيحٌ أنّ المجلس ناقش مواضيع متعدّدةً، مثل التضخّم، وارتفاع تكاليف المعيشة، وزيادة الأعباء على المواطنين، وعزوف القطريين عن مهنة التعليم، والمظاهر المصاحبة للزواج، وموضوع القطريين الباحثين عن عملٍ، إلّا أنها كانت دائماً مواضيع بعيدةً عن الشؤون الخارجية أو تلك التي تعدّها الدولةُ سياديّةً.
استغلّت الحكومةُ تسيّسَ الهويّات القبلية بسبب الطريقة التي نظمت وأدارت فيها العملية الانتخابية لمجلس الشورى القطري وأداء المجلس نفسه لإلغاء الانتخابات. فالقيود الكثيرة التي فُرضت على نوع القضايا التي يستطيع المجلس التطرّق لها قلّلت من تعويل الناس عليه. وعليه اقترحت الحكومةُ إلغاءَ الانتخابات بوصفها حلّاً للمُشكِل القبليّ، وقدّمت معه وعوداً بأن المعيَّنين في الحكومة القطرية سيكونون من الجنسية القطرية، لاغيةً بذلك شرطَ "الأصالة". وبهذا يُتّخَذ المجتمع وتكويناته مسوّغاً للحلّ، في حين أن من دفع بهذا الشرط كانت الحكومة نفسها.
وفي سلطنة عُمان، أُلغِيَت اللائحة الداخلية الخاصّة بمجلس الشورى فأصبح تابعاً لقانون مجلس عُمان ولوائحِه، وهو مجلسٌ يضمّ مجلسَي الشورى والدولة، لكنّ الأوّلَ منتخَبٌ والثانيَ مُعيَّن. وصدر مرسومٌ في سنة 2021 فَصَلَ الجانبَ الرقابيَّ عن الجانبِ التشريعيِّ في صلاحياتِ مجلس الشورى. وبهذا فإن صلاحيات مجلس الشورى تشمل الحدَّ الأدنى من الاقتراحِ والتعديلِ على القوانين.
وبنظرةٍ عامّةٍ على مسار البرلمانات في الخليج نَجِدُ أنها تقترن بوجود حركاتٍ سياسيةٍ محلّيةٍ تدفع بهذه المطالب، وكذلك وجود أزماتٍ إقليمية. يكتب الباحثُ كريستيان كوتس أولريكسن في كتابه "مراكز القوّة في دول الخليج العربي" الصادر سنة 2024 عن دور "الأزمات" في صناعة مجالس الشورى الخليجية وترسيخها. كانت كتابةُ الدستور الكويتي في يناير 1962، أيْ في غضون أشهرٍ من التهديد العراقي للكويت في يونيو 1961. وبعد شهرين من احتلال الكويت اجتمعت الأسرة الحاكمة في المنفى وشخصياتٌ كويتيةٌ بارزةٌ في مؤتمرِ جدّة في أكتوبر 1990 للتداول في عدّة أمورٍ أهمُّها تعليق البرلمان منذ سنة 1986، والتي اتّفق الحاضرون مع آلِ صباح على إعادته.
يدخل العالم العربي سنة 2025 بمتغيّراتٍ إقليمية وعالمية متنوعة، من سقوط نظام الأسد في سوريا، والحرب وما بعدها في غزة، إلى بدء عهد إدارة الرئيس الأمريكي ترامب. ومن يدري إن كانت هذه التغيّرات ستُرسِّخ مسارَ التراجع هذا أمْ تعكسه. لكن إذا صدّقنا أطروحةَ "أثر الفراشة" التي تقول إنَّ رفّة جناح فراشةٍ في مكانٍ ما قد تسبّب إعصاراً في مكانٍ آخَر، فإننا حتماً على موعدٍ مع مفاجآتٍ ليست بالحسبان في هذه المنطقة، وقد يكون من بينها انفتاحُ مسار عودة المجالس النيابية المنتخَبة وانتشارها.
