ما وراء الصورة.. النساء الليبيات بين الحضور والغياب

يعكس التصوير تعقيداتٍ ثقافية تُحاصر ظهور النساء الليبيات، إذ تُستغل لتكريس الحنين الزائف وتُقصي المهمشات، بينما تواجه الصور المحلية رفضاً حتى في المجال الرقمي رغم إمكانياتها أداةً لإعادة تشكيل الحضور النسوي في المجال العام.

Share
ما وراء الصورة.. النساء الليبيات بين الحضور والغياب
تعكس علاقة المرأة الليبية بالتصوير تعقيداتٍ ثقافية ودينية تحاصر ظهورها في الصور / خدمة غيتي للصور

أنظر إلى إحدى صور أمي القديمة تظهر فيها مرتديةً الزيّ الشعبي. تخبرني أمي أن الصورة التُقطت في حفل زفافها سنة 1985، حين كان عمرها تسعة عشر عاماً. تُخفِي الصورةَ تحت مجموعةٍ كبيرةٍ من الأوراق وهي تُخبرني أن والدي ظلّ سنواتٍ لا يعلم بوجودها، فقد التقَطَتْها إحدى قريبات جدّتي في الزفاف رفقة صورٍ أخرى أحضرتها لها بعد الزفاف بشهرين تقريباً.

حارت أمي بها وظلّت تُخفيها عن والدي الذي عُرف عنه كراهية التصوير ومهاجمته، مُعللاً ذلك بتحريم الدين "تصويرَ ذوات الأرواح" وهو ما أفتى به بعضٌ من المشايخ. ولم يكن حتى وقتٍ قريب يتسامح مع الصور سوى الضرورية منها، مثل صور جوازات السفر وبطاقات الهوية الشخصية ورخص القيادة، أما الصور التوثيقية للذكرى فهي مستهجنةٌ في نظر والدي ولا يُسمح بالتقاطها للحرمة الدينية.

تأثر والدي بجيلٍ من المشايخ كانوا يسجلون الفتاوى الدينية على أشرطة التسجيل "الكاسيت"، قبل أن يُحضِر الطبقَ اللاقط للقنوات الفضائية "الستالايت" إلى منزلنا في صيف سنة 2005، والذي كان حضوره حدثاً صادماً لنا. إذ ظللتُ أمازح أختي التي أكبُرُها بنحو عقدٍ من الزمن قائلةً لها إنّ العمر الفعلي للتلفزيون والصورة وفقاً للتسلسل الزمني لعائلتنا هو تسعة عشر عاماً فقط، منطلقةً من فلسفتي الشخصية التي تفترض وجود تفاوتٍ زمني مُضافاً إلى التفاوت الطبقي طبعاً بين عائلةٍ وأخرى، وأنّ لكل عائلةٍ تاريخاً خاصاً تبدأ فيه "البِدع". فنحن كعائلة لم نعرف الصور باكراً ولكننا قديمون نسبياً فيما يخصّ النص، فقد كان والدي قارئاً نهماً يمتلك مكتبةً دينيةً صغيرةً يُقلّب كُتبها من وقتٍ لآخر، في حين لم يكن بحوزتنا ألبوم صور عائلي.

تعكس علاقة المرأة الليبية بالتصوير تعقيدات القيود الثقافية والدينية التي جعلت الصور مصدراً للقلق والخوف من انتهاك المجال الخاص. ومع تحوّل التصوير إلى هوايةٍ شبه يومية في العقدين الماضيين، إلا أن صور النساء ظلّت محاطةً بأطرِ الحجب والتغييب واستُخدمت أحياناً لتكريس الحنين لعصرٍ سابق يُظنُّ أن المرأة الليبية كانت فيه أقوى وأكثر حضوراً، كما يحدث مع صور حارسات الرئيس السابق معمر القذافي أو كما يحدث مع صور النساء في الجامعات والمدارس إبان العهد الملكي. توحي تلك الصور أن النساء في الماضي كنّ أكثر حضوراً بينما تُهمل النساءَ المهمشات اللاتي يقطن خارج مراكز المدن الكبيرة، واللاتي حُرم قسم كبير منهن من حقَهن في التعليم وظللنَ أسيراتٍ داخل بيوتهن. فيظهر التصوير وسيلةً بصريةً محدودةً تختزل الحقيقة في سطحٍ مرئي، ما يتيح الفرصة لاستغلال مجموعةٍ صغيرةٍ من الصور لتزييف الوقائع والانتقائية للتعبير عن عهدٍ كاملٍ مليء بتوتراتٍ كبيرة.

ومع انفتاح المجال الرقمي، يبقى تعامل الثقافة المحلية مع صور النساء متناقضاً، إذ تُقبل صور النساء الآتية من الخارج وتُرفض الصور المحلية، كما ظهر ذلك في غياب صور المرشحات السياسيات في الانتخابات البلدية الماضية. ومع ذلك، يبرز التصوير أداةً محتملةً للتمرّد وإعادة تشكيل الحضور النسوي في المجال العام، رغم افتقاره في ليبيا إلى تنوعٍ جمالي وإنساني يتجاوز توثيق التراث والمظاهر الرسمية، ليعبّر عن تجربةٍ حقيقيةٍ أعمق وأثرى.


تقول النكتة الشعبية إنّ جدّاتنا كُنّ يغطين رؤوسهن ووجوههن بأرديتهنّ حين يشاهدن التلفاز، وأنّهن كنّ يختلسنَ النظر إلى الشاشة بعينٍ واحدة تبرز من غطاء رؤوسهن خصوصاً حين يُطلّ مُذيع نشرة الأخبار على القناة الرسمية مُرتدياً الزيّ الشعبي، مفترضات بسذاجةٍ نابعةٍ من شِدّة حيائهنّ أن المذيع يمكنه أن يشاهدهن كما يشاهدنه. يفترض كثيرون صِدق هذه النكتة وواقعيتها، وأنّها حدثت بالفعل وعلى نطاقٍ واسع.

ظللتُ حتى وقتٍ قريب أفكر في هذه القصة ومدى واقعيتها وما تمثله رمزيتها الثقافية التي تُكرَّس للتشديد على "روعة الزمن الماضي" وعلى حياء النساء وقلقهن من التصوير، الذي يُنظر إليه دائماً أداةَ انتهاكِ فضاءاتهن الخاصة. وكنت أتخيل نفسي أحياناً إمرأةً من الرعيلِ الأول مُحاوِلةً أن أفهم إحساسهن الذي يبدو حسب منظورنا المعاصر سذاجةً نابعةً من خوفهن وضيق أفقهن بسبب ثقافةٍ منغلقةٍ كانت تحكمهن. غير أن هذا النوع من التلقي المشوش يعبّر أيضاً عن نوعٍ من الدهشة الطفولية غير العقلانية التي تتزامن مع شعور التجربة الأولى التي تتسم عادةً بحالة من الالتباس والتشويش.

تجعلنا هذه النظرة السالفة للصورة ندرك حجم الصدمة التي تطرأ في الذهن الشعبي حين تتغير المُعطيات في البيئة المحيطة وحين تَدخُل التقنية الجديدة المجتمعَ وتُحشر قسرياً دون تمهيدٍ مسبق، خصوصاً في المجتمعات المنغلقة على ذاتها والتي عانت من حصارٍ معرفي. تتحوّل كل هذه التجارب إلى نوعٍ من التهديد الاجتماعي الذي يفترض تلقائياً أن هذه التقنية خطرة ومدمِّرة وأنّها تهدّد باقتحام المجال الخاص وتعريته. خصوصاً حين تقتات هذه التقنية على الحياة الخاصّة للنساء متطفلةً على البيوت والحجرات المغلقة التي تتوارى فيها النساء محجوبات عن الفضاءات العامة، إذ تكون هذه التقنية الوافدة مثيرةً للريبة لأنها تأتي من أماكن أخرى تعارضها الثقافة المحلية.

لم تلبث الصورة أن أصبحت حدثاً يومياً عادياً ونوعاً من الممارسات المعتادة. فانتقلت الصورة بسبب شيوعها في المعاملات الرسمية وفي توثيق المناسبات الاجتماعية من حالةِ الدهشةِ الطفوليةِ إلى التلقي العقلاني، وانتفت عنها بمرور الزمن حالةَ التحريم الديني أو خفتَ حدّته، فقد كان يُنظر للتصوير في البداية أنه "مضاهاة للخالق" و "تجسيد" يجب منعه.

ولم يبقَ من هذا التحريم سوى قَلق يتركّز على صور النساء خاصة. وهو ما يُفسح المجال للنظر في هذا الالتباس الناتج عن ثقافةٍ اجتماعيةٍ ودينيةٍ ترى حضور المرأة المُماثل حضورَ الرجل عاراً وقفزاً على القيَم الثقافية. لكنها ثقافة بدت في البداية غير عابئة بالمصور الجوال الذي ظهر تزامناً مع دخول الاحتلال الإيطالي البلادَ سنة 1911 وسُمّيَ شعبياً "أبو جردل" نسبةً لما يحمله من معداتٍ بسيطةٍ يطوف بها شوارع المدن الكبيرة وفي الأحياء الشعبية التي تقطنها العائلات ذات الأصول اليهودية، بل هُمّش حضورُه وظلّ مقترناً بالثقافة الإيطالية الاستعمارية ومحصوراً في فئاتٍ محددةٍ من السياح والرحالة والعائلات ذات الأصول اليهودية. كان الاستكشاف والترحال نقطة التحول التي بدأ بها غزو الصورة، بالإضافة إلى الاستعمار الذي جاء محملاً بثقافةٍ مختلفة وأدواتٍ أكثر حداثة، حتى جاءت الصحوة الدينية بعد ذلك لتربط بين التصوير والتجسيم ثم تنتقل الثقافة الاجتماعية السائدة إلى استهجان صور النساء خاصة لما يمثلنه من مجالٍ خاص يسعى الرجال للمحافظة عليه خوفاً من مخاطر التحديث.


تفترض الناقدة والمخرجة الأمريكية سوزان سونتاغ في كتابها "أون فوتوغرافي" (حول الفوتوغراف) المنشور سنة 1975 أنّ الصور أصبحت "أداةً بيد الدولة العصرية" لمراقبة سكانها والسيطرة على عددهم المتصاعد. وفي المؤسسات الإعلامية التابعة لأصحاب النفوذ وفي الدول القمعية يكون للصور أبعادٌ تسلّطية، وتتحول إلى وسيلة تضليلٍ واختراعِ وقائعَ بديلةٍ وبثّها بالشبكات الإعلامية الموجّهة. وإذ تبدو الصور حيادية وغير قابلةٍ للتأويل للوهلة الأولى، لكنها في الحقيقة متغيّرة ويمكن استخدامها لنقل الوقائع أو تزييفها أو تغييب جزءٍ من الحقيقة وإظهار آخر.

تكرس الصورُ الشعورَ بالحنين، فقد وصفتها سوزان سونتاغ بأنها "فنٌ رثائي" لأنها تسبغُ نوعاً من الشاعرية والجمال على حقبٍ تاريخية معينة. فكلّما كانت الصورة أقدم صار العهد الزمني الذي تمثّله مميزاً وهانئاً وسعيداً، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، بل ربما نُظر إليه أنه حقبةٌ ذهبيةٌ تستوجب حنيناً جماعياً.

يطلُّ القائد معمر القذافي في كثيرٍ من الصور محاطاً بحارساته القويّات يضعن سلاحاً في أيديهن أو يعلّقنه على خصورهنّ ينظرن باتّجاه آلة التصوير. حارساتٌ داخل الخيمة، وحارساتٌ على المدرج قرب إحدى الطائرات، وعسكريّاتٌ يقفن في صفوفٍ متلاحقة.

يشارك الناس هذه الصور التي تبثها الأفلام الوثائقية وشاشات التلفاز ليستخلصوا منها ما يُفترضُ أنه حقائق ثابتة، مثل: "النساء في ليبيا إبّان عهد القذافي كنّ أكثر تحرّراً" أو "القذافي كان يؤمن بقدرات النساء" أو"عهد القذافي كان عهداً ذهبياً فيما يخصّ المرأة في ليبيا". فتؤَطَّر هذه الصور لاستخلاص نتائج جاهزة دون التمحيص فيما وراء هذه الصور من حقائق غائبة، وهو ما يجعل التصوير في كثير من الأحيان "أداةً شعبويّة" مقترنةً بالحنين الذي تفترض وجود عهدٍ ذهبيّ لا يُمكن استرجاعه، متجاهلةً الوضع الاجتماعي القائم.

فحين كانت بعض النساء يرتدين الزي العسكري ويقفنَ خلفَ رئيس البلاد لحراسته والتقاط الصور برفقته، كان البعض الآخر من نساء القرى اللاتي لم تصل إليهن آلة التصوير قد حُرِمْن حقَهن في التعليم وظللنَ أسيراتٍ داخل بنى اجتماعيةٍ استفادت منهن ربّاتِ بيوتٍ وعاملاتٍ في مزارع العائلة. وبحسب بيانات مصلحة الإحصاء والتخطيط فإن نسبة النساء الحاصلات على تعليمٍ جامعي ظلّت حتى نهاية عقد السبعينيات لا تتجاوز 14 بالمئة، فيما ظلّ تمثيلهنَ السياسي ضعيفاً وحُرمت كثيرات من الميراث بسبب البنية القمعية للنظام الاجتماعي الذي لم تعالجه الدولة وبسبب نمط الحياة الذي عاشته هؤلاء النسوة وظلّ مجهولاً لكثيرين. وهذه العوامل تُهملها الصور بقصُورها الطبيعي، فهي عاجزة عن إعطاء صورةٍ كاملةٍ للواقع لأنها بمحدوديتها تنظر جزءاً واحداً من مجموعة أجزاء لا يُمكنها أن تحيط بها. لهذا لا يجدر بنا أن ننظر إلى الصورة لكي نبصر شيئاً ما، بل نحن مطالبون بالنظر إلى ما وراء الصورة، إلى الموجود خارجها. ما الذي استثنَته الصورة، وماذا يوجد خلفها وبجانبها، وما الظروف التي تمثّلها، هو ما تشير إليه سوزان سونتاغ بقولها: "الحكمة النهائية للصور الفوتوغرافية هي القول: ثمة سطح. والآن فكّر، أو بالأحرى: اُشعر. احزر ماذا يوجد تحته".


يُجادلُ الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه "الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا" المنشور سنة 1980 عمّا أسماه "عصر انبثاق الفوتوغرافيا" ويعتبره عصر انبثاق المجال الخاص داخل المجال العام الكُلّي. مشيراً بذلك إلى أن انتشار الصور ورواجها أضاف إلى الوجود قيمةً اجتماعيةً جديدةً تتلخّص في حرية الإعلان عن "الخاص" بإذابة الحدود بين الشخصي والعمومي. فالأفراد هم من يمتلكون سردياتهم الشخصية ويعرضونها بعيداً عن سلطة الأنظمة التي تحكمهم، وهو ما نفعله اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلاً مفترضاً أوضح عن الفضاء العام.

فنحنُ نشارك الصور كي نضع جزءاً خاصاً من حياتنا داخل الفضاء العام، مُعرِّضين أنفسَنا إلى موجةٍ من الجماهير مُختلفة الأعراق والأجناس، وهو ما يجعل الصورة تعيد ضمنيّاً تقسيم المجالين العام والخاص بهدوءٍ شديد. فيتطلّع الخاص لاختراق الحدود العامة بالصور وإثبات نفسه ضمنها وتمدّده دون رادع لينتزع من الفضاء العام مساحاتٍ إضافية.

على أن الالتباس الذي أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي والتقنية المعتمدة على المحتوى البصري جعل قابليتنا لتلقي الصور مشوّشة. فصور النساء الآتية من الخارج مقبولة وممررة، فيما صور النساء داخل البلد مستهجنةٌ ومثيرةٌ للاحتجاجات القيمية، حتى وإن كانت صور نساء يفترض أن يخضن سباقاً انتخابياً. وهذا ما حدث في انتخابات المجالس البلدية في أوائل نوفمبر 2024 إذ امتلأت شوارع المدن الليبية بصور قوائم المرشحين والمرشحات. وفي حين ظهر الرجال بصورهم الشخصية التي تمثل هوياتهم، غابت صور المرشحات في أغلب الحالات واستعيضَ عنها بخانةٍ كُتب تحتها اسم المرشحة. وهو ما أثار جدلاً حول فاعلية المرشحات ومدى استقلاليتهن، وجدوى دعاوى تمكين المرأة سياسياً في مجتمعاتٍ ترى أن وجهَ المرأة أو صورتَها الشخصية المستخدمة تعريفاً لهويتها في الفضاءات العامة محلُّ نقاشٍ ونظر.

فالثقافة التي تمنع المرأة استخدامَ صورتِها التي تمثل هويتها الشخصية للتواصل مع جمهورٍ سياسي هي الثقافة ذاتها التي تجعل من الذات الأنثوية تابعةً للرجل وغير مستقلة الرأي. لذلك تصبح الدعوات إلى تمكينها مجرد "زخرفة حداثية" في مجتمعٍ لم يدخل طور الحداثة حقيقةً. وتصير صورُ النساء، الشخصية منها والفنيّة، في المجال الرقمي والمجال العام محطَّ استهجانٍ واسعٍ في ثقافةٍ مبنيّةٍ على الحجب والتواري الأنثوي بدلاً من الظهور.

إلا أن الصور في المجال الرقمي العام تتخذ في ثقافتنا مع مرور الوقت تأويلاً تمرُّدياً، فهي شكلٌ من أشكال التمرّد على ثقافةٍ تفرض نوعاً من العزلة على فئاتٍ محدّدة. فظهور هذه الفئات في الصور مُثقلٌ بالمعنى لأن الصور تعمّم الوجوه وتضيف إليها أبعاداً مُختلفة، وبالتكرار تتحوّل هذه الأجساد والوجوه إلى شيءٍ عموميٍ ومُشاعٍ ما يُمهّد لتقبلها.


لوقتٍ طويلٍ وبسبب حبّي للصور، كنت أشاهد مجموعةً من الصور لمصوّرين مختلفين مثل الأمريكي ريتشارد ايفردون في كتابه "نثنغ بيرسونال" (لا شيء شخصي) المنشور سنة 1964، والفرنسي هنري كارتييه وفيفيان ماير وصور المصري أحمد قابل في مجموعته المسمّاة "عالم متحرّك اسمه القطار". وكنت أشعر دائماً أثناء المشاهدة التي لا تتجاوز دقائق معدودة أن ذهني مليء بمشاعرَ مضطربة عن التزاحم الإنساني الذي يُصوّره أحمد قابل، وتثيرني الصور الشخصية التي تقدّمها فيفيان ماير بانعكاسات المرايا وانعكاسات زجاج المحال التجارية.

كان وجه ماير يعطي تصوراً لشخصٍ غير مُبال، امرأة طويلة بوجهٍ لا يمتُّ للطيبة بأي صلة، بيد أن استغلال المرايا والأسطح العاكسة كان شيئاً تتقنه فيفيان ماير وينمّ عن شيءٍ من الألفة بينها وبين آلة التصوير التي تمسكها، فهي تصوّر الحياة في الشارع ولكنها لا تنسى أنها جزء من هذا الشارع فتلتقط من حين لآخر صوراً لوجهها وجسدها. هذا لا يتوفّر لكثيرٍ من النساء في البيئات القمعية التي تنظر للصورة مجردةً. فإما أن يعود الجسد الأنثوي داخل الصورة إلى امرأةٍ مجهولة أو عارضةٍ محلية لا يُعرف اسمها، وإما أن يكون الوجه مخفياً أو مستهلكاً يألفه الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. فتقنية التواصل ساهمت بغير قصد في الترويج لتلقٍ ملتبس للحياة، إذ كلُّ الموجودات صورٌ في النهاية. صورٌ تُطلّ من شاشات التلفاز والهواتف وجدران المعارض معبّرةً عن الكثير من السأم والضجر من جهة، ومن جهة أخرى لا تبدو حقيقية، فلا وقت للتفكير فيما تمثّله هذه الصور ولا وقت للتفكير فيما تفعله بنا.

هذا يُدخلنا تلقائياً إلى حقبة "تُخمة الصور" التي تجعلُنا نقف أمام مُعضلة استهلاك العالم وكأنّه مجموعةٌ كبيرةٌ من الصور المتفرّقة وغير المترابطة التي تزدحم من حولنا إلى درجةٍ تبعث على التشويش وتؤدّي إلى انتفاء القيمة.

نشأة التصوير وتطوّره بحسب سوزان سونتاغ بدت مُقترنة دائماً بتطوّر مفهوم السياحة، بمعنى أن المصور والسائح يسيران جنباً إلى جنب في تجربتهما الإنسانية التي لا تتجاوز المرور والتدوين، إذ تُختزل التجربة الإنسانية داخل مجموعةٍ من الصور. وهو ما ينعكس حالياً على استخدامنا اليوميّ لآلة التصوير. فنحن نستهلك صوراً أكثر مما نستهلك نصوصاً، ما يثير تساؤلاً عما نفعله بهذا الكمّ الهائل من الصور التي نشاهدها، وهل نحن حقيقةً نتصرّف كسياحٍ شخصيين داخل حياتنا اليومية؟

أميلُ دائماً للنظر إلى التصوير فناً ذا مستويات. يبدأ من التصوير اليومي الذي يركّز على أكبر قدرٍ من اللحظات اليومية ومشاركتها للتباهي أو التوثيق الشخصي، ثم التصوير الصحفي الذي يكتسب قيمته أثناء الأزمات والثورات والمجازر لأنه نوعٌٍ من التوثيق ذي الطابع التأريخي. ومن ثمّ يأتي التصوير الفنّي الذي يعكس مشاعرَ ملتبسة إزاء الوجوه والأجساد والأماكن المحيطة بنا، إذ تساهم عين المصوِّر في تحويل هذه الأجساد والأماكن العادية إلى موضوعاتٍ يمكن أن نفهمها بأكثر من طريقةٍ مع وجود موضوعٍ أساسيّ واحد. وهذا المستوى لا يتوفر في ليبيا كثيراً، إذ تبدو المعارض الفنية المختصة بالصور معارض تراثية تحتفي بالزي الشعبي والمباني التاريخية الجامدة، وتطلّ النساء فيها أجساداً لعارضاتٍ مجهولاتِ الهوية، وتبدو الشوارع فيها مقفرة، فلا وجود إنساني عفوي يمكننا أن نعثر عليه، بل يقف المصوِرُ وقفةً تمثيلية حاملاً آلته ليخلق وجوداً مصطنعاً تقف فيه النساء والرجال جنباً إلى جنب ليؤدوا دوراً محدداً قد اقتُرِح مسبقاً.

تبدو الصورُ في ليبيا مساحةً متنازعاً عليها بين الحجب والظهور، بين تمثيل النساء وتغريبهنَّ عن ذواتهن. في ظلّ ثقافةٍ لا تزال ترى في صور النساء مجالاً للجدل والانقسام، تكتسب الصورةُ معنىً يتجاوز كونها مجرد انعكاس للحظة، لتصبح أداةً للتمرّد أو التقييد. وفي حين بقيَ الحضور النسوي في الصور المحلية محدوداً ومشوّشاً، إلا أن هذا التقييد ذاته كشف عن الفراغ الذي يمكن للصور أن تملأه لإعادة تشكيل الحضور النسوي في المجال العام، ليس استثناءً أو تحدياً، بل جزءاً من حكايةٍ إنسانية أشمل.

ليست الصورة ما نراه فقط، بل ما تخفيه وما تتركه لنا لنفكر فيه أو نشعر به. إنها نافذةٌ نطلّ منها على الذات والمجتمع، ومرآةٌ تعكس ما لم نكن نجرؤ على مواجهته. وربما في هذا التردد الذي يحيط بالتصوير يكمن الأمل في رؤيةٍ جديدة تُعيد تعريف الحضور النسوي بعيداً عن ثقافةِ الحجب، وتجعل من الصورة مساحةً للظهورِ لا الغياب.

اشترك في نشرتنا البريدية