قصّة الصادق واحدةٌ من مئات القصص عن مغاربيين جنّدتهم فرنسا بداية الحرب العالمية الأولى من مستعمراتِها في الجزائر وتونس والمغرب ليحاربوا في صفوفها الأمامية ألمانيا ودولَ المِحْوَر. وبعد أَسرِهم في معارك عدّةٍ، زجّت بهم الدولة الألمانية في معتقلاتٍ يحظون فيها بمعاملةٍ خاصّةٍ أكثرَ إنسانيةً من غيرهم. كان عددُ هؤلاء الكلِّي عشرينَ ألف جزائريٍّ وثمانية آلافِ تونسيٍّ وثلاثة آلافٍ وخمسمئة مغربيٍّ، مشكّلين زهاءَ 32 كتيبةً، وَقَعَ ما يقاربُ ثلاثة آلافٍ منهم أسرى لدى القوّات الألمانية.
لَم يعرف الصادق ورفاقُه مبتغى الألمان منهم، وهذا واضحٌ في قصيدته التي ألقاها، لكن الدولة الألمانية أرادت استغلالهم في مشروعيْن مهمّين يصبّان في صالح طموحاتها الاستعمارية. يوضّحُ الأرشيف الألماني بعضاً من تلك الخطط التي اشتغل بها الألمانُ للتعامل مع أَسراهم المغاربيين، إذ كانوا يحظون بمعاملةٍ تَحترم ثقافتَهم الإسلامية والمغاربية. أرادت ألمانيا كسبَ هؤلاء الأسرى لصفوفها وصفوفِ حليفتها السلطنة العثمانية في حربِهما ضدّ الحلفاء وفي مقدّمتِهم فرنسا. وثانياً أرادت ألمانيا استغلالَهم في مشروعٍ استشراقيٍّ يدرسُ عاداتهم وتقاليدهم وحكاياتهم وثقافتهم. نُظِّمَت رحلاتٌ داخل ألمانيا نفسها ليتعرّف هؤلاء على الثقافة والحضارة الألمانية. سافَر بعضُهم إلى إسطنبول عاصمة دولة الخلافة العثمانية ليكونوا نواةً لكتائب مغاربية هناك. لكن المشروع الألماني الأهمّ كان مشروع استشراقٍ أكاديميٍّ عرّابُه المستشرقُ الألماني ماكس فون أوبنهايم المتوفى سنة 1946، وارتبطَ المشروع حينها بتوظيف مشاعر العداء للاستعمار الفرنسي لصالح الطموحات الألمانية.
أرادَ الألمانُ تحويلَ هؤلاء الأسرى المقاتلين مع فرنسا وبريطانيا إلى مقاتلين موالين لألمانيا والنمسا والسلطنة العثمانية. يقول المؤرّخ التونسيّ المختصّ في التاريخ الألماني منير فندري في ورقة بحثٍ بالفِرنسية بعنوان "المغرب والإسلام في الاستراتيجية الألمانية سنة 1914" إن هدف المستشرق أوبنهايم من مشروع تجنيد المغاربيين لصالح ألمانيا كان "الاستثمار في مشاعر العداء الديني ومناهضة الاستعمار لدى المسلمين لخلق القلاقل والتوتّرات في المستعمرات الإسلامية لخصمِه الأوروبي، لشَغلِه وإضعافه أكثر لصالح ألمانيا".
ركّز الألمانُ أساساً على السجناء من تونس والجزائر والمغرب لاعتقادهم بقدرتِهم على التأثير فيهم. اعترف أوبنهايم بنفسه أنه لا يمكن فعلُ الأمرِ نفسِه مع بقيّة السجناء المسلمين الروس أو المنحدرين من السنغال ودولٍ إفريقيةٍ أُخرى لعدم وجود روابط وثيقةٍ بينهم وبين الخلافة العثمانية.
كان هذا حال الدول الاستعمارية المتنافسة في الاستفادة من الشعوب المستعمَرة. جنّدت فرنسا مئات الآلاف من المقاتلين من شمال إفريقيا، وكان المقاتلون من المستعمَرات نحو 33 بالمئة من مقاتلي القوّات البريطانية بتعداد ثلاثة ملايين جنديٍّ، وشكّل الهنودُ الغالبيةَ العظمى منهم فحارَبوا على الجبهة الغربية في الحرب. وكما هو حال المقاتلين المغاربيين مع فرنسا زُجَّ بالهنود في الصفوف الأمامية في المعارك ، وقُتِل حوالي خمسون ألفاً منهم. كان دخولُ العثمانيين الحربَ العالميةَ الأُولى تهديداً وجوديّاً للبريطانيين، لأنّ من شأن ذلك تحريضُ المسلمين في مستعمراتها عليهم، وهو ما دفعها إلى دعمِ شريفِ مكّةَ الحسين بن علي للثورة على الوجود العثماني في الحجاز. مَدّت بريطانيا الشريف الحسين بالمال والسلاح لتحجيم النفوذ العثمانيّ، والحيلولة دون إعلان الجهاد ضدّ بريطانيا ووعدته بخلافة المسلمين.
أمّا الألمانُ فكانوا واعين بضعف الأتراك العثمانيين العسكريّ، متخوّفين من أن يكون انضمام الأتراك لهم عبئاً عليهم، إلّا أنّهم راهنوا على الشخصية الاعتبارية للسلطان خليفة المسلمين وقدرته على الحشد لصالحهم. هكذا، راسَلَ الإمبراطورُ الألمانيُّ ومَلِكُ بروسيا فيلهِلم غليوم وزيرَ الحربِ التركيَّ أنفر باشا، أو أنور باشا، في أغسطس سنة 1914، لحثّ تركيا على "الضرب" ودعوة المسلمين في الهند ومصر وإفريقيا لخوض الحرب المقدسة. وكانَ مشروع أبونهايم يقعُ في صُلبِ هذه الاستفادة من شعوبِ العالَم والزجِّ بهم في الصفوف الأُولى في حربهم الأوروبية، إذ كان هو من حَرّضَ الإمبراطور الألماني.
عَرَضَ أوبنهايم في أكتوبر سنة 1914 مشروعَ عملٍ على الإمبراطور فيلهِلم غليوم الثاني تحت عنوان "تثوير الأراضي المسلمة تحت سيطرة أعدائنا". كان المشروعُ سِرّياً مدّةً طويلةً، إلا أن مساعد أوبنهايم كارل إميل شابينغر نقل عنه في مذكّراته الصادرة سنة 1967 أن أوبنهايم دعمَ الأتراك تحت راية السلطان الخليفة محمد رشاد "بتحفيز نشوتهم [أي الشعوب المغاربية] وحشد غيرتهم الدينية وحماستهم الوطنية ضدّ الأعداء المشتركين". وحَرَصَ أوبنهايم في نصِّ المشروع المقدَّم إلى الإمبراطور على تقديم تحليلٍ لوضع العالَم الإسلاميّ وإبراز الفرص لنجاح خطّتِه ولَخَّصَها في مشاعرِ الحقدِ التي تُكِنُّها الشعوبُ المغاربيةُ لفرنسا وتَوْقِها إلى التحرّر.
وقد أرجع المؤرخ الألماني ستيفان كرويتزر السبب في رغبةِ أوبنهايم إلى "العزلة الكبيرة التي كان يعيشها الرايخ الألماني في بداية الحرب العالمية الأولى". هذا بعدَ أن فقدت السلطاتُ العثمانية سيطرتَها الكاملة على بلادِ المغرب في نهايات القرن التاسع عشر، قبل أن تسقط سيطرتُها على كلِّ ولاياتها بالمنطقة إثرَ توقيع اتفاقية أوشي لوزان سنة 1912 التي تضمَّنَت التخلّيَ على ليبيا لصالحِ إيطاليا، قبل أن تَدخل الأخيرةُ في دول التحالف في الحرب العالمية الأولى. يقول كرويتزر إنّ أوبنهايم كان مقتنعاً بضرورة أن تستفيد ألمانيا "في معركتها من وسائل الحرب البديلة"، لذلك رأى أوبنهايم مشروعَ التثوير هذا فرصةً لزعزعةِ استقرار "القوى التوسعيّة [يقصد قوات التحالف] وخلق قلاقل داخليةٍ في الأراضي الاستعمارية". يذكرُ كرويتزر أن أوبنهايم ومعه القادة الألمان كانوا يتمنّون "التخفيف عن الجبهات في أوروبا، وتوجيه انتباه القوات البريطانية والفرنسية والروسية إلى جهةٍ أُخرى، وأن يوقف ذلك استقطاب تجنيد قوّاتٍ جديدةٍ في هذه المستعمرات".
وصّى أوبنهايمُ الإمبراطورَ بإحداث هيئةٍ، تحت إشراف وزارة الخارجية، تتولّى التأسيسَ لمشروع تجنيد المسلمين الجهادي. حَمَلَت الهيئةُ اسمَ "مكتب استخبارات الشرق" وهدفُها تجميعُ المعلومات واستغلالُها في الدعاية، ثمّ تنظيم عمليات التخطيط والتحضير لنشر هذه الدعاية الموالية لألمانيا. وأوصى أوبنهايم بضرورة تخصيص معسكر اعتقالٍ منفصلٍ للأسرى المغاربيين لعزلهم عن أيّ تأثيراتٍ فرنسيةٍ أو بريطانيةٍ، ومعاملتهم جيداً، وتوفيرِ الظروف المناسبة لهم لأداء شعائرهم الدينية، وتوظيف مترجمين للتفاعل معهم. بذلت ألمانيا جهوداً كبيرةً وصَرَفَت الكثيرَ من طاقتها لتغيير ولاءاتِ الأسرى المغاربيين. غير أن هذه الدعاية الألمانية بزعم الصداقة والتحالف مع المسلمين المضطهَدين تبنّت في الوقت نفسه خطاباً متناقضاً وعنصرياً، لا سيّما وهي تتّهم فرنسا بالانحراف عن قواعد الحرب ومعاييرها بين أبناء الأعراق البيضاء في أوروبا.
كان الهدفُ من تلك الرحلات إبهارَ الأسرى بعظمةِ الثقافةِ الألمانية، وتحضيرَهم للجهادِ ضدَّ دولِ التحالف. لذا وبتوجيه من أوبنهايم، رافقت نخبةٌ من السجناء مساعدَ أوبنهايم الأوّلَ كارل إميل شابينغر إلى إسطنبول في مهمّةٍ خاصّةٍ لإضفاء مزيدٍ من الشرعية على إعلان الجهادِ المنتظَر ضدّ قوّاتِ التحالف. رَوَّجَ الألمانُ لروايتهم بشأن الحرب ووجّهوا النقد إلى فرنسا التي جنّدت هؤلاء السجناء في ظروفٍ سيّئةٍ، ودفعت بهم إلى الصفوف الأمامية في الحرب. وبعنايةٍ اختير أربعة عشر أسيراً يجيدون القراءة والكتابة ولو في الحدّ الأدنى وكانوا سبعة تونسيين وخمسة مغاربةٍ وجزائريّين اثنين. ورافقهم مترجمٌ مغربيٌ يُدعى حَجّي محمد بِلْعَربي سَبَقَ وأن استقطبته ألمانيا من طريق ضابطٍ لها في طنجة المغرِبيّة. حَلَّ الوفدُ بمقرّ السفارة الألمانية في إسطنبول، حيث شاهدوا من شرفتها أعداداً هائلةً من الجماهير العثمانية القادمة من مسجد الفاتح، عندما أعلن شيخُ الإسلام مصطفى خيري أفندي الأركوبي الجهادَ ضدّ دول التحالفِ، بعد أيامٍ من إعلان السلطان محمد رشاد، والذي أمر الألمانُ أَسراهم في الشرفة بالدعوة له منادين "عاشَ السلطان، خليفة المسلمين".
منح الألمانُ السجناءَ المغاربيين بعد استعمالهم في هذا الاحتفال الرسمي قليلاً من الحرّية. ويروي إدغار شتيرن روبارث، أحدُ الصحفيين المرافقين للوفد، قائلاً إنّ السجناء "أطلق سراحهم وسمح لهم بالاستمتاع قليلاً بإسطنبول إلى حين الحاجة إليهم واستعمالهم مرّةً ثانيةً في أمورٍ أخرى". لكنّ مصير السجناء الأربعة عشر غير معروفٍ، فَلَم يذكر روبارث إنْ أُطلِقَ سراحهم نهائياً وعادوا إلى بلدانهم أم أعادتهم ألمانيا إلى المعسكر مجدداً، أم طُلب منهم البقاء في اسطنبول والالتحاق بالقتال إلى جانب العثمانيين.
وحتى يمكنَ لإدارة المعسكر التأثيرُ على كلِّ السجناء، الذين كانَ جُلُّهم أُمِّيِّين لا يَقرَؤون ولا يكتبون، اضطُرَّتْ الإدارة للحديثِ معهم بلغةٍ يفهمونها فكان الحلُّ أن تتواصلَ معهم بلهجاتِهم المغاربية. أصدرت الإدارةُ جريدةً في ديسمبر 1916، استعملت فيها اللهجات المغاربية المحلّية لسجناء المعسكر، وكُتِبَتْ بالخطِّ المغاربي، وحملت اسمَ "جريدة الأسرى متاع هالبموندلاغر فونسدورف"، وهي جريدةٌ كانت تصدر في صفحتين فقط وصدر منها عشرةُ أعداد. وبخلاف "الجهاد"، كان المحتوى يتضمّن قصصاً وأمثالاً شعبيةً ورسوماتٍ وحكاياتٍ عن الوطن، فيما كان المضمون السياسي محدوداً فيها، ما عدا بعض التقارير عن الحرب التي كان يدوّنها السجناء أنفسهم بناءً على استنتاجاتهم عمّا يرد في التقارير الرسمية الألمانية.
نقرأ في أحدِ الأعدادِ فقرةً عن تنظيمِ خُطَبٍ ودروسِ توعيةٍ للأسرى. تقول الفقرة "من الجمعة الجاية تكون بعد الظهر خطبات [أي خُطَب] تسلّي [الأسرى] ويتعلّموا بها أشياء أربعة، ويسمعوا الكلام في الطيّارات والمراكب الحربية … وفي بعض الخطبات يشوفوا التصويرات مليحة بالزاف ودفتر الخطبات يكون مكتوب على باب بركات الزهد".
كان دوغين صاحب هذه الفكرة الانتهازية التي لا يمكن فصلُها عن سياق المشروع الألماني الكبير لأوبنهايم. وفي فبراير من سنة 1914 قدّمَ دوغين مشروعَه إلى الجهات الحكومية التي بدا لها توظيفُ الأسرى في مثلِ هذا المشروع أمراً مغرياً، فوافقت بسرعةٍ وعُهِدَ إلى دوغين برئاسة لجنة التسجيلات الصوتية التي تأسّست سنة 1915. جمعت اللجنةُ حوالي أربعينَ شخصاً من مختلف التخصّصات، من علماء إناسةٍ ودارسي شعوبٍ ولغويّين وموسيقيّين. جالت اللجنة تسعةً وعشرينَ معسكر اعتقالٍ من أصل 175 وسجّلت لغاتٍ عديدةً بلهجاتٍ مختلفة، وكانت تطلبُ من السجناءِ إمّا قصائدَ أو أغانيَ أو حكاياتٍ شعبيةً أو خرافاتٍ أو قراءةَ أرقامٍ أو كلماتٍ بلغتِهم الأمِّ، وطُلَبُ من السجناء تلاوةُ القرآن أحياناً.
كانت قصةُ التونسي الصادق بن برشيد، الذي جنّدته فرنسا سنة 1914 إحدى تلك القصص للمحتجزين في معسكر هالبموندلاغر، أو "الهلال". جلس الصادق يومَ 30 مايو 1916 قُدّامَ جهاز الغراموفون، وأمامَ أعينِ أعضاءِ لجنةِ التسجيل الصوتيّ، ليلقيَ ويغنّيَ ثلاثَ قصائد بالعامّية التونسية مخلوطةً بكلماتٍ جزائريةٍ ومغربية. كانت تلك قصائدَ حربٍ يحكي فيها قصّته بدايةً بتجنيد الفرنسيين له، مروراً بإصابته البليغة في المعارك بين الجبالِ في بلجيكا، ثمّ حين اعتقله الألمانُ واعتقاده الساذج وقتها أن الألمان سيُخلونَ سبيله ليفاجأ بنقلهِ إلى معسكر احتجازٍ على الأراضي الألمانية. يقولُ الصادق:
آذاونا حتى الألمان وبرصاصهم جرحونا وإن قدّر ربّي علينا واش لنا من حكومة
تجرحت ما بين جبلين وقعدت نبكي وننوّح ودمي يجري غدران بدني بكلّه مشوّه
فرحت وهزوني الألمان وحسبت روحي مروّح لقيتهم قفلو عليا بالاقفال يا قعادتي هوني ملوّح
فبلجيك [بلجيكا] عذّبوني والطبا [الأطباء] زادو عليّا عملو على قصّان رجلي حتى الطبيب حار فيّا
دمي غدرات غدران يا رب فرّج عليّ
يمكن الاستماع إلى هذه القصيدة في أروقة الأرشيف التابع لجامعة هومبولت في برلين. ويمكن الاستماع إلى قصيدتين أُخريَيْن ألقاهما الصادق عن الحرب. وفي المجمل يمكن أن نسمع صوت الصادق فيما مجموعه سبعة تسجيلاتٍ لم يَنَلْها التلفُ والضياع. حرصَ أعضاءُ اللجنةِ على تدوينِ بيانات الأسرى كافّةً الذين يسجّلونهم في نموذجٍ للبيانات الشخصية. فنجدُ الاسمَ الكاملَ وتاريخَ الولادة ومكانَها ومكانَ الإقامة السابقَ والمهنةَ واللغات التي يتحدّثها كلٌّ من هؤلاء السجناء. هكذا نفهم أن الصادق كان في السابعة والعشرين من عمره حينما ألقى هذه القصائد في الأَسْر، وأنه كان في الأصل فلّاحاً وأنه لا يتحدّث أيَّ لغةٍ غير العربية بلهجتِها التونسية.
إذا كان الصادق قد استطاع التحدّث في التسجيل عن نفسه ويروي قصته وموقفه إلى حدٍّ ما، فإن ذلك يمثّل حالةً نادرة. كانت الطبيعة الاستعمارية للمشروع ترى المُسَجَّلين "شخصيات صوتية"، فالتسجيل لا يبتغي الحفاظ على حدثٍ صوتيٍّ حاصلٍ، وإنّما يخلق حدثاً صوتياً بغيةَ الحفاظ عليه بتسجيله. التسجيل إذن منفصلٌ عن الحدث الذي يقال إنه يمثله. مثلاً، لا نعرف الكثير عن الأسير التونسي الشابّ سليمان سوى أنّه من قصر مدنين، الاسم القديم لمدينة مدنين جنوب تونس. وكان سليمان عاملَ سككٍ حديديةٍ، وسجّل الألمانُ صوتَه عدّة مرّاتٍ سنة 1918 في المعسكر ذاته، فروى لهم حكايةً خياليةً عن فتىً ابتغى المالَ فوجد نفسه في قصرٍ تسكنه الغيلان، وكأنّ الحكاية رمزيةٌ عمّا حدثَ معه في الحرب. وبعدها طُلِبَ منه ترديد الأرقام بالعربية وأسماء عددٍ من الحيوانات والألوان والأيام والفصول والأطعمة في بلدِه والمعادن وأعضاء الجسم، كلّ ذلك بلهجتِه التونسية.
لا نعلمُ ما ألمّ بسليمان بعد هذه التسجيلات وهل عاد إلى تونس أم تُوفِّيَ في المعسكر ودُفِن في ألمانيا كحال عددٍ من السجناء المغاربيين. تثبتُ وثائق تحقيقات الصليب الأحمر، التي اطّلعتُ عليها في بحثي، أن دفنَ السجناءِ كان شائعاً. تُظهر الوثائق دفنَ أحمد بن علي وأحمد بن الشريف، وهما أسيرانِ جزائريان، في مقبرة زيرنسدورف سنة 1917. وتؤكّد الوثائقُ الألمانية الرسمية دفنَ 262 شخصاً من شمال وغرب إفريقيا في المقبرة ابتداءً من سنة 1914، مع مراعاةِ بعض خصوصيات الدفن عند المسلمين، بحسب المؤرخ هوب.
وتُظهِرُ التسجيلاتُ الصوتيةُ المخزّنة في أرشيف متحف هومبولت في برلين حضوراً للقصائدِ الشعبية الحربيةِ التي تتناول معارك وأحداثاً تاريخية. وهكذا يحضرُ رموز المقاومة الشعبية المغربية المبكرة ضدّ فرنسا، ومنهم محمد ولد بوعبيد العتيوي والأحمر بن منصور، في عددٍ من القصائد التي ألقاها السجناء. وتطرّق أحد السجناء إلى القصف البحري الذي شنّته فرنسا على مدينة الدار البيضاء سنة 1907، ردّاً على هجومٍ شنّته قبائلُ الشاوية المغربية ضدّ موظفين أوروبيين. فَهِمَ الألمانُ من تلكَ التسجيلات أنّ أَسراهم قد لا يُحِبّونهم لكنّهم يكرهون فرنسا.
أصدر فيلهلم دوغين سنة 1925 مؤلفاً عنوانه "بين الشعوبِ الأجنبية: إثنولوجيا جديدة" يتناول هذه التجربة بالتفصيل، ساهم فيه أعضاءٌ من اللجنة وقدّموا فيه بعضاً من ملاحظاتهم عن الشعوب واللهجات واللغات المستهدَفة بالتسجيل. يقول دوغين في مقدمة مؤلَّفه إن التسجيلات تستهدف "خلق شهادات ثقافية حية ستستمر لآلاف السنين". خصّص دوغين فصلاً كاملاً عن السجناء المغاربيين. ومع أنّه لم يُترجَم إلى العربية إلّا أنّه من الوثائق النادرة التي تتطرّق إلى جوانب من حياةِ الأسرى في معسكرات الاحتجاز. يقول دوغين إنّ "كل آمال السجناء الشمال إفريقيين [يقصد المغاربيين] كانت أن يغادروا هذا المعسكر، وأن يعودوا إلى بلدانهم بعد أن تضع الحرب أوزارها"، كحال شاعرٍ كتبَ أبياتاً بالفرنسية والعربية يعبّر فيها عن حزنه، ويشكو حالَه ويقول بأنه عانى كثيراً بسبب السنواتِ الثلاثِ التي عاشها في المنفى، داعياً اللهَ أن يحميَه. بينما عبّر سجينٌ آخَر عن فرحته العارمة لأن وقت مغادرته المعسكر قد حان، دون أن ينسى وصفَ أيامه العصيبة هناك إذ مكث أربعَ سنواتٍ يتذوّق الحساء السيّئَ والقهوةَ المُرّة. يقول السجين: "الآن أحمد الله أنني عائدٌ إلى الديار حيث سأصبح سيّد نفسي مرّةً أخرى".
لم يستحوذ مضمون ما يلقيه السجينُ الاهتمامَ الأكبر للقائمين على عمليات التسجيل بقدر ما كان يعنيهم جودة الصوت وطبيعة اللغة التي يتحدّثها السجين. وتذهب آنيت هوفمان، الباحثةُ في الدراسات الإفريقية، أبعدَ حينما تتحدّث عن فائض المعاني والمعلومات التي لم يفهمها المستمعون حينها، ومع ذلك فقد سُجِّل.
طوّر السجناء على أُمِّيتِهم عادةَ التواصل بالرسائل مع بلدانهم وكانت تصلُهم أجوبةٌ من هناك. كان هناك وسطاء وكتّابٌ محترفون من الجهتين يتكلفون بكتابة هذه الرسائل. تبدأ الرسائل عادةً بشكر الله وحمده ورجاء الخير والسلامة لمتلقّيها قبل أن يقدّم مرسلُها نفسَه. ويلاحظ دوغين تكرّر عباراتٍ من قبيل "لا نطلب من الله سوى أن نكون معك مجدداً، وأن نرى وجهك العزيز" في معظم هذه المراسلات.
حملت بعضُ هذه الرسائل للسجناء أخبارَ عائلاتهم وأحوالَ بلادهم. فنقرأ في مقاطع رسالةٍ وصلت إلى سجينٍ جزائري: "في عام 1914 كانت هناك مصيبةٌ أكبر، أسوأ من سنة 1906. استهدف وباءٌ قطعانَ الماشية في كلّ البلاد مئة رأسٍ ذهبت جميعها … في ربيع 1915 حصل شيءٌ سيّئ لم يسبق أن حصل للأرض. ضربها الله سبع مرّاتٍ بالثلج، ولم يبق أيّ شيءٍ من المحاصيل". وغالباً ما تتطرقُ الرسائل لحالةِ الأسعار التي أصبحت باهظةً في بلد الجندي. وهكذا اشتكى أحدهم في الجزائر في إحدى الرسائل من الأسعار التي أصبحت أعلى مرّتين أو ثلاثاً بسبب الجشع، فيكتب "الدخان الذي كان بعشرة سنتيم [عملة فرنسية] أصبح بخمسين والقهوة والسكّر بزوج فرنك".
ومع أنّ الرسائل السياسية والعسكرية كانت محظورةً في المعسكر، إلّا أن فيلهلم دوغين وجماعته التقطوا غيرَ ما مرّةٍ بعض الإيحاءات الساخرة في رسائل عدة، ومنها رسالة تونسية كان مرسلُها يتحدّث مجازيّاً عن الهزائم العسكرية لفرنسا، فشبّهها بطائر اللقلق الذي كاد يكسر عنقه. وساعدَتْ هذه الرسائلُ العاملينَ في المعسكر على فهمِ مزاجِ السجناء السياسي.
بدا الأسرى من المغرب أكثر حماساً لبَثِّ حكاياتهم وأغانيهم الشعبية، قبل أن ينضمّ إليهم التونسيون والجزائريون، فقد كان هؤلاء متوجّسين من أهداف اللجنة السياسية. اهتمّت اللجنة شكليّاً بتنويع المادّة المسجّلة، فنجد أثناء الاطلاع على الأرشيف الصوتيّ أو المكتوب قصائدَ حبٍّ أو رثاءٍ أو أخرى ذات مدلولٍ سياسي. وكانت كلُّ الرسائل تصبُّ في صالحِ المشروعِ الألماني لدراسةِ شعوبِ شمال إفريقيا.
ركّز دوغين عملَه بعد ذلك أكثر على تطوير تقنياتِ التسجيل وجعلها تخدم مصالح الدوائر الحكومية الألمانية داخلياً كمحاربةِ الجريمة ونشرِ اللغة الألمانية. تستنتج الباحثةُ في التاريخ والثقافة في جامعة همبولت بريتا لانغ أنّ التسجيلات لم يكن لها "حياة علمية ثانية إلى أن أعيدَ اكتشافها كغنيمة تاريخية للأرشيف من خلال الأرشيف نفسه … في حالة تسجيلات سجناء الحرب من المفهوم أن نتحدث عن مشروع أرشفة، مشروع للتجميع … ولم يكن متوافقاً تماماً مع أي من التخصصات العلمية المعنيّة: علم إناسة، أو دراسات استشراقية، أو لسانيات، أو حتى علم الموسيقى المقارن".
وهكذا انتهى مشروع فيلهلم دوغين الأوّليّ مع صاحبه إثر تقاعده سنة 1933 بعد أن واجه اتهاماتٍ بمحاولات الاغتناء الشخصيّ من بيع التسجيلات وتحصيل أرباحٍ تجاريةٍ من مشروعه أكثرَ من انشغاله بالأهداف العلمية. ولم يَعُد الاهتمامُ بأهمّية هذه التسجيلات المخزّنة إلا منتصف السبعينيات مع عالِم الإناسة يورغن إيلسنر الذي ساهم في الحفاظ عليها وهَيّأَ الأساسَ لرقمنة هذه التسجيلات في بداية التسعينيات.
وباستثناء الأرشيف الصوتيّ وبعض التفاصيل المبعثرة هنا وهناك، التي تحَكَّم فيها ونشرها مسؤولون سياسيون أو عسكريون ألمان كانوا جزءاً من المرحلة، لا تتوفر لدينا معطياتٌ كافيةٌ محايدةٌ وموثوقةٌ عن الحياة اليومية لهؤلاء الأسرى في المعسكرات الألمانية. ممّا نعرفه مثلاً أنّ السجناء المغاربيين وجدوا صعوبةً في إيجادِ أنشطةٍ ترفيهيةٍ خارج ساعات الأعمال اليومية. وقد حصلت كثيرٌ من المحاولات من قبيل إرسالِ كتبٍ بالعربية وفّرتها السفارة العثمانية، غير أن هذه الكتب استعملها السجناء المسلمون التتار فقط، ولم تصل إلى المغاربيين لأن معظمهم كانوا أمّيّين، أو بالكاد يجيدون كتابة أسمائهم، بحسب ما أورده مؤلَّف دوغين. بعد ذلك حاول القائمون على المعسكر تشجيعهم على تعلّم العزف على بعض الآلات مثل الناي وآلة الكمبري الوترية والكمان. وقد أحدثت سلطات المعسكر أوركسترا لهذا الغرض، لكن هذا النشاط بدوره لم يَدُم طويلاً بعد أن نُقِل العديدُ من السجناء إلى رومانيا.
لا نعلم أكثر ممّا سمح الألمان بنشره، ولا يمكن التحقّق من الرواية الألمانية الرسمية التي تروّج لمعاملةٍ مثاليةٍ لأسرى الحرب من شمال إفريقيا. هل كانوا حقّاً ضيوفاً لا سجناء؟ هل سُمِحَ لهم بأداء شعائرهم الدينية بحُرّيةٍ، كما تدّعي المصادر الألمانية، أم ضُيّقَ عليهم في دينهم؟ لا نعلم إن حظوا فعلاً بإعفاءاتٍ أو تسهيلاتٍ فيما يخصّ الأعمال البدنية الشاقّة داخل المعسكر أو خارجه. ولم يصلنا خارج ما أرادت الرواية الألمانية قولَه أيُّ شيءٍ عن امتيازاتهم في الطعام وتوفّر السجائر، بخلاف حال الأسرى من أعراقٍ أخرى. كلّ ما نملكه من معلوماتٍ هو في حقيقة الأمر جزءٌ من الدعايةِ الرسمية الألمانية في تلك المرحلة، وهي دعايةٌ مارست نوعاً من الصمت أو الإسكات المتعمّد لأصوات هؤلاء الأسرى.
ما نعلمه عن هذا المشروع أيضاً أنّه، على ولاءِ هؤلاءِ الجنودِ المغاربيين الضعيفِ لفرنسا، إلّا أنّ الطموحات الألمانية آلت إلى فشلٍ ذريعٍ إذ لم تستطع إقناع سوى فئةٍ قليلةٍ من هؤلاء الأسرى بالقتال من أجلها وتحديداً مع العثمانيين. يقول المؤرخ الألماني فريتز فيشر إن "الأثر كان صفراً". ونقل هوب عن رودولف نادولني، السفير الألماني إلى السلطنة العثمانية، اعترافَه بالقول: "بشكلٍ عامٍّ لم يحالفنا الحظّ لكي تنتشر هذه الحرب المقدّسة. بالكاد اهتمّت الشعوب المسلمة بذلك، مع أنّ السلطان هو من أعلن عنها".