أتت تصريحات رئيس الحكومة الألبانية لتتوّج عقوداً من التحوّلات التي شهدها الإسلام في ألبانيا منذ انفصالها عن الدولة العثمانية سنة 1912. بدأ ذلك من قرارِ رئيس وزرائها أحمد زوغو في عشرينيات القرن الماضي بضرورةِ فصل الدين عن الدولة، وسعيِه إلى إعادة هيكلة المؤسسات الدينية وجعلِها تحت رقابة الدولة. دفع هذا التطوّرُ المسلمين في ألبانيا إلى محاولة التأقلم مع التحوّلات السياسية، وبالأخصّ بُعَيْد الستينيات إبّان حُكمِ الشيوعيين الذين خوّلوا أنفسَهم سلطةَ سحب الاعتراف من أيِّ جماعةٍ دينيةٍ وخفّضوا دعمَ المؤسسات الدينية وقصروا رفع الأذان على أذان الجمعة والعيدين فقط. وفي تلك الظروف، اضطُرَّ مئاتُ آلاف الألبانيّين للهروب إلى دولٍ مجاورةٍ، حيث تعرفوّا على أديانٍ جديدة. وفي التسعينيات تبدّت رغبةُ شرائح واسعةٍ بالانفتاح على الأديان الأُخرى، أو نهج "اللاتَدَيُّن"، ممّا أدّى إلى تراجع عدد المسلمين إلى أقلّ من 50 بالمئة من السكّان. وفي هذه الأجواءِ تبرز البكتاشية، وهي جماعةٌ مسلمةٌ ذاتُ مذهبٍ خاصٍّ، حَلّاً لمواجهة ذلك التراجع في عدد المسلمين. فتبدو هذه الطريقةُ في انفتاحِها على السماح بشرب الخمور، وعدم ارتداء الحجاب، ممثِّلةً نمطَ تديّنٍ قريبٍ من قناعات الشباب الألبان. لذا سَعَت الحكومةُ الألبانيةُ إلى توظيف البكتاشية داعيةً لتكون مركزَ "فاتيكان بكتاشي" يقدّم صورةً "متسامحةً" عن الإسلام.
كان هذا الوصف الذي تميزت به ألبانيا مدخلاً لتكون "حقل تجارب" في القرن العشرين يُثمر أسماءً جديدةً من حينٍ إلى آخر. ففي خريف 1913 عَيّنت لجنة الانتداب الأوروبي أميراً ألمانياً لحكم الدولة الجديدة، بينما كان المسلمون يُطالبون بحاكمٍ مسلم. وفي أبريل 1914 وضعت اللجنة أول دستورٍ للبلاد أصبحت بموجبه ألبانيا أول دولةٍ علمانية في عالم المسلمين، بينما أحرزت إيطاليا في معاهدة لندن 1915 الحق بأن تكون دولةً حامية للمسلمين في ألبانيا الوسطى فقط. وفي 1920 أصبحت ألبانيا أول دولةٍ بغالبية مسلمة تَمنح حق التصويت للمرأة، وانضمّت في العام نفسه إلى عضوية عصبة الأمم.
ومع بروز أحمد زوغو، الذي كان وزير داخلية في ألبانيا سنة 1920 ثم رئيس وزراء في 1922 ثم رئيس جمهورية في 1925 ثم ملكاً في 1928، سبقت ألبانيا تركيا في "التحديث" على النمط الأوروبي. وصارت الأديان شأناً محلياً ألبانياً بلا أي ارتباط بمعتنقي الأديان أو التكتلات المعبّرة عنهم في الخارج. وفي أثناء الاحتلال الإيطالي ألبانيا بين سنتي 1939 و1943، أصبح موسوليني "حامي المسلمين"، وتضاعفت المساعداتُ المالية للمسلمين الألبان سبع مرات، ونشر مفتي ألبانيا بهجت شاباتي كتابه "الإسلام والفاشية" سنة 1941 ساعياً إلى إثبات تتطابقِ الفاشية مع الإسلام. أما في أثناء حكم الحزب الشيوعي من 1944 إلى 1990 فقد انطلقت الثورة الثقافية على النمط الصيني في 1964، وتجاوزت ألبانيا الصين في 1967 بإعلانها أنّها "أول دولة ملحدة في العالم" بعدما هدمت أو أغلقت كل المعابد، وأصبح أي نشاطٍ ديني حتى الصلاة في البيت يعاقب عليه القانون.
ومع التحوّل للديمقراطية في 1991 أصبحتْ ألبانيا مقصداً لعشرات المنظمات الدينية المسيحية والإسلامية، التي وجدت فيها تربةً خصبةً لجذب المؤمنين الجدد. وهو ما أثّر في التنوع الديني للبلاد، بعد أن ضمَن الدستورُ الجديد سنة 1998 للمواطنين الحق في اعتناق أي دين، والحق في الانتقال من دينٍ إلى آخر. فقد كشف إحصاء سنة 2023 أن نسبة المسلمين في ألبانيا انحدرت إلى 50 بالمئة من السكان، وأصبحت الطوائف الأخرى ترفض أن يُقال عن ألبانيا "دولة بغالبية مسلمة".
عند نشأتها في الأناضول، كانت البكتاشية أقرب إلى طريقةٍ متأثرة بالتراث الصوفي الخراساني، وخاصةً بالشاعر الصوفي أحمد يسوي، شأنها شأن الطريقة المولوية التي تُنسب إلى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي. وكان للبكتاشية دورٌ كبير في تأسيس الإنكشارية وصعودها، والإنكشارية هي كتيبة النخبة في الجيش العثماني. فقد قابل حاج بكتاش السلطانَ العثماني أورخان بن عثمان مباركاً تأسيس جيشه الجديد الانكشاري. وعندما نجحت الإنكشارية في "فتح" البلقان نهاية القرن الرابع عشر، ردّت الجميل بنشر البكتاشية في تلك المناطق وعلى رأسها ألبانيا، بأثر من تبنيهم لها.
لكن التأسيس الحقيقي للبكتاشية طريقةً مختلفةً عن بقية الطرق التي سبقتها إلى الظهور في الدولة العثمانية، كالقادرية والرفاعية والسعدية والمولوية، يرتبط باسم سرسم علي سلطان الذي اشتهر باسم "البير الثاني" أو "المعلم الثاني" بعد حاج بكتاش ولي. فمع سرسم، اكتملت عقيدة البكتاشية وهرمية المعرفة أو العقيدة حسب تسلسل المنتمين. تبدأ من الشريعة "العاشق" وترتقي إلى "المحب" ثم المعرفة "الدرويش" وصولاً إلى الحقيقة "البابا"، مع مسحةٍ علوية تؤمن بالإمام علي وبقية الأئمة الاثنا عشر. وارتبطت التكايا البكتاشية في القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأوروبا، بالمركز العام في بلدة حاج بكتاش بوسط الأناضول التي اتخذها الجد (دده بابا) مقراً له.
في عهد "البير الثاني" بدأ انتشار تكايا البكتاشية في المناطق الألبانية التي جذبت إليها السكان في الريف، لأنها مفتوحةً للجميع. وعزّز الإيمانُ بمعجزات شيوخ البكتاشية وبركاتهم انتشارَها بين سكان الريف. بينما جذب تساهلُها في أداء بعض الأركان كالصلاة والصيام والحج، وكذا تساهلها مع شرب الخمر، آخرين من المدن والقرى. اقتصر الصيام عند البكتاشية على أيام عاشوراء، والحج إلى كربلاء، ثم لاحقاً الحج في كل سنة إلى ضريح العباس بن علي. والعباس بن علي هو ابن الإمام علي بن أبي طالب الذي يعتقد البكتاشيون أنه لم يُقتل في كربلاء، وأنه انتقل إلى ألبانيا لتحريرها من البرابرة، وهناك استراح زمناً في جبل تومور المقدّس جنوب ألبانيا. وبناءً على هذا المعتقد، بنى البكتاشيون مزاراً له في جبل تومور في القرن السابع عشر، ثم صاروا يحجون إلى المزار في عيد النوروز الموافق الثاني والعشرين من مارس، وهو عندهم يوم مولد الإمام علي. زاد انتشارُ البكتاشية في عهد الوالي الألباني علي باشا الذي كانت ولايته (يانينا) تمتدّ من ألبانيا الوسطى إلى ضواحي أثينا، بسبب طموحه في الاستقلال على نمط محمد علي باشا في مصر. فقد تحدّى السلطانَ العثماني محمود الثاني ورفض طلباته بإخضاع الانتفاضة الصربية في 1813، بل دَعَمَ المتمردين على السلطنة في اليونان، فتخلّص منه السلطان بقتله في 1822. وبقتله، تلقت البكتاشية ضربةً عنيفة كادت تهدد بقاءها. فقد استهدفَ السلطانُ قوات الإنكشارية الألبانية، وأصدر أمراً بإلغاء البكتاشية وغَلقِ تكاياها وتوزيع مواردها ومقارها على الطرق الصوفية الأخرى.
ومع تطبيق مراسيم "التنظيمات العثمانية" في 1839، والتي نحت بالقوانين في السلطنة نحو العلمنة، استعادت البكتاشية الكثير من تكاياها في المناطق الألبانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكنها انتقلت إلى طورٍ آخر معارضٍ الدولةَ العثمانية تحت راية القومية الألبانية الصاعدة بعد 1878. فقد أدى مؤتمر برلين 1878 الذي وسّع الدول البلقانية المستقلة، اليونان وصربيا والجبل الأسود، على حساب الألبان إلى بروز حركةٍ قومية ألبانية تجمع المسلمين والمسيحيين الألبان، وتطالب بوحدة المناطق التي يعيشون فيها مع حكمٍ ذاتي يشمل الحق باستخدام لغتهم الألبانية في التعليم والنشر.
في هذا السياق برزت أسرة فراشري البكتاشية التي ضمت الأخوة عبدل وسامي ونعيم فراشري، الذين أسهموا في "ألبنة" الطريقة البكتاشية وجعلها قومية وعدّوها "الدين القومي للألبان"، متأثرين برؤية مثقفين ألبان مثل فائق كونيتسا. كان عبدل فراشري عضو مجلس المبعوثان، وهو المجلس النيابي العثماني، وكان من زعماء الحركة القومية المسلحة التي كوّنها البكتاشيون في صيف 1878 للدفاع عن المناطق الألبانية تحسباً لتخلي الدولة العثمانية عن أراضي ألبانيا لصالح القوميات البلقانية الأخرى، وقد انتهى به نضاله إلى السجن والنفي. أما الأخ الثاني نعيم فراشري، فقد وُصف بأنه "شاعر النهضة القومية الذي أشاع النفَس الألباني في البكتاشية"، واشتهر بقوله "البكتاشيون يحبون بحق المسلمين الآخرين والمسيحيين وكل البشر، ولكن قبل كل شيء يحبون وطنهم ومواطنيهم وهو أكبر الفضائل". ولُقِّب الأخ الثالث شمس الدين أو سامي فراشري "منظّر الحركة القومية الألبانية" بعد نشر كتابه "ألبانيا: ماذا كانت وما هي الآن وكيف ستكون في المستقبل" في 1899.
بفضل هذا التوجه القومي لأتباع الطريقة، أصبحت البكتاشية هوية جامعة للألبان، لا سيما مع ازدياد تكاياها وأتباعها في مناطق تمركز الألبان، ألبانيا الجنوبية وكوسوفو ومقدونيا الغربية. وأصبحت التكايا مركزاً لتهريب الكتب والصحف الألبانية المنشورة وتوزيعها في الخارج بالحروف اللاتينية القادمة من دولٍ، منها بلغاريا ورومانيا ومصر. فكانت تكايا البكتاشية أشبه بمراكز ثقافية أيضاً، إذ كانت لكلّ تكية مكتبة تشمل المؤلفات المختلفة في اللغات العثمانية والفارسية والعربية، وكان شيوخ التكية ودراويشها يطالعون ويكتبون ويدرّسون الأولاد في المنطقة. ومن هؤلاء كان الإخوة فراشري الذين بدأوا طريقهم الطويل للمعرفة من التكية في بلدتهم فراشري بجنوب ألبانيا.
وفي جنوب ألبانيا، مركز البكتاشية، تصاعدت المقاومة المسلحة في السنوات الأولى للقرن العشرين، حتى أعلن السلطان عبد الحميد الدستور في صيف 1908 متضمناً استقلال ألبانيا في الثامن والعشرين من ديسمبر 1912. ثم أعلن مؤتمر لندن في 1912 و1913 وضعَ ألبانيا تحت الانتداب الأوروبي وتعيين الأمير الألماني فيلهلم فون فيد عليها، وتشكيل "لجنة الرقابة الأوروبية" التي كُلّفت بتعيين الحدود ووضع دستور لها. اختير عضو ألباني وحيد لعضوية لجنة الرقابة، وهو مهدي فراشري الذي كان له دوره في تضمين نص الدستور البند الخاص بعلمانية الدولة الجديدة، إذ عدَّ العلمانية طريقاً مناسباً للدولة الأوروبية الجديدة ذات الغالبية المسلمة. وشاركت شخصياتٌ بكتاشية في الحكومة الأولى للملك فون فيد، ولكن اندلاع الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها ألمانيا، جعلت فون فيد يترك ألبانيا ويلتحق بجيش بلده.
أتت سنة 1920 ببشائر استقرار لألبانيا عقب مؤتمر الصلح في باريس. إذ تحرك الألبان لتحديد مصير دولتهم رداً على تجديد الدول المعنية بمعاهدة لندن السرية مطالبها بتقسيم أراضي ألبانيا والموقعة في 1915. فقد ردّ الألبان بعقد مؤتمرٍ قومي للإنقاذ في لوشنيا في يناير 1920، أكدوا فيه وحدة ألبانيا واستقلالها وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ ومجلس وصاية يتكون من أربع شخصيات تمثل الجماعات الدينية الأربع في ألبانيا، السُنّة والبكتاشية والأرثوذكسية والكاثوليكية، ليشكل بذلك تقليداً جديداً في ألبانيا استمر حتى 1925. ورأس مجلس الوصاية ممثّل البكتاشية عاكف إلبساني.
أدى اتفاق لوشنيا 1920، ومخرجاته التي شملت الدستور المؤقت، إلى استقرار أحوال الدولة الألبانية. ونصّ الدستور المؤقت على عدم وجود "دين رسمي للدولة"، و"احترام كل الأديان والمعتقدات الدينية" بشرط "عدم استخدامها لأغراضٍ سياسية". وكذلك بدأت مأسَسَة الأديان في ألبانيا بعد التحولات التي طرأت على الدول المجاورة، تركيا الكمالية واليونان وإيطاليا. وكانت البكتاشية هي المبادِرة لذلك مع عقد المؤتمر البكتاشي الأول في تكية بريشتا جنوب ألبانيا في يناير 1921، الذي أعلن فيه أتباع الطريقة عن أنفسهم باسم "الجماعة البكتاشية" وتأسيس كيانهم. ثم عقد علماء السُنّة مؤتمرهم في مارس 1923 وأعلنوا فيه تأسيس "الجماعة المسلمة الألبانية" برئاسة مفتي ألبانيا وهبي ديبرا، وانفصالها عن مشيخة الإسلام في إسطنبول.
مع التوجه لعلمنة الدولة، برز وزير الداخلية أحمد زوغو الذي صار رئيس الوزراء سنتين ثم رئيساً للجمهورية ثلاث سنوات ثمّ ملكاً لألبانيا عشرَ سنوات، امتدت من 1929 إلى 1939. فقد كان زوغو سابقاً أتاتورك في "إصلاحاته" لعلمنة الدولة والمجتمع وحريصاً على استقلال المؤسسات الدينية الألبانية بألا يكون لها ارتباطات خارجية مع المراكز المجاورة، كمشيخة الإسلام وبطريركية إسطنبول والفاتيكان، وأن يكون كل العاملين فيها من الألبان، وأن تكون الألبانية لغتها الرسمية، وأن تعدّ لائحة قانونية بذلك.
وجاء ما حدث في تركيا الكمالية آنذاك، من منع الطرق الصوفية وإغلاق مقارها، لصالح البكتاشية في ألبانيا. فقد كان رأس الطريقة البكتاشية في الدولة العثمانية، والكيانات المنبثقة عنها في اليونان والعراق ومصر وبلغاريا وألبانيا من 1913 إلى 1925، ألبانياً. وهو صالح نيازي دده بابا، الذي آثر أن يعود إلى موطنه حيث حظيَ بترحيب الجماعة البكتاشية. ومع انعقاد المؤتمر البكتاشي الثالث في تكية توران جنوب ألبانيا في سبتمبر 1929 لوضع لائحة قانونية لوضعيتها، نجد أن لائحة "الجماعة البكتاشية الألبانية" الجديدة جعلت البكتاشية طائفةً مستقلة إلى جانب "الجماعة المسلمة الألبانية"، وهم السنة. وعزز وجود صالح نيازي دده بابا في ألبانيا، مع الاختلاف العقدي في بعض القضايا، من فكرة تأسيس جماعةٍ دينيةٍ مستقلة، ونجاح مسعى نيازي في أن تكون ألبانيا مركزاً عالمياً للبكتاشية عوضاً عن تركيا.
ومع أنها أكثر انفتاحاً من الجماعات الدينية الأخرى، ومع دورها في تأسيس الحزب الشيوعي، إلا أن الجماعة هُمشت كبقية المؤسسات الدينية الأخرى أثناء الحكم الشيوعي في الفترة من 1945 إلى 1964، بل هُدد وجودها. ففي 1964 بدأت "الثورة الثقافية" على النمط الصيني ضدّ الدين والمؤسسات الدينية، بعد انشقاق ألبانيا عن الاتحاد السوفييتي وتقاربها مع الصين الماوية، وامتدت لتشمل تدمير الجوامع والكنائس والتكايا وإغلاقها، وتحويل بعضها إلى مخازن ومتاحف ومطاعم وغير ذلك. وفي صيف 1967 صدر مرسوم "إلغاء الدين" الذي أُعلنت بموجبه ألبانيا "أول دولة ملحدة في التاريخ". فجُمع رجالُ الدين وحُلقت لحاهم، وأُرسلوا لتعلم "مهن مفيدة" للمجتمع وسُجن من اعترض على ذلك.
مع انهيار جدار برلين اقترب "ربيع أوروبا الشرقية" من ألبانيا سنة 1990، اذ أرغمت المظاهرات الطلابية قيادةَ الحزب الشيوعي على قبول "التعددية السياسية" وتأسيس أحزابٍ سياسيةٍ ديمقراطية. في غضون ذلك قاد المفتي السابقُ صبري كوتشي، بعد إطلاق سراحه من السجن، الحراكَ الجديد لافتتاح "جامع الرصاص" المغلق في مدينة شكودرا، فأدى أولَ صلاةِ جمعة في السادس عشر من نوفمبر 1990، ما يعني إحياء "الجماعة المسلمة الألبانية" وانتخاب الإمام كوتشي رئيساً لها في 14 نوفمبر 1991. ولكن وضع "الجماعة البكتاشية الألبانية" كان أصعب لغياب القائد المؤهل بعد وفاة آخر البابوات قبل سنة 1990.
أحيا الدرويشُ السابقُ رشاد بارذي الطريقةَ البكتاشية، وكان قد بلغ رتبة الدرويش في 1954 ثم نُفي مع معلّمه البابا أحمد مفتاري إلى قريةٍ نائية عشرَ سنوات. عاد في 1967 وعُيّن في "مهنة مفيدة" عاملاً في منشأة زراعية في تيرانا وظلّ يعمل فيها حتى سنة 1990 التي تراجعت فيها سيطرة الحزب الشيوعي، ليفتتح الدرويشُ الباقي مقر الطريقة البكتاشية الجديد في يوم النوروز سنة 1990، ثم يعيد إحياء الطريقة البكتاشية الألبانية ويبقى على رأس الجماعة حتى وفاته في 2011.
في الفترة من 1993 وحتى وفاته في 2011، اهتمَّ رشاد بارذي بإعادة تأهيل عشرات التكايا والقيادات البكتاشية الجديدة في ألبانيا. وفي عهد رشاد بارذي، أصبحت "الجماعة البكتاشية الألبانية" متمايزة أكثر عن "الجماعة المسلمة الألبانية". ففي 1996 أصبح النوروز عيداً رسمياً في ألبانيا، على نمط الأعياد الدينية لكل ديانة. ومن ناحية أخرى فقد تزايد الاهتمام في عهده بالحج إلى ضريح العباس بن علي في جبل تومور جنوب ألبانيا، وأصبح له موسمٌ محدّد كل سنة من 15 إلى 25 يوليو، ويشارك فيه عشرات الآلاف وتُذبح حوله الأضاحي لنيل البركة، وأصبح موازياً لحج السُنّة. ومع وفاة رشاد بارذي في 2011 انتُخِبَ البابا إدموند إبراهيمي رئيساً للجماعة البكتاشية. وفي عهده تولّى البابا موندي، كما يناديه الألبان، توسيع المقر العالمي للجماعة البكتاشية في تيرانا وتحديثه، فأصبح يتصدّره تمثال للإمام علي ويحتوي على قاعة صلاة كبيرة وقاعة اجتماعات ومكتبة ومتحف ومقر للأرشيف وسط مساحة خضراء جميلة في شرق تيرانا. وهو الذي لفت الأنظار إليه بعد تسرّب خبر تأسيس "فاتيكان مسلم" كونه عاصمة الدولة الجديدة المقترحة.
ومع الجهود التي بذلها رشاد بارذي وإدموند ابراهيمي لإحياء الجماعة البكتاشية في ألبانيا، إلا أن الظروف كانت قد تغيّرت كثيراً عن سنوات ما قبل 1945، حين كانت للبكتاشية قاعدة شعبية في جنوب ألبانيا ووسطها يمثلون حوالي 20 بالمئة من السكان ويحترمون دورَها في الحركة القومية التي تُوِّجت باستقلال ألبانيا. لم تتمكن، مع عودتها للحياة في مطلع التسعينيات، أن تكتسب ذات الشعبية والمكانة نتيجة عوامل محلية وإقليمية. فمع تصدّع النظام الشيوعي نهاية 1990 انفتحت حدود ألبانيا أمام مئات الألوف للهجرة إلى الدول المجاورة، كاليونان وإيطاليا، فتعرّفوا على الكاثوليكية والأرثوذكسية اللتين سهّلتا اندماجهم هناك. ثم جذبتْ ألبانيا آنذاك مئاتِ الجماعات الخيرية التبشيرية الأوروبية والإسلامية السنية، مثل هيئة الإغاثة الإسلامية ومؤسسة الحرمين وقطر الخيرية وغيرها، لدعوة الألبان إلى الدين بوسائل مختلفة. وفي غضون ذلك كان الدستور المؤقت لسنة 1991 قد أكّد في المادة السابعة أن "جمهورية ألبانيا دولة علمانية وأن الدولة تحترم حرية العقيدة الدينية وتسهّل الظروف لممارستها"، بينما جاء دستور 1998 ليؤكد حرية العقيدة وحق المواطن في التدين من عدمه وحقه في "الانتقال من دين إلى دين".
ومع هذه المعطيات الجديدة بدأت الإحصائيات اللاحقة للسكان تكشف عن تراجع متواصل في عدد السكان وفي نسبة المسلمين والبكتاشيين في ألبانيا. ففي إحصاء 2001 كان عدد سكان ألبانيا أكثر بقليل من ثلاثة ملايين نسمة، بينما تناقص هذا الرقم حوالي ربع مليون في إحصاء 2011، الذي كشف أيضاً عن انحدار نسبة المسلمين إلى 57.7 بالمئة، والبكتاشيين إلى أقل من 5 بالمئة. أما في إحصاء 2023 فقد انحدر عدد السكان وعدد المسلمين السُنّة انحداراً مفاجئاً، إذ وصل إلى أكثر بقليل من مليون ومئة ألف يشكلون 45.86 بالمئة، بينما حافظ البكتاشيون على حالهم بنسبة 4.81 بالمئة، أي ما يوازي عشر المسلمين السُنّة. وبذلك لم تعد ألبانيا دولة بغالبيةٍ مسلمة بعد مئة سنة من تأسيسها.
جاء خبر تأسيس "فاتيكان مسلم" في ألبانيا مفاجأة من رئيس الحكومة الألبانية الذي قال في مقابلته مع نيويورك تايمز إنه يرغب في منح هذا الكيان المستقل على غرار الفاتيكان للجماعة البكتاشية، للترويج "لنمط متسامح من الإسلام الذي تفتخر به ألبانيا". وأضاف أن "مثل هذه الدويلة الإسلامية ستوجه رسالةً مضمونها: لا تسمحوا أن تحدّد وصمة عار عن المسلمين، مَنْ هم المسلمون". وفي إضافةٍ ذات معنى ذكَر راما أنه "سيُسمح في هذا الكيان بشرب الخمر وأن تلبس النساء ما تشاء وألا تُطبَّق هناك قواعد لنمط الحياة". وقد رحّب رأس الجماعة البكتاشية إدموند إبراهيمي بذلك، وأوضح أن مساحة الدولة المقترحة تبلغ سبعةً وأربعين هكتاراً وستكون لها إدارة وجوازات وحدود خاصة.
قوبل النصّ الذي نشرته صحيفة "بانوراما" الأكثر انتشاراً في ألبانيا في الحادي والعشرين من سبتمبر 2024 بردود فعل رافضة، ركزت على ما رآه أصحابها تعارضاً مع الدستور الألباني وانتقاصاً من سيادة الدولة على أراضيها. ووجدوا أن رئيس الحكومة الألبانية تجاوز حدود وظيفته بطرحه الأمر في صحيفةٍ أمريكية بدلاً من مناقشته في البرلمان الألباني. وركزت بعض الردود، التي مثلها بقوة المؤرخ المعروف بلومب جوفي، على أنّ مثل هذا الأمر سيخلق لألبانيا مشاكل مع الدول المجاورة، وخاصة مع تركيا التي تحتضن من البكتاشية ما يفوق عدد سكان ألبانيا عدة مرات، وتحتضن ضريح المؤسّس حاج بكتاش في البلدة التي تُسمّى باسمه في قلب الأناضول.
ومقابل هذه المواقف المعترضة التي لها وزنها الأكاديمي والسياسي، كانت هناك أصوات مؤيدة. من أبرزها صوت الروائي الألباني المعروف بن بلوشي الذي كتب في مقالٍ بعنوان "البكتاشية وألبانيا"، نُشر في السادس والعشرين من سبتمبر 2024، أن البكتاشية هي "انحراف" عن الإسلام السني وأنها نوع من "التلاقح" بين الإسلام والأرثوذكسية في ألبانيا. فقد أراحت الألبان من الفروض وسمحت بالاختلاط بين الرجال والنساء، وعبّرت من ناحية أخرى عن رفض الألبان الإسلامَ السني الذي فرضه الحكم العثماني. ومع الصورة السلبية للرئيس الملك أحمد زوغو إلا أن بلوشي يشيد به لأن ألبانيا في عهده "كانت الوحيدة التي قبلت هذا النتاج المنحرف عن الإسلام وتبنّته". ولذلك ينتهي إلى أنه مستعد أن يعمل، وهو الملحد، حارساً ليلياً لكي يحمي المتحف الذي يروي تاريخ البكتاشية في هذه الدولة البكتاشية المقترحة ضمن ألبانيا.
بالاستناد إلى ردود الفعل الألبانية المعارضة أو المشكّكة في الكشف المفاجىء لرئيس الحكومة الألبانية عن "فاتيكان بكتاشي"، ليس من المتوقع أن تتخذ ألبانيا خطواتٍ حقيقيةٍ في سبيل تجسيد تلك الدويلة، لا سيما أن ألبانيا مُقبِلة في مايو 2025 على انتخاباتٍ نيابيةٍ مهمة قد تعيد الحزب الديمقراطي المعارضَ إلى الحكم بعد أن فاز إدي راما بالانتخابات ثلاث مرات، 2013 و2017 و2021، ما جعله يُقدِم على هذه التصريحات المُغامرة بكثرة.
