في سبيل "الأمّة": كيف اختار بورقيبة ألقاب التونسيين وأسماءهم

كانت القوانين والإجراءات المتعلقة بتسجيل أسماء التونسيين من أهم الأدوات التي وظفها نظام بورقيبة لفرض رؤيته لهوية وطنية جامعة قوامها الجمهورية والمواطنة والثقافة العربية الإسلامية.

Share
في سبيل "الأمّة": كيف اختار بورقيبة ألقاب التونسيين وأسماءهم
امرأة ترتدي زيًا شعبيًا تونسيًا تقبل العلم الوطني التونسي خلال الاحتفال السنوي باليوم الوطني للمرأة في وسط تونس في 13 أغسطس 2020. تصوير: عادل الزين عبر غيتي

في صباح السابع والعشرين من يوليو عام 1980، غادرَ موكبٌ من سياراتِ سلكِ السجونِ سجنَ "9 أفريل" بالعاصمة تونس باتّجاهِ قصر سقانص في مدينة المنستير، مسقطِ رأسِ الزعيم الحبيب بورقيبة. ضمَّ الموكبُ دفعةً من الطلبة السجناء من المنخرطين في حركة العامل التونسي، وهي مِن أبرزِ التشكيلات السياسية اليسارية في عقدَي السبعينيات والثمانينيات، والذين قرّرَ النظامُ العفوَ والإفراجَ عنهم بعد أن يقابلَهم رئيسُ الجمهورية عياناً.

عند وصولهم قصرَ سقانص هُيّئَ المساجين للمقابلة. وبعد جملةٍ من التوصيات أُدخِلوا للقاعة الكبرى. ينقلُ الناشطُ السياسيُّ الشيوعيُّ محمد الكيلاني في كتابه "التاريخ المنسي" مشهدَ بورقيبة العجوز وعلى يمينه وزير داخليته إدريس قيقة وبين يديه موظفو القصر، ومن وراءِ الستار الماجدةُ وسيلة بورقيبة، زوجة الزعيم والسيدةُ الأقوى في جمهوريته. جرت المقابلة وفق نمطٍ رتيبٍ: يقف الطالب ويعرِّف بنفسه، ويحاورُه بورقيبة باقتضابٍ ثم ينتقل لمن يليه، وهكذا. إلى أن بلغ الدورُ طالباً ما إنْ صرّحَ بِاسمِه "عبد الجبار اليوسفي" حتى أشاح بورقيبةُ بوجهِه عنه قائلاً "بعّدوه عليّا!". حاول وزيرُ داخليته تصحيحَ الوضع مؤكِّداً له أن الطالبَ من ولاية "سيدي بوزيد" ولا علاقةَ له بصالح بن يوسف، الأمينِ العامِّ السابقِ للحزب الحرِّ الدستوريّ التونسيّ وخصمِ بورقيبة الأشهرِ في مرحلة الاستقلال. إلّا أن الزعيمَ كرّرَ أمرَه بحزمٍ وأنهى المقابلة. 

تسعة عشر عاماً مرّت على اغتيال بن يوسف لم تكن كافيةً للنسيان، بل حتى لتحمُّلِ ذكرِ اسمِه ولقبِه وتسمية أنصاره "اليوسفيين". وحتى آخِرِ أيّامِ حكمِه، لَم يَنْسَ بورقيبة ولَم ينفكّ عن خوضِ معاركه مع أشباحِ خصومٍ قدامى تعيدهم الأسماءُ أحياءً من جديدٍ. وهو الذي ظنَّ لوهلةٍ أنه حسمَ معركتَه الرمزية مع أسماء التونسيين وألقابهم، يومَ شَرَعَ رفقةَ من معه من الرعيل الأول للدولة في إعادةِ بناءِ هويةِ الشعب التونسي بإنهاءِ التعددية الثقافية، أو "التشظّي الثقافي" كما يسميه الخطابُ الرسميُّ، والانتقالِ منها إلى ما عدَّه هويةً وطنيةً جامعة. وهي هويةٌ تبلورَت ملامحُها بين مدٍّ وجزرٍ، لتتّضح أضلاعُها الرئيسةُ ممثّلةً في النظامِ الجمهوري، والمواطَنةِ التي لا تَرضَى أيَّ انتماءٍ بديلٍ، والثقافةِ العربيةِ الإسلامية. وبناءً على هذه الهوية غربلَت دولةُ الاستقلال ألقابَ التونسيين وأسماءَهم بشكلٍ شملَ أبناءَ القبائلِ والأمازيغَ وغيرَ المسلمين وصولاً للمنتمين للأسرةِ الملكيةِ السابقة. إلّا أن الدولة التونسية التي تَأتَمِرُ بما يراه شخصُ زعيمِها المؤسّس، مع إصرارِها المعلَن على مكوّنَي العروبة والإسلام، لَم تَسْلَمْ من ارتباكٍ واضحٍ في التعامل مع هذين المكوّنَيْن، وخاصّةً الهوية الإسلامية، كما تبيَّن في القوانين والإجراءات التي وضعَتها الدولةُ واتخذَتها سعياً إلى العلمانية.


مثّلَ قانونُ تنظيم الحالة المدنية للمواطنين، العدد 03 لسنة 1957، أحدَ بواكيرِ النصوص القانونية للجمهورية الوليدة. شملَ هذا القانونُ أحكاماً تتعلّق بتسجيل الولادات والأسماء والوفيات وترسيم الزواج وغيرها من المسائل المتعلقة بالعناصر المكوّنة للهويّة القانونية للمواطنين. وجاءَ القانونُ استكمالاً لمشروعٍ تبلوَرَ مع صدور مجلة الأحوال الشخصية الشهيرة، بتاريخ 13 أغسطس 1956، وأحدثَت ما أَطلقَ عليه رجالُ القانون فيما بعدُ "زلزال المجلة" إذ تضمّنَت أحكاماً تحديثيةً جريئةً، منها منعُ تعدّدِ الزوجات، ومنعُ التزويج الجبريّ للفتيات، وإقرارُ الطلاق القضائيّ حقّاً للزوج والزوجة، وغيرها.  

وخلافاً للحقبة الاستعمارية حين أَهملَت السلطاتُ تعميمَ أحكامِ الحالة المدنية على السكان المحليين، أخذَ النظامُ الناشئُ على عاتقِه تعميمَ تنظيمِ هذه الأحكام وربطَها بصفتَين حاسمتَين هما الوجوب والثبات. أي أن على كلِّ تونسيٍّ أن يحملَ وجوباً هويةً مدنيةً قوامُها الأساسيُّ اسمٌ ولقبٌ، هما بالضرورة ثابتان لا يتغيران. أعلنَت هذه الطريقةُ نهايةَ حقبةٍ كانت فيها مسائلُ الاسم واللقب خاضعةً لسلطان الفرد والمجموعة. مرحلةٌ أسهمَت فيها عدّةُ عواملَ في إعادة إنتاج أسماء الأفراد وألقابهم، واصطبغَت بالليونة والحركة الدائمة، إذ تعدّدَت أسماءُ الأشخاص بين الكُنَى وأسماءِ الشهرة والحقبة الزمنية والترقّي الوظيفيّ، بل وحتى التنقّل من منطقةٍ إلى أُخرى. استُبدِلَت بهذه المرحلة أُخرى جديدةٌ أمسَت فيها هذه المعطياتُ خاضعةً لنفوذ الدولة ورغباتها وثابتةً لا يمكن إعادةُ بنائها إلا وفقاً لأهداف الدولة؛ لا الأفراد أو الجماعات. وهذا كلُّه تحت شعارات الوحدة الوطنية وتعزيز فكرة المواطَنة والانتماء للوطن.

لَم يَحملْ هذا القانون في البداية نزعةً ظاهرةً للتضييق على حرية إسناد الاسم واللقب، بل على العكس من ذلك خَلَت أحكامُه من كلِّ إشارةٍ لتقييدٍ محتملٍ، وذلك اتّساقاً مع الرغبة المعلَنة وقتئذٍ في الحفاظ على دولةٍ متعدّدة الثقافات والهويات. ففي السنوات الأولى بعد الاستقلال، وفي إطار المفاوضات المستمرة مع الفرنسيين إزاءَ تصفية القضايا العالقة، كانت النخبةُ التونسية الحاكمة حريصةً على طمأَنةِ الكمِّ الكبير من الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين واليهود وغيرهم من المقيمين في تونس إبّان العهد الاستعماريّ. كانت الحاجةُ لهذه الطمأنةِ ضروريةً نظراً للحجم السكانيّ الضخم لهذه المجموعات، إذ كان يقدَّر عددُ الأوروبيين وحدهم، عشيّةَ الاستقلال بما يناهز ربع مليون نسمة، في دولةٍ لم يبلغ عددُ سكّانها الأربعةَ ملايينٍ وقتَها. وكان لهؤلاء دورٌ اقتصاديٌّ وتقنيٌّ محوريٌّ في تسيير الهياكل والمؤسسات الحيوية كالسكك الحديدية والبريد والتلغراف والفلاحات الكبرى، أو للدور التجاري البارز الذي كانت تلعبه الطائفة اليهودية الحضرية في القطاع الحرفي كالخزف والحُليّ والسياحة وحتى صناعة الخمور، ناهيك عن المهن الحرّة كالطبّ والمحاماة. ولهذا الدور الحيويّ، كان لزاماً على الدولة الناشئة منحُهم الضمانات الكافية بعدم وجود اختلافٍ كبيرٍ بين سلطتَي الأمس واليوم. 

إلّا أن هذا النهجَ التعدديَّ تبدّلَ إلى نهجٍ آخَرَ يسعى لصَهرِ الاختلافات والخصوصيات في بداية الستينيات مع مغادرةِ جلّ المكوّنات الفرنسية والإيطالية واليهودية. كان هذا التغيرُ نتيجةً غيرَ مباشرةٍ للحروب الدائرة في فلسطين وثورة التحرير الجزائرية، وخاصّةً مع معركتَي "الجلاء" ضد بقايا الحضور العسكري الفرنسي في الجنوب والشمال التونسي بين عامَي 1958 و1961، والتي أثمرَت في النهاية تصاعداً للفكر القومي العربي، العنيفِ في بعض الأحيان. قادت هذه الظروف إلى رحيلِ جلِّ المكونات الفرنسية والمالطية واليهودية، تدريجياً على امتداد العقدَين اللاحقَين، وإن اتخذ طابعاً جماعياً ضخماً في بعض الأحايين، خاصّةً بعد هزيمة الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل عام 1967، حين احتدمَت الأجواءُ وتلبّدَت بحوادث ومضايقات، خاصّةً ضد اليهود في المدن الكبرى كالعاصمة تونس. أمّا تأميمُ الأراضي الزراعية، أو ما عُرِفَ بالجلاء الزراعيّ عامَ 1964، فكان الحدثَ الرئيسَ الذي غادرَ على إثرِه جلُّ الفلاحين من أصولٍ أوروبيةٍ، خاصّةً الإيطاليين والفرنسيين منهم.

وبفعلِ هذا التحوّلِ أعادت الدولةُ توجيهَ بوصلة الحالة المدنية نحو بناءِ الأمّة التونسية على أساسِ الجمهورية والعروبة والإسلام. وتعدُّ العروبةُ والإسلامُ في هذه الهوية الجديدة روافدَ ثقافيةً وحضاريةً تصهر التوانسةَ في بوتقةٍ واحدةٍ وتُجسِّرُ علاقاتِ تونس مع محيطها. وهي المعادلة التي ما زالت حاكمةً حتى اليوم. ولعّل الأدلَّ على ذلك هو دوامُ اعتمادِ الصيغة نفسِها في الفصل الأول من كلّ دساتير الدولة التونسية، منذ الاستقلال حتى اليوم. المهمّ هنا أن كلَّ ما لم يتّسق مع هذا الثالوث، من بقايا الملكية القديمة وخصوم الزعيم والقبائل وغير المسلمين والأمازيغ، توجّب التخلّصُ منهم، ولو رمزياً.


كانت أوّلُ الأسماء التي أُقصيَت في سبيلِ بناء الهوية التونسية الجديدة هي تلك المرتبطةَ بالملكيةِ وكلِّ ما يتعلّقُ بها من رموزٍ وذاكرة. فبعد عامٍ من توقيع بروتوكول الاستقلال عام 1956 ورفع الحماية الفرنسية على المملكة التونسية، اتخذَ قادةُ البلاد الجددُ قراراً حاسماً بتحويل نظامها إلى جمهورية. وخلافاً للسائد في المنطقة وقتها، لَم يتطلّبْ إسقاطُ الملكية من بورقيبة كثيراً من الجهد ولا العنف. فهو لم يحتجْ لأكثرَ من إعلانٍ برلمانيٍّ وسيارتين تابعتين لقوات الأمن وكهلٍ من المترَفين ليكلَّفَ بإعلام المَلِكِ بعزلِه. بهذه الطريقة خُلِعَ العاهلُ التونسيُّ الأمين الباي والذي انتهت معه سلالةُ باياتٍ تربّعَت على عرش تونس قرنَيْن ونصف قرنٍ. إلا أن هذا الانتقالَ السلسَ نحو النظام الجمهوري، قابلَته تصفيةٌ شرسةٌ على صعيد الرموز والذاكرة، الميدانَين المحبّبَين للزعيم.

ومِن جوانب هذه التصفية إلغاءُ مختلف الألقاب الشرفية التي كانت تلحَق بأسماء أفراد الأسرة الحاكمة مثل الباي والباشا. أُجبِر هؤلاء في وثائق الحالة المدنية على حمل ألقابٍ متعدّدةٍ أبرزُها "الحسينيّ"، نسبةً إلى جَدِّ الأسرةِ الأكبرِ، وهو لقبٌ شائعٌ لا يحمل أي دلالةٍ على خلفية حامله القديمة. 


لا يقتصر امتعاضُ الزعيم من أشباحِ وأسماءِ خصومه على أسرةِ البايات أو صالح بن يوسف، الرجلِ الذي نافسَه قبل الاستقلال على زعامة الحركة الوطنية، بل امتدّ لأسماءِ خصومِه الآخَرين بعد تأسيس الجمهورية. من بينهم المجموعةُ التي عُرِفَت لاحقاً بمجموعة 1962، والتي شملَت ضباطاً ومقاومين سابقين وبعضَ الشخصيات المدنية التي ساندت بورقيبة في البداية في صراعه مع اليوسفيين، ثم اختلفَت معه فيما بعد. أفضَت عدّةُ أحداثٍ إلى تعميق وتوسيع هذا الخلاف، منها اغتيالُ بن يوسف في ألمانيا من طرف عناصر محسوبةٍ على النظام عام 1961. ومنها طريقةُ إدارة معركة بنزرت التي وقعت في السنة نفسِها بأمرٍ من بورقيبة بهدفِ تحرير المدينة من الفرنسيين لأنها آخِرُ معقلٍ عسكريٍّ لهم. صحيحٌ أن المعركة انتهت بجلاء الفرنسيين وتحرير المدينة، ولكن بتكلفةٍ عاليةٍ في الأرواح، خاصّةً بين صفوف المقاومين والمتطوعين من رفاق مجموعة 1962. 

حاولَت هذه المجموعةُ تنظيمَ انقلابٍ على بورقيبة سرعانَ ما كُشِف وأُحبِط، وانتهى بإعدام جلِّ المشارِكين فيه. وكعادةِ كثيرٍ من الأنظمة السلطوية، لَم يتوقف التنكيلُ والعقابُ على أفراد المجموعة بل امتدّ ليشمل عوائلَهم والدوائرَ القريبة منهم. إلّا أن حِرصَ النظام البورقيبي على صياغةِ الرواية الرسمية وبناءِ الذاكرة التاريخية والجوانب الرمزية جعلَ من التنكيل بكلِّ من له علاقةٌ بأسماء هذه المجموعة مستمرّاً حتى مع زوالِ كلِّ الدواعي الأمنية ومرورِ وقتٍ طويلٍ على حادثة الانقلاب.

لنأخذْ على سبيل المثال قصّةَ ذوي الشيخ أحمد الرحموني، أحدِ المشاركين في هذا الانقلاب الذين أُعدِموا وأصيلِ بلدةِ تالة في الوسط الغربي. يشير لقبُ الشيخ أحمد إلى خلفيةٍ صوفيةٍ مرموقةٍ نسبةً للطريقة الرحمانية التي تعد من أعرقِ الطرق الصوفية وأَقواها غرب تونس. إلّا أن هذا اللقبَ سرعانَ ما سيصبح نقمةً على حاملِيه من أبناء الشيخ وأقاربه. إذ ستَلقى الأسرةُ الكبيرةُ مِن حينِها معاملةً أَمنيّةً خاصّةً، قوامُها التتبّعُ والمراقبةُ الأمنية اللصيقة والتوجسُ الذي يبعثُه لقبٌ يذكِّرُ بشخصٍ مثّلَ يوماً ما تهديداً لخيار الجمهورية البورقيبية. ولَم تكن هذه المعاملةُ مؤقتةً، بل دامت إلى آخِرِ سنوات حكمِ الزعيم، إذ كاد لقبُ الرحمونيّ يحرمُ حاملَه من الوظائف العمومية، سواءً داخل حدود محافظة القصرين، موطنِ العائلة، أو حتى خارجها. لتُغيَّبَ بذلك الأسرةُ من خارطة الوجاهات المحلية جيلاً كاملاً. ولَم يتغيّر هذا الأمرُ إلا في سنواتِ حكمِ بن علي الأُولى. وبانتهاءِ ما أمكنَ وصفُه بالحصار المفروض على أُسَرِ الخصومِ القدامى، برزَت من جديدٍ أسماءٌ من عائلة الرحموني تمكّنَت من شقّ طريقها في الوظائف العمومية والشأن العام، كالأستاذ الجامعي والباحث محمد الرحموني صاحب كتاب "دولة البوليس"، والقاضي أحمد الرحموني، أحد أبرز الأصوات القضائية المعارِضة في أواخر سنوات حكمِ بن علي.

حاقَ المصيرُ نفسُه بأسرةِ الأزهر الشرايطي، قائدِ حركة المقاومة المسلحة بالجنوب والوسط التونسي قديماً ضد الفرنسيين وقائدِ مجموعة انقلاب 1962. فقد وجدَ أبناءُ الأزهر أنفسَهم مطارَدين ومأخوذين بجريرةِ والدِهم. ومع ذلك لَم تتخلّ الأسرةُ عن ذلك اللقب العائليّ، على أنها مُنحِت فرصةً بمغادرتِها تونسَ على عكسِ عائلة الرحموني. وهو ما كرّرَته بفخرٍ زوجةُ الأزهرِ السويسريةُ الشابةُ فيفيان، والتي أُجبِرَت على مغادرة تونس إلى سويسرا رفقةَ أطفالِه الخمسة، في حوارٍ يتيمٍ لها صيفَ يوليو من عام 2006. كَلَّفَت المحافَظةُ على اللقب الأسرةَ ثمناً باهظاً، ولو بعد سنواتٍ، كحالِ سليم الشرايطي، الذي  تحدّثَ في شهادته عن إجباره على مغادرةِ تونس من المطار عام 1975 بعد تمزيقِ جوازِ سفرِه السويسري. لَم يكن سليم شاباً معارضاً ولا صاحبَ سوابق حتى تتفطّنَ له شرطةُ الحدود بيُسر. لَم يكشفْه أو يجلبْ له الشبهات  سوى لقب "الشرايطي" الذي أصرَّ على حمله معه.


وفضلاً عن معاركِه مع أسماء الأسرة الملكية المخلوعة وخصومه ومنافسيه، خاض النظام البورقيبي معركةً أُخرى ومختلفةً مع الأسماء والألقاب القبلية التي تشترك فيها أعدادٌ كبيرةٌ من التوانسة. شملَت هذه المعركةُ أبناءَ القبائل الذين انحازوا إلى خصومِ بورقيبة وأولئك الذين تحالفوا معه، وإن لم تتوقف عندهم. ذلك أن الصدام كان حتمياً بين دولةٍ ناشئةٍ ترفض وجودَ أيِّ هيكلٍ أو مؤسسةٍ اجتماعيةٍ قادرةٍ على منح أفرادها انتماءً مخصوصاً خارجها قد يهدّد وحدتَها، وبين مؤسسةٍ قَبليةٍ لم تتخلّ طوعاً عن دورِها القديم في تأطير أبنائها. وفي هذا الصدام لجأَت الدولةُ إلى الحالة المدنية – إلى جانب وسائل أخرى – لضربِ الهويات القبلية وتشتيتها، بل وحتى بَعْثَرَتِها. 

تبدو قبيلةُ الهمامة مثالاً نموذجياً على هذه السياسة. خاصّةً وأنها من أكبرِ القبائل التونسية في منطقة الوسط والجنوب الغربي وألدِّها عداوةً لبورقيبة ونظامه. وجلُّ أعضاء حركة 1962 انتموا لهذه القبيلة إما بالدم أو بالحِلف، مثل الأزهر الشرايطي والعربي العكرمي وغيرهم. تنقسم هذه القبيلةُ إلى ثلاثة بطونٍ رئيسةٍ، تُسمّى في معجم النسّابة المحليين "برادع"، وهي رضوان وعزيز ومعمر. وداخل كل بطنٍ هناك عدّة أفخاذٍ، وتسمّى في تونس "عرش". فمثلاً داخل بطن رضوان يوجد فخذٌ يدعى الحرشان. وداخل كلِّ فخذٍ توجد مجموعةٌ من العوائل الموسعة، أو "دوّارة" كما تسمى في تونس. 

وبالعودةِ لوثيقةٍ نادرةٍ في أنساب هذه القبيلة كُتِبَت قبل الاستقلال بعقدين تقريباً، هي كتاب "الإلمام بعروش بني همام"، يشير مؤلّفُه صالح العزري إلى حالةٍ من التدرّج في الانتساب إلى هذه القبيلة. فلا يتسمّى أيُّ فردٍ بلقب الهمامي إلا عند نزوله في إحدى المدن أو القرى أو بين أفراد قبائل أخرى بعيدةٍ عن موطنه الأصليّ. أما داخل الحيّز الواسع لمجال قبيلة الهمامة فإن الفرد يحمل لقب "بردعته" الكبرى، فيكون إمّا رضوانيّاً أو عزيزياً أو معمرياً، وذلك عند نزوله بين أفراد بردعةٍ أُخرى. أما داخل البردعة، كأولاد رضوان مثلاً، فإن الفرد يحمل لقب العرش الموسع الذي ينتمي له كأن يكون منتمياً مثلا لعرش الحرشان. وداخل العرش يحمل الحرشاني لقب "دوّاره" أو عائلته الموسّعة. وتمثيلاً تطبيقياً لهذا يكون صاحبُ المخطوط صالح العزري الحرشاني الرضواني الهمامي، هكذا على التوالي، وفقاً للسياق والفضاء الجغرافي والاجتماعي الذي يتنزّل فيه. فالعزري مثلاً أثناء إقامته في تونس العاصمة أربعينيات القرن الماضي، كان يحمل لقبَ الهمامي، أي اللقبَ الأعمَّ من بينها جميعاً، وعندما عاد إلى بلدتِه الصغرى بعد الاستقلال، عاد لاستعمال لقبه الأضيق، أي العزري. وبذلك يمكن للفرد أن يربطَ أواصرَ الانتماء بمجموعته البعيدة أو القريبة، دون أن يفقدَ القدرةَ على إعادة إنتاج تعريفٍ متطوّرٍ لهويتِه ومتغيّرٍ حسبَ السياق. فَقَدَ أبناءُ القبائل في تونس هذه القدرةَ على إعادة إنتاج الهوية مع تقنينِ أحكام الحالة المدنية وربطِها بمُعطَى الثبات. إذْ أَمسَى كلُّ فردٍ حاملاً للقبٍ عائليٍّ ثابتٍ بقطعِ النظر عن الفضاء أو الواقع الاجتماعي الذي يجد الفردُ نفسَه داخله. 

لَم يكن هذا الثباتُ في أحكام الحالة المدنية قادراً وحده على تفتيت الانتماء القبلي، بقدرِ ما عَضَدَه في ذلك النهجُ المعتمَدُ في تعميم الحالة المدنية وكيفية إسناد الألقاب العائلية. إذْ لَم تعمد الإدارةُ إلى إلغاءِ خانة اللقب العائلي من سجلِّ الحالة المدنية وتعويضِها بِاسمِ الشخص الثلاثيّ أو الرباعيّ كما في تجاربَ عربيةٍ أُخرى في الفترة نفسِها مثل العراق ومصر. سجّلَ سكّانُ القُرى والأرياف أطفالَهم وأنفُسَهم بأسماءِ أجدادهم القريبين دون حاجةٍ للانتساب للجَدِّ الأوّلِ المشترَكِ مع أبناء أعمامهم من القُرى المجاورة، لينقطعَ على الأوراق الرسمية ذلك الرابطُ القديم الجامعُ بينهم، وتفقدَ الألقابُ بذلك دورَها التعريفيّ والمحدِّد لانتماء الشخص القبليّ.

لا نعرف تماماً هل كان الدافعُ من هذه السياسة تفتيتَ القبيلة واتخاذَه هدفاً وحيداً. ولا نعلم السببَ الذي جعل أبناء القبيلة يتجاوبون مع هذه السياسة بسلاسة. إلّا أننا شبه متيقّنين من أنّ الدافعَ يتجاوز الرغبةَ في تفكيك القبيلة نحو تعميم فكرة الانتماء للوطن الواحد المشترَك وإعلاء المواطَنة على غيرها من الانتماءات. توافقَت هذه الرغبةُ مع رغبةٍ داخليةٍ أبداها أبناءُ العروش في التخلّي عن ذلك الانتماء القبليّ طوعاً. وبصرفِ النظرِ عن الدوافع وتنوّعها، فالنتيجة على كلِّ حالٍ واحدةٌ، وهي تفتيتُ الوحدة القبلية وتعويضُها بخليطٍ من الألقاب المبتورة أو المُعَوَّمة، والعاجزة في أحيانٍ كثيرةٍ عن تحديد الانتماء الثقافي والتاريخي للأفراد.  

لَم تُنفَّذ هذه العمليةُ على الأرض بذلك الشكلِ السلسِ المتخيَّلِ، إذ مثّلَت بدايةُ عمليةِ تعميم أحكام الحالة المدنية نموذجاً مثالياً عن حالة "فوضى الألقاب". وهي فوضىً صنعَتها عواملُ عدّةٌ أبرزُها ضعفُ الجهاز الإداريّ والإسناديّ اللازم لقيادة حملة تسجيلٍ شاملةٍ وناجعة. ولكن ثمّةَ عاملٌ آخَرُ لا يقلُّ أهمّيةً، وهو حالةُ اللامبالاة والتساهل في إسناد الألقاب العائلية، وكأن السلطة تخفّفت من حِملِ إحكامِ تلك العملية ومدى مطابقتِها للواقع، بل لعلّ ذلك أفادَها. حدّثَتني "الحاجّة الهذبة"، قبل رحيلِها، وهي سيدةٌ من عرش الحرشان من قبيلة الهمامة، عن تلك الفترة التي أنجبَت فيها أربعةَ أطفال. ففي جوٍّ من الأُمّية تكفّلَ شيخُ تراب قرية الواعرة، وهو بمثابةِ عمدةِ القرية اليومَ، بترسيمِ ولادات الأطفال، لتكون النتيجةُ منحَ كلِّ طفلٍ لقباً مختلفاً: "الهايس" و"الحرشاني" و"اليوسفي". اثنان منهما لا علاقةَ لهما أصلاً بجذور الأسرة القريبة أو البعيدة. في حين مُنح بعضُ أقرباء الأسرة لقبَ "الهمامي"، وهو اللقبُ العامُّ للقبيلة كما أسلَفنا مع أن أفراد الأسرة لم يغادروا المجالَ الضيّقَ لعرش الحرشان أصلاً. وفي مثالٍ آخَرَ من القريةِ نفسِها، لا يقلُّ غرابةً عمّا سبقَه ارتجالاً، بل اعتباطاً، يحملُ أحدُ أبناء القرية لقبَ "الصغيّر" وهو لقبٌ لا يحمله سواه في المنطقة من أبناء عرشه. وقد توجّهنا للحاجّة "شهيبة" والدةِ الأخيرِ بالسؤال عن سرِّ هذا اللقب الفريد، لتجيبَ ببساطةٍ: هو اسمُ الحاجِّ الصغيّر شيخِ ترابِ المنطقة في الستينيات والذي كان ذا نفوذٍ محلّيٍّ في الدولة والحزب الدستوري. واحتراماً لهَيبةِ الرجل ونفوذه، فقد كُرِّمَ بأن أصبح اسمُه لقباً لطفلٍ لا تربطه به أيُّ علاقة دمٍ أو نسبٍ. 

وفي أحيانٍ أُخرى، أخذَ إسنادُ الألقاب منحىً أبعدَ عن المعقولِ مع فقدان أعراف الانتساب القبلي القديمة حرمتَها وهيبتَها. ما زلنا في قرية الواعرة، ولكن مع قصةٍ أُخرى هي قصّةُ "جمهور الهايس". قصّةُ الخال بلقاسم الهايس الذي أرادَ إرسالَ تحيّاتِه لرفاقِه وأحبابِه من جلّاسِه في "حوانيت الهايس"، أي دكّاكين القرية التي تُشغَل في الآنِ نفسِه متاجرَ تموينٍ صغيرةٍ وشبهَ مقهىً، يقصدُه كلُّ رجال القرية، ولا يتوفّر فيه غيرُ الشاي الأحمر. بسبب ضيقِ ذاتِ اليدِ والظروفِ الصعبةِ اضطُرّ الحاجُّ إلى مغادرةِ الواعرة نحو قريةِ "بن بشير". سنواتٌ طوالٌ أمضاها هناك، لَم تُطفِئ الحنينَ المتّقِدَ إلى أهلِه وناسِه. ويوم رُزِقَ بابنِه، اختارَ له اسمَ عَلِيٍّ، ولكنّ ذاك لَم يكفِه. لا نعلم كيف أَقنعَ الحاجُّ ضابطَ الحالة المدنية. المهمّ أنه أقنعَه بقبولِ صيغة الاسم الغريبة "علي جمهور"، ليكونَ الاسمُ كاملاً "علي جمهور الهايس"؛ اسمٌ اختاره هديةً وتحيةً لخِلّانِه وأصحابِه البعيدين من روّادِ حوانيت سُمُّوا لكثرتِهم "جمهور الهايس".


مثّلَت علاقةُ الدولة التونسية الناشئة بالإسلام مسألةً مربِكةً، ما زالت حتى اليوم محلَّ خلافٍ حادٍّ بين من يرى أن الدولة التونسية دولةٌ علمانيةٌ بحتةٌ تفصل كليّاً بين الدين والدولة، على شاكلةِ النموذج الفرنسي أو التركي، وبين من يراها شكلاً خاصاً من العلمانية يستخدم لها كلمة "اللائكية"، وهي تعريبٌ لكلمة "لاسيتي" الفرنسية. لعلّ الخطوةَ الأولى للحصول على إجابة على هذا السؤال العودةُ لموقفِ بورقيبة نفسِه وتصوّرِه الخاصِّ للإسلام تحديداً وذلك لأنه الفاعلُ الرئيسُ في صياغة رؤية الدولة لهذا المُعطى. فبناءً على الشهادات التي أوردَها حامد الجندلي في كتابه عن قانون الأحوال الشخصية وعلاقته بالشريعة، لعددٍ من المقرّبين من بورقيبة مثل وزرائه محمد الصياح والبشير بن سلامة ومحمد المصمودي وغيرهم، نجد أن الرجلَ كان مسكوناً بحالةٍ من الإيمان المخصوص، والمتردّد أحياناً، والنافر من تمظهرات التدين الشكلية والفقهية خاصةً. ولعلّ أفضلَ تعبيرٍ عن هذه العلاقة الملتبسة وصفُ منيرة سعد في كتابها "بورقيبة والبورقيبيون وبناء الدولة الوطنية": "إن التوجه الذي اختاره كان إعادة الاعتبار للإسلام بقراءةٍ جديدةٍ لتعاليمه، يهدف أساساً لإضعاف المؤسسات الدينية والقيام بعديد الإصلاحات التي يمكن اعتبارُها ذاتَ توجّهٍ لائكيٍّ [أي علمانيٍّ] ... إلا أن الدولة التونسية تبنّت الدين الإسلامي الذي هو دينُها الرسميّ وهو مقياسٌ يرسم حدودَ اللائكية". في هذا الاقتباس تشيرُ الكاتبةُ للفصل الأول من دستور الجمهورية لسنة 1959 والذي نصَّ على أن "الدولة التونسية دولةٌ دينُها الإسلامُ ولغتُها العربيةُ". وهو فصلٌ سيَروجُ تأويلُه وترجمتُه فيما بعد تأكيداً على الانتماء الثقافي والحضاري للأمة التونسية الوليدة، أو بعبارةٍ أُخرى على أنه المحدّد لعناصر هويّة التونسيّ كونَه مسلماً وعربياً، مما سيتجلّى بطبيعة الحال في أحكام الحالة المدنية.

انعكس هذا الأمرُ واقعياً على موضوع تسمية التونسيين عندما صدرَ منشورٌ سنة 1965 يقضي بحظرِ التسميةِ بأيِّ اسمٍ غيرِ عربيّ. وعليه فإن اللجوءَ لآليّةِ إصدار الأوامر والمناشير الإدارية لتقييد الحريات الموجودة في نص قانون الحالة المدنية، وغيره من القوانين، أصبحَ وسيلةً معتادةً عمدَت إليها السلطةُ مراراً وتكراراً. ذلك أن هذا الخيارَ أرخصُ وأسهلُ من الطريق الآخَر المفترَض في كلِّ تعديلٍ لنصٍّ قانونيٍّ وهو طريق التداول التشريعي في المسألة داخل مجلس النوّاب. ومع أن نصَّ المنشور لم يُشِرْ صراحةً إلى الإسلام، إلّا أن السياقَ الذي جاء فيه، أي اتخاذَ العروبة والإسلام مكوّنيَن أساسيَّين للهوية التونسية، سرعان ما تحوّل لربطٍ مطلقٍ بينهما. ولا أدلَّ على ذلك ممّا ستكرّرُه المحاكمُ التونسية بدايةً من تلك السنوات وبعباراتٍ عدّةٍ من اعتبار أن "قواعد النظام العامّ بتونس … منها العروبةُ والإسلامُ اللذان هما من مقوّمات السيادة التونسية حسب دستورها ولا يمكن الحياد عنهما"، كما نصَّ حكمٌ ابتدائيٌّ صادرٌ عن المحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 29 يونيو 1999. وعليه، لا يكفي أن يكونَ الاسمُ عربياً. بل إن مرجعيةَ الاسمِ العربيةَ، وإن كانت غيرَ إسلاميةٍ، قد تتسبّب في رفض إسناد الاسم. وبالتالي أمسَت الدولةُ ملزمةً بالسهر على تكريس هذه الهوية والسهر على ضمان ملامحها بالرقابة الأولية التي تجريها فور تلقّي ضبّاط الحالة المدنية لتصريحات الولادة ومعاينة مدى تطابقها مع مقتضيات القانون. ليخرج بذلك الاسمُ من خانةِ كونِه حقّاً أو ممارسةً راجعةً للفرد أو الجماعة، إلى اتخاذه جزءاً من مجال نفوذ الدولة وهندستها الاجتماعية. 

ولكنّ هذا التقييدَ لَم يأتِ مطلقاً، إذ شفعَته الإدارةُ باستثناءٍ متعلّقٍ بالتونسيين من أصحاب الديانة اليهودية والذين منحَتهم الحقَّ في اختيار أسماءٍ غيرِ عربيةٍ لأبنائهم وفقاً لشروطٍ شكليةٍ ميسّرةٍ، احتراماً لحرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية. وإفرادُ اليهود دونَ غيرِهم بهذا الإجراء، أمرٌ يمكن تفسيرُه بالعدد المعتبَر للمواطنين التونسيين اليهود المستقرين في تونس آنذاك مقارنةً بغيرهم، وكذلك لكونِهم رعايا سابقين للدولة التونسية منذ القرن التاسع عشر وما قبل ذلك. ولكن على خلاف اليهود، فإن النصَّ لم يحمل استثناءً آخَرَ للتوانسة من أصحاب الديانات الأُخرى، وبالتالي فإن بقيةَ التونسيين مجبرون على حمل الأسماء العربية بصرفِ النظر عن أديانهم سواءً كانت مسيحيةً أو بهائية. بل يُستشَفُّ من هذا التنصيص أن السلطة السياسية حينذاك لَم تستطِع – أو لَم تُرِد – التمييزَ بين الأجنبيّ والمسيحيّ. فالمسيحية ظلّت مرتبطةً أساساً بالأجانب ولا سيّما الأوروبيين الذين عرفَتهم تونس قبل الاستقلال. وكأنّ المسيحيَّ رديفٌ للأوروبيّ ومقترنٌ بالماضي الاستعماريّ والتبشيريّ ما قبل الدولة الحديثة. 

ولعلّ المفارقة في هذا المنشور هي خلقُ حالةٍ مزدوجةٍ من التقييد والتضييق على الأقلّيات وعلى الأغلبية في الآن نفسِه. ففوق حرمان التونسيين المسيحيين، الذين لم يجاوز عددُهم في أوثق الإحصائيات التي أجريت في العقد الماضي ستةَ آلاف نسمة، سواءً كانوا أجانبَ تحصّلوا على الجنسية التونسية أو تونسيين اعتنقوا الديانة المسيحية، من الحقّ في اختيار أسماء أبنائهم بكلّ حرّيةٍ، وجدَت الأغلبيةُ المسلمة نفسَها رهنَ القيدِ ذاتِه الذي يَفرض على كل تونسيٍّ مسلمٍ أن يحملَ اسماً عربياً. في حين لا يَمنحُ المنشورُ الحريةَ المطلقة في إسناد الأسماء إلا لفئةٍ محدّدةٍ بالذات دون غيرها، أي التونسيين اليهود. وهنا يصبح منحُ حرية إسناد الاسم، منّةً تمنحها الإدارة لفئةٍ دون غيرها. وعوض تعزيز فكرة المواطَنة، نقعُ فيما وصفَه محمد أمين الجلاصي في كتابه "عندما تختار الدولة أسماء أبنائنا" بكونه "تمييزاً بين مواطني البلد الواحد. وكأن الاسم يتحدّد بالانتماء الديني وليس بالانتماء للوطن". 


إلى جانبِ الإسلام نصَّ الفصلُ الأوّلُ صراحةً على اللغةِ العربية لغةً للدولة التونسية وعلى الانتماء الحضاري العربي لها. وكما أن بورقيبة لَم ينزعْ صراحةً إلى تبنّي نموذج أسلَمة الدولة فإنه لم يكن ميّالاً بالقدرِ ذاته للانخراط في مسارٍ عروبيٍّ صريحٍ، على عكس خصومه من اليوسفيين الذين تحالفوا مع التيارات القومية العربية الصاعدة، ولا سيّما الناصرية منها. ومع ذلك، فإن خيارَ العروبة بوصفِه محدِّداً ثقافياً وانتماءً حضارياً بقيَ ثابتاً ومحدَّداً في التكوين الثقافي لجلِّ قيادات حركة الاستقلال، وبالتالي كان لزاماً أن تضمنَ الدولةُ تكريسَ هذا المُعطى على معظمِ الأصعدة، القانونية والإدارية والتربوية، حتى ولو تمّ ذلك ببطءٍ في أحيانٍ كثيرةٍ. وبطبيعة الحال فقد شمل هذا التوجّهُ أحكامَ الحالة المدنية.

اصطدمَ التوجهُ لتعريب أحكام الحالة المدنية بالتونسيين الأمازيغ سواءً كانوا من غير الناطقين بالعربية كليّاً أو المستعربين لغوياً مع محافظتهم على الجذور الثقافية الأمازيغية. ذلك أن الجاليات الأوربية التي بقيَت منها أعدادٌ قليلة بعد مغادرة غالبيتهم من تونس عقب الاستقلال مُنِحَت الحقَّ في التمتع بإجراءات حالةٍ مدنيةٍ تراعي خصوصياتها الثقافية. إذ سُمِحَ لها صراحةً اختيارُ أسماء أطفالهم بحريةٍ وتسجيلُهم وفقاً لثقافتهم الدينية أو خصوصياتهم اللغوية، وخاصّةً وفقَ القيود القانونية الخاصة بالبلد الأصلي للمعنيِّ بالأمرِ، إذ أنّ جلَّ ما يتعلق بالحالة المدنية للأجانب يبقى من مشمولات الهياكل الدبلوماسية للبلد المعنيّ في تونس. وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أن المجتمعَ التونسيَّ شهدَ تمازجاً ثقافياً كبيراً بين العرب والأمازيغ وغيرهم من المكونات العرقية على امتداد القرون. وفي حركةٍ دؤوبةٍ تعرَّبَ معظمُ المجال التونسي تقريباً منذ أواسط القرن الحادي عشر، حتى وُصفَ وضعُ البلاد التونسية في نهايات القرن التاسع عشر بكونه تمازجاً يُستحال معه التمييزُ بين العربي أو الأمازيغي أو الأندلسي.

ومع ذلك، فإن هذا الانسجامَ لم يكن مطلقاً، إذ تواصلَ الحضورُ المكثّف للغة والعادات والأسماء والألقاب الأمازيغية، خاصةً في القرى الناطقة بالأمازيغية في الجنوب الشرقي أو الغربي للبلاد التونسية حتى مطلع الاستقلال. إلّا أن هذا الحضور أخذ يتقلّص كليّاً في أواسط الستينيات نتيجةً لنصّيَن أولُهما هو المنشور عدد 85 لسنة 1965 آنفُ الذكر. وقد نصّ هذا صراحةً على ضرورة حمل الطفل لاسمٍ عربيٍّ حصراً، وهو ما أَقصَى الأسماءَ الأمازيغيةَ باستثناء تلك التي درجت العادةُ على ربطِها بالإسلام أو الماضي الحضاري للبلاد مثل "باديس" على سبيل المثال. أمّا النصُّ الآخَرُ، فهو القانون عدد 20 لسنة 1964 والمتعلقُ بالسماح لبعض التونسيين بتغيير الاسم أو اللقب، عندما يكون محلّاً للالتباس أو السخرية، والذي منح لكلِّ تونسيٍّ "الحقّ في المطالبة بإبدال اسمه ولقبه بمقتضى أمرٍ، كما مكّنَ حقّ إبدال الاسم دون اللقب لكلِّ تونسيٍّ ليس له اسمٌ عربيٌّ أو مغاربيٌّ أو له اسمٌ يكون من أجل معناه أو عند النطق به محلّ التباسٍ أو سخرية" كما جاءَ في فصلِه الثاني. 

وبهذا القانون دشّنَت الدولةُ ما سيُعرَف فيما بعدُ بِاسمِ "الحملة البورقيبية لتهذيب الألقاب"، وهي موجةٌ بُدِّلَ فيها عددٌ كبيرٌ من الألقاب العائلية لأسبابٍ عدّةٍ بعضُها طبقيٌّ تحقيريٌّ وبعضها الآخَرُ لمخالفته وعدم انسجامه مع الصورة التي تريد الدولة رسمَها لخارطة ألقابٍ وأسماءٍ هي بالأساس عربية. ومن بين هذه الألقاب يشيرُ الحباشي إلى لقبِ "انغازو" والذي استُبدِل به لقبٌ عربيٌّ هو "الحاجّ حسن".  وفي قصةٍ أُخرى نزلت هذه الممارسة من هرم السلطة، لتصبح سلوكاً يتشاركه حتى الموظفون الأقلُّ نفوذاً. ففي أحد مصالح البريد بالعاصمة، أواخر سبعينيات القرن الماضي، لا تزال ذاكرةُ الأعوان محتفظةً بقصةِ رئيسِها الذي أَجبرَ أحدَ الموظفين أصيلَ بلدةِ "سيدي علوان" بساحل تونس على تغيير لقبه العائلي القديم، ذي الجذور "العجمية". ذلك أنّ طريقةَ كتابته باللغة الفرنسية، تتطابق مع طريقة كتابة إحدى الكلمات البذيئة العامّية. وبذلك غيّر لقبه من "نامو" إلى "بلحسن". وبعدها بعقودٍ، ومن أجل استكمال رسم ملامح شخصيةٍ عامةٍ ناجحةٍ، اختارَ طبيبٌ قادمٌ من أقصى الجنوب، موطنِ قبيلةِ "ورغّمة" القديمة والقوية، تغييرَ لقبِه بنفسِه، من "الجرو" إلى "الجري". لقبٌ يليق برئيس الجامعة التونسية كرة القدم. رئيسٌ هو مِن أكثرِهم إثارةً للجدل منذ تأسيسها.

أمّا إسناد الأسماء فقد أصبح خاضعاً بشكلٍ شبه مطلقٍ لرقابة ضباط الحالة المدنية. ففي القرى أو المناطق التي بقي المكوّنُ الأمازيغيُّ ظاهراً فيها كجزيرة جربة، فإن ترسيمَ اسمِ "ممّاسة" للفتيات ظلَّ مقبولاً نسبياً، على عكس مناطق أُخرى قد يرفض فيها ضبّاطُ الحالة المدنية ترسيمَه، وذلك لعدم معرفتهم أو إلمامهم بوجودٍ ثقافيٍّ أمازيغيٍّ مختلف. ليصبح الحقُّ في إسناد الطفل اسماً ينسجم مع هويته وانتمائه الثقافي واللغوي في النهاية محكوماً بحالةٍ من الاعتباطية والارتجال والخضوع لمزاج وتساهل ضابط الحالة المدنية المكلّف بتلقّي تصاريح الولادات دون غيره، نظراً لامتلاكه السلطة المطلقة في تقرير اعتبار الاسم "تونسيّاً" من عدمه. اسم "ماسين" أو "ماسينيسا" مثالٌ ظاهرٌ آخَرُ على ذلك. فاسمُ أشهرِ ملوك نوميديا القدامى ظلَّ محلَّ تجاذبٍ تاريخيٍّ بين من حَمَّلَه وزرَ خيانةِ قرطاج القديمة وهزيمتِها قبل ألفَي عامٍ ونيّفٍ، وبين من يعدّه رمزاً موحّداً ومحورياً في تاريخ الأمازيغ القدامى. ما يهمّ هنا هو أن الاسم عاد للظهور في خارطة أسماء الأطفال الجدد في العقدين الأخيرين، وإنْ كان في القليل النادر، ففي حين قُبل به في بعض الحالات، رُفض تسجيلُه أحياناً أُخرى.


بعد هذا العرض الشامل لمختلف الفئات المستهدَفة مِن وراءِ تقنين أحكام الاسم واللقب، لا بدّ أن يُطرح السؤالُ الحاسم: هل نجحَت دولةُ الاستقلال في مسعاها؟ وعلى خلافِ ما يبدو، فإن الإجابةَ لا يمكن أن تكونَ إلا رمادية. إذ منحَتنا خمسون سنةً من التجربة أمثلةً عديدةً، لَم يكن الأفرادُ فيها مجرّدَ مفعولٍ به وعاجزين عن المقاومة، بل مرّةً أُخرى تمكّنَت هذه الفئاتُ من إعادة ترتيب عناصر هويتها ومشاعر الانتماء لديها. ليتمكَن "كريم الشرايطي" من العودة إلى تونس مطلعَ التسعينيات، بِاسمِه ولقبه العائليّ دون أيّ مواربةٍ أو تغيير. أما الانتماءُ القبليّ المجتثّ، فلَم يَحُلْ دون أن يعيدَ أبناءُ العروش ربطَ أواصر الانتماء بينهم على أساسِ معطىً موضوعيًّ آخَرَ، ألا وهو الجهة أو المنطقة. 

ومع الثورة التونسية سنة 2011، تحوّلَ الرفضُ الفردي السلبي إلى رفضٍ احتجاجيٍ صريح. ففي أكثر من مناسبةٍ، وأمام تعنّت ضباط الحالة المدنية، نجح الأولياء في تحويل المسألة إلى مسألةٍ قضائيةٍ، أو على الأقلّ التهديد باللجوء للقضاء. وبذلك افتَكّت أسماءُ كثيرةٌ حقَّها في الوجود. ففي سنة 2013 مثلاً، نجحَ أبٌ في تسجيل ابنه بِاسمِ "أمازيغ" بعد التهديد باللجوء إلى القضاء، وهو المشهد نفسه الذي تكرّرَ بعد سنتين مع اسمٍ أمازيغيٍّ آخَرَ هو "أكسيل". وقد نجحَ والدُه في ترسيمه نهايةَ الأمر. ومع وضع دستور 2014، أول دستورٍ بعد الثورة التونسية، وشحنة الحرية وخاصةً حرية الضمير التي طغت عليه، أصبحت إعادة اكتشاف التونسيين لهوياتهم المتنوعة، خارج السياق الرسمي الأوحد، مطلباً ملحّاً وجماعياً، وعلاوةً على ذلك مطلباً حقوقياً. ففي سنة 2016، دعت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ملاحظاتها الختامية على التقرير المقدم من الدولة التونسية، إلى "أن تُشجِّعَ الدولةُ التونسية دراسةَ تاريخ الأمازيغ وثقافتهم، وأن تُبطِلَ المنشورَ رقم 85 لسنة 1962 وتسمحَ بقيد الأسماء الأمازيغية في سجلات الحالة المدنية". 

وقد أثمرَ هذا المسارُ في النهاية منشوراً وزارياً هو منشور وزير الشؤون المحلية عدد 13 لسنة 2020 والذي ألغى منشورَ سنة 1965 السابق. ربما اللافتُ في هذا المنشور هو ما احتواه في ديباجته من تعليلٍ لهذا الخيار، حيث جاء فيه: "قد تضمّنَت هذه التوجيهات (المناشير والقوانين السابقة) بعضَ التحجيرات التي أصبحَت تعتبر اليوم نوعاً من التقييد لحرية اختيار الوالدين لأسماء المواليد الجدد … ونظراً لتطور الإطار القانوني للحريات في تونس خاصةً بعد صدور دستور 27 جانفي 2014 … تقرر إنهاء العمل بالمنشور المذكور الذي لم يعد يتلاءم مع ما تعيشه بلادنا اليوم من مناخ حريةٍ ومسؤولية". وهو تعليلٌ من الممكن أن يُفهم على أنه إعلانٌ ضمنيٌّ عن التخلّي عن سياسة وصاية الدولة على أسماء المواطنين، دون ألقابهم، وتحديدها لشكل الهوية التونسية الواحدة والخالية من كلّ تعدّدٍ، أو تنوّعٍ دينيٍّ، أو عرقيٍّ، أو طبقيٍّ، أو على الأقلّ هكذا يبدو. 

اشترك في نشرتنا البريدية