استمع لهذه القصة
هناك التقيتُ سلوى أوّلَ مرّة، سيدة فلسطينية في الأربعين من عمرها وأمّ لطفلين، تدير متجراً لبيع الحلويات العربية. أشيرُ إليها باسمها الأول فقط وفق رغبتها في الخصوصية، وكذلك أفعلُ مع بقية من تحدثتُ إليهم لكتابة هذه المقالة. قابلَتْني بترحابٍ ومن ثمّ أكملَت حديثَها بإسبانيةٍ متقَنة، وإن غَلبَت عليها اللكنةُ العربية، إلى زبونٍ اشترى كِيلَيْن من البقلاوة بالفستق.
اسمُ متجرِها "الأمين"، وليس إلا جزءاً من منزلها الذي تحوّل إلى ساحة عملٍ نُصب فيه ركنٌ زجاجيّ صغير وثلاثة أرفف وستارة تفصل المدخل عن غرفة المعيشة. في ذلك الركن عُرضَت حلويات إلى جانب البقلاوة، منها المعمول والبسبوسة. وفوق الركن كان هناك إطار خشبي يحمل صورة المسجد الأقصى وآخَرُ محفورةٌ فيه خريطةُ فلسطين ملوّنةً بألوان العلم الفلسطيني. أما في الخلف، فقد تزينت الأرفف الثلاثة بأعلامٍ فلسطينية صغيرة وكوفيةٍ وتقويمٍ يُظهِر خريطة فلسطين التاريخية، وإلى جانبه وُضعت قبعةٌ مزينة بطبعة لمسجد قبة الصخرة.
من عادات سلوى أن تقدم لزبائنها عيّنة مجانية من الحلويات التي يعدّها زوجُها العمّ عادل في غرفة صغيرة خلف المنزل، تدعوهم معها لتجربة "طعم فلسطين" على حدّ قولها.
هُجّر والدا سلوى من حيفا عام 1948 فانتقلا بعدها إلى بغداد، حيث وُلدت سلوى وزوجها وابنها البكر. في 2006 وعلى إثر الاضطرابات التي عمّت العراق بعد الغزو الأمريكي، انتهى بها المطافُ وأسرتِها الصغيرة في مخيمٍ للاجئين على الحدود العراقية السورية. قدمت سلوى وأسرتُها الصغيرة إلى تشيلي بعدها بعامين ضمن برنامج إعادة توطينٍ عرضته الحكومة التشيلية عبر المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. جاءوا لاجئين لينضمّوا إلى مجتمع فلسطيني كبير، يُعدّ أكبرَ تجمّع للشتات الفلسطيني خارج الوطن العربي.
سلوى قصةٌ من قصصٍ شتّى للاجئين ولاجئاتٍ فلسطينيين من العراق حطّت بهم الرحالُ في تشيلي. دَوّنتُ قصصَهم إبّان زيارتي تشيلي في عامي 2013 و2014 وأثناء تحضيري لأطروحة الماجستير عن تجربة فلسطينيّي تشيلي، ومرةً أُخرى عام 2023 لغاياتٍ بحثية مشابهة. من كلماتهم، أتتبعُ رحلةَ هؤلاء اللاجئين بدايةً من نزوح ذويهم من فلسطين إلى العراق، ثم حياتهم هناك بين الوعود بالعودة والحرمان من الحقوق الأساسية للاجئين، حتى تجربة لجوئهم الثانية من العراق والتي انتهت برحلة إعادة توطين كانت تشيلي وجهتَها الأولى. قصصهم نافذةٌ – وإن كانت صغيرةً – على حياة الفلسطينيين في تشيلي بين الأمل في حياة أفضل وتحديات العيش في بيئةٍ جديدة بعيدة عمّا تعودوا عليه، وبين الحنين لوطنٍ بعيد لَم تطأه أقدامُ غالبيتهم. ومع ذلك، فهُم في سعيٍ دائم لكسب رزقهم والحفاظ على هويتهم الثقافية في مجتمعَيْن غريبَيْن عليهم هُما المجتمعُ التشيليّ الواسع والجاليةُ الفلسطينية التي أصّلت وجودَها هناك منذ أكثر من قرنٍ في بلد يبعد آلاف الكيلومترات عن بلدهم الأم فلسطين.
رفضت الحكومةُ العراقية جعلَ العراق المنطقةَ السادسة من مناطق عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بعد الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان والأردن وسوريا، وذلك لدواعٍ سياسية أهمُّها رفضُ التوطين. لَم يشمل التعريفُ الأممي للاجئ الفلسطيني أولئك الفلسطينيين المقيمين في العراق ولم يُدرَجوا ضمن سجلات المفوضية الأممية أو تقاريرها السنوية أو في نطاق خدماتها. تولّت وزارة الشؤون الإجتماعية العراقية رعاية فلسطينيي العراق والإشراف عليهم، فاستحدثت مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في العراق والتي حدّدت تعريف اللاجئ الفلسطيني بأنه "الإنسان الفلسطيني الذي تهجَّر من بلده المحتلّ عام 1948 ودخل إلى العراق وأقام فيه قبل تاريخ 1958". مع تعاقُب السنين، انضمّ فلسطينيون آخرون إلى لاجئي النكبة في العراق، بعضُهم من فلسطين عام 1967 إثر هزيمة حزيران واحتلال إسرائيل الضفةَ الغربية وقطاع غزة، وآخرون من بلادٍ عربية أُخرى كالكويت في أعقاب حرب الخليج أوائل التسعينيات.
تفاوتت تجارب اللاجئين الفلسطينيين في العراق بتغيّر سياسة الحكومات العراقية التي تحكم البلاد. فقد صادَق العراقُ مثلاً على بروتوكول الدار البيضاء الصادر عن جامعة الدول العربية عام 1965، والذي استهدَف وضعَ معايير إقليمية لمعاملة اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية. سمحت الحكومة العراقية بموجب البروتوكول للفلسطينيين بالعمل والدراسة والتنقل. ومع هذه الحقوق، لَم يُمنَح اللاجئون الفلسطينيون الجنسيةَ العراقية أو جوازاتِ سفر. ومثلَ باقي المواطنين العراقيين، كان يُسمَح للفلسطينيين بمغادرة البلاد مرّتين فقط سنوياً – مرّةً لأداء الحج وأُخرى للزيارة – بشرط الحصول على تأشيرة خروج.
في عام 2001، أقرّت الحكومة العراقية القانون رقم 202، الذي منح اللاجئين الفلسطينيين حقوقًا مشابهة لحقوق المواطنين العراقيين، ولكنها لم تمنحهم الجنسية أو جوازات السفر، ناهيك عن أن هذا القانون لم يرَ النور بسبب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003.
ورغم أن فلسطينيي العراق تمتعوا بظروف اجتماعية واقتصادية جيّدة، إلا أن كثيراً منهم يذكرون بمرارةٍ ما عاشوه في أعقاب غزو العراق 2003، إذ أضحى اللاجئون الفلسطينيون هدفاً للمليشيات ولهجماتٍ منظّمة بعد تعبئة الناس ضد الوجود الفلسطيني باعتباره من مخلّفات عهد الرئيس صدام حسين. لم تُجدَّد أوراقُ إقامتهم، واضطُرَّ كثيرون لتغيير أماكن سكنهم.
يتحدث اللاجئون ممّن حاورتُهم بألمٍ عن هذه الفترة، فبعضهم خسر أفراداً من عائلته، وآخَر اُختطِف وعُذِّب، وثالثٌ اختُطِف ابنُ أخيه ولم يعد إلا بعد دفع فديةٍ دسمة، وغيرها من التجارب التي دفعت كثيرين منهم إلى النزوح من العراق.
ينعت بعضهم تلك الأحداث بالنكبة الثانية، مستحضرين ما عاشه آباؤهم وأجدادهم عند الرحيل عن فلسطين في عام 1948. يقول العمّ أمين: "بعد الحرب، كان قتلُ الفلسطيني أسهلَ مِن قتلِ النمل … كثيرون استُهدفوا واختُطفوا وسُجنوا وآخَرون قُتلوا، ومع ذلك اعتقدتُ أنني لن أغادر أبداً. لن أكرّر تاريخ والدَيَّ عندما أُجبرا على ترك فلسطين. ومع ذلك، فقد وجدتُ ملصَقاً على باب منزلي. قالوا إنّ عليّ المغادرة خلال 48 ساعة و إلا سيقتلوننا. في اليوم السابق تلقّى جاري رسالةً مماثلة، وبعدها بيومٍ حرقوا منزله. لقد رأينا ذلك بأعيننا وسمعنا قصصاً من الكثيرين … غادرَت والدتي حيفا عندما كانت طفلة، هذه المرّة كان عمرها يزيد عن 70 عاماً. قالت إنها لا تستطيع الذهاب؛ لم تُرِد أن تصبح لاجئةً مرّة ثانية … تركناها في بغداد مع أختي وغادرنا. لقد كانت نكبةً أُخرى".
قصد النازحون من العراق بشكل رئيسي سوريا والأردن، وكانت أقصى أمانيهم أن يجدوا حدوداً مفتوحة تمكّنهم من إيجاد مكانٍ آمن لهم و لعوائلهم. هنا تستذكر سلوى تلك الفترة فتقول: "عندما غادرنا بغداد كانت الوجهةُ سوريا. قبل الحرب هناك كنا نرى في سوريا بلداً جميلاً وآمناً، فيه حياة كريمة وعادات وتقاليد مشابهة لما تعودنا عليه. كم تمنيت الدخول إلى الأردن أو سوريا، فهي بلادٌ مجاورة يتمتع بها الفلسطينيون ببعض الأمان".
ولكن لأنهم بلا جنسية، مُنع أغلب اللاجئين من دخول البلدين الجارين، فاضطُرّوا إلى المكوث في مخيمات على الحدود، منها مخيم الوليد على الحدود الأردنية العراقية ومخيم الهول شمال شرق سوريا في محافظة الحسكة ومخيم التنف في المنطقة الواقعة بين سوريا والعراق والأردن.
عاشت سلوى وعائلتُها وباقي المجموعة التي التقيتُها في تشيلي في مخيم التنف الذي أنشئ في مايو 2006، وسكنَهُ حوالي 1300 لاجئٍ فلسطيني في أوقات مختلفة على مدى أربع سنوات. وصف تقريرٌ أصدرته المنظمة الدولية للاجئين في ذلك الوقت مخيّمَ التنف واحداً من "أسوأ خمس مخيّمات للاجئين على مستوى العالم". كان على اللاجئين الفلسطينيين في المخيّم مواجهةُ ظروفٍ معيشية قاسية بما في ذلك درجاتُ الحرارة العالية في الصيف، والفيضانات والعواصف الرملية وخطر الحرائق في الشتاء، إضافةً إلى قلّة الخدمات الطبية. رغم حياة المخيّم الشاقّة، يَذكره بعضُ اللاجئين بذكرياتٍ مختلطة بالألم والحنين. يخبرني أبو محمد، أحدُ اللاجئين، عن المخيّم بقوله: "صحيح، كانت الحياة في المخيّم صعبة؛ ولكننا اعتدنا الحياة هناك بسرعةٍ كبيرة، ربما لأننا نحن الفلسطينيين اعتدنا أن نكون لاجئين؛ لقد ورثناه من آبائنا وأجدادنا … تَمَكَّنَّا من العيش في الصحراء وحماية عائلاتنا. ساعَدَ الناسُ بعضُهم البعضَ وكوّنّا روابط وثيقة. جميعُنا الآن مشتَّتون".
لم يكن لدى اللاجئين خيارٌ في تحديد الجهة التي سيذهبون إليها، إلى أن فُتح باب اللجوء لهم، وكانت تشيلي أوّلَ دولة تسمح بهجرةِ مجموعةٍ من اللاجئين إلى أراضيها.
حدَّثني أفرادٌ من الجالية أنه وعلى الرغم من تنوُّع أصولهم القومية والدينية، فقد تعرضوا عند وصولهم أوّل مرّةٍ لتشيلي للعنصرية والتهميش. فمثلاً عندما كان يرتكب أحد المهاجرين عملاً سيئاً، تتوالى الاتهامات ضد الجالية كلها، وربما وُضعت لافتات في بعض الأمكنة كُتب عليها "مغلق أمام كل الأتراك". هذه القصة تتوافق مع بحثٍ نُشر بالإسبانية في مجلة "إيستوريا" المُحكّمة عام 1994 بعنوان "رُهاب الأتراك: التمييز ضد العرب في تشيلي، 1900-1950". تقول الباحثة أنطونيا هيرنانديز أن العرب لم يكن مرحَّباً بهم في البداية بسبب الصور النمطية الاستعلائية التي خلّفها الميراثُ الأوروبي عن المهاجرين من غير البِيض. إضافةً إلى ذلك فقد كان نشاطُ العرب الرئيسيّ التجارةَ، لا سيّما تجارة التجزئة التي لم تكن متطورة في تشيلي حينها ولم تشارك النخب الغنية من كبار مُلّاك الأراضي في هذه الحرفة. ولأن غالبية المهاجرين الذين جاؤوا في هذه الفترة بدؤوا باعةً جائلين، فقد بات مصطلحُ "إيل توركو" أي التُرْكِيّ مرادفاً لبائعي الشوارع.
ومع ذلك تَمكّنَ المهاجرون الفلسطينيون من البقاء في تشيلي. وظهرت منطقةٌ فلسطينية في العاصمة سانتياغو سُمّيَت حيَّ باتروناتو، فيه بنى الفلسطينيون أوّلَ كنيسةٍ أرثوذكسية لهم عام 1917. وبحلول منتصف العشرينيات تَمكَّن الفلسطينيون من ترسيخ حياةٍ اقتصادية واجتماعية في تشيلي، إذ ارتكزت هويتهم على أربعة محدّدات هي مدنهم وقراهم الأصلية بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وغيرها ومنطقتهم الجغرافية وهي بلاد الشام وديانتهم المسيحية وأخيراً عروبتهم. لا يزال كثيرون يستخدمون هذه المحدّدات حتى اليوم مع صعود أهمية الهوية الفلسطينية مقارنةً بغيرها خاصّةً بين أبناء الجيلين الرابع والخامس.
لَم يَحسِب المهاجرون الأوائلُ أنفسَهم مهاجِرين دائمِين، بل وَضعوا نصبَ أعينِهم العودةَ إلى مدنهم الأصلية. وقد تمكّن بعضُهم فعلاً من العودة إلى فلسطين خلال الحكم العثماني. إلا أن هذا الوضع تغيَّرَ في عام 1925 عندما بدأت حكومة الانتداب البريطاني بإصدار جوازات سفرٍ فلسطينية تماشياً مع قانون الجنسية الجديد، والذي مُنع بموجبه كثيرٌ من الفلسطينيين الذين لم يكونوا في الأراضي الفلسطينية وقت إصدار القانون من العودة. وفُسِّرَ ذلك فلسطينياً على أنه جزءٌ من السياسة البريطانية ومشروعها لتمكين الحركة الصهيونية من بسط سيطرتها على فلسطين بتحجيم سكانها وقطع الروابط بينهم.
هاجَرَت مجموعاتٌ جديدة من الفلسطينيين إلى تشيلي في أعقاب النكبة. انضم كثيرٌ منهم لأقارب لهم هناك، ما خلق وجوداً فلسطينياً بعائلاتٍ كبيرة استمرت بالنمو في السنوات اللاحقة.
روى لي كبارُ السنّ من فلسطينيي تشيلي تجاربَ آبائهم أو أجدادهم الذين وصلوا إلى البلاد قبل مئة عام، وكيف سعى الجيل الأول إلى الاندماج في المجتمع التشيلي هرباً من التمييز. حتى إن كثيراً منهم غيّر مذهبَه من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية سعياً – على حد وصفهم – لأن يصبحوا "تشيليين أكثر من التشيليين أنفسهم"، فانصهروا في المجتمع المضيف.
كانت ذاكرة فلسطين بين هؤلاء تتمحور أساساً حول الحفاظ على تقاليد المطبخ الفلسطيني والموسيقى ومظاهرَ ثقافيةٍ عائلية، كذلك الحفاظ على الروابط العائلية الممتدة بإرسال أطفال الجيل اللاحق في رحلاتٍ إلى فلسطين. وعندما تحسّنت ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية سعوا إلى بناء روابط اجتماعية بين أبناء الجالية نفسها، فأسّسوا عدداً من المنظمات والنوادي الاجتماعية والثقافية المختلفة التي كان لها بصمةٌ واضحة في المجتمع المهاجر. من أبرزِها النادي الفلسطيني واتحادُ المرأة الفلسطينية ونادي ديبورتيفو بالستينو (النادي الرياضي الفلسطيني) لكرة القدم الذي تأسس عام 1920 والاتحاد العام للطلاب الفلسطينيين والاتحاد العام للطلاب العرب. بحلول أواخر القرن العشرين، كان لفلسطينيي تشيلي والجيل الجديد هناك مشاركةٌ ناجحةٌ في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، بل وانخرَطوا أيضاً في السياسة المحلية وشاركوا معرِّفين أنفسَهم بأنهم تشيليون فلسطينيون. وكان منهم الناشط والسياسي اليساري دانييل هادويه، الذي خاض الانتخابات الرئاسية التشيلية عام 2021 وتصدّرَ استطلاعات الرأي فيها.
عندما قرّرت حكومةُ تشيلي استقبالَ لاجئين فلسطينيين من العراق عام 2008، كان ذلك لاعتباراتٍ سياسية غرضُها تقويةُ المكانة الدبلوماسية للدولة، ولتكون بلداً مستقبِلاً للاجئين، ولتعزيز الروابط بين الحكومة والجالية الفلسطينية في تشيلي.
قُسّم اللاجئون الذين اختيروا كأوّل من يغادر مخيم التنف آنذاك إلى أربع مجموعات، استُقبِل كلّ منها في منطقةٍ لها عمدةٌ من أصلٍ فلسطيني؛ مجموعتان في منطقتي ريكوليتا ونونوا في العاصمة سانتياغو، وأُخْرَيان في مدينتي لا كاليرا وسان فيليبي شمالاً. ساندَ مجتمعُ الشتات الراسخ المتمثل بالجالية الفلسطينية في تشيلي اللاجئين القادمين من العراق، فقدّموا الدعمَ الاجتماعي والمعنوي للوافدين الجدد، خاصّةً في تعريفهم بأفراد المجتمع وعاداته، وساعدوهم في إدراج أبنائهم في سلك التعليم وإيجاد عمل مناسب.
عندما زرتُ تشيلي أوّل مرّةٍ بين عامي 2013 و2014، وجدتُ أن أغلب اللاجئين قد انتقلوا إلى العاصمة حيث توجد شبكاتٌ اقتصادية واجتماعية ودينية أكبرُ. هذا النمط بدا على حاله عند عودتي لتشيلي في 2023.
كانت هذه المجموعة الأولى التي اختيرت لتترك المخيم، وظنّ كثيرٌ منهم أنهم إن لم يَقبلوا بهذه الفرصة، فقد لا يتسنى لهم غيرها. استقبلَتهم الجاليةُ الفلسطينية عند وصولهم إلى تشيلي بحفاوة، وزاروا فيما بعد القصرَ الرئاسي حيث التقوا بميشال باشليت رئيسة تشيلي آنذاك. حسب وصف باشليت، فقد كان هدفُ توطينِ اللاجئين الفلسطينيين في تشيلي التأكيدَ على أن تشيلي تفتح أبواب بيوتها وشوارعها وثقافتها لجميع من اختاروا تشيلي وطناً ثانياً لهم.
مدَّت الجاليةُ الفلسطينية يدَ العون للقادمين الجدد، والتزمَت مفوضيةُ الأمم المتحدة للاجئين بدايةً برعاية هؤلاء. فبالإضافة إلى إقامةٍ مؤقتة لعامين، حصل اللاجئون على منحةٍ تكفي الطعامَ والسكن ودروساً في اللغة لتأهيلهم لسوق العمل وتمكين أبنائهم من مواصلة تحصيلهم العلمي. إلا أن الحكومة المضيفة كانت تفتقر لبرامج رعايةٍ للاجئين، خصوصاً وأن تشيلي لا تُعدّ مِن دول اللجوء على غرار بعض الدول الأوروبية. ولذلك لم يمض كثيرٌ من الوقت حتى أدرك القادمون الجدد أن الحياة في هذا البلد ليست سهلة.
أَمُلَ هؤلاء اللاجئون، والذين يمتلك بعضُهم تحصيلاً علمياً جامعياً، بالحصول على عملٍ يناسب مؤهلاتِهم في تشيلي، فأحدهم يحمل شهادة بكالوريوس في الآداب من جامعة بغداد وآخَر في اللغة الإنجليزية وثالثٌ في دراسات التربية. عمل أحدُهم في السفارة البرازيلية في بغداد وآخرُ في المجلس الثقافي البريطاني وعديدون في سلك التدريس. أما بالنسبة لزوجاتهم فكنّ بالمجمل ربّات بيوت في العراق.
استطاع أحدُ اللاجئين واسمه سامح أن يعمل مدرساً للغة العربية في المدرسة العربية (كلايغيو أرابيه) في سانتياغو، والتي تأسست في عام 1977 بمبادرةٍ من أُسَرٍ فلسطينية مهاجرة في وقتها. انتقل بعدها للعمل مع المسجد المركزي. كان سامح من القلائل الذين استطاعوا إيجاد عمل بمساعدة الجالية في وقت مبكّر، في حين أن الغالبية لَم تساعدهم مؤهلاتُهم في الحصول على فرص عملٍ مناسبة، مع كل السبل التي اتخذوها سعياً وراء لقمة العيش.
في البداية، كان هناك الأَخَوان أحمد وصالح، اللذان عملا في مخبزٍ في بغداد قبل لجوئهم لتشيلي. لاحقاً انضمّ إليهما العمّ عادل، زوج سلوى، الذي كان قد عمل مع والده في محلٍ لبيع الحلويات في العاصمة العراقية. بفضل استثمارٍ ماليّ من أحد أفراد الجالية القدامى، افتتح الثلاثةُ محلاً لصناعة الحلويات العربية وبيعها في حي باتروناتو. لاقى المشروعُ رواجاً كبيراً منذ بدايته، إذ كانت الحلويات مرغوبةً ليس بسبب جودة صنعها وأصالتها فحسب، وإنما لرغبة الكثيرين أيضاً في دعم الثلاثة وعائلاتهم ليستقروا مادياً ومن ثم اجتماعياً في الحي.
أصبح المحلُّ معروفاً محلياً بمرور الوقت، إلا أن اختلافاتٍ شخصية بين أصحابه الثلاثة أدى إلى انسحاب العمّ عادل، الذي أسّس محلَّه الخاص – من بيته – على بعد شارعين من المحلّ الأول، وبدعم زوجته سلوى ومساندتها، استطاع الاثنان ترسيخَ اسم محلّهما (الأمين) في المنطقة، سواءً بين أبناء الجالية الفلسطينية أو السكان التشيليين.
شجّع النجاحُ النسبيّ لأحمد وصالح والعم عادل آخَرِين من أبناء الجالية على استكشاف فرصٍ جديدة تمكّنهم من الاستفادة والتأثير في المشهد الثقافي والاقتصادي في تشيلي. خلال فترة قصيرة نسبياً وجد أغلبُهم أعمالاً مشابهة سواءً بعمل بعض الرجال والنساء في مطاعم تقدّم أكلاتٍ شعبية فلسطينية أو في بيع الحلويات التي تصنعها زوجاتُهم في المنزل، يعرضونها في السوق أو المطاعم المحلية. ومع التعاون المشترك بين العائلات في هذا المضمار، إلا أن العلاقات فيما بينهم لا تخلو من المنافسة التي تنشأ نتيجةَ التشابه في طبيعة العمل والفئة المستهدَفة منه.
البارز هو أن متطلبات الحياة في تشيلي دفعت العديدَ من هذه العائلات الفلسطينية إلى تبني نهجٍ مشترك في العمل، بحيث يساهِم كلا الزوجين في الدخل الأسري بإدارة الأعمال المتعلقة بالمأكولات الفلسطينية، إضافةً إلى العناية بالأولاد والواجبات الاجتماعية وغيرها من المسؤوليات اليومية.
تقول سلوى في هذا الصدد: "عندما تزوجتُ كان لديّ مسؤوليةُ البيت؛ زوجي ثم ابني. لَم أعمل بالخارج ... هنا يجب أن أعمل. أنا لا أمانِع تشيلي بلداً، فطقسها مثلاً يشبه طقس فلسطين … ومع ذلك، الحياة هنا مختلفة. في بلدٍ عربي، كما كنا نعيش في العراق، كان بإمكاننا أن نعيش بدخلِ الرجُلِ وحدَه. هنا يجب أن نعمل أنا وزوجي، وإلا فلن نستطيع العيش".
تحت وطأة هذه الظروف الصعبة والتحديات المستمرة، مضافاً إليها الرغبةُ في تحقيق مستوىً من الاستقلال المالي والاجتماعي، بدأ اللاجئون في السعي نحو إيجاد سكنٍ ثابت لغايةٍ رأوا فيها الاستقرار والأمان. فشكلوا لجنةً ممثِّلة لعوائل اللاجئين، وبادروا بالتوجه نحو السلطات المحلية والمؤسسات ذات الصلة للتعرف على البرامج والمبادرات المتاحة التي تدعم الإسكان وتوفّر فرصاً للحصول على منازل ملائمة للإقامة. كما استعانوا بالمجتمع المحلي والجالية الفلسطينية للحصول على الدعم والمساعدة في هذا الصدد.
آتَت جهودُهم أُكُلَها في الاستفادة من برنامج دعم السكن، وهو معونةٌ تقدّمها الحكومة التشيلية للأُسر الفقيرة وذات الدخل المنخفض لشراء منزلٍ على نفقة الدولة ضمن سياسة الإسكان الاجتماعي. تكمن أهمية الخطوة للعائلات اللاجئة في تملُّك منزلٍ بصرف النظر عن حجمه يغنيهم عن دفع الإيجار ويشعِرُهم بالاستقرار والأمان في هذا البلد.
يصف أبو محمد رئيس لجنة العوائل ما يراه إصراراً وقوّةً من اللاجئين في مواجهة هذا التحدي بقوله: "يجب أن يكون الناسُ أُسُوداً حتى ينالوا حقوقهم".
تختلف الممارسات والتقاليد والطقوس الدينية بين المجموعتين ذات الأصل المشترك. فغالبية المجتمع الفلسطيني في تشيلي تعتنق المسيحية، وهي ديانةُ أغلبِ السكان في الدولة التي يبلغ عددُ مواطنيها أقلَّ من عشرين مليوناً بقليل. في حين أن المسلمين تشيلي – بمن فيهم اللاجئون القادمون من العراق – لا يتجاوزون الأربعة آلاف شخص.
أما على مستوى العائلة فقد أضحى المهاجرون الأوائل بمرور الزمن عائلاتٍ كبيرةً، وصارت العائلة محوراً للحفاظ على التراث ونقل القيم والتقاليد إلى الأجيال الجديدة. في المقابل، لا يزال اللاجئون القادمون من العراق يعيشون مرارةَ التهجير القسريّ. إحدى العائلات التي حادثتُها والمكوَّنةُ من أربعة أفراد تشتّت شملُها بين أماكن متفرقة حول العالم، فوالدة الزوجة لا تزال في العراق، في حين بات إخوتُها الثلاثةُ لاجئِين في كندا والسويد وفرنسا. والدة الزوج وأَخَواه في الأردن منذ ما قبل الغزو الأمريكي للعراق. أخٌ وعائلتُه يعيشون في النرويج، وأختٌ وعائلتُها في الولايات المتحدة. وهذا الحال يتكرّر لدى جميع اللاجئين تقريباً.
قَدمَتْ ندى لتشيلي في الدفعة الأولى للاجئين من العراق وتصفُ حالَ عائلتِها فتقول: "استطاعت والدتي الذهابَ إلى الأردن لتعيش مع أخٍ لي هناك. أما أخي الثاني فهاجرَ إلى السويد والثالث في النرويج والرابع في النمسا … أما شقيقتايَ فوَصَلَتا إلى تركيا وتنتظران الحصولَ على لجوءٍ في بلدٍ ثانٍ... ها نحن مشتَّتون في كلّ مكان".
في مواجهة هذا التشتّت، سعى اللاجئون للحفاظ على روابطهم العائلية بالتواصل المستمرّ والحفاظ على العادات والتقاليد، وبالإصرار على تعليم أبنائهم اللغةَ العربية والقرآن الكريم.
تضيف ندى: "عندما يكبر أطفالنا وأطفال إخوتي وأخواتي، قد يجدون أنفسهم يتحدثون السويدية والنرويجية والألمانية والتركية نتيجةً لتربيتهم في بيئاتٍ مختلفة … وهذا يطرح تساؤلاً حول كيفية التواصل بينهم؟ فقد عشنا جميعاً في العراق ونتحدث لغةً واحدة، هي اللغة العربية التي ستكون الوسيلة الوحيدة لتوحيدنا في هذا التنوع المتنامي. أولادي يتقنون الإسبانية الآن ويتحدثونها فيما بينهم، إلا أنّي أُصِرّ على أن يتحدثوا العربية في المنزل، وأن يذهبوا لدروس القرآن في المسجد في يوم العطلة. أرغب في أن يحافِظ أبنائي على اللغة العربية، وأنا واثقةٌ من أن إخوتي سيفعلون الشيءَ نفسَه. إذا كُتب لنا أن نجتمع مرّةً أُخرى في يومٍ من الأيام، فإن اللغة العربية وعاداتِنا ستكون روابط مشتركةً تجمع بين أبنائنا".
بسبب الظروف والتحديات المشتركة التي عاشها اللاجئون، ظهرت روابط شبهُ عائلية فيما بينهم، فقاموا بإنشاء موقعٍ إلكتروني بالعربية عَنْوَنُوه "فلسطينيو العراق"، يتبادلون فيه الأخبار والمعلومات ويتابعون فيه أنباء الآخَرين الذين عاشوا معهم سواءً في العراق أو في المخيم قبل الانتقال إلى تشيلي. انصبَّ الاهتمامُ بالذات على المجموعات التي أُعيد توطينها في بلدان أخرى مثل البرازيل التي استقبلت اثنتين وعشرين عائلةً من مخيمات اللجوء على الحدود العراقية الأردنية، وتعيش الآن ظروفاً أصعب مقارنةً بالآخرين في تشيلي. أو حتى مقارنةً بمن يعيشون في الدول الأوروبية ودول أمريكا الشمالية التي استضافت العشرات منهم.
اندمج فلسطينيو تشيلي الواصلون منذ مئة عامٍ في المجتمع المحلّيّ وكانت لهم بصمةٌ في المستويات المهنية والمالية، في حين لا يزال الفلسطينيون القادمون من العراق بعد عقدٍ من وصولهم تشيلي يواجهون تحدّياتٍ عدّةً. فالحياة في تشيلي ليست سهلةً كما يقولون. ولأنهم مرّوا بتجارب متعدّدة للنزوح، يجدون أنفسَهم في مواقف معقّدة ديدنُها التوجّسُ من المستقبل والشعورُ بالخوف، خصوصاً في بيئةٍ غريبة تعسِّر التأقلمَ في المجتمع الجديد. لذلك يتحدث كثيرون منهم عن تشيلي بلداً مؤقتاً، يتحملون الحياةَ فيه إلى حين الحصول على جنسيةٍ وجواز سفر، فجميعُهم لم يملكوا جوازات سفرٍ قبل القدوم إلى تشيلي مما حجَّم قدرتَهم على التنقل وقلَّص فرصَهم في العمل والنموّ الاقتصادي. وبالفعل انتقل عددٌ من اللاجئين بعد سنواتٍ قليلة من حصولهم وأبنائهم على الجنسية التشيلية إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية. مثالُ ذلك عائلةٌ مكوّنةٌ من سبعة أفرادٍ ضمن المجموعة التي التقيتُها أثناء وجودي في تشيلي، فقد انتقلوا إلى السويد قبل حوالي ثلاث سنوات. ولا يزال آخَرون، ومع مرور سنواتٍ على استقرارهم في بلد اللجوء الجديد، يخطّطون للرحيل للانضمام إلى أفراد عائلتهم أو إلى بلدٍ تسهُل فيه متطلباتُ الحياة مقارَنةً بتشيلي.
يخبرني العمّ أمين عن خططه قائلاً: "أريد أن أجمع مبلغاً يمكّنني من السفر أولاً لزيارة والدتي في العراق، سأذهب وحدي لأني أخاف على الأطفال هناك. ربما آخذُ والدتي للعمرة أو الحجّ. كما أريد أن تزور زوجتي والدتَها في الأردن … والأهمّ أنني أريد أن آخذ الأولاد لزيارة حيفا؛ أريدهم أن يعرفوا فلسطين وأن يزوروا القدس. سيسمح لي جواز السفر التشيلي بذلك حتى ولو سائحاً … ربما نستمر في العيش هنا مستقبلاً، أو نجدُ بلداً يجمعُنا يكون أقربَ جغرافياً إلى الأهل والبْلاد".