عصر بورسعيد الذهبي: مدخلٌ للحنين واسترجاعٌ لصورة الماضي المثالية

يعزو أهالي بورسعيد تدهور الأحوال المعيشية إلى وفود سكان جدد إلى المدينة من نواحي مصر ولا سيما من الريف، ويحنّ البورسعيديون إلى ماضٍ "ذهبي" يرغبون في استعادته

Share
عصر بورسعيد الذهبي: مدخلٌ للحنين واسترجاعٌ لصورة الماضي المثالية
طيور النورس تحلّق فوق المجرى الملاحي لقناة السويس (تصوير الكاتبة)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

بُنيَت بورسعيد سنة 1859 لتكون محطةً رئيسة لاستراحة السفن العابرة قناةَ السويس لتصِل شرق العالم بغربه. سرعان ما أصبحت المدينةُ عنوانَ الحداثة في مصر لِما فيها من تخطيطٍ عمراني مميز وثراءٍ ثقافي وتنوّعٍ اجتماعي وتعايشٍ خَلَق روحاً منفردة لبورسعيد. توالي الحروب مطلعَ النصف الثاني من القرن الماضي غَيّرَ مَعالمَ المدينة و أصابها في هويتها الأصلية. هجرها أولاً سكانها الأجانب، ثم تبعهم جزءٌ من سكانها المصريين على فترات. لكنها عادت مركزاً لجذب السكان والعمالة مع استباب الأمن والانفتاح الاقتصادي في السبعينيات. اليوم، وبعد عقودٍ من التغيّرات، يغالب البورسعيديين حنينٌ إلى ماضي المدينة، وإن اختلف تعريفه فيما بينهم. فمنهم من يرى رخاءَ المدينة وتميزَها في زمن الاستعمار، لِما شهدَته من تنوعٍ سكاني ونشاطٍ ثقافي. ومنهم من يرى أنها لم تشهد عصرها الذهبي بعدُ، وأن موقعها الاستراتيجي يَعِد بنصيبها من الرخاء الذي لم يؤتِ ثمارَه بعدُ. عزَّزَ من هذا الحنينِ وفودُ سكانٍ جددٍ إليها من نواحي مصر، ولا سيّما الريفية منها، فاختلفت طبيعة المدينة السكانية والعمرانية.


مَن يمشي في شوارع المدينة اليوم سيَلمح بقايا حياةٍ سابقة تلوّنت بعادات المصريين والأجانب وثقافاتهم معاً. فالعمران نِصفُه أوروبيّ والنصفُ الآخَر عربيّ تقليدي. وماضي المدينة يُزاوِج ببراعةٍ بين دَوْرِ الميناء حيث تَلاقِي الشرق والغرب وتَعايُش المصريين مع العابرين الأجانب. فَرضت طبيعةُ قناة السويس التنوعَ السكاني على المدينة، فمصريُّوها كانوا أساساً من عمّال حفر القناة بين عامي 1859 و 1869، أو جاؤوا من محافظات الصعيد أو من المحافظات المجاورة مثل دمياط والدقهلية والشرقية. واصَل أولئك العمّالُ حياتَهم في المدينة بعد حَفر القناة، مشتغلين بالخدمات الملاحية التي تُقدَّم للسفن العابرة، مثل الشحن والتفريغ والإمداد بالمؤن الغذائية والفحم. وعملوا بالصيد والتجارة ووظائف السلطة المحلية وإدارتها، مثل الشرطة والبريد. في المقابل، ضمّت بورسعيد جالياتٍ أجنبيةً كانت جزءاً من موجةِ هجرةٍ في بداية القرن التاسع عشر. بدايةً، شكَّل اليونانيون والإيطاليون أكبرَ الجاليات، وعملوا غالباً في الأنشطة التجارية والتحف والمقاهي والفنادق والمخابز. ثم ما لبث أن برز الفرنسيون مع تأسيس شركة قناة السويس، وكانت في حينها فرنسيةً خالصةً تتولى عمليات تسيير السفن بالقناة. ثم تزايد عدد المواطنين الإنجليز بعد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882. وعمل جُلُّهم بالتجارة والشحن وتموين السفن لخدمة الخطّ المِلاحي التجاري الإنجليزي الذي وَصَلَ بريطانيا بمستعمراتها الهندية.

تحوّلت المدينةُ قاعدةً للمقاومةِ الشعبية خلال العدوان الثلاثي سنة 1956. وإثرَ حربِ 1967، واحتلالِ إسرائيل لسيناء، وتجميد حركة الملاحة بالقناة، أصبح السكنُ خطراً مع تكرار الإنزال الجوي على شواطئها ومحاولات التسلل إليها. فَرَضَت بعدها الحكومةُ المصريةُ على أهالي المدينة الهجرةَ إلى محافظاتٍ أخرى أكثرَ أمناً، مع انطلاق حرب الاستنزاف سنة 1969. فنُظِّم تهجير البورسعيديين إلى مُدن دمياط والدقهلية، وأُسكِنوا في مدارسَ عامّةٍ وأكواخٍ صيفية، كما مُنِحوا إعاناتِ تهجير. في حين استُبقيَ عددٌ قليل من السكان والموظفين لمعاونة الجيش في إدارة المدينة، خدمةً للمجهود الحربي آنذاك.

عاد الأهالي للسكن في بورسعيد بعد حرب أكتوبر 1973، ومعها عادت القناةُ شرياناً للملاحة والتجارة الدولية. وبعد توجُّه مصر إلى الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات في السبعينيات، والذي انتقلَت معه من الاشتراكية للرأسمالية واقتصاد السوق الحر، أضحت بورسعيد البوابةَ الأولى لهذا الانفتاح بإعلانها منطقةً للتجارة الحرّة، فعادت بذلك مركزاً لجذب المهاجرين من أنحاء مصر للعمل في التجارة والاستيراد.

ومع تعاقب السِنين منذئذٍ ثقالاً وخفافاً على بورسعيد، ظَلَّ سكانُ المدينة أُسارى تصوراتٍ متباينةٍ عن مدينتهم، مسكونين بحنينٍ بنكهاتٍ مختلفة عن ما يعدّونه عصرَها الذهبيّ الذي يرغبون باسترجاعه، بين من يَرَوْن هذا العصرَ في ماضي ما قبل الحرب والتهجير، ومن يرونه في مستقبلٍ واعدٍ ما تَحَقَّقَ بعدُ، على ما لِبورسعيد من مؤهِّلاتٍ اقتصادية واجتماعية. تعزّز هذا الحنينُ مع بروز ثنائيةِ السكان الأصليين مقابل القادمين الجدد من الأرياف.


شَهِدَت بورسعيد موجتَيْ تهجيرٍ بارزتَيْن في العقود الماضية. كانت موجةُ التهجير الصغرى أثناء العدوان الثلاثي، بقواربَ صغيرةٍ ببحيرةِ المنزلة من المدخل الجنوبي الغربي للمدينة. أما الكبرى فكانت بعد حرب 1967 ثم أصبحَت قسريّةً سنة 1969 حتى حرب أكتوبر 1973 وإعادة تشغيل القناة. خَلَّفَت تلك الموجتان أعمقَ الأثر في وجدان البورسعيديين ووعيهم تجاه مدينتهم. اتّسمَت سنواتُ التهجير بضيق الحال وشُحّ الدَّخل واكتظاظ المساكن بأفراد العائلة الكبيرة مع تعذُّر العمل البديل الملائم، إذ كانت جلُّ خبرات المهجَّرين تتعلق بالبحر من صيدٍ و تجارة أو خدمة سفن، بينما لم تكن هناك مهنٌ مشابهةٌ في البيئة الريفية التي هُجّروا إليها. في حين استمرّت الدولةُ في إعطاء الأجور لموظَّفيها المهجَّرين من بورسعيد، وعيّنَتهم في وظائفَ بديلةٍ بمحافظاتٍ أُخرى، اختارَ أصحابُ المهن الحرّة ممّن توفّرت لهم بعضُ المدّخَرات التوجّهَ للمحافظات الكبرى، مثل القاهرة والإسكندرية، للعمل بمِهَنِهم في سوقٍ كبيرٍ، ولتعليم أبنائهم في الجامعات.

 وحدَه الوقتُ كان وفيراً للمُهجَّرين في ظلّ انتظار الموعد المجهول للعودة إلى مدينتهم. فصَرفوا هذا الوقت بسخاءٍ في الحنين واستعادة الصورة المثالية للمدينة وعن طبيعة سكانها وعاداتهم ونمط حياتهم؛ أي صورة الرخاء والازدهار التجاري والتفاعل بانفتاحٍ على العالَم وفسحة المساحات الممتدة في فضاءٍ حضريّ على الطراز الأوروبي. أضحى هذا الحنينُ الذي تتلمّسُه في الأحاديث مع كبار السنّ خاصّةً أقربَ إلى عادةٍ يمارسها أهلُ بورسعيد على اختلاف أجيالهم.

اعتاد أهالي المدينة بين فترتَي التهجير التجمُّعَ لترديد أغاني الحنين على آلة السمسِميَّة، وهي آلةٌ موسيقية وترية يعود أصلُها للنوبة جنوب مصر، جاءت مع عُمَّال حفر القناة وانتشرت في مدن القناة الثلاث بورسعيد والإسماعيلية والسويس.

اختصّت أغاني السمسمية قبل الهجرة في إحياء الأفراح والمناسبات السعيدة، إذ صاحَبَها رقصٌ يجسّد المهن الأساسية التي يزاولها الأهالي، مثل الصيد ورباط السفن والتجارة مع البحارة العابرين. غير أن السمسمية بدأت منذ العدوان الثلاثي تَكتسب طابعاً مختلفاً، فقد تلوّنَت أغانيها في فترة التهجير بلونٍ حزين، وتمحورَت حول الحنين للمدينة والرغبة في العودة إليها واستعادة أهمّ مَعالمها، مثل الميناء والفنار والبحر والشاطئ والشوارع الرئيسة، والشوق إلى الأحباب والجيران الذين فرّقَتهم سنواتُ الهجرة. صارت تجمعاتُ أغاني السمسمية أداةً أساسية لحفظ هُويّة سكان المدينة في سنوات الهجرة والحرب، كما ميّزَتهم عن المحيط الريفيّ المحافِظ الذي سكنوه مرغَمين.

تقول إحدى هذه الأغاني:

يا تَرَى الأياَّم تعود لِنا
يا طالعين يا طالعين القَصْرْ لفُوقْ يا نازلين يا نازلين سلِّمُولِي
على غَزَال على غَزَال وعيُونُه السُّودْ، هو السبب هو السبب في اللي جَرَا لي
يا ترى الأيام تعود لِنا يوم والمنزل يجمَعنَا

وفي مقامٍ آخر:

الربّ موجود لكن الصَّبر أَجيبُه مِنَين؟
والصبر شجرة
انقطع وأنا أجيب تَقَاوِي (بذور) منين؟
يا مين يدلِّنِي وأنا أرويها بدمع العين
ده اللي انكتب على الجِبِين لازم تشوفه العين 

في الغالب بقيَت كلماتُ الأغاني في فترة ما قبل التهجير هي نفسها بعدَه، ولكن تحوّلَت مدلولاتُها وإيحاءاتُها من أغاني أفراحٍ ووصفٍ للحياة اليومية أحياناً إلى التعبير عن حنينٍ لوطنٍ مفقود. هكذا تجذَّرت عادةُ التذكّر والحنين في سكان المدينة، وسيطرَت هواجسُ استعادة عصرِها الذهبيّ على أهلها. فعندما تسألُ الأهالي عن حال بورسعيد الآن، ترى الإجابات تلتفتُ نحو الماضي، نحو عصرٍ اعتبَروه ذهبياً حين كان للسكان والمساحات والمباني هُويّةٌ مميّزةٌ وكانت الفرصُ الاقتصادية أَوْفَرَ.


كان العصرُ الذهبيُّ في مخيّلةِ بعض أهالي المدينة ممّن تحدثتُ إليهم من أجيالٍ مختلفة هو زمنَ السِلم والازدهار التجاري، لكنَّه تفاوَت بين فتراتٍ تاريخيةٍ عدّة. تَرى بثينةُ، 82 سنة، عصراً ذهبياً في سنوات ما قبل العدوان الثلاثي مباشرةً؛ إذ كانت المدينةُ حاضنةً لأعدادٍ كبيرة من الجاليات الأجنبية، وكانت روحُ التعايش تسود بين المصريين والأجانب. فبالإضافة للجاليات اليونانية والإيطالية، ومِن بعدِهم الفرنسيون والإنجليز، توافَد على بورسعيد التجّارُ وأصحابُ المهن من إسطنبول والأناضول وبلاد الشام، ومن مناطقَ بعيدةٍ كأمريكا اللاتينية والتي جاء منها تاجرٌ تشيليٌّ من أصلٍ كرواتيٍ اسمه كلوفيتش واستقرّ بالمدينة في ثلاثينيات القرن الماضي وأنشأ بنايةً سكنيةً على الطراز الإيطالي والفرنسي فسمّاها السكّانُ باسمِه. بدا أثرُ التمايز السّكاني هذا على النشاط الاجتماعي للمصريين والأجانب، فانتشرت النوادي الاجتماعية والرياضية والمدارس والمستشفيات والكنائس، معبّرةً عن كلّ جاليةٍ من جاليات المدينة. فالكنائس الإيطالية والفرنسية واليونانية تركّزَت في الجزء الشرقي من حي الإفرنج، بينما بُنيَت المساجدُ التاريخيةُ العتيقة في حيّ العرب أوّلاً، ثم تدريجياً منذ عشرينيات القرن الماضي في حيّ الإفرنج أيضاً.

بثينة لا تُنكِر أثرَ الاستعمارِ السلبيَّ في إدارة البلد، فقد احتفَت بقرارات الاستقلال الوطني فيما بعد. وكان والدُها من كبار التجّار الذين ساعدوا الفدائيين وأمدُّوهم بالمعونة والسلاح، ولكنها رأت أن التعايشَ مع الجيران الأجانب والتعدّديةَ التي أَثْرَت الحياةَ الاجتماعيةَ من أهمّ ما تفتقدُه المدينةُ اليوم.

كذلك تتبنّى داليا، 52 سنة، التصوّرَ نفسَه عن ذاك العصر، إذ تأثّرَت بنظرة والدها الذي عايَش المدينةَ في تلك الحِقبة وكان له أصدقاءُ من كلّ الجنسيّات. وترى أن من ينتمي إلى روح بورسعيد الحقيقية لا بدّ أن يغالِبَه الحنينُ إلى تلك الفترة.

أما ليلى، 76 سنة، فتؤمِن أن الزمن الجميل يمتدّ إلى ما قبل سنة 1967. فالمدينة في رأيها كانت تتميّز بالرُقِيّ في إدارة شؤونها كافّةً، من نظافةِ الشوارع إلى رَواجِ الأسواق التجارية بأحدث الأزياء والبضائع التي جعلَتها تضاهي العواصمَ الأوروبية.

وبالمِثل يرى حازم، 77 سنة، في الخمسينيات والستينيات عصراً ذهبياً، حيث كان الأجانب يعيشون في المدينة، وإنْ بأعدادٍ أقلّ، بينما ازداد عدد المصريين من أصحاب المهن المختلفة الذين توافدوا للعيش في المدينة لتنفيذ خطّة إعادة إعمارها بعد حرب 1956. أَغدقَت الدولةُ آنذاك على بورسعيد شتّى أنواع التكريم والاحتفاء، ومجّدت المدينة وسكانها لدَورهم في المقاومة الشعبية والنجاح في تسيير حركة السفن بالقناة بعد التأميم. أُنتجت الأفلامُ والأغاني والرواياتُ التي تمدح المدينةَ وتُبرِز أثرَ سكّانها في معركة الاستقلال الوطني، تلك المعركة التي كانت الأجندةَ السياسية الرئيسة للحكومة المصرية آنذاك. فكَثُرَت الزياراتُ الرئاسية وتضاعفت الفرصُ الاقتصادية وخططُ الإعمار والبناء. لَم تَتبنَّ الحركةُ العمرانيةُ الجديدة نمطَ البناءِ الأوروبيّ القديم ولَم تَتعارض معه، بل أضافت للمدينة طابعاً مميّزاً وعزّزَت الانتفاعَ بالمساحات العامة كي يستمتع الأهالي والمصطافون بالواجهة البحرية.

أمّا عمرو، 44 سنة، فيرى عصرَ بورسعيد الذهبيَّ في إعلانها منطقةً للتجارة الحرّة منذ سنة 1977 وحتى نهاية التسعينيات، إذ احتَلّت المدينةُ موقعَ الريادة التجارية في مصر، وصارت ميناءَ الاستيرادِ الأوّلَ، حتى أصبحَت بوابةَ العالَم إلى مصر. ذلك التميّز التجاريّ جعل المدينةَ مركزَ توافُد التجّار للعمل والاستقرار بها مِن خارج مصر ومن كلّ محافظاتها.


لَم يَرجع سكانُ بورسعيد وحدهم إلى المدينة بعد الحرب، بل وفد معهم التجّار الراغبون في استثمار الفرص الاقتصادية الواعدة للمدينة، ما يعني أنّ نسبة السكان الأصليين تناقصَت مقارنةً بنسبة الوافدين الجُدد، وهو ما أحدث تغييراً اجتماعياً كبيراً. ولذا، فإن مَن رأى في زمن منطقة التجارة الحرّة عصراً ذهبياً من الناحية الاقتصادية لَم يُنكِر أثرَ ذلك على الطابع الاجتماعي المُمَيّز للمدينة، حيث غادَرَها السكانُ الأجانب وحلّ محلَّهم سكانٌ مصريون من خلفياتٍ ريفية ومحافِظةٍ تجهلُ نمطَ الحياة الحضريّ للمدينة.

يَعتقد إسلام، 41 سنة، أنّ نظرة سكّان المدينة بارتِيابٍ للوافدين الجُدد هي النظرة التقليدية التي يتبنّاها أيُّ مجتمعٍ جاذبٍ للمهاجرين يَراهم تهديداً لمنظومة القيم الأصلية ونمط الحياة المترسّخ منذ أجيال. لكنّ أحمد، 49 سنة، يرفض أن يَعُدَّ الوافدين الجُددَ تهديداً للقِيَم الحضريّة للمدينة، كما يرفض احتقارَ مَنشئِهم الريفيّ، وقد جاء غالبيتُهم من المحافظات المحيطة ببورسعيد، خاصةً ريف الدقهلية من منطقتي المطرية والمنزلة ومن ريف دمياط والشرقية. ويرى أحمد أن اندماجَهم في مجتمع المدينة مرهونٌ بانفتاح قِيَمهم لتُلائم روحَ بورسعيد التي تطوّرَت على مدار أجيالٍ قبل الحرب.

وهنا تُعَدُّ ثنائيةُ السكان الأصليين المصريين والوافدين الأجانب مركزيةً للغاية في تعريف سكان بورسعيد لأنفسهم ولمدينتهم. وانطلاقاً من هذه الثنائية، فإن البورسعيدي "الأصليّ" هو مَن سكنَ أبواه وأجداده المدينةَ قبل سنوات الحرب، وقاسى ويلاتِ التهجير، ثم عاد إلى مدينته لأنه ينتمي إليها وإلى نمط حياتها المميّز، ولم يأتِ سعياً وراء الربح السريع الذي وفّرَته منطقةُ التجارة الحرّة منذ السبعينيات. وقد رَسّخ هذا المفهومُ النظرةَ السلبية تجاه الوافدين، فهُم الذين يَسرقون الفرصَ الاقتصادية من أبناء المدينة، وهُم الذين يشوّهون نمط العيش الراقي فيها، وهُم من أدخلوا العادات السيئة إلى شبابها وهدَّدوا الأمن والاستقرار فيها.

من اللافت أن التغطية الصحفية المحلّية للحوادث في المدينة إبّان الثمانينيات والتسعينيات كانت غالباً تنفي نسبةَ جرائم السرقة أو التهريب إلى سكان بورسعيد الأصليين، بل تزعُم أنّ مرتكبي تلك الجرائم جاؤوا من خارج المدينة لخداع سكانها أو سرقتهم. وقد عابَ السكانُ الأصليون على العمران الجديد في ذلك الوقت عدمَ احترامه الهُويةَ البصريةَ لمعمار المدينة، و رأوا أنّ مَن صَمّم هذه المشروعات ونفّذها لَم يدرِك الذائقةَ المعمارية للمدينة فأفسدَها بألوانٍ فاقعةٍ لا تتناسق مع العمران الأصلي فيها.

حتَّى الفِرَق الموسيقية التي تشكّلت لإحياء عزف السمسمية والرقص في نهاية الثمانينيات كانت تحمل هاجس الحفاظ على الهوية الأصلية لسكان المدينة من أن يطمسها الوافدون الجدد الذين لا يعرفون بورسعيد قبل التهجير. إذن، كان الوافدُ الجديد في نظر سكان المدينة الأصليين مجرّدَ مقتنِصٍ للفرص الاقتصادية الواعدة، من غير أن يقاسي ويلات التهجير مع أهلها أو يتبنى القِيَم الحضريّة التي أرساها سكانُها.


مع أنّ بورسعيد تتربّع على قمّة مؤشر التنمية البشرية في مصر ويُقام فيها حالياً الكثير من المشروعات الصناعية والزراعية والتعدينية، إلا أن هاجس الزمن المثالي، وإن اخُتلف في تعريفه تعريفاً موحداً، يبقى مرتكزاً بالمجمل على الرخاء الاقتصادي والتجارة الحرّة. فالتجارة الحرّة مهنةُ سكان بورسعيد الأساسية منذ أجيالٍ عدّة، وما زال الأهالي يتصوّرونها عصبَ التنمية المنشودة والرخاء.

تتنوّع تصورات الوضع الأمثل ذاك. فمِن البورسعيديين من يَنشُد مزيدَ استقلاليةٍ وتشاركيةٍ في إدارة أبناء المدينة شؤونَ بلدهم بالتشاور مع المجلس المحلي المعبِّر عن مصالح السكان وحاجاتهم الاقتصادية والاجتماعية. بينما يرى آخرون أن الاستثمار الأمثل لقدرات المدينة لا بد أن ينبعَ من تاريخها ويضيفَ إليه. ومن ذلك مثلاً الانتقالُ بالمدينة لتوسيع تجارة العبور (الترانزيت) لتكون حاضنةً إقليمية وعالمية للنقل والخدمات البحرية. 

ويرى آخرون أهمية استثمار موقع المدينة الكائنة في منتصف الطريق بين الشرق والغرب في تنمية الصناعات التحويلية التي تَستهدف التصديرَ للخارج. فيما يرى البعضُ الآخَر أن خطط استثمار الطاقات الكامنة في المدينة يجب ألا تُغْفِل خطرَ التغيّر المناخي الذي يهدّد شواطئَ البحر المتوسط بالغرق، بل لا بد أن تتضمن أيضاً خيارات خفض الانبعاثات الكربونية والاستثمار في الاقتصاد الأزرق المستدام، أي المتعلّق بحماية الحياة البحرية والموارد الطبيعية وتنميتها.

ويتكاملُ مع ذلك رأيٌ يسعى لإبراز العراقة التاريخية للمدينة بتنمية الهُوية المعمارية والثقافية والتراثية فيها لخدمة حركة السياحة الداخلية والخارجية. فالعبور العالمي من بورسعيد يجب أن يصاحبه جولاتٌ سياحية لتعريف المارِّين من قناة السويس بتاريخ المدينة الثريّ الذي يعكس حركة التبادل بين مصر والعالم على مدار عقود. وهنا تتلاقى مَطالبُ هواة التنمية الثقافية والتراثية مع هواة المعمار التاريخي لترميم المباني التراثية بالمدينة، وفَتحِها للزوار، وافتتاح المتاحف المتخصصة للتعريف بالمراحل التاريخية والجاليات الأجنبية المختلفة التي تعاقبت على المدينة. كما يؤكّد أصحابُ هذا الرأي على أن التنمية العمرانية المعاصرة بالمدينة لا بد أن تنسجم مع الطراز المعماري التاريخي الذي يميّزها، كي يكون المعمارُ الجديد امتداداً للهوية البصرية بالمدينة، لا انقطاعاً عنها.

تقف بورسعيد إذن على أعتاب مرحلةٍ جديدة قد تعيد لها بعضاً من بريقها السابق، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي وتراثها الغني. ويتطلع الأهالي إلى أن تستعيد المدينةُ مكانتَها من جديدٍ، بوابةً بين الشرق والغرب، تَجْمَعُ بين ماضٍ يحتفي بالتنوّع ومستقبلٍ يَعِدُ بالرفاه للجميع، محافِظةً على هُويّتها الفريدة ومواكِبةً للعصر في آنٍ واحد.

لكن، حتى وهي تنظر إلى المستقبل، لا يمكن أن نغفل أن بورسعيد ستظلّ حتى حينٍ تعيش على وقع حنينٍ لعصرٍ ذهبيٍ تميَّز بالازدهار التجاري والتنوّع الثقافي والسكاني. يتجلّى هذا الحنين في الشوارع والمباني التي تجمع بين الطراز الأوروبي والعربي التقليدي، وفي قصص الأهالي وأغانيهم التي تحكي عن ماضٍ لا يزال حياً ومثالياً في عقول الكثير من سكان المدينة صغاراً وكباراً. فالأهالي بتجارِبهم المختلفة وذكرياتهم المتبايِنة يَشتركون في شيءٍ واحد، ألا وهو الرغبةُ العميقة في استعادة عصرها الذهبيّ وإحياء تراثها الغنيّ والمُضِيّ بها إلى الأمام، وإن انتابَ بعضَهم القلقُ من الوافدين الجُدد وتأثيرهم على الهُويّة "الأصليّة" للمدينة وأهلها.

اشترك في نشرتنا البريدية