رحلة ضوم سوريا ولبنان من شمال إفريقيا إلى أوروبا

عاش الضوم في سوريا ولبنان هجراتٍ تاريخيةً ليستقرّوا في بدايات القرن العشرين، إلا أنّ موجات التهجير بعد الثورة السورية أعادتهم إلى حياة الهجرة.

Share
رحلة ضوم سوريا ولبنان من شمال إفريقيا إلى أوروبا
يُعرف الضوم بألقابٍ ومسمّياتٍ مختلفةٍ، وغالباً ذات دلالةٍ تحقيرية | تصميم خاص بالفِراتْس

اعتدتُ العملَ بين سنتَيْ 2018 و2023 في مركز نشاطاتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ في باريس مع يافعين من سوريا ولبنان ينتمون إلى أقليّة "الضوم" الإثنية. كنت أعمل مع أكثر من جمعيةٍ محليةٍ تُعنى بمتابعةِ تعليم الأطفال المهاجرين في منطقة سينُ سان دوني، في ضواحي باريس الشمالية. أحياناً كان بعض هؤلاء يرافقني في طريق العودة إلى المنزل، فنتحادث في أمورٍ شتّى. فقد وجدوا فيَّ أخاً أكبر يبثّون إليه همومهم. من بينهم الفتاة ندى، ذات الخمسة عشر عاماً، وهي نشطةٌ اجتماعياً وتضيف جوّاً من المرح في المجموعة، إلّا أنّي لاحظتها يوماً شاردةَ الذهن.

في اليوم نفسه وقبل أن ننزل من قطار الأنفاق، طلبَت ندى أن نتحدّث قليلاً قبل ذهابها إلى البيت. وبعد أن غادر بقية المجموعة، بدأَت بالتحدّث قائلة: "بصراحة، صاحب الشقّة أخبرنا أنه يحتاج إلى شقّته، ويجب أن نرحل. إن لم نجد مكاناً آخَر للعيش هنا، تريد أمّي إرسالي إلى بلجيكا لوحدي. أخبرها أحد أقاربنا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول على لجوءٍ للعائلة. إذ بعد حصولي على وضع لاجئةٍ قاصرٍ في بلجيكا، يمكنني طلب لمّ الشمل العائلي لأمّي وإخوتي".

بدأت عائلة ندى التنقّل بين بلدان العالم منذ 2011 وحتى 2019، قادمين من سوريا إلى فرنسا، بواسطة شبكةٍ من العلاقات والطرقات أخذتهم عبر البحر المتوسط بالطائرة من لبنان إلى شمال إفريقيا. ثم وصلوا الجزائر أولاً ومنها إلى المغرب فمدينة سبتة، ومن ثمّ رحّلتهم السلطات الإسبانية إلى ضفّتها الأوروبية، ومن هناك تحرّكوا صوب فرنسا.

أقلية الضوم، التي تنتمي ندى إليها، أقليةٌ إثنيةٌ تعيش بين سوريا ولبنان منذ ترسيم الحدود بينهما سنة 1920. وينتشر الضوم في العالم العربي وتركيا وإيران وباكستان وأفغانستان. ويُعرفون بألقابٍ ومسمّياتٍ مختلفةٍ، وغالباً تكون ذات دلالةٍ تحقيرية. فيُسمَّون النَوَر والقُرباط في بلاد الشام، والقَرَج والكاوليّة في العراق، واللوم في إيران وباكستان، والحَلَب في مصر والسودان، وبني عداس في المغرب العربي، أو كما يجمعهم لفظة "غَجَر". وهم أقوامٌ يعيشون حياةً شبه بدويّةٍ تكون فيها الهجرة وحياة الترحال هاجساً دائماً. بَيْد أنّهم بدؤوا يعيشون حياةً مدنيةً في بداية القرن العشرين في سوريا، إلى أن أشعلت الثورة السورية على نظام الأسد سنة 2011 موجةَ تهجيرٍ قسريةً لهم، اختلفَتْ تماماً عن سلسلة الهجرات التاريخية التي عرفوها.

عملتُ كثيراً مع الضوم أملاً في فهمهم. وقد أنجزت بحثاً ميدانياً عنهم بين عامَيْ 2018 و2024 ضمن أطروحة الدكتوراه عن اندماجهم العمراني في مدينة باريس وضواحيها. استدعاني ذلك إلى البحث عن موقف الضوم من فكرة الدولة نظاماً إدارياً ومنطقةً جغرافيةً ذات حدودٍ معيّنة. وبحثتُ في الاستراتيجيات التي استخدموها ليبقوا ضمن أماكن تواجدهم في المنطقة، أثناء تشكيل الدول الوطنية في بلاد الشام بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ودخول القوى الاستعمارية المنطقة. فقد تسلّح الضوم ببعض المهن الأساسية، مثل التجارة والعمل خارج المنظومة القانونية في عيادة الأسنان فنيّي تصنيع وتركيب أطقم وجسور أسنان. وقد شكّلت هذه المهن هويّاتِهم، وتدخّلَت في تشكيل تفاعل الأهالي معهم في كلّ بلدٍ يعيشون فيها. سواءً كان ذلك في سوريا أو لبنان، أو في مراحل هجرتهم عبر شمال إفريقيا، أو داخل أوروبا.


إذا أراد أحدٌ التعلّم أكثر عن الضوم، فإنه لن يجد الكثير في كتب التاريخ أو أدبيات العلوم الاجتماعية والإنسانية. جلّ ما ذُكِر لا يزيد عن أخبارٍ غير دقيقة. لم يستخدم المؤرخون العرب كلمة ضوم إلّا نادراً، وكانوا غالباً يتحدثون عن الزطّ والقرباط والنَوَر. وقد تحدّثَتْ بعض الكتب التاريخية، ككتاب "تاريخ الأمم والملوك" المعروف بتاريخ الطبري، عن مجموعةٍ من الموسيقيين والبهلوانات (المهرّجين) ومروّضي القرود والدببة الذين جاؤوا من الهند إلى الإمبراطورية الفارسية في القرن الخامس الميلادي. ثم وصلوا إلى العراق مع الفتوحات الإسلامية. وبعد إثارتهم المشاكل كقطع الطريق، نُقِلوا في العهد العباسي إلى بلاد الشام سنة 835 ثم أُسِروا في موقعة عين زربة (ومكانها تركيا اليوم) ونُقِل كثيرٌ منهم إلى اليونان.

هذه الرواية التاريخية المقتضبة عن الضوم تتقاطع مع رواية الشاعر الفارسي أبي القاسم الفردوسي في ملحمته "الشاهنامه"، التي أنهى كتابتَها سنة 1010. يروي الفردوسي أن الملك بهرام غور طلب من والد زوجته شنكل، مهراجا السِنْد، موسيقيين لتسلية الفلاحين في المملكة. عندما وصل الموسيقيون من الضوم، أو بحسب تسمية الفردوسي "اللور"، أعطاهم بهرام أراضيَ يزرعونها ومواشيَ يعيشون من لبنها. لكن بعد فترةٍ بدأ الناس بالشكوى من سلوك الموسيقيين الكسالى الذين أكلوا المواشي وتركوا الأرض بوراً. وهذا ما دعا بهرام غور لنفيِهم من البلاد. ويرجِّح جورج غريرسون، عالم اللغة الإيرلندي الذي عمل على لغات الهند، في مقالته "دوم جات أند ذا ريجن أوف جيبسيز" (ضوم جات ومنطقة الغجر) المنشورة سنة 1888 أنّ "الجات" الذين جلبهم البيزنطيون إلى اليونان في القرن التاسع هم من أوائل مجموعات الغجر الذين سيُعرفون لاحقاً بِاسم "الروما" في أوروبا. مما يعني أن الضوم والروما قد ينتميان للمجموعة العرقية نفسها.

ظلّ الاختلاف في حقيقة الصلة بين الضوم والروما قائماً حقباً طويلةً. لكن بعض الدراسات اللغوية الحديثة، كمقالة اللغوي الأمريكي يارون ماترس المنشورة سنة 2000 ومقالة الأستاذ في المعهد الوطني للّغات والحضارات الشرقية برونو هيرين المنشورة سنة 2016، دحض وجود صلةٍ عرقيةٍ مباشرةٍ بين الروما والضوم. وهذا مع تقارب لغتيهما، "الضومرية" وهي لغة الضوم و"الروماني" وهي لغة الروما، لنشأتهما في الهند كما تبيِّن الدراستان.

أما التقاطع في المفردات بين اللغتين، فلا يعدو سببه سكن المجموعتين وعملهما في الطرق التجارية التي كانت تمرّ بالهند. فمثلاً تحتوي لغة الضوم على مفرداتٍ من الفارسية والكردية والعربية نتيجة مجاورتهم المجتمعاتِ المحليةَ واندماجهم معها. وما يثير الاهتمام أن كثيراً من الضوم يسمّون لغتهم "لغة العصافير" ولا يعدّونها لغةً، فيقول معظمهم إنّها مزيجٌ من اللغات وليست لغةً واحدة. ولا يوجد أيّ شرحٍ رسميٍّ لهذه التسمية. لكنّ أكثر من شخصٍ تحدّثتُ معه حاول ربط الاسم بالسَفَر والهجرة، مثلما تفعل العصافير. وكأنّ في الأمر استعارةً لغويةً لترحال العصافير وتجميعها أصواتاً مختلفةً من كلّ مكانٍ تحطّ به.

بما أن اللغة لن تعطينا تفسيراً كاملاً عن الضوم، فنحن بحاجةٍ للرجوع إلى بعض أدبيات علم الإناسة لفهم استراتيجياتهم في سياقٍ اجتماعيٍّ أوسع. يتحدث جيمس سكوت، عالم الإناسة الأمريكي، في كتابه "ذي آرت أوف نوت بيينغ غوفرند" (فن عدم الخضوع للحكم) المنشور سنة 2009، عن سكان منطقةٍ متخيَّلةٍ هي "زوميا" كما يسمّيها زميله الهولندي ويليام فان شيندل. هذه المنطقة تمتد عبر مرتفعات جنوب شرق آسيا وشرق وجنوب آسيا بتعدادٍ سكانيٍّ يتجاوز مئتَيْ مليون نسمةٍ أغلبهم من الأقليات الإثنية من دول المنطقة. ويسمّيهم سكوت شعوباً غير خاضعةٍ للدولة باختيارهم. بمعنى أنّهم قرروا الخروج من الأماكن التي تسيطر عليها الدولة، لأنهم لا يريدون أن تتحكم بحياتهم اليومية.

ينطبق تعريف سكوت على الضوم في سوريا ولبنان والأردن، مع فارقٍ واحدٍ بسيطٍ هو أنّ الضوم قرروا عدم الدخول بالنظام الإداري للأنظمة الحاكمة. مع ذلك، فقد حافظ الضوم على وجودهم في الأماكن التي تسيطر عليها هذه الدول بعد أن طوّروا مهاراتٍ للتفاعل مع النظام الإداري دون أن تمسّ نمط حياتهم وممارساتهم اليومية. وقد استطاع بعض أفراد الضوم الحصول على أكثر من جنسيةٍ واحدةٍ في الوقت نفسه. لكنهم دائماً ينْأَوْن عن الدخول في المعاملات الإدارية مباشرةً مع الدولة. فلا تسجَّل شهادات الزواج والمواليد والوفيات إلا عند الحاجة الماسّة إليها. وغالباً يكون ذلك بالحصول على ورقةٍ من مختار قريةٍ أو حيٍّ ما.

للتعامل مع نظام الدولة الإداري بإجراءاته المعقّدة، طَوَّر الضوم مهاراتٍ تجعلهم في حلٍّ من الالتزام والارتباط بالقانون الإداري. مثلاً، يستطيع الضوم الحصول على ورقة ملكيةٍ لعقارٍ معيّنٍ بتقديم رشوةٍ للموظف المسؤول وينتهي الأمر. إذ غالباً يكون هذا العقار في أحياءٍ مخالفة.

ينقسم الضوم إلى عدّة عشائر شبه بدويةٍ اعتادت التنقل بين الأرياف مع خيامهم، لاسيما في فصلَي الربيع والصيف، والعيش على أطراف المدن الكبيرة في أحياء سكنيةٍ شعبية. قد يكون في كل عشيرةٍ عدّة أفخاذ. والفخذ قد يتكون من عائلةٍ كبيرةٍ واحدةٍ نتيجة التزاوج بين أفراد العائلة الواحدة، أو الفخذ الواحد، أو العشيرة الواحدة. الغالبية العظمى من الضوم مسلمون سنّة بالتعريف، لكن يعتمدون في علاقاتهم وعاداتهم الاجتماعية على أعرافٍ وتقاليدَ مقبولةٍ في كلّ عشيرة. بعض الأعراف قريبةٌ من الأعراف البدوية والتشريع الإسلامي، وبعضها قد يختلف عنها وعن أعرافِ عشائر ضوم أخرى.

فزواج "الخَطِيفة" مثلاً، أو ما تسمّيه بعض عشائر الضوم "زواج الشَليفة" – وهو زواجٌ من غير موافقة الأهل – يُعَدّ مقبولاً عند كثيرٍ من عشائر ضوم حمص ولبنان. ولكن لا بدّ من اجتماع العائلتين بوجود شخصٍ معروفٍ بحكمته وانصافه ليكون وسيطاً، فيحدَّد المهر بعد أن يتمّ الزواج. لا تقبل عشائر ضوم حلب بهذا النوع من الزواج، وقد ينتهي هذا النوع من الزواج بمشاكل ونزاعاتٍ عنيفةٍ بين العائلتين. فَهُم في العادةِ أكثر محافَظةً، متأثرين في ذلك بالعرف المحلّي الشائع في المدينة وريفها، وكون هذا النوع من الزواج يمسّ بشرف العائلة.

يعرِّف الضوم أنفسَهم غالباً بمسمّياتٍ يعرفها السكان المحليّين. فقد يعرّف شخصٌ ضوميٌّ في سوريا عن نفسه بأنّه كرديٌّ أو تركمانيٌّ، تجنّباً للوصم الاجتماعي الذي يلاصق المسمّيات الشائعة. مثل "قرباط" أو "نَوَر"، وغيرها من الألفاظ الملتصقة بدلالات قلّة الأخلاق والسرقة وقلّة التربية. بعضهم يختار أن يعرّف عن نفسه بأنّه قرباطيٌّ أو نَوَريٌّ، وغالباً يضيف عبارةً مثل: "الواحد ما لازم يخجل من أصله". تبقى تسمية الضوم محصورةً بين أفراد هذه الجماعة الإثنية وبعض الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولهذا ثمّّة كثيرٌ من الخلط والمغالطات عندما يتحدث الناس عنهم.


في كتاب "ديسبلاسمنت أند ديسبوسيشن إن ذه مودرن ميدل إيست" (التهجير والتجريد في الشرق الأوسط الجديد) المنشور سنة 2010، تحدِّثنا المؤلّفة دون شاتي، عالمة الإناسة المتخصصة بدراسة الأقليات البدوية في الشرق الأوسط، عن تهجير مجموعاتٍ من الأقليات الكردية والتركمانية والشركسية والشيشانية المسلمة من مناطق سيطرة الإمبراطورية العثمانية كالأناضول إلى سوريا في بداية القرن العشرين. تركِّز شاتي على هذه الهجرات التي حدثت بسبب ثورات بعض هذه الأقليات ضدّ الإمبراطورية العثمانية قبيل انهيارها. وتوضّح أنّ ترسيم الحدود الاستعمارية حسب اتفاقية "سايكس بيكو" سنة 1916، وما استتبعها من إنشاء دولٍ مستقلةٍ بمنطقة الشام في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، أثّر في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذه الأقليات. من المثير للاهتمام أن شاتي لا تذكر أيّ شيءٍ عن أقلية الضوم، مع أنّها أقليةٌ مسلمةٌ أثّر فيها تشكيل الحدود الجديدة في المنطقة اجتماعياً واقتصادياً.

تراجع التواصل بين عشائر الضوم في تركيا وسوريا في النصف الأول من القرن العشرين. فقد أصبح تنقّلهم بين البلدَيْن أصعب، وانقسمت العشائر بين دولتَيْن أو أكثر. وعاشوا بالقرب من أقلياتٍ إثنيةٍ أخرى كالأكراد والتركمان، مما ساعد على اختلاطهم معهم. وقد تمكّن قليلٌ من ضومِ فلسطين من الوصول إلى الأردن. والتقيتُ بضومٍ يحملون جواز السفر الأردني ويعرّفون أنفسهم على أنّهم ضومٌ فلسطينيون في ضواحي باريس الشمالية، أثناء بحثي الميداني بين 2018 و2024. أما المجموعة الضومية التي بقيت في القدس، فما عادت قادرةً على التنقل بسبب القيود الجائرة على الحركة والتنقل التي تستمر إسرائيل في فرضها على الأقليات غير اليهودية، ممّا أدّى إلى تحوّلهم إلى حضرٍ يعيشون في المدن. وفي نهاية القرن العشرين، فقدت هذه المجموعة القدرةَ على التحدّث بلغتها الأمّ. فصار أفرادها يتحدّثون العربية والعبرية، كما يشير يارون ماترس في مقالتِه "أسطورتان عن أصل الضوم"، المنشورة سنة 2000.

لم يبقَ للضومِ التنقل بسهولةٍ إلّا بين سوريا ولبنان. يعود الأمر إلى سهولةِ قطع الحدود بين البلدين، وغيابِ قيود التأشيرة في معظم الأوقات، إضافةً إلى توزّع عشائر منهم بين قرىً ومناطق على الحدود بين البلدين. إذ استطاع عديدون الاستفادة من ثغراتٍ إداريةٍ بالبلدين، كانعدام التواصل الإداري في مسألة تجنيس اللبنانيين في سوريا أو تجنيس السوريين في لبنان، أو حتى التواصل الإداري بخصوص الأقليات البدوية التي تسكن على الحدود السورية اللبنانية.

أصدرَت السلطات اللبنانية سنة 1994 مرسوماً رقمه 5247 يقضي بتجنيس أقلياتٍ عدّةٍ منها الضوم، كما تشير الكاتبة غيدة فرنجية في مقالتها "صناعة الجنسية الهشّة في لبنان" المنشورة سنة 2015 على موقع المفكرة القانونية. ومن تَقدّم بطلب التجنيس حصل على بطاقة تعريفٍ تشبه البطاقة الشخصية كُتِبَ عليها "قيد الدرس"، أيْ أنّ طلب التجنيس في طور الدراسة.

أما في سوريا، فقد كانت الأقليات التي لا تحمل الجنسية تُعطى بطاقةً مكتوباً عليها "مكتوم القيد". ما يعني أنّ من يحمل البطاقة ليس مقيّداً في السجل المدني ولا يحمل الجنسية. وقد كان هناك قسمٌ من الضوم "مكتوم القيد" في سوريا وقدّم على الجنسية في لبنان. فحصل بعضهم عليها قبل سنة 2003 عندما أوقفت الحكومة اللبنانية العمل بالمرسوم. وهكذا بقيَ من تبقى مع بطاقة قيد الدرس اللبنانية. هذه البطاقة مكّنت حامليها من الحصول على وثيقة سفرٍ لبنانيةٍ تخوّلهم السفر خارج لبنان والعودة إليها. لذلك نرى بعض الضوم بجنسية أحد البلدين ويحمل صفةً إداريةً في البلد الآخَر. كأن يكونَ بجنسيةٍ سوريةٍ ويحمل بطاقة قيد الدرس في لبنان، أو العكس. وقد تمكّن بعض الضوم من نيل الجنسيتين. يساعدنا هذا على فهم تعامل الضوم مع الحدود الاستعمارية وقوانين الجنسية، وكيف استمروا في إيجاد طرقِ رفضها عملياً.


غيّرت الحدود الاستعمارية في المنطقة كثيراً من الأعمال التي كان يزاولها الضوم، لاسيما التجارة في أماكن واسعةٍ من الإمبراطورية العثمانية. فقد تحوّل كثيرون منهم إلى العمل في صناعة أدواتٍ زراعيةٍ يستخدمها المزارعون أبرزها صناعة الغرابيل، كما يبيّن عالم الإناسة السوري علي الجباوي في كتابه "عشائر النَوَر في بلاد الشام" المنشور سنة 2006. ويشير الجباوي أيضاً إلى اعتياد الضوم العملَ في مهنٍ لها زبائنها في المناطق الريفية، مثل الوشم وتركيب أسنانٍ ذهبيةٍ وصناعة أطقمِ الأسنان وتركيبها. هذه المهن يزاولها الرجال، ولكن ثمّة مهنٌ خاصّةٌ بالنساء الضوميات.

ومع أن الضوم مجتمعٌ أبويٌّ، إلّا أن للمرأة حيّزاً من الاستقلالية، نظراً للدور الاقتصادي الذي تشغله في الأسرة. معظم النساء الضوميات كنّ بائعاتٍ جائلاتٍ، أو "دوّارات" كما يسمَّين في الأرياف السورية في النصف الثاني من القرن العشرين. استفادت النساء من تنقّل العائلات بين الريف والمدينة، وبين سوريا ولبنان وبلدان أخرى. فقد التقيتُ بنساءٍ كثيراتٍ كنّ يشترين بضائعهنّ من سوق المدينة التاريخي في حلب ومن ثمّ يَبِعنها في المدن والأرياف السورية. وكنّ يجلبن معهنّ هذه البضائع إلى لبنان لبيعها، ويستقدمن البضائع الأوروبية من لبنان ليَبِعنها في سوريا، ما خلق شبكاتٍ تجاريةً عند الضوم تسهّل دخولَ البضائع بين البلديْن.

من الأعمال التي تشتهر بها نساء الضوم كذلك ما يسمّيه الجباوي "الطلب على باب الله الكريم"، أو التسوّل. غالباً تَعدّ المجتمعات المحلّية هذا العملَ احترافاً للتسوّل. لكن دراستِي مجتمعَ الضوم في ضواحي باريس الشمالية تظهر جانباً مختلفاً. فقد لاحظتُ تزايد انتشار هذه الظاهرة بين عامَيْ 2014 و2019 في مركز باريس والضواحي الشمالية. إذ تحمل النساء أو العائلات كلّها أحياناً لافتاتٍ كُتب عليها بالفرنسية أو العربية "عائلة سورية"، ويسألون الناسَ باللغة العربية الزكاةَ أو الصدقة.

هذه الظاهرة كانت حاضرةً لدى البائعات الجائلات في سوريا ولبنان منذ الستينيات وحتى نهاية القرن العشرين. وهي جزءٌ من الطقوس التي يستخدمنَها في حالة التبادل التجاري، لاسيما في الأرياف. تدخل المرأة الضومية إلى المنزل الريفي عاقدةً وشاحاً على رأسها يمتلئ بالبضائع التي تنتظرها نساء الريف، كالأمشاط المصنوعة من العظم والأساور والحليّ الجميلة. ويكون في حقيبة البضائع بعض ملابس النوم النسائية ذات الألوان الزاهية، ولا تخلو حقائب الضوميات من المكياج واللبانة الطبيعية أو ما يسمّى لدى أهل الأرياف "العلكة القرباطية". وتحضر الضومية مع حقيبة البضائع حقيبةً خاصّةً تعلّقها على الكتف، يسمّيها سكان بعض الأرياف "العَلِيجَة". هذه العليجة مخصّصةٌ لجمع المواد الغذائية كالسكر والرز والبرغل والفريكة. إمّا عوضاً عن المال إذا كان أصحاب البيت لا يملكون نقوداً، أو هبةً إضافيةً تسأل عنها الضومية بعد البيع أو في حالة فشلِه على سبيل الصدقة، أو مقابل دعائها لصاحب البيت الغائب أو الابن المسافر أو الترحّم على الأموات.

من المهن المنسوبة إلى نساء الضوم مهنتا الرقص والغناء، وهما مهنتان غير مقبولتَين في المجتمعات المحافظة. وتُعرف ممتهنات الرقص والغناء في سوريا بالحَجِّيات. وقد ساهم مسلسل "خان الحرير" الذي عُرض على التلفزيون السوري سنة 1996 في ترسيخ هذه الصورة عبر دور الغجرية "فضّة"، وهي شخصيةٌ مستوحاةٌ من فنانةٍ حقيقيةٍ معروفةٍ بِاسمِ "نوفة البدوية".

انتشر احتراف الرقص والغناء بين الضوميات بسبب المجتمع المحافظ في البادية والأرياف. في معظم المناطق في سوريا، يُعَدّ الرقص الفرديّ لنساء العائلة أو غنائهنّ غيرَ محبّبٍ في الأعراس والمناسبات الاجتماعية. ولهذا تَطلب العائلات من نساءٍ أخرياتٍ يمتهنّ الرقصَ والغناءَ أن يقمن بمهامّ الترفيه في المناسبات، في حين تكتفي نساء العائلة بالمشاركة في حلقات رقصة الدبكة الجماعية. 

أثار اهتمامي أن أغلب الضوم الذين عملت معهم في مدّة البحث الميداني أصرّوا أن هذه المهنة ليست موجودةً عندهم، وإنما تنتشر بين إثنياتٍ أخرى يسمّونها "بارضوم". وعند سؤالي عن البارضوم، كانت الإجابة دائماً أنهم إمّا تركمان أو عبدال. وهم أقلياتٌ مهمشةٌ شديدة الفقر يسكنون بالقرب من الضوم ويتكلمون لغتهم في بعض الأحيان. هذا التقارب الجغرافي والتشابه في العادات والتقاليد يذكّرنا بما يخبرنا به عالم الإناسة جيمس سكوت عن سهولة خلق إثنياتٍ جديدةٍ تتشابه بالممارسات اليومية، وتتشارك أحياناً لغاتِ المجموعات البشرية التي تحيا في الأماكن الخارجة عن سيطرة الدولة.


يخبرنا المؤرخ السوري محمد جمال الباروت في كتابه "العقد الأخير في تاريخ سورية"، المنشور سنة 2012، أن سوريا شهدت بداية القرن الواحد والعشرين تغيراتٍ مناخية. وقد تجلّت في ثلاث سنواتٍ، بين 2006 و2009، من الجفاف الذي أثّر بشدّةٍ في الزراعة والحياة الاقتصادية في الريف. إضافةً إلى بعض التغيّرات الاقتصادية في البلد، التي دفعت كثيراً من سكان الأرياف إلى الهجرة نحو المدن الكبرى والعمل هناك. أثّر هذا في الزراعة، وتراجعت النشاطات الاقتصادية في الريف. انتقل الضوم مثل كثيرٍ من السوريين إلى المدن، وسكنوا أحياءً شعبيةً على الأطراف مع أقاربهم وأبناء عشائرهم، وسكنوا فيما يُسمّى "العشوائيات" التي زادت مساحاتها بسبب الهجرة المحلية الناتجة عن الجفاف. 

هذه الهجرة أحدثتْ تغييراتٍ في الهوية والعادات اليومية. عمل شباب الضوم بمجالات البناء وجمع المعادن والبلاستيك. واشتغلت النساء عاملات تنظيفٍ للأبنية السكنية. هذه المهنة الجديدة أدّت لاستمرار التسوّل أو "الطلب على باب الله" الذي كانت تمتهنه البائعات الجائلات. ولكن الفئة المستهدَفة تغيّرت من القرويين إلى سكّان البيوت التي تنظّفها الضوميات.

يمكن القول إنّ الضوم بدؤوا بتغيير نمط حياتهم وتجريب الحياة المدنية بداية القرن العشرين، لكنهم استطاعوا دائماً إيجاد مكانٍ قريبٍ من المجتمعات المحلّية ومن الهامش في آنٍ واحد. هذا المكان كان يتضمّن أعمالاً يوميةً امتهنها الضوم تسمح لهم بالبقاء على مقربةٍ من هذه المجتمعات، مع المحافظة على مساحة أمانٍ تمكّنهم من البقاء ضمن جماعاتهم وعشائرهم دون أن يتدخل الأهالي في شؤونهم. وبقيَ الأمر على حالِه حتى اندلعت الثورة السورية سنة 2011، وبدأت بعدها موجة هجرة السوريين إلى أوروبا.


بدأ ضومٌ كثيرون هجرتَهم من سوريا في نهاية 2011 متّجهين إلى لبنان. ثم قرّرت بعض العائلات الهجرةَ إلى أوروبا نهاية 2013، واختارت الذهاب عبر شمال إفريقيا. كانت عائلة ندى تسكن في الساحل السوري قبل 2011، وانتقلت إلى لبنان في 2012. بعدها قرّرت العائلة الذهاب إلى أوروبا باستغلال تأشيرةٍ إلى الجزائر. قطعوا الحدود إلى المغرب ومن ثمّ إلى الجيب الإسباني في سبتة، حيث قدّموا طلب لجوءٍ في مركز الاستقبال قبل وصولهم إلى إسبانيا، وتحصّلوا هناك على بطاقة اللجوء فتابعوا رحلتهم إلى فرنسا. استغرقت رحلة عائلة ندى من لبنان حتى فرنسا أكثر من خمس سنواتٍ، وكلّفتهم أكثر من خمسة عشر ألف يورو.

قد يثير هذا الطريق الطويل فضولَ كثيرين. فلماذا تختار عائلةٌ الانتقالَ إلى أوروبا عبر شمال إفريقيا، في وقتٍ كان الطريق عبر تركيا وأوروبا الشرقية أسهل وأسرع وأقلّ تكلفة. الجواب عن هذا السؤال يعيدنا إلى سبعينيات القرن الماضي حتى نستطيع أن نفهم الشبكة الاجتماعية التي استطاع الضوم تشكيلها في شمال إفريقيا وأوروبا. إذ موّلت هذه الشبكات رحلاتِ العائلات الضومية وساعدتها على إيجاد السكن والعمل في موريتانيا والجزائر والمغرب، ومن ثمّ سهّلت تكلفة السفر إلى أوروبا عبر نظامٍ للتكافل الاجتماعي.

في أبريل 2003، قدّمت سيدةٌ مصابةٌ بالتهابٍ في الفكّ شكايةً لدى مركز شرطةٍ في إحدى ضواحي باريس. أبلغت السيدة عن طبيب أسنانٍ زائفٍ وضع لها جسر أسنانٍ أدّى إلى إصابتها بالتهابٍ شديد. استغرقت قوّات الشرطة الفرنسية أكثر من عامٍ للقبض على بعضِ "أطباء الأسنان المزيّفين"، كما تصِفهم صحيفة "لو باريزيين" التي نقلت خبر المحاكمة سنة 2004. إذ عثروا في فندقٍ بالدائرة الثامنة عشرة في باريس على ستّين حقيبةً، تحتوي على أطقم أسنانٍ وموادّ تخديرٍ ومعدّات طبّ أسنانٍ، تعود إلى ثلاثين سوريّاً كانوا بالفندق. كشفت تلك العملية بعض المعلومات عن هذه المجموعة من أطباء الأسنان المزيّفين. ولكن أثناء محاكمة المتّهمين، لم يجد القاضي أدلةً كافيةً لتجريم غالبية المعتقلين. لذلك سُجن عددٌ قليلٌ منهم فقط.

كان بعض أفراد هذه المجموعة منخرطين في هذا النشاط أكثر من عشر سنواتٍ ولم يلاحظهم أحد. وقد وصل بعضهم إلى فرنسا بتأشيراتٍ سياحيةٍ وتمكّنوا من العمل عبر شبكاتهم الخاصة في ضواحي شمال باريس. كان معظم زبائنهم من المهاجرين الناطقين بالعربية والمهاجرين الفقراء الذين يعيشون في ظروفٍ صعبة. استفاد هؤلاء الأطباء الزائفون من فجوة الضمان الاجتماعي في فرنسا، التي لم تكن تغطّي تكاليف تركيب أطقم الأسنان أو جسور الأسنان، فقدّموا خدمةً ضروريةً للغاية بأسعارٍ معقولةٍ جدّاً. وأتاحوا لزبائنهم فرصة الوصول إلى مخيمات الغجر وأحيائهم للحصول على خدمة تركيب أغطيةٍ ذهبيةٍ وفضيةٍ للأسنان.

كان فنيّو تركيب الأسنان الضوم ذوو الخبرة العالية يمارسون هذه الوظيفة الموسمية في أوروبا، وهم عادةً من الطبقة الغنية في مجتمع الضوم، وحصلوا على تأشيراتهم بسهولة. ولأنهم كانوا يحترمون مدّة التأشيرة، فقد تحصّلوا عليها دائماً عند تقديم طلباتهم مرّةً أخرى. إلّا أن تزايد عدد الأفراد الذين يرغبون بمزاولة هذه المهنة في أوروبا كانت له آثارٌ سلبيةٌ على الجميع. فقد وصل عددٌ كبيرٌ من الفنيين الضوم قليلي الخبرة إلى أوروبا، وأحياناً من غير تأشيرات مرور. وبينما كان الفريق الأول يقدّمون أنفسهم على أنّهم فنيّو أسنانٍ فقط، بدأ الفريق الجديد قليل الخبرة يقدّمون أنفسهم على أنّهم أطباء. فأصبحت سمعة أطباء الأسنان السوريين تزداد سوءاً بسبب تدنّي الخدمة التي يقدّمها هؤلاء. وعقب اعتقال مجموعة أطباء الأسنان المزيّفين، شدّدت قوات الأمن الرقابةَ على المهنة حتى أصبحت شبهَ منتهيةٍ في أوروبا، بحسب رواية أبو أحمد الذي كان ضمن مجموعة الضوم التي قُبِضَ عليها في باريس سنة 2003.

أخبرني أبو أحمد أن "صيّاغ الضوم"، أي الفنّيين العاملين في صناعة بدائل الأسنان وتركيبها، بدؤوا بالسفر إلى دول شمال إفريقيا كموريتانيا والجزائر والمغرب في سبعينيات القرن الماضي، حيث بدؤوا يمارسون هذه المهنة موسمياً. بعد فترةٍ استقرّ قسمٌ منهم وفتحوا عياداتٍ غير رسميةٍ بعد الحصول على إقامات في الجزائر والمغرب. وفي بداية التسعينيات قرّر بعض الفنّيين الذهاب إلى أوروبا، لاسيما فرنسا وبلجيكا، لوجود جاليةٍ كبيرةٍ من المغرب العربي هناك. وتمكّنت بعض العائلات من البقاء في ضواحي باريس الشمالية في فرنسا وجنوب بروكسل في بلجيكا. هذه العائلات حصلت على إقاماتٍ أوروبيةٍ مكَّنَتها من السفر بين أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولكن بعد حادثة اعتقال الأطباء المزيّفين في باريس، قرّر بعضهم البقاء في فرنسا وبلجيكا وحصلوا على إقاماتٍ طويلة الأمد.


في أبريل 2014 وصلت قرابة خمسٍ وعشرين عائلةً سوريةً إلى حديقةٍ في أحد مداخل مدينة باريس الشمالية، وأقاموا مخيّماً فيها. يشير تقريرٌ لصحيفة "لو موند" في سبتمبر 2015 إلى أنّ وجود هذه العائلات السورية أثار جدلاً في الشارع الفرنسي. فقد اتُّهِمَت الحكومة بترك العائلات مع أطفالهم في العراء، بلا مسكنٍ أو حمايةٍ قانونيةٍ لهم. سارعت منظماتٌ وجمعياتٌ محلّيةٌ وناشطون سوريون إلى مساعدة هذه العائلات. وبعد فترةٍ قصيرةٍ، أمّنت السلطات مكاناً في مركز الشرطة لتقديم طلبات اللجوء لهذه العائلات السورية. لكن قسماً كبيراً من هؤلاء لم يرغب بتقديم طلبات اللجوء.

عند معرفة بعض الجمعيات والناشطين السوريين أن هذه العائلات من الضوم، تبدّلت الآراء في طريقة المساعدة. وخلص ناشطون للقول إنّ الضوم لا يودّون الاندماج بالمجتمعات المحلية، وإنما يريدون الاستفادة من الوضع الراهن لجَنْيِ بعض الأموال. تزامن هذا الرأي مع بداية ظهور عائلاتٍ من الضوم في محطات قطار الأنفاق الرئيسة في باريس وضواحيها، يحملون لافتاتٍ كُتِب عليها بالعربية "عائلة سورية" ويطلبون المساعدة والصدقة من المارّة.

يعود إعراض الضوم عن تقديم طلبات اللجوء في فرنسا إلى سببَين رئيسَين. الأول أن معظم هذه العائلات، مثل عائلة ندى، حصلوا على اللجوء في إسبانيا غيرَ أن رغبتهم كانت بالمتابعة والوصول إلى فرنسا وبلجيكا للانضمام إلى أقربائهم. لم يعرف هؤلاء القانونَ الإداري للّجوء وتقديم طلب لجوءٍ آخَر في بلدٍ أوروبيٍّ ثانٍ. كان المقيمون في أوروبا من أقارب الضوم هم المصدر الرئيس للمعلومات، وقد نصحوهم ألّا يطلبوا اللجوء إن كان عندهم صفة اللجوء مسبقاً في إسبانيا.

السبب الثاني عدم رغبة الضوم في الارتباط بالنظام الإداري. فقد حاول بعضهم تكرار الأنماط التي يعرفونها في سوريا ولبنان بالبقاء خارج نظام الدولة. واكتفوا في إسبانيا بالحصول على وثيقةٍ تمكّنهم الانتقالَ بسهولةٍ في أوروبا، والعودة إلى شمال إفريقيا للعمل أو زيارة الأهل، كما يفعل والد ندى. ولم يكن هناك في المرحلة الأولى من الهجرة بين عامَيْ 2014 و2018 أيّ التزاماتٍ يوميةٍ أو دوريةٍ شخصيةٍ لمعظم الضوم، كمدارس الأطفال والبقاء في عناوين ثابتة. الشيء الوحيد الذي كان ملزِماً لهم هو مواعيد الأطباء والذهاب إلى المستشفيات، خصوصاً في حالات الحمل. وهذا الظرف الصحّي لم يكن ملزِماً بحكم وجود تأمينٍ صحّيٍ لطالبي اللجوء في فرنسا قبل معالجة طلب اللجوء، يخوّلهم الذهابَ إلى الأطباء والمستشفيات دون أن يدفعوا أو يقدّموا عناوين ثابتة.

بعد فترة وجيزةٍ، حاول بعض الضوم طلب اللجوء في فرنسا أو بلجيكا، مخالفين نصيحة أقاربهم. وقد قبلت السلطات الفرنسية والبلجيكية بعض تلك الطلبات. قانونياً، لا يوجد أيّ تفسيرٍ منطقيٍّ لهذه الحالة لأن قانون اللجوء يقضي بعدم الحصول على حقّ اللجوء في أكثر من بلدٍ بالاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه. التفسير الوحيد هو أن النظام الإداري الأوروبي للهجرة مليءٌ بالثغرات. توالت بعد ذلك طلبات لجوء بعض عائلات الضوم في البلدَيْن، واستطاع بعضهم الحصول على حمايةٍ أو لجوءٍ في فرنسا أو بلجيكا، مع الحماية التي حصلوا عليها في إسبانيا. وقد عرفتُ في بحثي الميداني حالاتٍ قليلةً حصل فيها بعض الضوم على الحماية في البلدان الثلاثة.

عندما وصلتُ باريس سنة 2018 لإجراء البحث الميداني، كان هناك تواصلٌ بين بلدية باريس وبلدية بروكسل بشأن عددٍ من العائلات الضومية. التواصل، حسب ما فهمت من مسؤولٍ في بلدية باريس، كان عن عمالة الأطفال. فقد ضبطت السلطات أطفالاً متسوّلين كثراً بصحبة أهاليهم في باريس. وعند مراجعة أوراقهم الثبوتية، تبيّن أنهم مسجَّلون طالبي لجوءٍ أو لاجئين في بلجيكا. بعد هذا التواصل الرسمي بين البلدين، ازداد رفض طلبات اللجوء للعائلات الضومية، لاسيما أن كثيرين منهم لم يستطيعوا الالتزام بالمواعيد الرئيسة بسبب عدم القدرة على قراءة الرسائل ومتابعة كلّ المعاملات الإدارية المرتبطة باللجوء. 

في تلك الفترة كانت عائلاتٌ ضوميةٌ كثيرةٌ تسكن في البنايات المهجورة بلا أوراقٍ أو معاملاتٍ مالية. وفي معظم الأحيان تكون تلك المباني المهجورة غير صالحةٍ للسكن، وسكنوا في فنادق بغرفٍ غير مسجّلة. ساهم هذا في تعزيز ملفّات منظمة "المساعدة الاجتماعية للأطفال" في فرنسا، المختصة بحماية الأطفال، في كسب الدعاوى ضدّ الأهالي وإيداع الأطفال في مراكز تهيئةٍ اجتماعية. فبدأت عائلاتٌ كثيرةٌ بالتخفيف من ظاهرة التسوّل والتنقل بين البلدين تدريجياً.

في بداية سنة 2020 وقت جائحة كورونا في أوروبا، فرضت السلطات الفرنسية حظر تجوّلٍ في المدن كافّةً، وأغلقت الحدود البرية. أثّرت هذه القرارات الإدارية مباشرةً في معظم العائلات الضومية التي كانت تعتمد على التجارة غير الرسمية، أو العمل بلا عقدٍ أو تأمينٍ اجتماعي. وقد أثّر الأمر أكثر في العائلات التي لم تحصل على حقّ اللجوء بعد. حاولت جميع هذه العائلات تسوية وضعها الإداري في فرنسا وبلجيكا، كما حدث مع عائلة ندى. وفي غضون سنتين تقريباً، تمكّنت أغلب العائلات من الحصول على حقّ اللجوء في إحدى الدولتين. فبات التنقل بينهما مقتصراً على الزيارة في معظم الأوقات، ومحصوراً فقط في شهر رمضان إذ تزداد فرص التسوّل.

بقي قسمٌ صغيرٌ من العائلات بلا تسوية أوضاعهم الإدارية، ما دفعهم لتجربة طرقٍ أخرى، مثل إرسال أحد الأطفال القاصرين إلى بلجيكا لطلب اللجوء. في حال الحصول على اللجوء، يبدأ الطفل القاصر بإجراء لمّ الشمل لأهله، مثلما تحاول عائلة ندى مؤخراً. فقد ذهبت ندى بداية 2024 إلى بلجيكا، لكنها لم تتمكن من الحصول على الحماية هناك بعد. أثناء إقامتها في منزل أحد أقاربها، وفي فترة دراسة طلب لجوئها، سجّلت في دورةٍ تدريبيةٍ للتجميل. فهي تطمح أن تعمل بهذا المجال.


يعطينا تعامل الضوم مع السلطة مثالاً مهمّاً عن كيفية تعامل بعض الأقليات مع النظام الإداري من جهةٍ، وكيفية تعامل النظام الإداري مع الأقليات من جهةٍ أخرى. فقد استطاع الضوم في الشرق الأوسط أن يجدوا لأنفسهم مكاناً وسطاً أقرب إلى الهامش. فاستطاعت عشائرهم أن تحافظ على قدرة التنقل بسهولة بين نمطَي حياة، بدويٍّ وحضريّ. وهكذا أمكنهم في بعض الأحيان التنقل بين بلدين بلا تعرّضٍ لمشاكل مرتبطةٍ بالحدود.

يحاول الضوم في أوروبا أن يجدوا لأنفسهم تجربةً قريبةً مما مرّوا به في سوريا ولبنان، حين عملوا جاهدين على إيجاد مكانٍ على هامش النظام الإداري في البداية. هذه المحاولة بدت كأنها محاولةٌ ناجحةٌ، لاسيما عندما وجدوا مكاناً لهم في ضواحي باريس الشمالية بالقرب من مجتمعاتٍ مهاجرةٍ من أصولٍ عربيةٍ مسلمة. وقد سهّل وجود ثغراتٍ في النظام الإداري للهجرة واللجوء في أوروبا من إطالة هذه الفترة التجريبية. 

ولكن بدأ النظام الإداري بإدراك تلك الثغرات وإصلاحها، بإجراء بعض التعديلات في القوانين، وتطبيق قوانين ردعٍ للحدّ من تنقّل الضوم بين البلدان المختلفة. ويبقى السؤال مفتوحاً، كيف سيتعامل جيل الضوم الجديد مع المجتمعات المحلّية في أوروبا بعد أن درس في مدارسها وأتقن لغاتها وتعرّف على ثقافتها بتعمّق.

اشترك في نشرتنا البريدية