ومع تأثير نتائج هذا الصراع على سياسات سائر دول العالم المالية، فإن تأثيره على الاقتصاد السعودي يبدو أعمق. فالعلاقة المالية التاريخية بين الرياض وواشنطن تعود إلى وقت تأسيس المملكة العربية السعودية في بدايات القرن العشرين، ويكشف عمقَها ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي، والاستثمارات السعودية الكبيرة في الولايات المتحدة.
يتزامن الصراع بين المؤسستين المالية والسياسية في الولايات المتحدة مع تحولاتٍ اقتصاديةٍ كبرى في المملكة العربية السعودية. إذ تعكف المملكة على تنفيذ مشروعات "رؤية السعودية 2030" الهادفة لتقليل اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط، والتي أعلن عنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ويفتح تزامن التحوّلين بابَ مراجعة الأسس التي قامت عليها الشراكة المالية الممتدة بين البلدين، والتي صمدت في مواجهة عواصف سياسيةٍ واقتصاديةٍ وعسكريةٍ سابقة.
لم تكتفِ الحكومة بالإشراف على النقد الأجنبي، بل استكملت محاولات تأسيسِ مجالٍ ماليٍّ وطنيٍّ جديد. بدأ الملك عبد العزيز هذه المحاولات قبل توحيد مملكتَي الحجاز ونجد، عندما سَكّتْ حكومته عملةً نحاسيةً سنة 1925، ثم أصدرت الريالَ العربي الفضي سنة 1927 بموجب "نظام النقد الحجازي النجدي" ليحلّ محلّ الريال العثماني المجيدي. وبعد صدور المرسوم الملكي في سبتمبر 1932 بتوحيد مملكتَي الحجاز ونجد تحت اسم المملكة العربية السعودية، سُكّ أول ريالٍ فضيٍّ سعوديٍّ سنة 1935، متميزاً عن ريال 1927 بكونه أخفّ وزناً وأول عملةٍ تحمل اسم الدولة الجديدة.
واجهت محاولات الحكومة بسط سيادتها، بالهيمنة على النقد، تحدياتٍ مختلفة. فمن جهةٍ، استمرّ تداول العملات الأخرى التي راجت في الأسواق قبل تأسيس الدولة، واعتمدها الناس في المعاملات التجارية، وارتبطت ثقتهم بها. وفي ظلّ صعوبة بسط النفوذ والرقابة الحكومية على التجّار والصرّافين في سائر أركان المملكة، لم يكن تحويل المعاملات التجارية عن هذه العملات إلى الريال السعودي سهلاً.
ومن جهةٍ أخرى، أدّى تقلّب أسعار المعادن إلى اختفاء الريال الفضي من الأسواق. بحسب توماس دبليو شيا في مقاله "ذا ريال: آ ميراكل إن مَني" (الريال: معجزة مالية)، والمنشور في 1969، زادت قيمة محتوى الفضة في الريال عن قيمته الاسمية. فأذاب الناس الريالاتِ الفضية وباعوها سبائكَ لتجّار الفضة، على نحوٍ أدّى إلى اختفائها من الأسواق بحلول سنة 1956.
ومن جهةٍ ثالثة، فرضت قواعد بيع النقد الشرعية قيوداً عقَّدت التعامل بالريال. إذ يمنع الفقه الإسلامي بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة إلا متماثلَيْن، مع التسليم الفوريّ للطرفين. زادت هذه القواعد صعوبةَ المعاملات التي اعتمدت على الدفعات الحكومية بالذهب والفضة، وحالت دون ضبط قيمة العملات أو إعداد ميزانيةٍ واقعية.
استندت الحكومة في سعيها لتجاوز هذه العقبات على أمرين، أوّلهما موسم الحج الذي فتح باب التداول بالعملات الورقية السعودية. بحسب تقرير "رول أوف هاج إن ذي إنترودكشن أوف ساودي بانكنوتس" (دور الحج في إدخال العملات الورقية السعودية)، الذي نشرته صحيفة "عرب نيوز" سنة 2018، أصدر الملك عبد العزيز سنة 1953 "إيصالات الحجاج" (كلّ إيصالٍ ورقيٍ بقيمة عشرة ريالاتٍ فضية) لتسهيل التعاملات المالية، لتكون أول عملةٍ ورقيةٍ بالمملكة. طبعت الإيصالات بستّ لغاتٍ، فسهل التعامل بها وراجت بين الحجاج ثم راجت في أسواق المملكة. شجّع نجاح التجربة على إصدار إيصالاتٍ بفئاتٍ أخرى، قبل أن تصدر الأوراق النقدية الرسمية سنة 1961.
لم يقتصر دور الحج على إدخال العملة الورقية، بل ساهم في رفع الطلب على الريال وتعزيز قيمته. فقد ارتفع الإقبال على العملة السعودية ثلاثة أضعافٍ خلال موسم الحج مقارنةً بباقي العام وفقاً للتقرير ذاته، الأمر الذي أدّى لتنشيط السوق النقدي ودعم استقرار العملة.
أما المستند الثاني، فكان العلاقة الإستراتيجية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، وهي العلاقة التي تأسست عليها سوق النفط العالمية. في كتابه "كاربون ديموكراسي" (ديمقراطية الكربون) الصادر سنة 2011، يحاجج تيموثي ميتشل بأن أزمة صناعة النفط في القرن العشرين لم تكن ندرتَه، بل وفرتَه وسهولةَ نقله مسافاتٍ طويلةً، على نحوٍ هدّد أسعاره. وللتعامل مع هذا التحدّي، اعتمدت الشركات الكبرى والحكومات التي تدعمها سياسة تقليل الإنتاج بشراء امتيازات التنقيب عن البترول وتجميدها. كانت شبه الجزيرة العربية في قلب هذه السياسات، بسبب احتوائها على القسط الأكبر من احتياطي النفط العالمي، وسهولة التحكّم في الإنتاج لضعف الحاجة المحلية.
تأسس الحكم السعودي على هذه الشراكة. فحصلت الشركات الأمريكية على امتيازات التنقيب على النفط، مثل الامتياز الذي حصلت عليه شركة ستاندرد أويل سنة 1933. وضخّت الأموال لبيت آل سعود ليتمكن من حماية احتكاراتها، دون أن تنتج النفط سنين أخرى. ويحاجج روبرت فيتاليز في كتابه "أميريكاز كينغدم" (مملكة أمريكا)، الصادر سنة 2006، بأن هذه المصالح الإستراتيجية في إدارة سوق النفط جعلت المملكة العربية السعودية "أكبر مشروعٍ خاصٍ أمريكيٍ منفردٍ في الخارج".
لعبت هذه العلاقة الإستراتيجية دوراً رئيساً في تاريخ النقد السعودي، الذي تولّى أمريكيون تنظيمه وإدارته. مثلاً، وبحسب مقال شيا المذكور آنفاً، فإن بعثةً أمريكيةً بقيادة الخبير المالي آرتشر يونغ زارت المملكة سنة 1951 وأوصت بإنشاء مؤسسةٍ تُعنى بإدارة السياسة النقدية والمالية. وفي العام التالي، أُنشئت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) لتنظيم العملة والإشراف على البنوك وحفظ إيرادات الدولة. واختيرَ الاقتصادي الأمريكي جورج أ. بلوورز، الذي سبق له العمل في ليبيريا وإثيوبيا وشارك في مؤتمر بريتون وودز، أول محافظٍ للمؤسسة، فيما كان عبد العزيز القريشي أول سعوديٍّ يتولّى المنصب سنة 1974.
ساهمت التحوّلات المالية العالمية اللاحقة في تعميق التداخل المالي بين السعودية والولايات المتحدة. مثلاً، سعت الولايات المتحدة بعد انهيار نظام بريتون وودز سنة 1971 إلى استقرار عملتها والدفاع عن هيمنتها العالمية عبر تفاهماتٍ ثنائيةٍ مع المملكة العربية السعودية. تضمنت هذه الاتفاقيات، المبرمة سنة 1974، التزام السعودية تسعير النفط بالدولار الأمريكي حصراً واستثمار الفوائض النفطية في السندات الحكومية الأمريكية، مقابل ضماناتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ أمريكية.
ازدادت العلاقة تداخلاً بعد حرب أكتوبر 1973. خلال الحرب، أوقفت السعودية تصدير النفط للولايات المتحدة بسبب دعمها إسرائيلَ عسكرياً. أسفر ذلك عن ارتفاعٍ حادٍّ في أسعار النفط، أوصلها من ثلاثة دولاراتٍ للبرميل إلى اثني عشر دولاراً للبرميل في أسابيع قليلة. وبحسب تقرير "حظر النفط العربي سنة 1973 بسبب حرب أكتوبر" المنشور على موقع الجزيرة نت، تسببت هذه التطورات في خسائرَ جسيمةٍ للاقتصاد الأمريكي قدّرت بنحو 97 مليار دولارٍ، ودفعت الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لإطلاق مشروعٍ يهدف لتوفير الطاقة التي يحتاجها الاقتصاد الأمريكي من الموارد المحلية. وعلى عمق أثر هذا المشروع على المدى البعيد، فإنه في المدى القريب لم يحُل دون اعتماد الاقتصاد الأمريكي على النفط السعودي، المسعَّر بالدولار الأمريكي.
بلغ التداخل بين الماليتين ذروته بربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي سنة 1986. فالتحوّلات المالية والسياسية المتلاحقة منذ بداية العقد دفعت السعوديةَ إلى تعزيز إستراتيجيتها الاقتصادية والنقدية تجاه الدولار. من جهةٍ، وبحسب ديرموت غاتلي في دراسته "ليسنز فروم ذا 1986 أويل برايس كولابس" (دروس من انهيار أسعار النفط سنة 1986) المنشورة سنة 1986، انخفضت أسعار النفط بنسبة 40 بالمئة بين سنتَي 1981 و 1985. وانخفضت مرةً أخرى بنسبة 50 بالمئة في النصف الأول من سنة 1986، على نحوٍ اضطرّ الحكومة لاستهلاك احتياطيّ العملات الأجنبية وإصدار السندات لتمويل عجز الموازنة. وتشير دراسة رياض الخريّف وجون كوالز "ساودي أرابياز إكستشينج ريت بوليسي" (سياسة سعر الصرف في السعودية)، الصادرة في أبريل 2016، إلى انخفاض إيرادات تصدير النفط السعودي من 375.3 مليار ريالٍ سعوديٍ سنة 1981 إلى 66.7 مليار ريالٍ سنة 1986.
تسببت هذه الضغوط المالية في اضطرابٍ نقديٍّ ملحوظ. فكان اختيار الدولار عملةً مرساةً خياراً تقنياً واستراتيجياً، استناداً إلى تسعير النفط بالدولار مصدراً رئيساً للإيرادات، ولِما يتمتع به من مكانةٍ لكونه العملة الاحتياطية الأولى عالمياً. وفي يونيو 1986، ثبّتت مؤسسة النقد العربي السعودي سعر الصرف عند 3.75 ريال للدولار. ضمن هذا الربط استقرارَ عوائد النفط، المقوّمة بالدولار، عند تحويلها إلى الريال، وهو ما قلّص تقلّبات السوق المحلية.
يساهم هذا الربط في تشكيل السياسات المالية السعودية. إذ يتبع البنك المركزي السعودي الاحتياطيَّ الفيدرالي الأمريكي في تحديد سعر الفائدة، في إطار ما يسمّى "سياسة الاقتفاء". مثلاً، حين خفَّض الفيدرالي سعرَ الفائدة في الربع الأخير من سنة 2024، تبعه البنك المركزي السعودي بخفض سعر الفائدة القياسي للريال بنسبةٍ مماثلة. ولضمان استمرارية الربط، يتشكل جلّ احتياطي العملات الأجنبية لمؤسسة النقد السعودي – والذي يقدَّر بنحو 450 مليار دولار – من أصولٍ دولاريةٍ وسندات خزانةٍ أمريكية.
وبهذا تبقى عائدات بيع النفط السعودي ضمن النظام المالي الأمريكي. وبدلاً من استثمارها في اقتصاد المملكة، تستثمر في الولايات المتحدة في صورة سندات خزانة. وتشكّل الاحتياطيات الدولارية ركيزةً أساساً لسياسة إدارة سعر الصرف في المملكة، إذ تُمكِّن البنكَ المركزي من التدخل في الأسواق عند الضرورة، وتضمن اتساق نمو المعروض النقدي مع متطلبات الربط وقيوده.
كانت حرب الخليج الثانية، التي اندلعت سنة 1990، الحدث المفصليّ الأول ضمن سلسلة هذه الأحداث. إذ بادرت الحكومة السعودية بعد غزو العراقِ الكويتَ بدعوة الولايات المتحدة ودولٍ أخرى لإرسال قواتٍ لحمايتها، بعد أن عدّ الملك فهد بن عبد العزيز الغزوَ تهديداً مباشراً للأمن القومي السعودي. وسمحت الحكومة السعودية للمرة الأولى بوجود قواتٍ أجنبيةٍ في الأراضي السعودية.
أثبتت حرب الخليج فاعلية ربط الريال بالدولار في امتصاص الصدمات الإقليمية. وفقاً لدراسة يحيى سادوسكي "آراب إيكونوميكس أفتر ذا غلف وور" (الاقتصاديات العربية بعد حرب الخليج) الصادرة سنة 1991،كلّفت الحرب المملكةَ أربعةً وستّين مليار دولار. ولم تغطِّ زيادة أسعار النفط خلال الأزمة هذه التكلفة، فاضطرت الحكومة لسحب 6.7 مليار دولارٍ من الاحتياطي النقدي لتمويل العجز. وسُحبت 11 بالمئة من إجمالي الودائع بالقطاع المصرفي، فضخّت الحكومة 4.4 مليار دولارٍ لتثبيت النظام المالي. ومع كل هذه الصدمات، حافظ الريال على استقراره بفضل ربطه بالدولار.
فتح التعاون الأمني والعسكري بين المملكة والولايات المتحدة البابَ أمام تعميق العلاقة الاقتصادية. ويشير تقرير مجلس العلاقات الخارجية سنة 2002 بعنوان "سترينغثنينغ ذا يو إس ساودي ريليشنشِب" (تعزيز العلاقة الأمريكية السعودية) لاستناد ذلك إلى آليتين ماليتين أساسَيْن. أولاهما تعزيز استثمارات السعوديين في الولايات المتحدة، حتى وصلت إلى نحو 700 مليار دولارٍ في التسعينيات. وثانيتهما إعادة تدوير عائدات النفط لشراء السندات الأمريكية، مما ساهم في استقرار الأسواق المالية الأمريكية.
ظهرت متانة هذه العلاقة خلال الأزمة المالية العالمية التي انفجرت سنة 2008. فبحسب تقرير صندوق النقد الدولي المعنون "آرتيكل فور كونسلتيشن وِذ ساودي آرابيا 2008" (مشاورات المادة الرابعة لسنة 2008 مع المملكة العربية السعودية)، مثّل ربط الريال بالدولار دعامةً أساسيةً للاستقرار الاقتصادي الكلي. فقد ساعد على تثبيت سعر الصرف وضمان استقرار عائدات النفط المقوّمة بالدولار، خلال فترة اضطراب الأسواق العالمية. وفي حين أثر ذلك سلباً في الاقتصاد السعودي بزيادة معدلات التضخم، أكد وزير المالية السعودي إبراهيم العساف حرص بلاده على استمرار الربط ونفى وجود أيّ نيةٍ لفكّه، مشيراً إلى اتخاذ الحكومة سبلاً أخرى لمواجهة التضخم، مثل رفع الأجور ودعم السلع الأساسية.
جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 على نيويورك وواشنطن اختباراً آخَر لمتانة العلاقات السعودية الأمريكية. فقد أثّرت المخاطر الأمنية على استقرار أسواق الطاقة والتدفقات المالية. ومع ذلك، حافظت المملكة على سياساتها المالية المرتبطة بالولايات المتحدة، مثل ربط الريال بالدولار، وإدارة احتياطياتها بالدولار الأمريكي، والاستثمار في السندات والأصول الأمريكية. ودعمت المملكة ما سُمّيَ "الحرب على الإرهاب"، التي قادتها الولايات المتحدة، وتعهدت بإصلاح مناهجها الدينية.
على أن هذه الإجراءات لم تعنِ تجاوز الأزمة التي استمرّت سنواتٍ، وهدّدت الترابط المالي بين البلدين. ففي سبتمبر 2016، مرّر الكونغرس الأمريكي قانون "العدالة ضدّ رعاة الإرهاب"، الذي سمح للمواطنين الأمريكيين المتضررين من الهجمات بمقاضاة حكوماتٍ أجنبيةٍ، كالحكومة السعودية، في المحاكم الأمريكية. وبحسب دوغلاس أوليفانت في مقاله "واي وي شود كيب آن آي أون ساودي أرابيا" (لماذا ينبغي أن نبقي أعيننا على السعودية) المنشور سنة 2016، أخبر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مشرّعِين أمريكيين أن الرياض ستصفّي نحو سبعمئةٍ وخمسين مليار دولارٍ من أصولها المالية في الولايات المتحدة تجنباً لخطر تجميدها إذا أُجيز القانون. ومع رفع عائلات الضحايا القضايا، لم تنفِّذ المملكة تهديدها.
ولم تعنِ مشاركة المملكة العربية السعودية في الحرب على الإرهاب موافقتها على السياسات الأمريكية فيها. فقد تحفظت على غزو العراق سنة 2003 خشية اتساع نفوذ إيران في جوارها، وفقاً لبروس ريدل وكاثرين هارفي في مقالهما "واي إز ساودي آرابيا فاينلي إنغيجينغ وذ إيراك؟" (لماذا تنخرط السعودية أخيراً مع العراق؟) المنشور سنة 2020. ومع مساهمة الحرب في رفع أسعار النفط ومن ثم تحويل العجز المتوقع في الموازنة السعودية إلى فائضٍ، وتراجع بعض القطاعات غير النفطية نتيجة حالة عدم اليقين، حافظت المملكة على سياساتها المالية المرتبطة بالدولار.
تغيّرت طبيعة العلاقة بعد تولّي الرئيس باراك أوباما الحكم سنة 2009، وهو ما انعكس بدوره على السياسات المالية السعودية. ساهمت خمسة عوامل أساسيةٍ في ذلك. أوّلها اتجاه الإدارة الأمريكية نحو إعادة تموضعٍ استراتيجيٍّ بعيداً عن الشرق الأوسط لصالح آسيا، مما أضعف مركزية السعودية في السياسة الخارجية الأمريكية.
وثانيها الطفرة في إنتاج النفط الصخري داخل الولايات المتحدة، التي قلّلت الاعتماد على النفط الخليجي بنسبة 50 بالمئة منذ 2008، بحسب ورقة هيرمان فرانسن المعنونة "أوباما آند ديكلايننغ يو إس ديبندنس أون إمبورتِد أويل أند غاز" (أوباما وتراجع اعتماد الولايات المتحدة على النفط والغاز المستورد) المنشورة سنة 2014. وهو ما أضعف أحد الركائز الاقتصادية لربط الريال بالدولار، وقلّل من أهمية إعادة تدوير عوائد النفط.
وثالثها الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني، الذي رأت فيه المملكة خطراً على أمنها القومي. ورابعها انتقاد إدارة أوباما أوضاع حقوق الإنسان في السعودية. وخامسها اختلاف مواقف الطرفين من أحداث "الربيع العربي".
وعلى أهمية هذه التحوّلات وأثرها على السياسات المالية السعودية، بل والعلاقات السعودية الأمريكية برمّتها، ظلّ ارتباط الريال بالدولار أساساً لا يُمسّ وعموداً فقرياً للعلاقة المالية المتداخلة بين البلدين.
بدأت رحلة بن سلمان السياسية سنة 2009، حين عيّنه والده مستشاراً له إبّان إمارته منطقة الرياض. وفي سنة 2013، عُيِّن الأمير الشاب رئيساً لديوان والده وليّ العهد. ومع مبايعة سلمان بن عبد العزيز ملكاً للسعودية في يناير سنة 2015، تولىّ ابنه محمد وزارة الدفاع ورئاسة الديوان الملكي ورئاسة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، قبل أن يعيَّن بعدها بأشهرٍ ولياً لولي العهد ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. وفي يونيو 2017، حلّ محمد بن سلمان محلّ ابن عمّه محمد بن نايف في ولاية العهد ورئاسة مجلس الشؤون الأمنية والسياسية. وفي سبتمبر 2022، عُيِّن رئيساً لمجلس الوزراء، وهو منصبٌ شغله قبله الملك.
من موقعه الجديد ولياً للعهد، أعاد بن سلمان هيكلة النظام السياسي السعودي، ليصبح الفاعل الأبرز فيه. في مارس 2017، التقى بن سلمان الرئيسَ الأمريكي دونالد ترامب، في لقاءٍ مثّل نقطةً مفصليّةً في تثبيت صورته زعيماً إصلاحياً. وأعاد تفعيل التحالف التاريخي بين واشنطن والرياض في إطار سرديةٍ جديدةٍ تركّز على التنمية والمواجهة الإقليمية أعقاب التوترات مع إدارة أوباما. وفي نوفمبر 2017، اعتقل عشرات الأمراء ورجال الأعمال تحت شعار "مكافحة الفساد"، في حملةٍ ساهمت في إعادة تشكيل النخبة الحاكمة وفرض مركزية القرار وترسيخ هيمنة بن سلمان الشخصية على مفاصل الدولة.
أطلق بن سلمان حملاتٍ ومبادراتٍ اقتصاديةً عملاقةً، كان أبرزها "رؤية السعودية 2030". وهي الرؤية التي أعلن الأمير عنها في أبريل 2016، لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي بحيث يعتمد على الابتكار والاستثمار الأجنبي والسياحة، بدل اعتماده على عائدات النفط. وفي السنوات التالية، أطلقت مشروعاتٌ كبرى لتحقيق هذه الرؤية، أهمها مشروع مدينة نيوم الذي تقدَّر تكلفته بنحو خمسمئة مليار دولار، ومشروع مدينة محمد بن سلمان غير الربحية، ومبادرات السياحة البيئية في البحر الأحمر، التي تهدف لجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز مكانة السعودية وجهةً سياحيةً عالميةً جديدة.
بالتوازي مع ذلك، فُعِّل صندوق الاستثمارات العامة الذي يشرف عليه بن سلمان، ليصبح أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم. يعمل الصندوق على تمويل هذه المشاريع الضخمة وضمان عوائد مستدامةٍ على المدى الطويل، ما يعزز قدرة المملكة على الاستثمار الإستراتيجي داخلياً وخارجياً.
يقدّم أندرو ليبر تقييماً للمشروع في ورقته "فيجن 2030 إن ذا هوم ستريتش" (رؤية 2030 في مرحلتها النهائية)، المنشورة سنة 2025. وفقاً للورقة، يهدف المشروع لبناء اقتصادٍ "يمكنه العيش بدون نفط". وذلك بتقليل مساهمة النفط في الناتج المحلي الإجمالي، من نحو 85 بالمئة إلى أقلّ من 55 بالمئة. ويرصد ليبر تحقيق السعودية نجاحاً في هذا الباب، بزيادة إيراداتها غير النفطية عبر فرض الرسوم والضرائب. وينقل تقديرات وزارة المالية السعودية لسنة 2024 تغطية هذه الإيرادات نحو 66 بالمئة من رواتب القطاع العام، وتشكيلها أكثر من 40 بالمئة من إجمالي الإيرادات.
أعادت هذه التحوّلات تشكيل العلاقة المالية مع الولايات المتحدة. إذ ابتعدت السعودية عن الإطار التقليدي للحركة المالية، وهو بيع النفط بالدولار واستثمار فوائضه في سندات الخزانة الأمريكية. وتحوّلت، عبر صندوق الاستثمارات العامة، مستثمراً استراتيجياً فاعلاً في قطاعاتٍ حيويةٍ داخل الاقتصاد الأمريكي، مثل التكنولوجيا المتقدمة ورأس المال الجريء والترفيه.
ضاعف هذا التحوّل تأثير اضطرابات الأسواق الأمريكية على ثروة السعودية السيادية، وتأثير قرارات الاستثمار السعودية في بعض قطاعات الاقتصاد الأمريكي. تُعدّ الأسواق الأمريكية، خاصةً أسواق الأسهم والسندات، من الوجهات الرئيسة لاستثمارات المملكة. أيْ إنّ أيّ تقلباتٍ حادّةٍ في هذه الأسواق تؤثر مباشرةً على قيمة هذه الاستثمارات، ومن ثم على المالية السعودية. وهو ما يعني أن السبيل لتحقيق رؤية 2030، التي تقصد تقليل الاعتماد على النفط، هو زيادة الاعتماد على الدولار لضمان استقرار سوق النقد على نحوٍ يساهم في جذب المستثمرين.
أثّرت هذه الزيادة على المالية العامة للدولة. فقد زادت تكلفة خدمة الدَين الحكومي المقوّم بالدولار، مما أدّى إلى زيادة الدَين العامّ من نحو 264 مليار دولارٍ في 2022 إلى نحو 354.3 مليار دولارٍ بنهاية مارس 2025، وفقاً لبيانات المركز الوطني السعودي لإدارة الدَين.
ولا يقتصر أثر السياسات النقدية الأمريكية على قدرة المملكة إدارة تحوّلها إلى اقتصادٍ أقلّ اعتماداً على النفط، بل يمتد ليؤثر على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الحالية. فالنفط لا يزال المحرّك الأساس للنمو السعودي، وشكّل نحو 63 بالمئة من ميزانية الدولة سنة 2023. وارتباطه بالدولار الأمريكي، مع تغيّر قيمة الدولار بسبب السياسات النقدية والتجارية للحكومة الأمريكية، يشكل خطراً على الاقتصاد السعودي.
تترجم هذه العوامل مجتمعةً واقعاً مالياً أكثر تعقيداً للمملكة، يظهر في عجز الحساب الجاري والموازنة. فبسبب استثمارات المملكة في رؤية 2030، تحوّل رصيد الحساب الجاري إلى عجزٍ سنة 2024، رغم بلوغ سعر النفط ثمانين دولاراً للبرميل. وأصبحت السعودية، التي كانت تعرف سابقاً "مُقرِضة العالم"، مقترضةً بمستوياتٍ غير مسبوقة.
وتزيد مِلكية السعودية عدداً كبيراً من سندات الخزانة الأمريكية تأثّرَها بسياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. بلغت قيمة هذه السندات نحو 131.6 مليار دولارٍ في مارس 2025، وفق تقرير عرب نيوز. هذه الحيازات تعرِّض السعودية لمخاطر متعددةٍ نتيجة تغيّرات سعر الفائدة. عادةً، تنخفض القيمة السوقية للسندات عند رفع الفيدرالي سعر الفائدة. لكن مع الضغوط الحالية لخفض الفائدة في ظلّ سياسة ترامب، قد تتذبذب القيمة السوقية للسندات السعودية في اتجاهٍ معاكس. ما يخلق حالةً متفاوتةً من المخاطر والعوائد، ويزيد من عدم اليقين المالي.
استهلّ ترامب ولايته الثانية بصدامٍ حادٍّ مع جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وعد ترامب أنصاره خلال الحملة الانتخابية بخفض قيمة الفائدة والتحكم في التضخم. وافتتح ولايته بحزمةٍ من الإجراءات والحروب الاقتصادية التي تؤثر على قوة الدولار، وعلى رأسها "الحرب التجارية" التي يخوضها بزيادة الجمارك المفروضة على الواردات من سائر دول العالم، وكذا الصراع المحتدم بينه وبين مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
تعود جذور هذا الصراع إلى البنية المؤسسية للنظام المالي الأمريكي. يتمتع رئيس الاحتياطي الفيدرالي بقوةٍ اختصاصيةٍ تخوّله اتخاذ قراراتٍ مصيريةٍ دون أن يخضع لآليات رقابةٍ ديمقراطيةٍ فعالة. ومنذ ولاية ترامب الأولى، ظهرت بوادر الصدام بينه وبين باول بسبب اختلاف توجّهاتهما المالية. تفاقمت الأزمة في ولاية ترامب الثانية بسبب ما يعتبره "تلكؤاً أمريكياً" في خفض سعر الفائدة، التي يريد الرئيس خفضها لتحفيز النمو بالاقتصاد الأمريكي. ووصلت الأزمة ذروتها في صيف 2025، حين طالب ترامب بصورٍ متعددةٍ بإزاحة باول من منصبه بالإقالة أو الاستقالة.
يستند ترامب في مطلبه خفض الفائدة إلى مؤشرات تباطؤ النمو وارتفاع الدين الفيدرالي وتزايد أعباء الاقتراض على الأسر والشركات. ويحذّر من أن استمرار الفائدة المرتفعة يكبّل الاستثمار ويضعف قدرة الاقتصاد على خلق فرص عملٍ جديدة. ويؤكد أن تراجع معدلات التضخم مقارنةً بذروتها يمنح مساحةً كافيةً للتيسير النقدي من دون مخاطر كبيرة.
وفي المقابل، يستند باول في رفضه خفض الفائدة إلى ارتفاع معدلات التضخم عن المعدّل المستهدف، وهو 2 بالمئة. ويحاجج بأن خفض الفائدة قد يؤدي لفقدان السيطرة على الأسعار ويلحق ضرراً طويل الأمد بالاقتصاد. ويشير إلى أن التعريفات الجمركية التي يفرضها ترامب تضيف ضغوطاً إضافيةً على الأسعار، وأن التباطؤ النسبي في سوق العمل أو بعض مؤشرات النمو لا تكفي لتبرير التحوّل السريع نحو التيسير النقدي.
واليوم، تبدو السياسة النقدية الأمريكية أقلّ استقراراً، على نحوٍ يكشفه التوتر بين ترامب وباول. فرغم أن الاحتياطي الفيدرالي يتخذ قراراته أساساً بناءً على المعطيات الاقتصادية والفنية، فإن هذه التوترات تضيف ضغطاً غير تقليديٍ على اتخاذ القرار. ما يجعل تبعات قرارات الفيدرالي لا تقاس بأدوات الاقتصاد الكلّي فقط، بل قد تتأثر أيضاً بتوقعات الأسواق والضغوط السياسية.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، لم يعد الاقتصاد السعودي الساعي لتحقيق رؤية 2030 كما كان في التسعينيات. إذ أدخلته الاستثمارات الضخمة في موجة انكشافٍ ماليٍّ متسارعٍ، توسّعت فيها الدولة في إصدار السندات وتعاظم دور الاستثمار الأجنبي وتغيّرت طبيعة الإيرادات. هذا الانكشاف يجعل النظام المالي السعودي أكثر حساسية لتقلبات أسعار الفائدة الأمريكية، بل وحتى لتصريحاتٍ صادرةٍ من واشنطن، وأكثر حاجةً في الوقت ذاته للاستقرار.
تفتح هذه الظروف البابَ أمام إعادة صياغة العلاقة المالية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ثمّة مفاصل ثلاثةٌ للارتباط النقدي بين البلدين، أوّلها آلية الربط النقدي بين عملتيهما، والتي تقيّد قدرة السعودية على انتهاج سياسةٍ نقديةٍ مستقلةٍ، وتلزمها اقتفاء قرارات الفيدرالي حفاظاً على استقرار سعر الصرف. وثانيها الاستثمار الضخم للمملكة في الأصول المقوّمة بالدولار، وخاصةً سندات الخزانة الأمريكية التي تتراجع قيمتها السوقية برفع الفائدة كما حدث في السنوات الأخيرة. وثالثها التأثر غير المباشر عبر أسعار النفط. فتحركات الفائدة الأمريكية تؤثر على سعر الدولار وأسعار النفط العالمية، بما ينعكس على إيرادات السعودية النفطية.
لا تبدو المملكة اليوم قادرةً على تحمّل أعباء هذا الارتباط وتقلبات المالية الأمريكية. فوفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي "آفاق الاقتصاد العالمي: منعطفٌ حاسمٌ وسط تحولاتٍ في السياسات"، الصادر في أبريل 2025، يتوقّع أن يقتصر نمو الاقتصاد السعودي على نحو 3 بالمئة خلال العام نفسه. وهو معدّلٌ لا يتناسب مع الزيادة السكانية الكبيرة في المملكة، التي تبلغ نحو 4.7 بالمئة.
يُضعف تراجع النمو قدرةَ الاقتصاد على خلق فرص عملٍ كافيةٍ للشباب الذين يدخلون سوق العمل سنوياً، ويزيد الضغوط على المالية العامة والخدمات. ويتوقع تقرير شركة جدوى للاستثمار "الاقتصاد السعودي في عام 2025"، الصادر في فبراير 2025، أن تسجل المملكة عجزاً في الميزانية بنسبةٍ تقارب 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال سنتَي 2025 و 2026، مع ارتفاعٍ طفيفٍ في الدَين العامّ ليبقى دون عتبة 35 بالمئة. وتداخل الضعف المالي الداخلي مع تقلّب السيولة النقدية العالمية، والارتباط العميق بالمالية الأمريكية، يمثلان خطورةً لا يمكن تجاهلها في الرياض.
فالصمود المحتمل للمؤسسة الفيدرالية يكرّس الوضع الراهن الذي تبقى فيه السياسة النقدية للمملكة مقيّدةً ضمن إطارها المألوف، القائم على الاقتفاء الحذِر لقرارات الفيدرالي. وأما انتصار ترامب، فيعجّل في إعادة تأسيس العلاقة المالية بين البلدين، على أسسٍ مختلفةٍ عن تلك التي استمرت نحو أربعين عاماً.

