يهدد هذا الوضع الأمنَ القوميَّ للدول العربية من عدة جهات. أولاً، وبحسب نفس التقرير، تستورد جلّ الدول العربية أسلحتها من الولايات المتحدة الأمريكية، التي شكَّلت صادراتها نحو 93 بالمئة من واردات السلاح في البحرين، و75 بالمئة من واردات السعودية و70 بالمئة من واردات الكويت. أما مصر فتتنوع مصادر تسليحها. فتأتي الولايات المتحدة على رأس جهات استيراد السلاح إلى مصر، ثم ألمانيا التي تستورد منها مصر ما نسبته 27 بالمئة من إجمالي قيمة السلاح المستورد، و22 بالمئة تستورده مصر من إيطاليا و 20 بالمئة من روسيا. يمكِّن هذا الوضع موردي السلاح، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من التحكّم في قرار الحرب والسلم، وتحديد المهزوم والمنتصر في الحروب الإقليمية. وثانياً، هذا الاعتماد العربي المتزايد على استيراد السلاح يقابله تصنيع إسرائيل سلاحَها منذ تأسست سنة 1948، وتطوّر صناعتها العسكرية، بل وتصديرها السلاح. دخلت ثلاث من شركات إسرائيل قائمة أكبر مئة شركة مصنِّعة للسلاح في العالم. وقد وصلت عائدات تصديرها الأسلحة إلى 13.6 مليار دولار سنة 2023، بحسب تقريرٍ نشره معهد ستوكهولم في ديسمبر 2024.
حاولت الدول العربية منذ عقود علاج هذا الخطر الاستراتيجي باللجوء لصناعة السلاح محلياً. وبعد سلسلة من المحاولات التي أفشلها التدخل الأجنبي تارةً وضعف التخطيط تارةً أخرى، تأسست في منتصف سبعينيات القرن العشرين الهيئة العربية للتصنيع في مصر، بمشاركة أربع دول عربية. جسَّدت الهيئة مشروعاً طموحاً للتعاون العربي في إنتاج السلاح لتقليل الاعتماد على الاستيراد في أوج الصراع العربي الإسرائيلي. ومع النجاحات المبكرة للمشروع، إلا أنه سرعان ما أفل مع بدء مسار السلام وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. وفي السنوات اللاحقة، فتحت الخلافات العربية العربية البابَ أمام هيمنة السلاح الأمريكي في المنطقة. ففقدت مصانع الهيئة العربية للتصنيع أهميتها، وواجهت صعوباتٍ اقتصاديةً متزايدة دفعتها للخروج من سباق التسليح ودخول مجال الصناعات المدنية.
ارتبطت صناعة السلاح بسعي محمد علي للاستقلال عن الدولة العثمانية. في كتابه "كل رجال الباشا" الذي تُرجم للعربية سنة 2001، يشير المؤرخ خالد فهمي لمركزية هذا المقصد في سياسات محمد علي، خاصة في العقد الرابع من القرن التاسع عشر. بداية من سنة 1831، خاض جيش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم عدةَ حروب ضد الجيش العثماني، حاول فيها انتزاع حكم الشام. حقق جيشه انتصاراتٍ عسكريةً كبيرةً في هذه الحروب التي اعتمد فيها على السلاح محلّي التصنيع. ووصلت هذه الانتصارات ذروتها سنة 1839 حين دمَّر جيش إبراهيم باشا الجيشَ العثماني بقيادة حافظ عثمان باشا في معركة نِزيب.
سرعان ما دمّر التدخل الأجنبيُ الأوروبيّ مشروعَ التسليح. بعد معركة نِزيب، تدخلت إمبراطوريات أوروبية لحماية السلطان العثماني حفاظاً على مصالحها الاستعمارية في الشرق وعلى السلم في أوروبا. في يوليو سنة 1840، وافقت الدولة العثمانية على معاهدة لندن "لإعادة السلام في بلاد الشام". ضمنت الاتفاقية حكماً أبدياً لمحمد علي وتوريث حكم مصر لذريّته من بعده، مقابل انسحابه من الشام وتقليص عدد المجندين في جيشه إلى ثمانية عشر ألف جندي فقط. وكذلك التزامه شروطَ اتفاقية بلطة ليمان الموقَّعة بين الباب العالي وبريطانيا سنة 1838، والتي أنهت الاحتكارات الحكومية وفتحت المجال أمام رأس المال الأوروبي. رفض محمد علي المعاهدةَ في البداية، لكن التدخل العسكري الأوروبي الذي أدى لهزيمة جيشه فرض عليه قبولها، فصدر بمحتواها فرمانٌ سلطانيٌّ سنة 1841. ومع تقليص الجيش وإنهاء الاحتكارات، انتهى مشروع التسليح المحلي الأول في المنطقة العربية في العصر الحديث.
اعتمدت القيادة المصرية ابتداءً على الخبرة الألمانية في تصنيع السلاح. وفي سنة 1950، عاونت ألمانيا مصرَ في إنشاء مصنع الطائرات في حلوان لإنتاج الطائرات الخفيفة بمحاكاة التقنية الألمانية في الحرب العالمية الثانية. بحسب تقريرٍ نشرته مجلة "ميليتاري ووتش" سنة 2019، استعان المصنع بمصمّمين وفنيّين ألمان عملوا في الجيش النازي، على رأسهم فيلهلم ميسرشميت. تولَّت مديرية المصانع الحربية الإشراف على المصنع، قبل إعادة تشكيلها سنة 1957 وتغيّر اسمها إلى "الهيئة القومية للإنتاج الحربي" التابعة لوزارة الإنتاج الحربي. وفي سنة 1965 قدَّمت حكومة ألمانيا الغربية تمويلاتٍ للحكومة المصرية سعياً لاستقطاب مصر تجاه المعسكر الغربي.
ازداد الاهتمام بصناعة السلاح مع وصول الضباط الأحرار للحكم في مصر سنة 1952. باهتمام من الرئيس جمال عبد الناصر، أحد قادة حركة الضباط الأحرار، الذي سعى لإحياء صناعة السلاح محلياً مع توليه رئاسة الوزراء ثم رئاسة الجمهورية.
في السنوات التالية لاستقرار حكم عبد الناصر وقادته العسكريين، اتخذت الحكومة إجراءاتٍ متنوعةً لتعزيز صناعة السلاح، استعانت فيها بالخبرة السوفييتية. في كتابه "الصناعة العسكرية العربية" المنشور سنة 1992، يروي يزيد صايغ إرسالَ الاتحاد السوفييتي سنة 1955 ستمئة عالمٍ وفنيٍّ للإشراف على تطوير إنتاج السلاح في مصر، وتأسيس عددٍ من مكاتب البحوث التي تستهدف تعليم الفنيين والمهندسين المصريين. قصدت تلك البرامج، التي وصلت تكلفتها نحو تسعين مليون دولار أمريكي وقتها، تنميةَ صناعة طائراتٍ شبه محلية، وصناعة محركاتِ الطائرات وصواريخَ "أرض أرض" بعيدةِ المدى.
على أن سعي التقارب مع المعسكر السوفييتي في استيراد السلاح كان أسرع منه في التسليح. فقد أعلن الرئيس عبد الناصر سنة 1955 الاتفاقَ على صفقة أسلحةٍ سوفييتيةٍ بوساطةٍ تشيكوسلوفاكيةٍ بقيمة 83.3 مليون دولار. تضمنت الصفقة دباباتٍ وطائراتٍ مقاتلةً ومعداتٍ مدفعيةً وسفناً وأسلحةً صغيرةً وذخائرَ، بحسب دراسة موتي غولاني "ذي هيسترويكال بلايس أوف ذي تشيك-إيجيبشان آرمز ديل – فول 1955" (الموقع التاريخي لاتفاق السلاح التشيكي المصري – خريف 1955)، المنشورة سنة 1995. أبرمت مصر بعدها بسنتين اتفاقاً مع الاتحاد السوفييتي يقضي بحصولها على أسلحةٍ سوفييتيةٍ بقيمة 1.16 مليار دولار في صورة معونةٍ عسكريةٍ، بحسب تقريرٍ لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بعنوان "سوفييت ميليتاري آيد تو ذا يونايتد أراب ريبابليك 1955-66" (الدعم العسكري السوفييتي للجمهورية العربية المتحدة 1955-66)، سُمح بنشره سنة 1999.
وبالتوازي مع التوسع في استيراد السلاح، أضافت المصانع العسكرية إلى أعمالها الإنتاجَ المدني. قصد النظام بسياساته الصناعية توفيرَ فرص عملٍ جديدةٍ في القطاعَين المدني والعسكري. ومع الصعوبات التي واجهت الصناعة العسكرية في مطلع الستينيات، وُجّهت نحو ثلاثة أرباع سعة الصناعة العسكرية إلى الصناعات المدنية، بحسب دراسة بعنوان "ذي إيجيبشان آرمز إندستري" (صناعة السلاح المصرية)، أعدّتها وكالة الاستخبارات الأمريكية سنة 1985. بحسب الدراسة، بدأت بعض المصانع الحربية، مثل مصنع بنها للالكترونيات، تصنيعَ أجهزة المذياع واللوحات الكهربائية. ويقول صايغ إن صناعة السلاح المحلية تركزت على إصلاح المعدات التي يوفرها الاتحاد السوفييتي وصيانتها.
مع نهاية الخمسينيات، كان نجاح الصناعة العسكرية المحلية في الحدّ من استيراد الأسلحة والذخائر محدوداً. يعزو صايغ ذلك إلى غياب التنسيق بين وزارة الإنتاج الحربي والقوات المسلحة. فقد اعتمدت القوات المسلحة على الأجهزة السوفييتية، فيما اعتمدت وزارة الإنتاج الحربي على الخبرات والتقنيات الغربية وخصوصاً الألمانية.
أدخلت الهزيمة الدولةَ المصرية في أزمةٍ اقتصاديةٍ كبرى. إذ احتلّت إسرائيل أرضَ سيناء الغنية بموارد النفط والمعادن ودمّرت معدات الجيش، فظهرت الحاجة إلى استبدالها. تسبّبت الحرب أيضاً في تراجع عوائد السياحة الأجنبية وفي خسارة مصر عوائد قناة السويس، التي ساهمت بنحو 4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي. دمّرت الحرب أيضاً سبع عشرة منشأة صناعية بلغت قيمتها نحو أربعمئة مليون دولار. وتكبدت البنية التحتية لمرافق قناة السويس أضراراً بلغت قيمتها 2.3 مليار دولار، بحسب فلورنس غوب وزوي ستانلي لوكمان في دراستهما "ديفينس إندستريز إن أراب ستايتس: بلايرز آند ستراتيجيز" (صناعات الدفاع في الدول العربية: اللاعبون والاستراتيجيات)، المنشورة سنة 2017.
فرضت الأزمة على القيادة المصرية التخلّي المؤقت عن مشروع التصنيع العسكري. بحسب غوب وستانلي، أثَّرت قيود اقتصاد الحرب والتقشف العام في الإنفاق على التسليح، ما أدى لمغادرة الفنيين الغربيين وإجهاض محاولات نقل تقنيات التصنيع. ومع الحاجة للسلاح لبناء الجيش وارتفاع تكلفة الصناعة المحلية وكثرة العقبات المترتبة على مغادرة الفنيين الغربيين، عطَّلت الحكومة مشروع التسليح وألغت وزارةَ الإنتاج الحربي ولجأت لاستيراد السلاح.
توجهت الدولة في السنوات التالية لاستيراد السلاح السوفييتي لإعادة بناء الجيش. في هذه الفترة، تحوَّل سلاح المشاة من "وحدات مشاة راكبة" إلى "وحدات مشاة ميكانيكية بالعربات البرمائية الروسية الجديدة". وقد استُعملت التقنيات والخبرات والأدوات السوفييتية في تحديث سلاح المدفعية، خاصةً الدفاع الجوي، بإضافة الصواريخ والرادارات السوفييتية. وذلك بحسب اللواء سمير فرج، الضابط السابق في القوات المسلحة المصرية، في مقاله "ماذا قدم السوفييت لمصر في الإعداد لحرب أكتوبر 1973؟" المنشور سنة 2023.
تزامن هذا الاعتماد على السلاح السوفييتي مع زيادة الاعتماد على الخبرة السوفييتية، بدلاً من خبرة أوروبا الغربية في صناعة السلاح. في يوليو سنة 1968 أعلن عزيز صدقي، وزير الصناعة والنفط والثروة المعدنية المصري، تخصيصَ ترسانة الإسكندرية لبناء السفن لمصلحة الاتحاد السوفييتي الذي ساهم في المشروع بتقديم التصميمات والآلات والتدريب اللازم.
في البداية اعتمدت الحكومة المصرية على المنح والقروض لمعالجة الأزمة الاقتصادية الناشئة عن الهزيمة العسكرية. وأفادت مصر من القرارات المعلنة في القمة العربية في الخرطوم في سبتمبر سنة 1967، وقررت "توحيد جميع الجهود للقضاء على آثار العدوان الإسرائيلي". واستجابةً لذلك القرار، أعلنت السعودية والكويت وليبيا تقديمَ دعمٍ ماليٍّ سنويٍّ للدول المتضررة من العدوان. يقدِّر الاقتصادي جلال أمين في كتابه "قصة الاقتصاد المصري"، المنشور سنة 2012، إجمالي المنح النقدية التي حصلت عليها مصر من الدول العربية بنحو 286 مليون دولار. ويضيف إليها 140 مليون دولار أخرى اقترضتها الحكومة المصرية من الاتحاد السوفييتي وحلفائه.
ومع مساهمة هذه الأموال في تعافي الاقتصاد المصري جزئياً، فقد ساعدت بطريقٍ غير مباشر في فرض العودة إلى سياسات التصنيع. بحسب أمين، اعتمدت الحكومة المصرية على هذه المبالغ وعلى الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية والاقتراض قصير الأجل من البنوك التجارية وتسهيلات المورِّدين من الدول الغربية في توفير الاحتياجات الأساسية والسلاح. يشير أحمد السيد النجار في مقاله "أيجيبتس إيكونوميك باتيل فروم جون 1967 تو أكتوبر 1973" (معركة مصر الاقتصادية من يونيو 1967 إلى أكتوبر 1973)، المنشور سنة 2014، إلى قصور هذه السياسات عن علاج أزمة البطالة المستمرَّة من قبل الحرب، والتي ازدادت حدَّةً بعد الهزيمة. حاولت الحكومة خلقَ فرص عملٍ جديدة بإحياء الصناعات، ومنها صناعة السلاح.
بدأت صناعة السلاح، بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي، تستقرّ في أعقاب مشروع الترسانة البحرية سنة 1968 الذي سبقت الإشارة إليه. ولكن في ديسمبر سنة 1970، وبعد أسابيع من تولِّي السادات الرئاسة، زار وفدٌ مصري بقيادة علي صبري نائب رئيس الجمهورية ومحمد فوزي وزير الحربية ومحمود رياض وزير الخارجية الاتحادَ السوفييتي للقاء رئيسه ليونيد بريجنيف. ووفقاً لمذكرات رياض المنشورة سنة 1985 بعنوان "البحث عن السلام والصراع في الشرق الأوسط"، عرض بريجنيف صناعةَ المعدات العسكرية السوفييتية، مثل الطائرات المروحية وأجهزة الرادار والذخائر، في مصانع مصرية.
رفض السادات العرض السوفييتي بسبب رفض الاتحاد السوفييتي نقل التقنيات التصنيعية وإصراره على عودة العتاد الحربي السوفييتي إليه للصيانة، وهو ما حال دون تطوّر المهارات الهندسية والفنية المحلية.
تحرّكت مساعي السادات نحو الغرب. في أغسطس سنة 1972، التقى السادات وفداً عسكرياً ودبلوماسياً بريطانياً كان ضمن أعضائه ريغنالد أندرسون، مسؤول مبيعات الأسلحة في وزارة الدفاع البريطانية وريتشارد بيمونت، سفير بريطانيا في مصر. وبحسب عامر سلطان في مقاله "السادات أقنع بريطانيا بالمشاركة في مشروع طموح لتأسيس صناعة عسكرية مصرية – وثائق بريطانية"، والمنشور سنة 2022، طلب السادات من الوفد مساعدة مصر على تصنيع سلاحها وإنشاء مصانع في مصر لصناعة محركات الطائرات الحربية، وخاصة طائرات ميغ 21. وكشف السادات حصوله على موافقة الرئيس الليبي معمر القذافي لتمويل المشروع، ووعد بتجهيز مصنع حلوان لهذا الغرض.
ومع جدية الحكومة المصرية في تنفيذه، إلا أن المشروع لم يرَ النور. في الثلث الأول من سنة 1973، تبادلت الوفود العسكرية المصرية والبريطانية المختصة في التصنيعِ وإدارةِ المصانعِ الزيارةَ. وبحسب سلطان، أبدت الوفود البريطانية إعجابها بالبنية التحتية والكفاءات البشرية التي وفَّرتها الحكومة المصرية للمشروع، إلا أنها لم تلتزم بخطةٍ وجدولٍ زمنيٍّ محدّدين لتنفيذه. في يونيو من نفس العام، طلب السادات من البريطانيين اتخاذ إجراءاتٍ سريعة للبدء في المشروع وقلّل من أهمية مخاوف بريطانيا من التمويل، ومن مصير المشروع في حالة اندلاع الحرب. لكنه لم يتلقَ رداً حتى اتخاذ قرار الحرب في السادس من أكتوبر سنة 1973.
وبالتوازي مع مساعي الشراكة مع البريطانيين، حاولت مصر إنشاء اتحادٍ صناعيٍّ عسكريٍّ عربيّ. نوقشت الفكرة أول مرة في الكويت في نوفمبر 1972، أثناء الاجتماع الدوري لرؤساء أركان جيوش ثماني عشرة دولةً عربيةً تحت إشراف مجلس الدفاع العربي التابع لجامعة الدول العربية. بحث الاجتماع سبل التعاون العربي لمواجهة الصراع العربي الإسرائيلي، وانتهى إلى التوصية بإنشاء مشروع تسليحٍ مشتركٍ يساهم فيه كل بلدٍ بما يعادل نسبة 2 بالمئة من إجمالي ناتجه القومي. حال الوضع الاقتصادي والسياسي في الوطن العربي دون تحويل توصيات المؤتمر إلى خطواتٍ واقعية، فظلّ حبيس الأدراج.
ظهر المشروع مرةً أخرى بعد حرب أكتوبر 1973. أظهرت الحرب المعدلاتِ العاليةَ لاستهلاك الأسلحة والذخائر في المعارك الحديثة، إذ استُهلكت عشرات الآلاف من الذخائر في ساعات القتال الأولى بحسب تقرير من الاستخبارات الأمريكية. وكشفت تطوّر الصناعة العسكرية الإسرائيلية. فقد استعملت إسرائيل أنظمةً قتاليةً مصمَّمة أو منتَجة محلياً، مثل الطائرات المقاتلة "نيشر" و"كفير"، والصاروخ "غبرائيل" المضاد للسفن. وبالتوازي مع ذلك، وفَّرت الزيادة الكبيرة في أسعار النفط بعد الحرب المواردَ المالية اللازمة لتمويل المشروع. وفي أبريل سنة 1974، نقلت جريدة الأهرام المصرية تصريحَ الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود، نائب رئيس الوزراء السعودي ووزير الداخلية آنذاك، أن بلاده ستصرّ على الحصول من الغرب على مشروعات اقتصادية وصناعية وتقنية وعسكرية مقابل النفط، بدلاً من الاكتفاء بالمال.
سرعان ما بدأ العمل. في مارس 1974 بدأت الهيئة الاستشارية العسكرية، التابعة لجامعة الدول العربية، دراسةَ مشروع الصناعة العسكرية المشتركة. واستندت الدراسة إلى تقريرٍ أعدّته سبع دول عربية، هي العراق وسوريا ومصر والسعودية وليبيا والجزائر والمغرب، بعد اجتماعهم بالقاهرة. أوصى التقرير بإنشاء صندوقٍ برأس مالٍ قدره 1.2 مليار دولار لتمويل الإنتاج المشترك.
تأسست الهيئة العربية للتصنيع في العام التالي. في التاسع والعشرين من أبريل سنة 1975 وقَّعت السعودية والإمارات وقطر ومصر اتفاق تدشين الهيئة العربية للتصنيع، التي دخلت حيز التنفيذ في الثاني والعشرين من مايو 1975، بعد التصديق عليها. بلغ رأس المال الأوليّ للهيئة 1.4 مليار دولار، وخضعت لإشراف مجلس إدارة يضمّ وزراء دفاع الدول الأعضاء. وقُسِّمت الأدوار بين الدول المؤسسة للهيئة العربية للتصنيع. فتولى الشركاء الخليجيون تمويل المشروع، وقدّمت له مصر البنية التحتية والخبرات التقنية والأيدي العاملة.
اعتمدت الهيئة العربية للتصنيع استراتيجيةً تصنيعيةً أساسها الحصول على تراخيص إنتاج من دول غربية مع تجميع الأجزاء أو تصنيعها في مصانع مملوكة لها، أو في مصانع مشتركة مع شركات غربية متعددة الجنسيات، تساهم الهيئة في تأسيسها وتمتلك غالب أسهمها. وبحسب صايغ، تولَّت مصر مسؤولة توفير ستة عشر ألف عامل في خمسة مصانع عسكرية سابقة، لتشكِّل قاعدة الإنتاج الحربي الجديد. وتفاوضت الهيئة على سلسلةٍ من اتفاقيات الإنتاج المشترك مع شركاتٍ غربية، نتج عنها إنشاء أربع شركات مشتركة بنهاية سنة 1978. وهي الشركة العربية الأمريكية للعربات، والشركة العربية البريطانية للديناميكيات، والشركة العربية البريطانية للمحركات، والشركة العربية البريطانية للطائرات. ولدعم الهيئة وتخفيض تكلفة إنتاجها، أعلن وزير المالية المصري أحمد أبو إسماعيل في سبتمبر 1975 إعفاء أنشطتها ووارداتها من الضرائب والرسوم الجمركية.
سعت الهيئة العربية للتصنيع إلى تطوير كوادرها الفنية. فأرسلت ألفين وخمسمئة فني ومهندس عربي إلى الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية للتدريب والتعليم. وأنشأت "المعهد العربي للتكنولوجيا الجوية" في القاهرة بمساعدة خبراء أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين، وكذلك "معهد الدراسات الفنية" في الظهران بالسعودية، وفقاً للاتفاقيات البريطانية السعودية الموقّعة بين سنتَي 1973 و1977.
انعكست هذه التوترات على الهيئة العربية للتصنيع. لم تكن ردود الفعل الأولى عنيفة، إذ واصلت الدول المشاركة تمويلَ الهيئة والموافقة على التعاقدات الجديدة طوال سنة 1978. بيد أن قرار القمة العربية، التي انعقدت في بغداد في نوفمبر 1978، مقاطعةَ مصرَ اقتصادياً أنهى هذا التمويل. وفي بداية سنة 1979، ومع اقتراب توقيع معاهدة السلام، أعلن وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز توقف الهيئة العربية للتصنيع وجميع مشروعاتها بحلول الأول من يوليو. إذ قررت السعودية سحب حصتها من رأس مال الهيئة، وتشكيلَ لجنة خاصة للإشراف على تصفيتها وإلغاء جميع تعاقداتها الجارية، التي بلغت قيمتها نحو ستمئة وخمسين مليون دولار.
انتهت الخلافات إلى انسحاب الشركاء الخليجيين من الهيئة العربية للتصنيع. في الرابع عشر من مايو سنة 1979، اجتمع ممثلو السعودية والإمارات وقطر في مقر الهيئة في باريس، وقرروا الانسحاب منها. رفضت الحكومة المصرية القرار، وأعلنت على لسان وزير دفاعها كمال علي حسن مخالفتَه القانونَ الدولي. وفي الثامن عشر من مايو، أصدر السادات قراراً جمهورياً قضى ببقاء الهيئة اعتبارياً واستمرارها في مزاولة نشاطها، واقتراح تصفية ممتلكاتها بوساطة البنك الدولي للإنشاء والتعمير لإعادة مخصصات كل دولةٍ ودياً.
واجه قرار تصفية الهيئة العربية للتصنيع صعوباتٍ حالت دون تطبيقه. مع صدور القرار، نقلت جريدة الأنباء الكويتية عن رئيس الهيئة الشيخ فيصل بن سلطان القاسمي أن الهيئة أنفقت مئتي مليون دولار من رأسمالها على استثماراتٍ ومعداتٍ أعلنت مصر ملكيتها لها، واستثمرت باقي رأس المال ودائع في بنوك مختلفة. ودخلت الهيئة نزاعاتٍ قضائيةً مع أطرافٍ متعددة، منها شركة ويستلاند البريطانية، التي طالبت الهيئة بمئتي مليون جنيه إسترليني تعويضاً عن العقود الملغاة. ولم تَسلم حكومات الدول المنسحبة من الهيئة من الملاحقة القضائية، لأنهم أطرافٌ في العقود المبرمة. فجُمّدت أموال الهيئة العربية للتصنيع لحين حسم النزاعات. وبحلول سنة 1988، بلغت هذه الأموال ستمئة وخمسين مليون دولار، موزعةً على ثمانية عشر بنكاً في ثماني دول.
استغرق إنهاء هذه الخلافات عقداً ونصف. وفي سنة 1994، اتفقت مصر مع الدول المنسحبة من الهيئة العربية للتصنيع على تنازلهم عن الأصول والودائع مقابل تحمّلها المسؤولية الكاملة أمام المحاكم الدولية في قضية شركة ويستلاند، وأصبحت الهيئة ملكيةً مصريةً خالصة.
أعادت الحكومة المصرية هيكلة الهيئة العربية للتصنيع بعد انسحاب الشركاء. أقرّ البرلمان قانوناً في يوليو سنة 1979 حوَّل الهيئة مؤسسةً مصرية، وعيّن لها مجلس إدارة ضمّ بين أعضائه نائب محافظ البنك المركزي ومساعد وزير الدفاع ووكيل وزارة المالية ونائب رئيس الجمهورية. وعُيّن أحمد زندو، رئيس البنك المركزي المصري السابق، رئيساً لها.
استمرت الهيئة العربية للتصنيع في إنتاج السلاح. لم يكن استمرارها في أداء دورها سهلاً، إذ لم يكن لديها بعد انسحاب الشركاء العرب إلا أربعون مليون دولار أمريكي رأسَ مالٍ تباشر به عملها، إضافةً إلى مئتي مليون دولار استُثمروا في البنية التحتية والمعدات الجديدة، بحسب صايغ.
استعانت الهيئة العربية للتصنيع بالخبرة والتقنية الفرنسية. يروي صايغ اتفاقَ الهيئة مع فرنسا سنة 1979 على شراء أربع طائرات ألفا جيت الفرنسية. اشترط الاتفاق تجميع مصانع الهيئة أجزاء من نفس طراز الطائرات في مصر، وتصنيع بعض أجزاء المحرك، ومراقبة فرنسا جودة الإنتاج لإعادة تصديره لشركة "داسو بروجيه" الفرنسية. وفي سنة 1982 اشترت الهيئة عشرين طائرة من طراز ميراج 2000، في إطار عقدٍ سَمح لها بالتجميع المحلي للطائرة بمجرد بدء تسليم الطائرات سنة 1984. وحصلت على إذنٍ بتسويق هذه الطائرات محلية التجميع في الشرق الأوسط وإفريقيا.
قصرت الصفقة عن تطوير صناعة تجميع الطائرات في مصر. إذ حالت الصعوبات المادية دون إتمام الاتفاق على شراء القوات الجوية المصرية، المشتري الرئيس لإنتاج الهيئة، الدفعةَ الثانية من طائرات ميراج 2000. ولم يقتصر تأثير المقاطعة العربية على سحب تمويل الهيئة العربية للتصنيع، بل امتدت آثاره لتشمل قدرتها على بيع منتجاتها. في أغسطس 1986 اشتكى وزير الدفاع المصري المشير محمد أبو غزالة من إحجام الدول العربية عن شراء سلاحها من مصر، وتفضيلها شراء سلاح مماثل أو أقل جودة وأغلى ثمناً من أوروبا. فانتقد شراء السعودية طائراتِ هوك من بريطانيا، مع إنتاج الهيئة طائرات أفضل. وحين ظهرت فرصةٌ جديدةٌ لنجاح المشروع وبيع الطائرات المصرية بطلب العراق شراءها سنة 1989، اندلعت حرب الخليج الثانية وغزا العراق الكويت. فانضمت مصر للتحالف العسكري الذي حرَّر الكويت، وحال ذلك دون إتمام الصفقة.
هيمنت الولايات المتحدة على سوق السلاح الإقليمي في نهايات القرن العشرين. في مطلع التسعينيات، قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً مكوّناً من خمس وثلاثين دولة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. ومع انتهاء الحرب، انطلقت مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، برعايةٍ أمريكيةٍ أيضاً. ساعدت هذه الهيمنة السياسية والعسكرية الولاياتِ المتحدة في فرض سيطرتها على سوق السلاح الإقليمي. وارتفعت حصتها من اتفاقيات الأسلحة مع الدول النامية من 10 بالمئة سنة 1986 إلى 60.5 بالمئة سنة 1993، بحسب جو ستورك في مقاله "ذي ميدل إيست آرمز بازار آفتر ذي جلف وور" (سوق سلاح الشرق الأوسط بعد حرب الخليج)، المنشور سنة 1995. وبلغ نصيب الشرق الأوسط أكثر من 72 بالمئة من إجمالي مبيعات السلاح الأمريكية بين سنتَي 1990 و1993.
ساهم اللجوء إلى السلاح الأمريكي والغربي عموماً في إضعاف الهيئة، حتى بعد عودة العلاقات المصرية العربية. عادت مصر للجامعة العربية في عهد الرئيس محمد حسني مبارك سنة 1989. ومع ذلك، ظل الإحجام العربي عن شراء منتجات الهيئة العربية للتصنيع قائماً. ففي الفترة بين سنتَي 1988 و1989 اشترت السعودية الطائرات المروحية "بيل 406 سي" بدلاً من طائرة "إيروسیاسیال 342 إل" التي تُجمَّع في مصر، واشترت الإمارات طائرة ميراج من فرنسا بدلاً من شرائها من مصانع الهيئة في مصر. وطلبت سلطنة عمان شراء طائرة التدريب والمساندة الأرضية هوك بدلاً من "ألفا جيت" التي تجمعها الهيئة. وكذلك كان الحال في الكويت، التي اختارت طائرة "توكانو" البريطانية الصنع بدلاً من المصنوعة في مصر.
وعلى جدية هذه المشكلات، كان الخطر الأكبر الذي يهدد الهيئة العربية للتصنيع خسارتَها عميلها الأكبر، الجيش المصري. قضت بنود اتفاقية كامب ديفيد بتقديم الولايات المتحدة معونةً سنويةً لمصر وإسرائيل. فحصلت مصر على 2.1 مليار دولار سنوياً، منها 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية تشتري بها مصر أسلحةً أمريكية. فتزايد اعتماد الجيش المصري على السلاح الأمريكي. وبحلول التسعينيات كانت حاجة الجيش للأسلحة المصنّعة في الهيئة محدودةً، بحسب دراسة نشرها جيريمي شارب سنة 2017 بعنوان "إيجيبت: باكغراوند آند يو. إس. ريلاشنز" (مصر: خلفية والعلاقات الأمريكية). ومع تضاؤل الإقبال على منتجاتها، زادت الخسائر المادية للهيئة.
أمام هذه التحديات، لجأت الهيئة العربية للتصنيع إلى التوسّع في الصناعات المدنية لتعويض خسائرها. استفادت الهيئة من قرار الإعفاء من الجمارك والضرائب، ومن الشركات التي أسستها مع أطرافٍ أخرى في بداية وجودها، وأعادت توظيف مصانعها للإنتاج المدني. فتحولت الشركة العربية الأمريكية للسيارات، التي تأسست سنة 1977 بمشاركة الهيئة وشركة أميريكان موتورز، إلى إنتاج السيارات المدنية. وفي سنة 1982، بدأت الشركة إنتاج سيارات جيب شيروكي للجيش والسوق المصريين، ووصل إنتاجها سبعة عشر ألف سيارة سنوياً بحسب تصريحات مديرها السابق اللواء حسين مصطفى سنة 2012. وأنتج مصنع الهيئة للإلكترونيات، المُنشَأ سنة 1979، الهواتفَ وأجهزة التلفزيون وأجهزة استقبال الأقمار الصناعية تحت العلامة التجارية بلوتو. وفي سنة 1998، اشترت مصانع الهيئة الشركةَ العربية للأخشاب وأعادت تسميتها مصنع أخشاب أبو زعبل "اتيكو"، الذي أنتج الأخشاب المضغوطة والأرضيات الخشبية والألياف الزجاجية بحسب الموقع الرسمي للهيئة العربية للتصنيع.
تحوّلت مصانع إنتاج السلاح تدريجياً إلى مصانع مدنية. فتأسس مصنع "قادر" باسم "مصنع طائرات هليوبوليس" سنة 1949، بهدف إنتاج طائرات التدريب الابتدائية. وفي العقد التالي استُخدم في إنتاج طائرات التدريب ذات التصميم الألماني، ثم تحوّل لتجميع طائرة التدريب البرازيلية "توكانو"، مع تصنيع مدرعات نقل جنود وقنابل جوية ذات تصميم ألماني ومحلي. وفي سنة 1995، اتجه المصنع إلى الإنتاج المدني. فبدأ تصنيع عربات الإطفاء والمعدات الزراعية، قبل أن يبدأ تصنيع التجهيزات الداخلية لعربات السكك الحديد سنة 2003. لم يكن مصنع قادر الحالة الوحيدة. في سنة 2009، أنشأت الهيئة العربية للتصنيع مصانع تجميع محلي لأجزاء محطات الطاقة الشمسية وشرائح توليد الطاقة بالرياح. وفي يوليو سنة 2013، أسست الشركة العربية للطاقة المتجددة.
تمنع عوائق متعددة نجاحَ مساعي التسليح العربي، أهمها اختلاف أهداف الدول ذات التأثير. بحسب دراسة غوب ولوكمان، تحدِّد مصر أولوياتها وفقاً لاعتباراتٍ اقتصادية. فيما تهدف دولٌ أخرى، مثل السعودية، لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة باستيراد السلاح من جهاتٍ أخرى، لا تصنيعه. أما الإمارات، فتحاول تقليل هذه الاعتمادية بالاستحواذ على حصصٍ كبيرة في شركات السلاح. ومع تباين هذه التوجهات والأولويات، يبدو مشروع التسليح العربي حلماً بعيد المنال.
