احتفت صفحات مؤثّرين ومهتمين بالتراث والتاريخ القديم لقرطاج بنتائج البحث المنشور بعنوان "بونيك بيبول وير جينيتيكالي دايفرس ويذ أُلموست نو ليفانتين أنسيستورز" (البونيّون كانوا متنوعين جينياً بلا أجدادٍ من الهلال الخصيب تقريباً)، ووجدوا أن تلك النتائج تؤكد "أصالةً" قرطاجيةً ما. وكان من بين المحتفين صفحاتٌ وأشخاصٌ منسوبون إلى تيارٍ يتخذ من قرطاج مركزاً لتشكيل هويةٍ تونسيةٍ جديدةٍ مغايرةٍ لكلّ الهويات العربية أو الأمازيغية أو الإسلامية. هويةٌ قوامها الانتماء لقرطاج لا غير، وكأنها منجَزٌ ثابتٌ ومتواصل. هذا التيار بات يدعى "القرطاجيون الجدد". وأتى بحث مجلة "نيتشر" ليزيد من حدّة هذا الشعور القومي، فهو دليلٌ علميٌ يساند تصوراً عرقياً، ويبلور رؤيةً تعيد سرد التاريخ وعلم الآثار والخطاب السياسي.
لم يظهر القرطاجيون الجدد من العدم، ولا هم في سياقٍ منعزلٍ عن محيطهم الذي ترتفع فيه أصواتٌ مثيلةٌ في مصر ولبنان والجزائر. ولكن تلك الحركة القومية التونسية تختلف في أنها تمثّل امتداداً لتصوّرٍ ورؤيةٍ للمدينة عمرها أكثر من اثنين وعشرين قرناً، ارتباطاً بصورة المدينة والحضارة التي أنشأتها. هذا التصور تأسّس على اللحظة التي دمّر فيها الرومان المدينةَ المهزومة في آخِر حربٍ معهم منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرّ مع توالي الغزاة من إغريقٍ وعربٍ وفرنسيين. ثم مع حكم التونسيين أنفسهم بشتّى مرجعياتهم ونظمهم السياسية، وصولاً إلى هذه اللحظة.
فرضت التحديات والأحلام السياسية لكلّ مرحلةٍ مرّت بها قرطاج والبلاد التونسية إعادة تشكيل المدينة على الورق ووسط الأطلال والصخور، لتُبعث من جديدٍ، مرّةً مسيحيةً ومرّةً مشرقيةً ومرّةً أخرى منفصلةً عن كلّ ما سبق. وفي كلّ مرّةٍ، دفعت المدينة من ذاكرتها وآثارها ثمناً لكلّ تصورٍ جديدٍ عن هويتها.
يشير المؤرخ التونسي محمد فنطر في مقالته "كارثاج ثرو ذي آيز أوف غريس أند روم" (قرطاج في أعين اليونان وروما) نشِرت سنة 1970، إلى أنّ مؤرخي العالم القديم لم يدرسوا قرطاج لِذاتها ولم يَسْعَوا لتدوين تاريخها إلّا حين يتقاطع مع تاريخ اليونان أو روما حربياً. ولعلّ أهمّهم ديدور الصقلّي المتوفى سنة 30 قبل الميلاد، وصاحب العمل الضخم "مكتبة التاريخ". فقد كتب عن قرطاج القديمة وخاصةً صراعها مع أغاثوقليس، الملقّب طاغية سرقوسة (سيراكوز) جنوب شرق صقلّية، في حربٍ دامت سنواتٍ في القرن الرابع قبل الميلاد، وكاد فيها الحاكم اليوناني أن يظفر بانتصاراتٍ حاسمة.
تكمن أهمية حديث ديدور عن هذا الصراع، في أنه أول مؤرخٍ يشير إلى عادة تقديم القرطاجيين أطفالَهم أضاحيَ بشريةً للآلهة. إذ روى أن عائلات المدينة النبيلة، وهبت أكثر من مئتي طفلٍ من أطفالها قرابينَ للإله بعل حمّون، عسَى أن يغفر أخطاءهم ويصحِّح مسار الحرب. ووفقاً لرواية ديدور، كان الأطفال يُلقَون في حفرةٍ عميقةٍ من النيران المشتعلة أمام تمثال الإله بعل حمّون.
لم يكن الإغريق وورثتُهم الرومان أول من تحدّث عن هذا الطقس، وإنما سبقهم لذلك العبرانيون في نصوص التناخ. فقد تحدثوا عن أن الكنعانيين عامةً، الأمّة التي ينتمي لها الفينيقيون، درجوا على تقديم أطفالهم أضاحيَ للإله مولوخ. وتواصل استرجاع قصة القرابين البشريَّة في أدبيات الإغريق ثم الرومان، وحتى الكتّاب المسيحيون الأفارقة مثل ترتليان في القرن الثالث الميلادي. وكان ذلك الاستدعاء سبيلاً للمؤرِّخين لتصوير قرطاج مدينةً هائلةً غارقةً في الوحشية والهمجية. ولكن كان الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير هو من رسّخ تلك الرواية حديثاً في جمعِهِ بين الروايتين العبرانية واليونانية.
وصل غوستاف فلوبير سنة 1857 إلى أطلال مدينة قرطاج. هناك استفاد من الاكتشافات الأثرية الجديدة لحضارة الفينيقيين في غرب البحر المتوسط، بدايةً من مرسيليا وإسبانيا ووصولاً لقرطاج. استفاد فلوبير في بحثه من الدراسات اللغوية التي حاول واضعوها تفكيك ملامح الفينيقية المحكيَّة في قرطاج. وفي هذه الأجواء حيث اختلط علم الآثار بنظرياتٍ وأفكارٍ موروثةٍ عن العهد القديم، كتب فلوبير روايةً من أشهر أعماله، ومن عيون الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، وهي رواية "صلامبو" المنشورة سنة 1862.
تدور أحداث الرواية في الحروب البونية (البونيّون هم امتزاج الثقافة اللوبية، أي الليبية القديمة، بالثقافة الفينيقية) القديمة بين قرطاج وخصومها الرومان حتى سنة 146 قبل الميلاد. وفي الرواية كرّر فلوبير مقولة ديدور الصقلّي في لجوء القرطاجيين للتضحية بأطفالهم، ولكن هذه المرّة لاسترضاء الإله مولوخ لا بعل حمّون، لينصرهم على الرومان. وقد استلهم الروائيُّ ذلك من نصوص العهد القديم، مستعملاً عبارةً عبريةً لوصف مكان التضحية "توفاة".
ليس ثمّة نصٌّ أو نقشٌ بونيٌّ يحتوي على عبارة "توفاة" هذه. ولكنَّ هذا من أثر سطوة "صلامبو"، أو سلامبو كما تكتب في المشرق، التي تجاوزت شهرتها عالم الأدب لتشمل التصورات عن تونس وقرطاج القديمة في كلّ مجالات الفنّ والثقافة وحتى علم الآثار. إذ استضاف متحف باردو، أكبر متاحف تونس وأهمُّها، بدايةً من سبتمبر 2024 معرضاً خاصاً امتدّ خمسة أشهرٍ تحت عنوان "صلامبو: من فلوبير إلى قرطاج". كان العرض تتويجاً لعملٍ مشتركٍ بين المتحف التونسي ومتحف روان الفرنسي ومتحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط. واحتوى العرض على مسوداتٍ وخرائط ومخطوطاتٍ استعان بها فلوبير لكتابة روايته، غير أنّ الحيز الأكبر منه خُصِّصَ لأثر "صلامبو" في الثقافة الأوروبية وتمثّلها قرطاج القديمة. فنجاح الرواية حوّلها لمسرحياتٍ ثمّ أفلام. وتفنّن المصمّمون في اختراع أزياء غرائبيةٍ لممثّليها. ونحِتَت التماثيل ورسِمت عشرات اللوحات للبطلة صلامبو ولمشاهد حرق الأطفال.
جاءت رواية "صلامبو" في فترةٍ بلغت فيها الحركة الاستشراقية مداها الأبعد. إذ يكفي أن نعاين بعضاً من اللوحات المرسومة للرواية، كي نلاحظ اتّباعها السمات والأفكار نفسها التي عمرت بها لوحات المستشرقين. مثالٌ على ذلك لوحة "صلامبو تصدّ ماثو" التي رسمها الفنان جورج روشغروس لطبعة سنة 1900 من الرواية، والتي لا تختلف في أجوائها عن لوحات الحريم الملكي وأمراء المُور في قرطبة وغرناطة، التي اعتاد المستشرقون رسمها في القرن التاسع عشر.
في نظر الأوربيين لم تكن قرطاج سوى خصمٍ قديمٍ من هذا الشرق. لكن يكمن الفارق هنا في أن العداء القديم مع قرطاج أمدّ الأوروبيين المتأخرين بنصوصٍ استشراقية الطابع من قَبل أن يُستحدَث الاستشراق نفسه. فنصوص ديدور الصقلّي لم تخلُ من نبرةٍ هجوميةٍ واستعلائيةٍ ضدّ البرابرة الواقعين خارج العالم اليوناني الروماني. ووجد نظراؤه من المؤرخين الرومان أن قرطاج على القدر نفسه من الأهمية والإرباك، إذ إنها المدينة التي هدّدت روما في وجودها ذات يومٍ، عندما قاد القرطاجي حنّبعل جيشاً جراراً عبر جبال الألب وانتصر على الرومان في معارك كثيرةٍ وكاد يصل مشارف روما. وبين سنتَيْ 264 و 146 قبل الميلاد عاشت المدينتان حالةً من التهديد المتبادل الذي لم ينتهِ إلا بإبادة قرطاج وأَسر قائدها.
ضريبة الانتصار كانت باهظةً، فقد أحرق الرومان ما كان بالأمس أكبر مدن غرب المتوسط وأثراها وأكثرها تحضراً. وبالتالي كان عليهم أن يجدوا سبيلاً للتعايش مع وزر هذا الفعل القاسي. وهكذا استعاد مؤرِّخو روما ما سبق أن ذكره الإغريق عن عادات الفينيقيين المتوحشة ضدّ أطفالهم. بينما ذهب آخَرون لما هو أبعد، وعلى رأسهم بوبليوس فرجيل، أكبر شعراء اللاتينية في القرن الأول قبل الميلاد. فقد كتب فرجيل "الإنيادة"، الملحمة التي خلّدت الأسطورة اللاتينية لتأسيس روما، ليحكي قصة البطل الأسطوري "إينياس" الفارّ من طروادة بعد أن تجرّع ومن معه الخيبات والأهوال حتى بلغوا في طريقهم إلى الأرض الموعودة، مدينة قرطاج التي تحكمها الملكة الجميلة ديدون أو عليسة.
احتفت عليسة، ملكة قرطاج، بإينياس وصُحبته وأكرمتهم، ونما بينها وبين إينياس مودّةٌ ثم حبٌّ أشعلته في قلبيهما الربّة الرومانية جونو، عسَى أن تحُولَ بين إينياس وبين تأسيس مدينته المنشودة روما. وعبثاً حاولت الربّة فينوس تثبيط هذه المحبة حتى تدخّل جوبيتر، كبير الآلهة الرومانية، ليذكّر إينياس بأن قدره يقع بعيداً عن قرطاج، فغادر إينياس ومن معه بحراً. أما الملكة المتيّمة لمّا علمت بفراره صعدت المذبح واستلّت سيفاً تركه إينياس وطعنت به نفسها. ووسط حشرجة الموت أقسمَتْ على شعبِها القسمَ المشؤوم بقولها، كما يقول فرجيل في الإنيادة: "هذه هي دعواتي الأخيرة، ألفظها مع دمي. أيها الصوريون، ربّوا سلالتكم على الكراهية، ونشّئوا جميع نسلكم الآتي عليها … إنني لأدعو بالعداء يستقرّ بين الشواطئ والشواطئ. وبين الأمواج واللجج، وبين السلاح والسلاح. وليكونوا هم وأحفادهم في الحرب أبداً".
بهذه العبارات ختم فرجيل العلاقةَ بين الأمّتين نهائياً. وقد برّر بها ما أقدم عليه أجداده قبل جيلين من ولادته في تدميرهم المدينة وقتل أبنائها واسترقاقهم. فحتمية المصير المشؤوم مسطورةٌ من أيام مؤسّسي المدينتين، إينياس وعليسة، والشهود على ذلك مجمع الآلهة قاطبة.
كان بديهياً أن يختار الرومان خراب قرطاج. إذ إنّ سالوست، أحد أقرب المؤرخين عهداً بسقوط المدينة – في القرن الأول قبل الميلاد – أيّد إبادةَ روما قرطاج، وعَدّه أمراً محتوماً. إلا أنه لم ينجح في كبح بقايا حزنٍ على حجم الكارثة التي حلّت بقرطاج، وخوفه من أن تكون خطوةً على طريق انحدار روما وابتعادها عن نظامها الجمهوري وقيمها الأخلاقية، وهو ما حدث بالفعل فيما بعد.
أجبرت هذه النوازع المتناقضة الرومان على محاولة طيّ صفحة المدينة إلى الأبد. فحبّروا الكتب عن بشاعة أفعال خصومهم ونشروا القصص عن لعنة الآلهة لهم ولمدينتهم. أما على أرض الواقع، فقد سوّوا المدينة بالأرض. وعلى الملأ أعلنوا قرطاج أرضاً ملعونةً، يحرَّم على الناس دخولها أو الاستقرار فيها. فظلّت المدينة أرضاً محرّمةً لما يقرب من قرنٍ.
بعد دمارِها ظلّت قرطاج تغوي الرومان بإعادة بنائها، وتحوّلت في القرنين التاليين لتصبح جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، حتى بعد تحوّل الإمبراطورية لتبنّي المسيحية مع نهايات القرن الرابع من الميلاد. في أعقاب خراب قرطاج بعد هزيمة حنبعل وأَسره، حاول الأخوان "غايوس" و"تيبريوس غراقوس" تأسيس مستعمرةٍ قريبةٍ من أطلال قرطاج المحرّمة، بعد ثلاثةٍ وعشرين عاماً من تخريبها سنة 146 قبل الميلاد. وأطلقا على المستعمرة "قرطاج اليونونية" مبتغين عطف الآلهة القرطاجية القديمة "تانيت" بعد أن أصبحت مرادفةً لجونو الرومانية. وفي روما أثارت هذه المحاولة غضب الحزب المحافظ، الذي أشاع بين الناس أن الآلهة غاضبةٌ من انتهاك الأرض الموهوبة لها، وأنّ نُذر شرّها تلوح في الأفق. لاحقاً قُتِل الأخوان وصدر أمرٌ بإزالة المستعمرة بعد سنتين من تشييدها. وبقيت الأطلال جزءاً من ولايةٍ جديدةٍ عُرِفَت بِاسم "أفريكا"، أو إفريقيّة كما عرفها العرب. واتَّخذ الرومان من مدينة أوتيكا العتيقة عاصمةً لها.
وأوتيكا الواقعة شمال قرطاج عند مصبّ وادي مجردة، كانت أقدمَ مستوطنةٍ فينيقيةٍ في تونس، وحليفةَ قرطاج المتخلّيةَ عنها. وطيلة قرنٍ من الزمان بقيت أفريكا ولايةً شبه منسيةٍ إلى حين انطلاق الحرب الأهلية الرومانية بين بومبيوس وأنصاره الجمهوريين من جهةٍ، ويوليوس قيصر من جهةٍ أخرى. وبعد هزيمة بومبيوس سنة 48 قبل الميلاد تفرّق أنصاره في اليونان وتوجّه بعضهم نحو أفريكا، وعلى رأسهم السيناتور كاتو الأصغر. اختار كاتو بعد هزيمته الثانية سنة 47 الانتحار، إذ في غفلةٍ من أتباعه طعن نفسه بخنجره على أعتاب المدينة. في مفارقةٍ مع شعارٍ أطلقه جدّه كاتو الأكبر قبل قرنٍ ونصفٍ، حين دعا لتخريبِ المدينة بقوله: "يجب أن تدمّر قرطاج".
بانتحار كاتو الأصغر خُتم فصل الحرب الأهلية وعمل يوليوس قيصر على إدخال روما عصراً جديداً، زعزع فيه ثوابتها السياسية والدينية على حدٍّ سواءٍ، ومعه تغيّر واقع أفريكا وقرطاج. أحدث يوليوس قيصر من أراضي النوميديين المهزومين ولايةً جديدةً حملت اسم "أفريكا الجديدة" وعيّن على رأسها المؤرخ سالوست والياً. أما قرطاج القديمة فقد بعث فيها قيصر الحياة عندما أذن سنة 44 قبل الميلاد، بأن يعاد الاستيطان فيها تحت اسم "مستوطنة قرطاج الوئامية اليوليّة" نسبةً له. ولكن الموت عاجله قبل أن يتحقق حلمه، فقد اغتيل في مجلس الشيوخ.
نجحت مستوطنة قيصر التي أحيت عمران قرطاج في النجاة، ووفد نحوها في نفس السنة ما يزيد عن ثلاثة آلاف روماني. غير أن تولّي القنصل ليبيدوس حكم أفريكا، أضعف المستوطنة. فقد تخوّف من لعنة أجداده إذا ما حاول المستوطنون التوسع في أرض المدينة المحظورة. ولكن برحيله انتهى عصر المدينة الحرام. إذ حوّل خليفتُه إقامتَه من أوتيكا إلى قرطاج. وبذلك عادت المدينة لمكانتها القديمة، فانبعث عصرٌ ذهبيٌ لقرطاج أخرى جديدة.
نهاية الحرب الأهلية الرومانية سنة 30 قبل الميلاد بين ماركوس أنطونيوس وأوكتافيان – الذي تسمّى لاحقاً أغسطس قيصر – أسفرت عن فائضٍ ضخمٍ من قدامى المحاربين، فوجّههم الإمبراطور أغسطس قيصر نحو قرطاج وسهول أفريكا الخصبة. وهناك تضافرَت مع المستوطنين الجدد حركة التمدّن القديمة وظروفٌ مناخيةٌ ملائمةٌ، لتصنع منذ نهاية القرن الأول نهضةً فلاحيةً وعمرانيةً وتجاريةً كبرى. وصارت قرطاج في بدايات القرن الثاني للميلاد، هي الثانية بين أهمّ المدن في الإمبراطورية الرومانية.
أمسَتْ تلك الأيام ورديةً في تاريخ قرطاج ومجالها الإفريقي. وذكرها في القرن الخامس للميلاد راهبٌ متنسّكٌ اسمه سالفيان المارسيليّ، في كتابه "لو غوفرنوراه دي ديو" (حكومة الربّ) بقوله: "بلدٌ خصبٌ يجري فيه اللبن والعسل … بلدٌ إذا جاز التعبير، كان مترعاً بالكثير من كلّ الملذّات". نفس الجملة اختارها التونسيون في أكتوبر 2023 لتكتب على مدخل الجناح الجديد في متحف باردو، المخصّص لكنز "شمتو" المتكوِّن مما يزيد عن ألفٍ وستمئة قطعةٍ نقديةٍ ذهبيةٍ رومانية.
ينتمي سالفيان، المولود في بدايات القرن الخامس الميلادي، إلى عصر قرطاج وتونس الرومانية المسيحية. فقد أدّى دخول المسيحية، الثابت حضورها منذ أواسط القرن الثاني للميلاد، إلى إحداث تحوّلٍ كبيرٍ في تاريخ البلاد وفي حياة الناس وقيمهم الأخلاقية، كما كتب المؤرخ عمّار المحجوبي في كتابه "البلاد التونسية في العهد الروماني"، المنشور سنة 2016. إذ تراجعت السماحة الدينية التي عُرفت بها الإمبراطورية الرومانية وحلّ محلّها التعصب مع ظهور بشائر الدعوة للمسيحية. صارَت قرطاج معقلاً رئيساً للدين الجديد. في البداية كغيرها من الولايات الرومانية شهدت إعداماتٍ وحشيةً لأتباع الدين الجديد، قبل انتصار المسيحية الباهر في القرن الرابع. ومع صعود المسيحية ظهرت نذر صراعٍ مع الهوية القرطاجية البونية القديمة لِما حملته من إرثٍ وثنيٍّ، خاصةً بشقّه اللاتيني الذي مثّل التهديد المباشر للمدينة في روحها الجديدة.
وحتى قبل احتلال تونس سنة 1881، اشتغلَتْ فرنسا بالنشاط الأثريِّ لإعادة تقديم الهويَّة القرطاجية، بالتأكيد على مسيحيّتها. وظهر هذا الاهتمام في أدبيات المبشّرين والرحّالة والمستكشفين والمنقّبين عن الكنوز والآثار، على امتداد قرنين أو أكثر. غيرَ أنَّ هذه الأدبيات لم تعكس بالضرورة مشروعاً واحداً، إذ جاءت خليطاً جمعَ الفنانين بالمغامرين والراغبين في تحصيل الثروة والجواسيس ورجال الدين المؤمنين بضرورة تنصير شمال إفريقيا من جديد. وهو ما تَشاركه الفرنسيون آنذاك مع كثيرٍ من الأوروبيين من إيطاليا حتى الدنمارك.
كان الفارق أنّ الفرنسيين شرعوا مبكراً في تنظيم عملهم، فنشأت في باريس سنة 1837 شركة "استكشاف قرطاج". ولعلّ أبرز اسمٍ يختزل هذه الحقبة ويظهر أثرَها في تشكيل الصورة التي رسمها المستشرقون لقرطاج وهويتها – إلى جانب فلوبير – هو الأب فرنسوا بورغاد، المتوفّى سنة 1866. بدايةً جاء الأب إلى تونس في مهمةٍ تبشيريةٍ مشرفاً على كنيسة ضريح القديس لويس المبنية على هضبة بيرصا في أعلى قرطاج. ولكنه سرعان ما وجد نفسه أمام أطلال الكنائس والنقائش الوثنية اللاتينية والفينقية الباقية من أثر مستوطنة أفريكا القديمة. وعاين الفسيفساء المهملة وغير المكتشفة. عندها وجّه نداءه: "أصدقاءَ التاريخ والأيام العتيقة، إن قرطاج أرضٌ خصبةٌ لم تُكتشَف … أصدقاءَ الحضارة، إننا في الطليعة، فساعدونا". وبالفعل بدأت الحفريات المنظَّمة تحت إشرافه وبتمويلاتٍ فرنسيةٍ، شرط مقاسمته كلَّ ما يُستخرَج من آثار.
أَجْرَت كليمنتين غيترون، مسؤولة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، دراسةً بعنوان "لابي بورغاد 1806-1866، كرتاج إي لوريون" (الأب بورغاد 1806-1866، قرطاج والشرق) نشرت سنة 2005. أشارت غيترون في دراستها إلى أن مشروع الأب بورغاد الأثري لم يكن نشاطاً عارضاً وسط نشاطه التبشيري والتعليمي، بل كان "امتداداً حيوياً وضرورياً لمحاولة خلق حالةٍ من الانسجام والحوار بين الشرق والغرب". وسط الخرائب القرطاجية حاول الأب استنساخَ حالة التعايش المتخيَّل في المدينة في حلّةٍ معاصرةٍ، عندما وضع كتابَه "مسامرات قرطاج"، وهو عملٌ ضخمٌ فيه حواراتٌ ومناظراتٌ لاهوتيةٌ تدور في قرطاج بين اثنين، أحدهما قسٌّ مسيحيٌّ والآخَر قاضٍ ومُفْتٍ للمسلمين، وقد نقله إلى العربية سليمان الحرايري سنة 1850.
صحيحٌ أن جلّ مناظرات الأب تنتهي بانتصارٍ مسيحيٍّ، إلّا أنها لم تنتمِ صراحةً لصنف الجدل الديني المحتدم القديم، وإنما لمشروعٍ آخَر يميل لبعث حالةٍ من التعايش والحوار. هذا ما كان يأمله بورغاد قبل أن يعفيَه البابا بيوس التاسع سنة 1858 من مهامّه، بسبب ميوله لبناء مقاربةٍ تعليميةٍ متعدّدة العقائد. اضطرّ الأب في النهاية لمغادرة تونس تاركاً إرثاً متنوعاً، بدايةً من مؤلَّفه اللاهوتي الضخم، وأبحاثه اللسانية والأثرية التي استفاد منها كلّ من لحقه، وعلى رأسهم فلوبير. وقد كانت خلاصة تركتِه مجموعة الآثار الفريدة التي صارت سنة 1875 نواةً لمتحف قرطاج، أقدمِ متاحف البلاد التونسية، الذي أسّسه رفاق بورغاد في جمعية الآباء البيض التبشيرية.
تغيّرت أولوية الفرنسيين بعد الأب بورغاد، ولم تعُد فكرة حوار الأديان والتعايش على أرض قرطاج محلّ اهتمامهم. وعوضاً عنها حلّت أولوياتٌ أخرى أكثر حماسةً يذكي نارَها القرار الحاسم بأوان احتلال تونس. فقد أرادت فرنسا "إحياء قرطاج الرومانية واسترجاعها". وحفّزها من أجل ذلك الألمان والإنجليز، حتى إن وزير الخارجية الإنجليزي روبرت سيسيل يُنسَب له أنه همس في أذن نظيره الفرنسي، إبّان مؤتمر برلين سنة 1878 بالقول: "لا ينبغي لكم ترك قرطاج بين أيدي البرابرة". حسمَ مؤتمر برلين مصير تونس في السياق الاستعماري، لتكون من نصيب فرنسا. فلم ترَ فرنسا في نفسها منذ الثورة الفرنسية سوى "روما العائدة"، ووجدت في الاستيلاء على تونس استعادةَ قرطاج القديمة التي عدّتها حقَّها وملكَها ومجالَها الإفريقي.
لم تقتصر الرؤية الفرنسية على السياسات الثقافية والأثرية لاستعادة تونسَ قرطاجيةٍ رومانيةٍ، وإنّما كانت مبرّراً حتى لأكثر الخيارات حداثةً ورأسمالية. فمن أجل التبرير والتشريع لطرد قبائل البدو العربية من أرياف صفاقس وتحويلها لمزارع استعماريةٍ ضخمةٍ، خطب بول بورد، أحد أكبر دعاة التوسع الزراعي الاستعماري في تقريرٍ موجّه للسلطة الاستعمارية سنة 1893، بالقول: "إن هدف إدارة الزراعة هو إعادة بناء غابة الزيتون التي كانت تحيط بمدينة صفاقس في العصر الروماني، والتي دمّرها البدو العرب".
عدَّ الفرنسيون الأرضَ التونسية رومانيةً بالأساس وعريقةً في التحضر، لولا الخطأ التاريخي المتمثل في الإسلام والعرب، وهو الخطأ الذي وجب عليهم تصحيحه. وبهذا لم يتّخذ نشاط المستعمِرِ التبشيري والتنويري ذلك الطابع الهادف للتجاوز نحو الأمام، بقدر ما كان مسكوناً بالعودة للخلف واسترجاع الماضي، والثأر منه إن استوجب ذلك.
بلغ المجدُ الاستعماري الفرنسي لبلاد المغرب أوجَهُ سنة 1930. إذ مرّ مئة عامٍ على احتلال الجزائر، وأُخمِدت في تونس والمغرب حركات المقاومة. ومن بعيدٍ تكشّف المشهد، وكأن المغرب الكبير سيكون فرنسياً إلى الأبد. وفي سبيل الاحتفاء بهذه اللحظة المجيدة، تقرّرت الاحتفالات في سائر المستعمرات الثلاث. في الجزائر جاءت الاحتفالات بغطاءٍ مدنيٍ ولكن بروحٍ دينيةٍ، كما كتب المؤرخ الجزائري شمس الدين شيطور في كتابه "هيستوار دو لالجيري، دو لا ريزيليونس ألاكات دو مودرنيتي" (تاريخ الجزائر، من الصمود إلى البحث عن الحداثة) الصادر سنة 2018. أما في تونس فأخذت الاحتفالات طابعاً دينياً مباشراً مع إعلان انعقاد المؤتمر الأفخارستي بين السابع والحادي عشر من مايو 1930.
ظهرت المؤتمرات الأفخارستية في فرنسا أوّل مرّةٍ تظاهرةً كاثوليكيةً ضخمةً للصلوات وإلقاء المحاضرات وإنشاد الترانيم، بحضور الآلاف احتفالاً بسرّ القربان أو الأفخارستيا، أحد أهمّ طقوس الإيمان المسيحي المتمثل في تناول الخبز والنبيذ، كنايةً عن جسد المسيح ودمه. وفي سنة 1930، كانت قرطاج أوّل مدينةٍ في شمال إفريقيا يختارها المستعمرون للاحتفال بهذا الطقس.
كان الخيار خطيراً، فوفقاً لوضع البلاد التونسية قانونياً لم تكن مستعمرةً خاضعةً للحكم الفرنسي المباشر، بل محميّة. وبالتالي فإن حدثاً بمثل هذا الحجم يتطلب موافقةً شكليةً من السلطة الشرعية في البلاد، أي الباي المسلم أحمد الثاني، وهو ما تمّ في النهاية. وحضر باي تونس أشغال المؤتمر الافتتاحية ومعه وزراء ومشايخ الإسلام كالمفتي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو الموقف الذي لم يَنْسَه خصوم الشيخ فيما بعد، أثناء الاستعمار وحتى بعد الاستقلال.
فوق هضبة بيرصا ووسط أطلال قرطاج، افتُتحت فعاليات المؤتمر بخطابٍ لكاردينال قرطاج، الذي لم يتردّد في المجاهرة بأن "المؤتمر الأفخارستي حملة صليبية، من الحب والسلام، تباركها روح القديس لويس" وهو الملك لويس التاسع الذي مات في تونس بعد خروجه من الأسر في مصر إثر هزيمة حملته الصليبية في القرن الثالث عشر. ومع انتهاء خطاب الكاردينال والكلمات الافتتاحية التي تلته، انطلق آلاف الأطفال والشبّان في أثوابٍ بيضاء وُشِّيَت صدورها بالصلبان. وعلى شاكلة فرسان العصور الوسطى، تقدموا بين أطلال المدينة في مسيرةٍ تحاكي جيوش لويس أثناء الغزو. وفي المسرح الدائري الروماني القديم، بلغت الاحتفالات والمسيرات الصليبية أوجها. وقد كُتِب في نشرةٍ وزِّعت خصيصاً لفعاليات المؤتمر: "إن هذا المسرح، هو صنوٌ لكوليزي [الكولوسيوم] روما، وقد دمّره العرب في القرون الخوالي".
لم يكن هذا التركيز على العرب والمسلمين عارضاً، إذ لم يترك المتحدثون في المؤتمر فرصةً إلا وعرّضوا فيها بالعرب المهزومين والانحدار الحضاري الكبير لقرطاج في "أربعة عشر قرناً من الأسى والموت" على حدّ عبارة الكاردينال ليبسيي، المفوَّض الرسوليّ للبابا. ولكن المفارقة تكمن في أن هذا الخطاب العدائي تزامن مع مواصلة الحلم الطموح بتنصير السكان المحليين. فقد كانت منشورات التبشير توزّع بالتوازي، ويُدفع بجماهير المشاهدين الفضوليين من التونسيين نحو الواجهة لتلتقط الصحف الفرنسية صورهم.
بذلك جاء المؤتمر الأفخارستي خليطاً من كلّ شيءٍ: الرغبة في الاحتفاء بالتمكين النهائي لفرنسا في مستعمرتها، والرغبة في الثأر من هزائم الماضي، وإقرار التفوق الديني والحضاري الأوروبي. وفي الوقت نفسه إدماج المحليّين. وهي جميعاً مطامح لم تتحقّق كما كان متوقعاً، بل ربما ما تحقّق كان نقيض ذلك.
في مقالٍ له بعنوان "المؤتمر الأفخارستي بقرطاج وتطور العمل بتونس" نُشِر سنة 2016، وجد المؤرِّخ محمد السعيد عقيب، أن المؤتمر "أعاد للنشاط الوطني التونسي زخمه"، بعد أن عرف ركوداً طويلاً إثر سياسة التضييق الفرنسية منذ سنة 1926. لم تأتِ ردود الفعل الغاضبة في تونس من القيادات الدستورية العليا، ولكن من الأوساط الشعبية والوسطى والطلاّبية.
ثمّة وثيقةٌ نادرةٌ عنوانُها "ظاهرةٌ مريبةٌ في سياسة الاستعمار الفرنسي" جمعتها صحيفةٌ وطنيةٌ اسمها "مكتب الأخبار التونسية" وأرسلت للنشر سنة 1930 في مصر. تمنحنا تلك الوثيقة تسلسلاً دقيقاً للأحداث من منظور التونسيين المسلمين. وحمل التقرير عنواناً فرعياً "هل تُمثّل الأندلس في شمال إفريقية؟ الحملة الصليبية التاسعة في المؤتمر الأفخارستي". تعامل التقرير مع هذا الحدث أنه حملةٌ صليبيةٌ أخرى تهدّد البلاد والإسلام واللغة العربية. ومنذ اليوم الأول الذي وصلت فيه لميناء حلق الوادي أول دفعةٍ من الرهبان الكاثوليك القادمين للمشاركة، أعلن عمّال الميناء الإضراب وساندهم في ذلك تجّار مدينة تونس وحرفيّوها. ولم ينتهِ اليوم إلّا وطلبة جامع الزيتونة، أهمّ مؤسسة تعليمية في البلاد، في إضرابٍ عامٍّ مثّل مركزاً لتلك الاحتجاجات .
امتدَّت المظاهرات لتشمل طلبة المدرسة الصادقية، وهي المدرسة التونسية العصرية، والمدارس الفرنسية مثل معهد "ليسي كارنو" الذي عرف انشقاقاً لم يحدث من قبل. إذ غادر طلبته المسلمون للمشاركة في المظاهرات "الهاتفة بحياة الإسلام والوطن". وإلى جانب المظاهرات، خاضت الصحافة الوطنية معركة التنديد بالمؤتمر والمشاركين فيه، واشتهر من بين أقلامها المحامي الشابّ الحبيب بورقيبة الذي سطع نجمه، ونال شرعية النضال والوطنية. وما بدأ مؤتمراً يرفع شعار "إحياء عظمة قرطاج المسيحية"، تحوّل إلى شرارةٍ جدّدت الدماء في حركة نضالٍ خاملةٍ، وقادت طريقها نحو الاستقلال سنة 1956. لتُبنى دولةٌ جديدةٌ كانت لها رؤيتها الخاصة لقرطاج.
في كتاب القراءة للسنة السادسة نصٌّ عنوانه "بطل من قرطاج"، وهو مقتبسٌ من كتاب الأديب المصري محمد كامل حسن المحامي "هانيبعل فاتح أوروبا" المنشور سنة 1988. وهانيبعل في النصّ المصري هو حنّبعل في النصّ التونسي. أما عليسة، الأميرة الفينيقية الأسطورية التي يُنسَب لها تأسيس قرطاج، فتظهر في نصّين للسنة الخامسة والسادسة. وفي كلّ نصٍّ تحلّ الأميرة بشواطئ مختلفة. ففي النصّ الأول تنزل عليسة على "شاطئ جميل وخليج واسع … كانت تلك أرض إفريقية" وفي النصّ الثاني تنزل على "السواحل التونسية بنخيلها الباسق ورمالها الباسقة". ليعكس اسم تونس قلباً حقيقياً للأحداث، إذ لم تظهر مدينة تونس إلا سنة 698، ولا عمّمت تسميتها على المجال التونسي عامةً إلّا إثر إلحاقها بالدولة العثمانية بعد سنة 1574. وهي حقائق يبدو أنها تربك الرواية المراد إيصالها من النصّ، أيْ تعميق إحساس الانتماء لتونس عند الطفل. فقرطاج تمثّل مرحلة فخرٍ واعتزازٍ على التونسي أن يتشرّبها، ولكنها تبقى في النهاية حلقةً ضمن حلقات منجَزٍ حضاريٍ أشمل وأهمّ، ألا وهو تونس.
هكذا يبدو نصّ "أحلم باكتشاف كبير" الذي أذكره من كتاب السنة الثامنة من التعليم الأساسي، جزءاً من منظومةٍ فكريةٍ تونسيةٍ تعيد تأويل قرطاج. فهو يروي قصة باحثةٍ في الآثار تشرف على التنقيب في موقع قرطاج الأثري، ويحدوها الأمل باكتشاف موقع الحصن القرطاجي البوني القديم تحت هضبة بيرصا. يروي بوليبيوس المؤرخ الرئيس للحروب البونية، في تاريخه "هيستورياس" المنقول إلى الإنجليزية سنة 1889، أنّ الحصن كان آخِر موقعٍ لمقاومة الغزاة الرومان. يواصل النصّ المدرسي سرد تفاصيل عزم الباحثة وفريقها على مواصلة الاكتشاف، فهم يمرّون بخيباتٍ متكررةٍ كلّما وجدوا أعمدةً أثريةً أو مصابيحَ تعود للحقبة الرومانية. فالحلم يكمن في اكتشاف شيءٍ أقدم، شيءٍ قرطاجيٍ صرفٍ وأصيل.
كان نصّ "أحلم باكتشاف كبير" مقتطفاً من رواية "التمثال" المنشورة سنة 1999 للروائي التونسي محمود طرشونة، والتي لم تنل كثيراً من الشهرة. وفي حوارٍ صحفيٍ يتيمٍ حولها سنة 2005 لصحيفة الرأي التونسية، وصف طرشونة روايته بأنها "بحثٌ في أعماق الهوية" وفي المكان الذي "يمكن أن يتحول فضاءً لصناعة وافتكاك (استرداد) الهوية". فهضبة بيرصا التي تسعى بطلة الرواية لاكتشاف أُسٍّ بونيٍّ قديمٍ تقوم عليه، يصفها الكاتب بالهضبة التي "استرجعناها مرّتين" مرّةً من روما ومرّةً من فرنسا، و"منذ 1956 (نهاية الاحتلال الفرنسي) لم يعد ينازعنا فيها أحد".
لم تعكس كلمات طرشونة موقفاً خاصاً يتبناه هو دون غيره، بل إن حديثه بالجمع عن الافتكاك أو الاسترداد يعكس موجةً جماعيةً، تشاركتها نخب دولة الاستقلال ومؤسساتها عن مكانة قرطاج في تكوين الأمة التونسية. وهو طرحٌ مَنشؤه ردّ الفعل على السياسة الفرنسية الرامية لاحتواء قرطاج في الهوية الرومانية المسيحية. لكن ردّ الفعل ذاك جاء على عكس المتوقع منه، فلم يلجأ للمحافظة على الرؤية الثقافية الإسلامية التقليدية غير المبالية بتاريخ تونس ما قبل الإسلام، بل سعت النخب الجديدة لتحرير قرطاج من كلّ التصورات التي فُرضت عليها من كلّ الوافدين، من الرومان إلى العرب ثم العثمانيين فالفرنسيين.
نجد بواكير هذا الطرح في حقبة الاستعمار الفرنسي. ففي مقال كتبه محمود المسعدي في مجلة المباحث سنة 1945، نجد مثالاً لخطاب الهوية الذي تبنّاه الحزب الحرّ الدستوري الجديد – أكبر أحزاب تونس قبل الاستقلال – فيما بعد. لم يهتمّ المسعدي كثيراً بمهاجمة السردية الاستعمارية، بقدر ما سعى لمهاجمة مقولةٍ درجت في الأوساط التونسية، تعدّ تونس أرض عبورٍ حضاريٍ من الفينيقيين إلى الرومان والعرب والأتراك. وبالتالي لا تعدو أن تكون مجازاً يمرّ منه ولا يثبت فيه من الثقافات إلا رواسب متراكمةٌ، وهو ما لم يقبل به المسعدي الذي كان يرفع شعار "تزول الأغراض [ربما قَصَد الأعراض] ويبقى الجوهر". والجوهر في رأي المسعدي شرقيٌ بحتٌ وثابت. أما الأعراض فهي روما "التي لم تحرز من البلاد التونسية إلا القمح أو بعض إمبراطوراتها"، والتي وإن طال عهدها لم تكن إلا عارضاً لم ينجح في التغلغل في أعماق التونسيين، وقوساً أغلقه عبور العرب والمسلمين الذين أعادوا للبلاد روحها الشرقية.
أعاد المسعدي قرطاج إلى قلب الصراع، ولكنه عكس الاتجاه على من ابتدؤوه من المستعمرين. فالاحتفاء الاستعماري بقرطاج الرومانية معقلاً من معاقل الثقافة الأوروبية العتيقة من جهةٍ، ومثالاً على الازدهار والرخاء الذي حلّ بأفريكا الرومانية، أصبح مردوداً على دعاته. ذلك أنّ قرطاج أقدم من الرومان، وقرطاج الرومانية لا يمكن أن تعادل ازدهار قرطاج في عصرها البوني. بل إن روما هي أول "من أنزلت على الأرض صواعق جورها"، لتطمس الماضي الجليل لقرطاج الفينيقية والشرقية، كما يعبّر المسعدي. وهو الجور نفسه الذي يعيد الاستعمارُ إنتاجَه مع وريثة حضارة قرطاج، الحضارة العربية الإسلامية.
في نهاية مقاله يكتب المسعدي بغضبٍ وحماسٍ تلهبه أجواء الأربعينيات القومية، إنّ: "إفريقية [تونس] شرقيةٌ قبل أن تكون غربيةً، وإنها ساميةٌ روحانيةٌ قبل أن تكون مادّيةً آريّة. وإنّا شرقيون، عربٌ ومسلمون … ولن نكون شيئاً آخَر". وبعد سنواتٍ قليلةٍ يتحقق الاستقلال، ويمسي المناضل الشابّ أوّل وزيرٍ للتربية والتعليم في الدولة الناشئة، ووزيراً لثقافتها فيما بعد. وبذلك تصبح مقولاته السابقة ممكنةَ التحقّق والتنفيذ بعد استرداد تونس وقرطاج وبيرصا، كما كتب طرشونة. ولكن الحبيب بورقيبة برز أكثر من الجميع في هذه الحقبة، فحجب بحضوره كلّ الأطياف.
هذا المشهد وإن كان من وحي خيال الكاتبة، إلّا أننا نجد نظائر كثيرةً له في سيرة بورقيبة الذي يبدو أنه كان يتمثّل نفسه جدّياً كحنّبعل. ولكن كحنّبعل منتصراً هذا المرّة، ينجح في إتمام ما عجز عنه حنّبعل الأول، فقد انتزع الحبيب بورقيبة استقلال تونس من فرنسا.
ثمّة شواهد عدّةٌ على افتتان بورقيبة بحنّبعل، يمكن تلمّس معالمه من السنوات الأولى لحكمه. فعوضاً عن سُكنى باردو، المدينة الملكية القديمة، قرّر الزعيم تحويل مقرّ إقامته ومقرّ الحكم نحو قرطاج، وأمر بتشييد قصر الرئاسة الحالي فيها سنة 1960. وبقراره ذلك أعاد للمدينة القديمة ألقَها مركزاً للحكم ولكن بضريبةٍ غاليةٍ، فالقصر قام في جزءٍ كبيرٍ منه على مواقع أثريةٍ ومعالم يعود بعضها لمرحلةٍ بونيةٍ مبكّرة. مثل نافورة الألف جرّةٍ، وهي معلمٌ مائيٌ بونيٌّ مشيّدٌ حول نبعٍ مائيٍ بُنيَ بصهاريج وأنفاقٍ وغرفٍ في الحقبة الرومانية.
مع تشييد القصر أصبحت النافورة وغيرها من المعالم والمقابر مغلقةً في وجوه الجمهور والباحثين. وفي مكتبه نصب بورقيبة تماثيلَ لمن عدّهم رجال تونس الأربعة. وهم رجلان من أهل الفكر، ابن خلدون والقديس أوغسطينوس. ورجلان من أهل السياسة والحرب، حنّبعل والأمير النوميدي يوغرطة الذي ثار على الرومان قبل أن يهزم ويموت أسيراً في روما سنة 104 قبل الميلاد.
احتفلت دولة الاستقلال بالقائدَيْن اللذَيْن بجّلهما الزعيم، ورفعتهما فوق من سِواهما من أمراء وملوكٍ محليّين مسلمين ورومان. فقد منحت الدولة التونسية اسم حنّبعل للمدارس والشوارع، وأصدر البريد التونسي على شرفه مجموعةً متنوعةً من الطوابع البريدية. ويروي الوزير السابق الطاهر بلخوجة في كتابه "الحبيب بورقيبة: سيرة زعيم" المنشور سنة 1999، أنّه صحبَ الزعيمَ حين أراد استرداد رفات حنّبعل من تركيا، وسعى لذلك في زيارةٍ خاصةٍ غير مجدولةٍ سنة 1968.
يروي بلخوجة أن غرض الزعيم في استرجاع رفات حنّبعل كان واضحاً منذ البداية له ولقلّةٍ من مرافقيه، على عكس المسؤولين الأتراك الذين صُدموا بطلبه العجيب عندما باح به منذ وصوله. ونزولاً عند رغبته أخذه الأتراك إلى موضع التلّة الجرداء القريبة من مضيق الدردنيل، حيث يُزعم أنها موضع قبره كما نصّ على ذلك شاهدٌ حجري نصِّب فيها بأمرٍ من مصطفى كمال أتاتورك سنة 1934. ويروي بلخوجة أنّ الحبيب بورقيبة أصيب بإحباطٍ بالغٍ عندما عايَن حالة الإهمال التي آل إليها الضريح الصغير، ووقف عليه ساعةً وتنهّد ثمّ بكى، ثم عاد للتأمل واستعبر من جديدٍ وبكى. وكان حوله الأتراك يحاولون التخفيف عنه، والاعتذار له عن حالة الضريح وتقصيرهم في العناية به. وطيلة أسبوعٍ كاملٍ أمضاه في إسطنبول، حاول بورقيبة دون كللٍ إقناع الأتراك بمنحه الرفات للعودة بها لتونس، ولكن دون جدوى. وعدَه الأتراك بترميم الضريح ومنحه التقدير الذي يستحق، ليعود الزعيم حزيناً لقرطاج ومحمّلاً بصندوقٍ وقارورة. أمّا الصندوق فقد ضمّ رفات الصدر الأعظم للدولة العثمانية، الوزير خير الدين باشا التونسي المتوفّى سنة 1890، فدُفنت في مقبرة الجلاز. وأمّا القارورة، فقد احتوت على ترابٍ جمعه بورقيبة بنفسه من قبر حنّبعل، وحملها معه إلى قصره في قرطاج.
يتجلّى حبُّ بورقيبة لحنّبعل وقرطاج التي انتمى إليها، لا قرطاج خصومه الرومان. وهو ما انعكس حتّى على سياسة الآثار في عهده. إذ لأوّل مرّةٍ برز جيلٌ جديدٌ من الباحثين الأثريين التونسيين الشبّان من أمثال محمد حسين فنطر. وأشرف هؤلاء على الأبحاث والمؤسسات الأثرية الوطنية بعد احتكارٍ أوروبيٍ طويل. وتحت إشراف الحبيب بورقيبة وتوجيهاته، وجّه الباحثون التونسيون المجهود الأثري مباشرةً نحو المعالم البونية القديمة المتبقية سواءً في قرطاج أو خارجها، مثل موقع كركوان البوني، الواقع على الساحل الشمالي الشرقي للبلاد التونسية. وهي السياسة التي لخّصها الأثري رضا مومني في مقالٍ منشورٍ له بعنوان "لاكات دو لآنتيك" (بحثاً عن التاريخ العتيق) المنشور سنة 2016، بالقول إنّ بورقيبة سارع "لإزاحة روما، من أجل تنصيب قرطاج مرجعاً لهويّة التونسيين"، بل وربّما بعثِها مركزاً للعالم القديم.
لم تكن الدولة التونسية قادرةً على فعل ما أراد بورقيبة بإمكاناتها حينئذٍ، خاصةً أمام الزحف العمراني الذي أمسى يهدّد ما بقي من معالم المدينة الأثرية. وبتوجيهاتٍ من أعلى سلطةٍ انطلقت الاتصالات مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة "يونسكو" طلباً للدعم. وفي 19 مايو 1972 ومن داخل موقع قرطاج صرّح رينيه ماهو، المدير العامّ لليونسكو: "يجب إنقاذ قرطاج" في تناصٍّ مع المقولة الرومانية القديمة "يجبُ تدمير قرطاج". وتحوّلت مقولة رينيه لعنوان حملةٍ عالميةٍ قادتها اليونسكو عشرين عاماً، سُجِّل بسببها موقع قرطاج ضمن قائمة التراث العالمي سنة 1979، والتحقت بالموقع اثنتا عشرة بعثةً أثريةً من مناطق شتّى حول العالم، نجحت في إنقاذ بعض معالمها.
هذه الصورة الوردية لعلاقة الزعيم بقرطاج ومكانتها في الهوية الوطنية، لم تمرّ دون تشكيك. فالاحتفاء بشرقية قرطاج وأمجادها الغابرة همّش عناصر أخرى غربيةً رومانيةً وعناصر شرقيةً أهمّها الماضي الإسلامي بشقَّيْه العربي والأمازيغي. فقد مثّل هذا الماضي هاجساً سياسياً لدولة الاستقلال، خاصةً مع تصاعد الحركات السياسية الإسلامية الحاملة لواء الأصالة وضرورة العودة إلى هذه الجذور. وهو ما ترك علاقة الزعيم بمكانة الإسلام ضمن الهوية محلّ التباسٍ وتردّدٍ، على عكس المكانة الحضارية لقرطاج البونية، والتي لم تطرح أيّ تحدٍّ سياسيٍّ قد يقوّض مشروع حكمه.
على هذا الاهتمام، كانت علاقة الحبيب بورقيبة مع شخصية حنّبعل إشكالية. ففي شهادةٍ في إذاعة "إي إف إم" سنة 2023 لعبد العزيز بلخوجة، أحد أهمّ المنشغلين بالكتابة عن قرطاج البونية، أشار إلى أن بورقيبة طالما حمل مشاعر غيرةٍ من حنّبعل، مردُّها "غروره المفرط ورغبته اللامحدودة في التأكيد على كونه الزعيم والقائد الوحيد للتونسيين". وهو ما قد تسلبه بعضاً منه جاذبيةُ حنّبعل. ومن أجل ذلك لم يسمح، وفقاً لبلخوجة، بنصب أيّ تمثالٍ عموميٍ لحنّبعل لأنه "يعرفو قويّ عليه" أي كان يرى في نشر تماثيل حنّبعل خطراً عليه. بل إنّ التمثال الجاهز بقي حبيساً في قصره، حيث لا يلتقي بالقائد البوني الملهَم سوى المجاهد الأكبر. وللمفارقة اضطرّ الحبيب بورقيبة في النهاية لمغادرة قرطاج إثر انقلابٍ عسكريٍ بداعٍ طبّيٍ سنة 1987، وليحلّ محلّه الجنرال زين العابدين بن علي، الذي لا يشترك مع حنّبعل سوى في الخلفية العسكرية.
على هذا الأساس أعيد توجيه بوصلة سياسة الآثار. فلم يعُد اكتشاف الجذور الفينيقية والبونية هدفها الأساس، بقدر السعي لتثمين ما هو موجودٌ وتقديمه سياحياً. وباستثناء معالم بونيةٍ قديمةٍ، فإن الآثار الرومانية هي البارزة للعيان على امتداد الأراضي التونسية، سواءً في قرطاج أو خارجها. وبذلك هيّأت الدولة المواقعَ الرومانيةَ في دُقة وسُبَيْطِلة ومَكْثِر، واستأنفت الحفريات القديمة بحماسٍ لم يُعهَد مثله منذ الحقبة الاستعمارية.
يصف رضا مومني هذه المرحلة بمرحلة علم الآثار الموجّهة للخارج، أيْ للسيّاح الأوروبيين القادمين من خلفياتٍ لاتينية. فقد سوّقت الدولة البلدَ واحداً من أكبر البلدان المحافِظة على الإرث الروماني القديم، وتحديداً فنّ الفسيفساء. إذ وَسّعَت السلطات متحفَ باردو الوطني ليصبح قادراً على عرض أكبر مجموعة فسيفساءٍ بالعالم، وهو لقبٌ انتزعه الأتراك بعد افتتاح متحف زيوغما في 2011. وبذلك أخذت سياسة الآثار أوّل مرّةٍ على عاتقها هدفاً خارجياً عوض الداخل. وهي وضعيةٌ شابهت نظرياً ما كان سائداً قبل 1850، عندما لم يكن للبايات والحكّام أيّ اهتمامٍ بجمع الآثار محلياً، بقدر الاستفادة مما يجنونه من بيعها أو إهدائها للقناصلة والرحالة الغربيين. ولو أن هذا يختلف جوهرياً مع حالة الآثار الرسمية في التسعينيات، فالمؤسسات لم تتاجر في ثروتها الأثرية كالسابق. ولكنها تشترك معها في تحقيق التنمية الاقتصادية والمراهنة على القطاع السياحي، ورسم صورةٍ لتونس بلدَ "الفرح الدائم" وبلدَ التسامح بين الأديان والتعايش بين الحضارات، وهو ما اعتادت دعاية النظام الرسمية الترويجَ له.
تراجع طرح المسعدي عن الجوهر التونسي الشرقي الأصيل، لصالح فكرة المجاز من جديد. ولم تعُد روما عدوّةً بالضرورة، بل صار ميراثها مثالاً على قدرة قرطاج والتونسيين على التجدد والتناغم، مع كلّ حقبةٍ ومرحلةٍ جديدة. حينئذٍ أُخذ كلّ شيءٍ وفقاً لقاعدة النفعية. فحنّبعل لم يعُد ذلك البطل الأيقوني والمثال الأعلى للتونسي كما يجب أن يكون، بل بدت علاقة بن علي الشخصية بحنّبعل واهية. إذ يشير المؤرخ عدنان منصر في مقالةٍ له عنوانها "يوغرطة وحنّبعلان رؤساء تونس والتاريخ الذي يأبى أن يعيد نفسه" نشرت سنة 2023 لكون "بن علي نفسه لم يكن يعتقد في حنّبعليّته. كان رجلاً جاهلاً بالتاريخ، وربما لم يكن يحبّ التاريخ أصلاً". ولكن من حوله لم يكونوا بالضرورة كذلك. إذ يستعرض منصر مجموعة أعمالٍ كتبتها النخب السياسية الموالية للعهد الجديد، زجّت بالرجل رغماً عنه في معمعة "الحنّبعلية"، بدايةً من الصادق شعبان، أستاذ القانون الدستوري، الذي ألّف بمناسبة مرور عشر سنواتٍ على حكم بن علي كتاباً بعنوان "عودة حنّبعل" سنة 1997، وجّهه أساساً للنخب المحلية.
وألّف أستاذ الفلسفة الموالي للنظام وسفيرُه لدى اليونسكو، المازري حدّاد، كتاباً آخَر بالفرنسية بعنوان "نون ديلندا كرتاجو" (قرطاج لن تدّمر) نشِر سنة 2002، في قلبٍ للشعار اللاتيني الشهير. وهو عملٌ وجّهه أساساً للجمهور الخارجي ردّاً على الانتقادات العالمية الموجّهة لنظام بن علي الديكتاتوري، مثل كتاب الصحفيَّيْن الفرنسيين نيكولا بو وجان بيار تيكوا الشهير "صديقنا بن علي" المنشور أوّل مرّةٍ سنة 1999، قبل ترجمته إلى العربية سنة 2011. وقد حشد حدّاد الاستعارات الرمزية للصراع الشرقي الغربي القديم، "للتصدي للهجمة الممنهجة" ضدّ ما يسميه النظام "المعجزة التونسية"، تماماً كما هاجمت روما قرطاج ذات يومٍ في الحرب البونية الثالثة.
بعيداً عن هذا التوظيف النخبوي المحدود لقرطاج التاريخية، استثمرت آلة النظام الاقتصادية المدينة ورموزها ببساطةٍ وفجاجة. إذ سمح النظام لأوّل قناةٍ خاصةٍ في البلاد بأن تتخذ اسم "حنّبعل" سنة 2005. وفي مشروع بَعْثِ مدينة ياسمين الحمامات السياحية، اختير لمدينة الملاهي تسمية " قرطاج لاند" مع شعارٍ يصوّر فيلاً وديعاً بزيٍّ عسكريٍ عتيقٍ، يحاكي الفِيَلَة التي عبر بها حنّبعل جبال الألب ذات يوم. وحتى أكثر المحاولات نخبويةً، مثل الجمعية التي أسّسها سياسيون ومثقفون موالون للنظام بِاسم "حنّبعل" أواخر التسعينيات، بهدف استرجاع رفات القائد القرطاجي من تركيا، فكانت مثالاً آخَر للنفعية الاقتصادية والسياحية المرجوّة عن عودة الرفات. فالجمعية أسّسها رجل الأعمال منجي قداس، أحد وجوه القطاع السياحي في زمن بن علي.
فشلت الجمعية بعد محاولاتٍ في استرداد رفاتِ حنّبعل. وبقي الرجل مسجّىً في قبره بتركيا. وتحوّل الألق والاندفاع إلى حالةٍ من الاحتفاء الباهت والمبتذَل برمزٍ يتردّد اسمه في كلّ مكانٍ، دون أن يعني شيئاً.
استنزفت المشاريع المعارضة للحركات القومية العربية في معارك المرحلة المختلفة داخلياً وإقليمياً. وبذلك عايَن التونسيون الانكفاء السريع لمدّ الحركات الإسلامية بدايةً من 2013 و 2014، قبل أن تغادر حركةُ النهضة الحُكمَ نهائياً في 25 يوليو 2021 عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد عن حلّ البرلمان. أمّا الحركات القومية فلَم تبرح في أفضل الأحيان مكانَها، فصيلاً ضعيفاً ضمن المعارضة. وحتى الحركات الوريثة للمشروع الوطني لدولة الاستقلال، وتحديداً حركة نداء تونس، فلم تنجح حتى تفككت. وحدها النائبة عبير موسي وحزبها "الحرّ الدستوري"، بقيت على الساحة حركةً حاملةً هويةً قوميةً تونسيةً مستقلةً، ولكن محدودة.
لم يكشف مشروع رئيس الجمهورية الحاليّ، قيس سعيّد، عن طرحٍ صريحٍ للهُويّة، لتبقى المسألةُ غائبةً عن النقاش السياسي. وهو فراغٌ سرعان ما ملأته أطروحاتٌ جديدةٌ، لم يسبق وأن جُرِّبت من قبل. في بعض الأحيان، لم ترتقِ هذه المحاولات لأن تكون دعواتٍ فرديةً معزولةً أو في إطار جمعياتٍ في أحسن الأحوال، كما هو الشأن بالنسبة للهوية الأمازيغية التي لم تجد في تونس أرضيةً لغويةً وعرقيةً خصبةً للانتشار.
على عكس الهوية الأمازيغية وجدت فكرةُ القومية القرطاجية ألقاً لم تعرفه من قبل. ويعود بنا تتبّع جذور هذه القومية إلى كريم مختار، المهندس التونسي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أنشأ سنة 2012 صفحةً على منصة فيسبوك ثم موقعاً بعنوان "حركة جمهورية قرطاج". ومنها شرع مختار في نشر فكرة بعث قوميةٍ جديدةٍ تجمع التونسيين على أساس الانتماء لأصلٍ ثقافيٍ واحدٍ هو قرطاج، وتحت شعار "إحياء جمهورية قرطاج الجديدة"، كما كتب في المقدمة التعريفية بحركته.
أخذت الفكرة وقتاً طويلاً للنضوج والتشبّع بها على نطاقٍ ضيّقٍ قبل انتشارها، بفضل نشاط كريم والمقربين منه، وإن اتّسمت بالغموض أحياناً. ففي البداية، سُوّق للفكرة حركةً سياسيةً، ولكن القائمين عليها تنصّلوا من الطابع الحزبي والسياسي المباشَر المحتمَل لها. ومع ذلك، يصوّر مختار نفسه أباً روحياً للتيار القرطاجي ومرجعيته المعرفية والرمزية، والذي يلقى في سبيل دعوته ما يلقى من الرسل والمبشّرين. فهو الباعثُ علمَ "القرطاجنيات" والكاشفُ تاريخَ قرطاج المخفيّ، وصاحبُ الرؤية السياسية والمبادئ القائمة عليها، كتعويض تونس بقرطاج، سواءً في تسمية الدولة أو في رموزها.
تبدي الحركة بعض الليونة، إذ تسمح بالمحافظة على تسمية تونس في "كتب التاريخ والفلكلور كفترةٍ انتقاليةٍ تدريجيةٍ في طريق الاستقلال". ويمتدّ هذا المشروع إلى ما هو أبعد، إذ دعا مختار في مقابلةٍ إذاعيةٍ مع إذاعة "وان تي أن" في ديسمبر 2022، لاعتبار اللهجة التونسية الدارجة لغةً رسميةً للبلاد، وذلك لأنها تنحدر مباشرةً من الأصل الساميّ القديم للّغة التي تحدّث بها القرطاجيون قديماً. وفي أحيانٍ أخرى يذهب المتحمسون للمشروع لمطالباتٍ أعلى من قبيل تغيير تسمية البحر الأبيض المتوسط إلى "البحر القرطاجي"، على غرار قومياتٍ أخرى تزعم امتلاكها بحارها الخاصة.
اللافت في هذا المشروع هو الرواية التي سعى مختار لتأسيس مشروعه عليها، وهي رواية مظلوميةٍ بامتياز. إذ لا ينفكّ يكرّر في نصوص حركته أن ما عرفته قرطاج سنة 146 قبل الميلاد، كان أوّل "هولوكوست" يعرفه التاريخ. وهو هولوكوست "مسكوتٌ عنه ومنسيّ". وعليه جاءت الحركة لتكشف عنه وتحمّل المشرفين عليه مسؤوليتهم عن "جريمة الحرب"، سواءً كانوا روماناً أو خونةً محليّين.
تخرق هذه الرواية القرون والحقب والمفاهيم، إذ تستعمل مفاهيم حديثةً للتعامل مع أحداثٍ من عصرٍ آخَر. ولعلّ الأخطر هنا، أنها تقدّم رؤيةً تختزل القرطاجيين في جوهرٍ ثابتٍ، بعد إزالة لفظ التونسيين، وتعدّهم أمّةً خالصةً منذ ما يزيد عن ألفَيْ عام. ولكنها رؤيةٌ جوهريةٌ مختلفةٌ عن تلك التي تبنّاها القوميون التونسيون أواسط القرن الماضي. فقرطاج لم تعُد تستعمل حجّةً في سبيل أمّةٍ تونسيةٍ، وإنما أصبحت هدفاً مرجوّاً لِذاته. والإشادةُ بالإرث الفينيقي لقرطاج وغيرها دليلاً على مشرقية التونسيين، أصبح مرفوضاً. فقرطاج هي قرطاج، ثابتةٌ منذ الأزل، ولا علاقة لها بالفينيقية التي ليست سوى وسيلةٍ لضرب أصالة قرطاج ونسبتِها لحضارةٍ أخرى.
حوّل مختار ومن معه هذه الفكرة الهلامية لطرحٍ متماسكٍ تسويقياً، إلّا أنه لم يخطُ بمشروعه السياسي هذا إلى ما هو أبعد. وبسبب العجز عن اتخاذ هذه الخطوة اتّخذها آخَرون غيره، منهم الإعلامي نزار الشعري، صاحب البرامج الترفيهية في القناة الرسمية زمنَ بن علي، الذي أعلن في مارس 2019 بعث حركة قرطاج الجديدة. وهي حركةٌ سياسيةٌ أخذت على عاتقها التركيز على الشباب من أجل خوض غمار المعركة السياسية، وتحديداً الانتخابات التشريعية لتلك السنة.
لم تحظَ حركة الشعري باهتمامٍ يُذكَر في بداياتها. ولكن بنفعيةٍ واضحةٍ توجّه الشعري لدعم مشروع ترشّح قيس سعيّد للرئاسة. وبذلك خَفَتَ الاهتمام بحركته، اللهمّ حركة جمهورية قرطاج التي اتهمته بالسطو على الحركة واسمها ورموزها المسجلة ملكيةً فكريةً "في مكتبة الكونغرس".
تغيرت العلاقة بين الحركتين في مرحلةٍ لاحقةٍ من سنة 2021، حين أعلنت حركة الشعري وحركة مختار في بيانٍ مشتركٍ عن دعوتهما إلى تنسيق مؤتمرٍ ضخمٍ هدفه "إحياء جمهورية قرطاج الجديدة". تزامن البيان مع الزخم الكبير ورواج الدعوات المناصرة لهذا البعث، بين نخبٍ سياسيةٍ تقليديةٍ أمثال الوزير ناجي جلول والصحفي صافي سعيد. لكن هذا المؤتمر لم يتمّ أبداً، إذ استنزف الصراعُ الانتخابي لسنة 2019 مواردَ كلّ المرشحين وقيمتهم الرمزية، مع ترشح الجميع للانتخابات الرئاسية الأخيرة باستثناء مختار، دون أن يَبلُغ أيٌّ منهم الدورَ الأوّلي. وفي ظلّ الواقع السياسي لما بعد سنة 2021 تغيّرت الأولويات وتراجعت أسماءٌ عدّةٌ، ومعها مشروع قرطاج السياسي.
يظهر اسم المؤرخ بولبابة نصيري، بين أشهر الأسماء التي سطع نجمها. فعلى خلاف كريم مختار الذي لا يحمل أيّ صفةٍ علميةٍ، يقدّم بولبابة نفسه مؤرخاً وباحثاً في الأثريات. وبهذه المشروعية المعرفية انطلق في تقديم قراءةٍ مختلفةٍ لتاريخ قرطاج، منها حديثه في حوارٍ على إذاعة "موزاييك" في مايو 2025 عن أن تاريخ المدينة أقدم بكثيرٍ ممّا كشفته الأبحاث الأثرية الأوروبية، أو أن القرطاجيين يمثلون حضارةً وعرقيةً منفصلةً عن الفينيقيين. وبقراءةٍ متعسفةٍ وتأويلاتٍ مبالَغٍ فيها للآثار والمنحوتات القديمة، كثيراً ما ذهب بولبابة للربط بين عاداتٍ وممارساتٍ ثقافيةٍ راهنةٍ، وأخرى مرّ عليها اثنان وعشرون قرناً أو يزيد. ومن ذلك أنه لاحظ عند معاينته لمنحوتةٍ من تلك الحقبة أنّ رأسها مغطّىً بقبعةٍ مربعة الشكل، وهو ما يشابه كثيراً الشاشية التونسية الحمراء. وعليه فإن الأخيرة لا يمكن أن تكون سوى استمرارٍ لتلك القرطاجية. أما ما يقوله المؤرخون وصانعو الشاشية عن تطورها في القرون الماضية ضمن تقاليد مغاربيةٍ أندلسيةٍ، فلا يمكن للنصيري ومن معه القبول به. بل إن هذا في نظرهم ليس سوى نموذجٍ آخَر لتدليس المؤرخين الرسميين ومؤامرتهم ضدّ قرطاج.
يشترك النصيري مع مختار في سردية المظلومية والتهميش التي يواجههم بها التاريخ الرسمي ومؤسساته ورجالاته، تماماً مثل قرطاج. فهم يَرَون أنّ قرطاج الحقيقية تواجه مؤامرةً متواصلةً لطمس ذاكرتها وذكرها، تعود جذورها لمؤرخي الرومان والإغريق الذين سَعَوا لتشويهها سواءً بنشر أسطورة التضحية بالأطفال، أو عبر نسبة معارفها ومعالمها لحضاراتٍ أخرى. وهي التصورات نفسها التي واصل مؤرّخو الغرب ومثقفوه نشرها في العصر الحديث، قبل أن يتبنّاه وينقله عنهم المؤرخون التونسيون.
هذا الموقف كثيراً ما كان حبيس منشورات فيسبوك، إلى أن مُنح النصيري فرصةً للحديث في إذاعة موزاييك، عندما صرّح: "المؤرخون التونسيون لم يجتهدوا، واعتمدوا مصدراً وحيداً وكتاباً وحيداً، رغم أن الدولة التونسية وفّرت لهم كلّ الإمكانيات". وبذلك نقل الهجوم نحو النخب التاريخية والأثرية المحلية. وبقدر الحماسة الناشئة عن حمل النصيري مشروعَه للهوية القرطاجية، خفتت الأصوات الرسمية. إذ لم يتلقّ ردّاً جدّياً ورصيناً على ما ينشره وما يتحدث به. وأمام نجاح حواره، أعيدت استضافة النصيري أكثر من مرّةٍ وفي وسائط مختلفة. وفي أوساط متابعيه صار الرجل مرجعاً متَّبعاً، له أنصاره والمنافحون عنه. وحتى عندما ظهرت بعض الردود الخجولة من أطرافٍ أكاديميةٍ، والتي لم تتوخّ الردّ في صلب الموضوع بقدر ما اقتصرت على استنكار الحديث في التاريخ من خارج أهل الاختصاص، حاز النصيري حملةً من الدعم. ففي مجموعة "قرطاج التحدي"، وهي من أكثر مجموعات فيسبوك نشاطاً وترويجاً لمثل هذه الأطروحات، نشرت مناشير الدعم والدفاع عن المؤرخ الشجاع في وجه "مجموعةٍ من الكهنوت محسوبةٍ على المؤرخين تحارب الحقيقة".
بقدر تراجع الأصوات العلمية، ارتفعت أصواتٌ أخرى تفتقر إلى المعرفة العلمية الأكاديمية. بعضها زاود على أطروحات القومية القرطاجية نفسها، ولم يعد يقف عند حدود تأويل نصوصٍ فينيقيةٍ أو لوبيةٍ قديمةٍ (من الشعوب الليبية القديمة)، ومحاولة نقد النصوص التقليدية بشيءٍ من المنهج العلمي. وتجاوز ذلك إلى الافتئات على التاريخ نفسه. انفتح الباب على مصراعيه أمام ادعاءاتٍ من كلّ الأصناف، فكلّ المعالم الرومانية أمست آثاراً قرطاجيةً بقطع النظر عن أيّ حقيقةٍ معماريةٍ أو تاريخيةٍ، من المسارح الضخمة كمسارح الجمّ وقرطاج، ووصولاً إلى حنايا (قنوات) المياه في زغوان. وحتى لوحات الفسيفساء ذات المواضيع الفنّية اليونانية واللاتينية لم تشفع لها مواضيعها. وفي حالاتٍ أخرى اخْتُرِعَت قصصٌ عن آثارٍ منهوبةٍ دون أيّ سندٍ أثريٍّ أو نصّيٍ لها، ومن ذلك قصة أسد شمتو الذهبي، المسروق والمخفي في الفاتيكان.
في حالاتٍ أخرى، أخذت الأمور منحىً أبعد وأغرب. فأقواس النصر الرومانية المنتشرة في تونس ليست سوى "مسلّات فلكية" يستدلّ بها القرطاجيون القدامى على حركات الطقس والبحار. هذا ما ادّعاه السيد حمّادي بن وهيبة، الذي يصف نفسه متخصصاً في علم "الجغرافيا الفلكية". ومن ذلك أيضاً ما قام به نبيل لحمر الذي يصف نفسه بالباحث في التاريخ القرطاجي، إذ اختار يوم الثاني من أغسطس 2024 المتزامن مع ذكرى انتصار حنّبعل على الرومان في معركة كاناي، ليكون يوم حفل توقيع كتابه "قرطاج والنبيّ إدريس عليه السلام". ويزعم لحمر أنّه اكتشف أن النبيّ إدريس ليس سوى هرمس، وهو النبيّ الذي أرسله الله لمدينة قرطاج. وتضمنت البرمجة تقديم محاضراتٍ أخرى. ومنها محاضرةٌ مخصصةٌ للكشف عن أن الحضارة السومرية في العراق، تقع جذورها في الحضارة القبصية – علمياً هي ثقافةٌ وليست حضارةً – المكتشفة جنوب البلاد التونسية. وقد كانت خاتمة البرنامج تكريم بولبابة النصيري، لما له من أيادٍ على هذه المدرسة.
كان هذا اللقاء بمثابة انتقالٍ لنشاط خلق التاريخ الموازي، من مرحلةٍ افتراضيةٍ إلى أخرى على الأرض، في منافسةٍ قد تصبح جدّيةً للأكاديميين الرسميين الذين فقد كثيرٌ منهم جاذبيتهم اليوم في الفضاء العام. ومن ذلك ما سمعتُه من أحد الحاضرين في ندوة "الحياة الدينية في قرطاج" التي نُظّمت في 25 أكتوبر 2024، عندما تذمّر صراحةً: "أما آنَ لهذا الشيخ أن يغادرنا؟" ولم يكن الشيخ المقصود سوى ضيف المحاضرة، الآثاريّ المتخصص محمد حسين فنطر، البالغ من العمر ثمانيةً وثمانين سنة.
لم يكن النفور من عُمْر فنطر، ولكن من طرحه الذي يجد كثيرون أنّه لم يعد ثورياً بما فيه الكفاية ليتّسق مع موجة الحماس المتصاعدة. ناهيك عن أنه يمثل في النهاية تلك المدرسة التاريخية الراسخة لدولة الاستقلال، ووجهاً رسمياً لها في المحافل الرسمية الداخلية والخارجية لعقود. وبعبارة "أنيس حنّبعل"، الحساب المجهول على فيسبوك، هو جزءٌ من "كهنوت" آنَ أوان إزاحته. وبقدر ارتفاع الأصوات المنادية بهذه الثورة القرطاجية، يزيد الصمت في الضفة الأخرى. ربما يمكن أن نفسر أكاديمياً هذا نوعاً من اللامبالاة بمثل هذه النزعات الطارئة للعلم الزائف، التي لا تستحقّ النزول والردّ عليها. أما سياسياً فيبدو أن السلطة غير معنيّةٍ بمشاريع الهوية، في هذه المرحلة على الأقل.
تجاوزت الموجة النصيري، وأخذت طابعاً أكثر جماهيرية. وفي صفحات "التنمر" و"بيع وأشري" على فيسبوك، تكرّر منشورٌ يجمع بين صورتين، الصورة السفلى لقسمٍ من حافلات قافلة الصمود، وسط الجماهير المحتفية بها على الطريق. أما العليا فكانت لمشهدٍ اعتدنا رؤيته في كتب التاريخ والقصص المصورة، مشهد قافلةٍ من الفِيَلة والفرسان، وهي بصدد عبور ممرٍّ جبليٍّ ثلجيّ. تلك القافلة كانت جيش حنّبعل مطلع الحرب البونية الثانية، وهو يَهُمُّ بعبور ما لم يعبره جيشٌ من قبله: جبال الألب نحو روما. "من قديم الزمان أحنا هكا" كان التعليق الذي صاحب الصورة.
تحولت قافلة الصمود إلى لحظة اعتزازٍ وفخرٍ شاملةٍ، استحضرت ذكريات عزّةٍ وفخرٍ مشابهةً من التاريخ والأرشيف. وهو ما وجدته الجماهير في تاريخها البعيد. وربما هنا بالذات يمكن أن نطرح سؤال السبب وراء بعث الأمة القرطاجية من جديد. قسمٌ من الإجابة ذكرناه أعلاه: ردود فعلٍ على سياسات هويةٍ استعماريةٍ ووطنيةٍ متباينةٍ. ولكنّ قسماً آخَرَ قد يكمن في اللحظة الراهنة وتحدّياتها. لحظةٌ محرجةٌ يعاين فيها التونسيون واقعاً من هزائم المشاريع السياسية الكبرى في المنطقة، وسقوطاً أكثر دويّاً لتجربةٍ ديمقراطيةٍ تونسيةٍ جاءت بها ثورة 2011، حملت معها أحلامَ الحرية والكرامة والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم يتحقق منها الكثير. وأمام هذا المشهد قد نتفهم الحاجة الملحّة لجرعة كرامةٍ وفخرٍ وعزّةٍ، يُنقَّب عنها في ردهات التاريخ السحيق. ولكن هل على قرطاج أن تدفع من جديدٍ ثمنَ هذه الحاجة؟

