التنقيب على المنسيين.. الليبيون الذين أسقطهم الرحالة الأوروبيون من حساباتهم

كتُب الرحالة وعلماء الآثار الأوروبيين غيّبت دورَ الليبيين في اكتشاف والحفاظ على آثارهم.

Share
التنقيب على المنسيين.. الليبيون الذين أسقطهم الرحالة الأوروبيون من حساباتهم
غيّب الرحالة الأوروبيون دور الليبيين في اكتشاف آثارهم | خدمة غيتي للصور

تصادف في مطلع سنة 1869 أن اجتمع في طرابلس، عاصمة ليبيا التي كانت آنذاك تحت الحكم العثماني، ثلّةٌ من أشهر الرحّالة الذين عُرفوا بمغامراتهم في الدواخل الإفريقية واختراقهم رمالها وغاباتها وحواضرها. وهم غيرهارد رولفس وغوستاف ناختيغال وهنريش فون مالتسن وأليكساندرينا تينّيه ومحمد القطروني. كان هؤلاء يستعدون لفصولٍ ووجهاتٍ مختلفةٍ من رحلاتهم في ليبيا وإفريقيا.

اختلفت مصائر المجتمعين بعدها. أصبحَ رولفس أوّلَ أوروبيٍّ يصل إلى واحة الكفرة، جنوبَ شرق ليبيا. واحتفى مجتمع الاستكشاف في أوروبا بإنجازه. بينما عُدّ ناختيغال من روّاد اكتشاف نقوش الفنّ الصخري في الصحراء الليبية. أمّا فون مالتسن، فتلقّى الإطراء على عمله التاريخي والأثري في ليبيا وتونس. وأشعل لغز اختفاء تينّيه في الصحراء الليبية تحقيقاتٍ وجدلاً واسعاً في الصحافة الغربية. وحده القطروني طواه النسيان دهراً، لأنه لم يكن أوروبياً. وفي الصورة الختامية، يحتلّ الرحّال والمستكشف الأوروبي جلّ الإطار، ولا يبقى لمرافقيه سوى الهامش بملامح غير معروفة.

كان محمد القطروني مفتاحَ نجاح هؤلاء جميعهم وآخرين من دونهم، إذ لم يكونوا ليبلغوا مقاصدهم دون رفقته. أو على الأقل ليس بهذا النجاح. نال القطروني منتصف القرن التاسع عشر شهرةً وثِقةً لا نظيرَ لهما بين المهتمّين بالاستكشافات الإفريقية. فكلَّفته الحكومة البروسية سنة 1869 بأن يتولّى شخصياً حملَ هدايا ملك بروسيا ويليام الأول إلى سلطان برنو الشيخ عمر الكانمي، مع أن ثلاثة رحّالةٍ ألمانٍ بارزين كانوا ثَمَّ يخوضون غمار الترحال. ورغم تلك المكانة، يُشار في كتابات الرحّالة الأوروبيين إلى محمد القطروني وأمثاله بوصفهم مرافقين أو خدماً. لكنهم كانوا أكثر من ذلك. فقد استعملوا خبرةً لا نظير لها في المسالك والطرق وقيادة القوافل. إضافةً إلى قدرةٍ استثنائيةٍ على تحليل الظروف الأمنية والإمكانية والسياسية في منطقةٍ معقدةٍ وخريطةٍ شاسعة. عدا عن معرفتهم بتراث مجتمعات الصحراء الكبرى وهو ما ساعد على تأمين نجاح الرحلات. وكان القطروني، في جمهرة الرحّالة تلك، الوحيد الذي تنبّأ محذّراً بمصير ألكسندرينا تينّيه، مع أنّه لم يرافقها. وحدث بالفعل ما توقّعه.

 محمد القطروني
علي محمد القطروني الذي ورث خبرة ومهنة والده | الرسم نقلاً عن رحلة غيرهارد رولفس إلى الكفرة سنة 1881

أصبحت قصة استكشاف ليبيا ثمّ التنقيب عن آثارها ساحةَ صراعٍ بين الرجل الأوروبي الأبيض والسكّان المحليين. فتارةً كان المستكشف والرحّالة يَحقِر المرافقين المحليّين ويهمّش دورَهم المحوري في استكشافها. وتارةً أخرى تنصرم حبال ودّه مع السكّان المحليّين حتى يصير ألدّ الخصام. كان الأوروبي يرى نفسه حامياً للإرث الإنساني والأوروبي في ليبيا، أمّا السكان المحليون فقد عاشوا مع هذه الآثار واتخذوها جزءاً من مجالهم الاجتماعي. ظلّت هذه العلاقة المضطربة هي السائدة حتى دخول الإيطاليين إلى ليبيا سنة 1911. استعمل الإيطاليون الليبيين للتنقيب عن الآثار، في ظروفٍ قاسيةٍ أحياناً. لكن ما جمع كلّ هذا هو تهميش دور الليبيين ونكرانه، بل وشيوع انطباعاتٍ عن إهمالهم وفشلهم في صَون آثارهم والتعرّف على مآثر أسلافهم، حتى صارت هذه الصورة لازمةً للإنسان الليبي.


أدركَت الحكومات والجمعيات القائمة على إرسال الرحلات في القرن التاسع عشر جيِّداً أهميّةَ رجالٍ مثل محمد القطروني. تكرّر استخدام الأدلّاء والمرافقين المحلّيين. وبرز منهم نفرٌ، من بينهم حَتيتة بن خودون، وهو رجلٌ من طوارق الهجار في غات. وتكرّر معه تهميش سِيَر الأدلّاء الليبيين ودورِهم، وتجاهل تاريخهم الشخصي بالمقارنة مع المرافقين الأوروبيين، الذين كان المستكشف الأوروبي يغدِق عليهم بأوصاف الفضائل والإطناب في سِيَرِهم. فلم يصلنا من سِيَر الليبيين وفضلهم في استكشاف المسالك والآثار سوى القليل.

كان حتيتة بن خوذون مرافقاً ومساعداً لبعض الرحّالة المشاهير. فقد رافَق أشهرَ الرحّالين البريطانيين، من أمثال جيمس ريتشاردسون ووالتر أودني وهيو كلابرتون وديكسون دنهام. أما الحكومة البريطانية، فاشترطت على ألكسندر غوردون لينغ – الذي أصبح بعد ذلك أوّل أوروبي يصل إلى تمبكتو – أن يكون حتيتة مرافقَه عندما وصل ليبيا سنة 1824 في رحلةٍ إلى دواخل أفريقيا.

ومع أن حتيتة بن خودون اشتُهِر بين هؤلاء الرحّالة، إلّا أن الأخبار عنه نادرة. فلا يجد المرء سوى اسمه وأخباراً متفرقةً عن أعماله لإنجاح الرحلات وتجنيب أصحابها المخاطر. هذا الأمر يدعو إلى التساؤل: لو كان المرافق أوروبياً، هل سينال هذا القدر الضئيل من الذِكر؟ ربما تأتي الإجابة عن السؤال من قراءة ما كتبه الرحّالة. فقد استخدم دنهام في رحلته سنة 1882 مرافقاً أوروبياً اسمه كولومبوس ومرافقِين ليبيين.

وقد وردت قصّته في كتاب "رحلة لاستكشاف أفريقيا"، الذي نُشِرت ترجمته العربية سنة 2002. تحدّث دنهام عن مُرافقه الأوروبي بإعجابٍ وإسهابٍ مع أنه لم يكمل الرحلة معه. دَوّن دنهام عن حياة مُرافقه معلوماتٍ مفصّلةً قائلاً: "کان اسمه الحقيقي أدولفاس سیمبکینز. إلّا أنه وبسبب فراره من بلاده واجتيازه نصف العالم على إحدى السفن التجارية، فقد اكتسب اسم كولومبوس. يتحدث ثلاث لغاتٍ أوروبيةً ويجيد العربية". بيد أنه لم يورد معلوماتٍ مماثلةً عن مرافقيه المحليين مع أنّهم أهمّ من كولومبوس، كمّا يؤكّد دنهام ذلك بنفسه قائلاً: "نجاحنا اعتمد، تقريباً، عليهم".

كان المسؤولون البريطانيون الذين أَرسلوا لينغ يأملون قدوم حتيتة بن خودون لطرابلس ولقاءه هناك. لكن بدلاً من ذلك اختار حتيتة انتظاره في غدامس، جنوب غرب طرابلس، ليصحبه في بقية الرحلة. فرض حتيتة احترامه مبكراً. وقد أرسل إليه الرحّالة البريطاني جورج فرانسيس ليون – الذي لقيه في رحلته سنة 1820 – سيفاً هديّةً حمله إليه بعد سنتين زميله دنهام اعترافاً بفضله ومساهماته. وهكذا تكرّر ذكره في مذكراتهم مفتاحاً لبلوغ كثيرٍ من واحات الصحراء وحواضرها. وظلّ يَرِد في كتاباتهم حتى أواخر حياته، حين ضعف ولم يعد قادراً على قيادة القوافل واختراق الآفاق والدروب. يُظهر كتاب "رحلتان إلى ليبيا" الذي نشرته دار الفرجاني سنة 1974 أنّ جيمس ريتشاردسون كتب سنة 1846 يقول: "لقد أصبح حتيتة طويلاً نحيلاً واهِنَ القوى".

أخذت الرحلات البريطانية تكتسب أهميةً كبيرةً، لاسيما مع توجّهٍ جديدٍ للاهتمام بالآثار، بسبب تطوّر علم الآثار وأدوات الاستكشاف. وقد أَعتَد الملازم البريطاني فريديريك بيتشي مع شقيقه الرسام هنريكو رحلةً إلى ليبيا بين سنتَيْ 1821 و1822 على عين مكتب المستعمرات والبحرية البريطانية. توخّت الرحلة استكشافَ المواقع الأثرية في ليبيا، خصوصاً الآثار الواقعة على طول الساحل الليبي. ومنذ أن صدر كتابهما "الأخوان بيتشي والساحل الليبي" سنة 1828، تبوّأ مكانَه مصدراً رئيساً عن آثار ليبيا وتضاريسِها. وقد جاء الكتاب مشفوعاً بالرسوم والخرائط والمعلومات التي اعتَمَد عليها كلّ من جاءَ بعدهما. ولقي إشادةً واسعةً من المهتمّين بعلم الآثار.

نجد في الكتاب إشاراتٍ إلى علاقة الليبيين باستكشاف الآثار، بل نجد أيضاً عمل بعض الليبيين في التنقيب. يتحدث الأخوان بيتشي عن لقائهما شيخَ لبدة الكبرى لزيارة أطلال المدينة الأثرية، فمدّ لهما يدَ العون للعثور على عملاتٍ وأحجارٍ كريمة. يضيف الأخوان في المذكرات أنه كثيراً ما يعثر اليهود خاصةً على هذه المقتنيات ويقدّمونها للباشا يوسف القرمانلي إرضاءً له. ويتحدثان في أسطرٍ قليلةٍ وكلماتٍ عابرةٍ عن جهود عمّالهم الليبيين في أعمال التنقيب. وفي إحدى العبارات يتحدث الأخوان عن مرافقيهما: "أوشكَتْ خيولنا أن تبتلعها الرمال لولا حنكة مرافقينا ويقظتهم".

لا يتّسق هذا الاتصال بين الليبيين وآثار بلادهم مع الصورة النمطية العامّة التي رسمتها الكتابات الأوروبية في تلك المرحلة بدايات القرن التاسع عشر. ومن ذلك الرحّالة الفرنسي جان ريمون باشو، أحد أهمّ الشخصيات في شأن الآثار الليبية. يدوّن باشو في كتابه "رحلة إلى مارماريكا وقورينائية" المنشور سنة 1827 زيارته لمدينة قورينا (شحّات) سنة 1824 في الجبل الأخضر، شرق ليبيا. ومارماريكا هي منطقة البطنان، شرقَ الجبل الأخضر. أما قورينائية فهو الاسم اليوناني لبرقة، شرق ليبيا.

يتكلم جان ريمون باشو بإسهابٍ عن البدو المتوجّسين الذين يتحدثون عن المدن الأثرية بوصفها مدن "المَساخيط"، ويرون المنحوتات أناساً سَخَطَهم الله لغضبه عليهم. ويبالغ باشو في تفسير الحالة السيئة لتلك المواقع بالتخريب المتعمد من السكان. يزعم باشو أنّ سبب بقاء مقابر قورينا الجبلية محفوظةً في حالةٍ صحيحةٍ هو أنّ السكان لا يستطيعون تدمير الجبال. ويظهر في مطلع كتاب باشو، الذي يروي وقائعَ رحلته، اسم كبير مرافقيه. هو تاجرٌ من درنة يُدعى صالح، يختفي ذكره بعد ذلك كأنه لم يكن. وفي كثيرٍ من نصوصه، يضيق باشو ذرعاً بكلّ ما يخصّ السكان المحليين، حتى لغتهم وتسمية أماكنهم واستحقاقهم أرضهم. فيقول: "إحدى المساوئ التي لا مناص منها في وصف أيّ بلادٍ إفريقيةٍ تنجم عن التسميات البدائية أو الهمَجِية والفظّة للأماكن".

حتيتة بن خوذون
لوحة لأطلال لبدة الكبرى رُسمت خلال رحلة الضابط أوغستوس إيرل إليها بين 1815 و1817

أدّت أعمال باشو، بعد موته سنة 1829، إلى تسليط الضوء على المنطقة. وفتحَتْ شهيّة مؤسساتٍ أوروبيةٍ كثيرةٍ لإرسال بعثاتها إلى الأماكن التي رسمتها ريشته ببراعة. فأرسل المتحف البريطاني سنة 1860 بعثةً بقيادةِ الضابطَيْن إدوين بورتشر وميردوخ سميث لإجراء حفرياتٍ في الأماكن نفسها التي عمل فيها ورسمها جان ريمون باشو. تبوّأت مذكرات بورتشر وسميث المنشورة سنة 1864 منذ نشرها مكانةً مهمةً في تاريخ الاستكشاف الأثري في ليبيا. وقد ضمّت صوراً لمرشدهما محمد العدولي وعمالٍ ومرافقين آخَرين، ما يجعلها من أقدم مجموعات الصور الملتقطة في ليبيا. لكن الأهمّ من ذلك أن المذكرات تظهر تطوّر العلاقة بين المنقّبين الأوروبيين والسكان المحلّيين.


تُظهر التقارير التي كتبها سميث وبورتشر جانباً آخَر في علاقة الليبيين بأعمال الاستكشافات الأثرية في القرن التاسع عشر. عارَض الأهالي في الجبل الأخضر أنشطةَ التنقيب التي يجريها المستكشفون والقناصل الأوروبيون، ممّا جعل الضابطَيْن البريطانيَّيْن يفضّلان – بمشورةٍ من القنصل البريطاني فردريك كرو – تعيين عمالٍ يَصِفانِهم بالسود. وعندما وصلت السفينة التي أُرْسِلَتْ لحملِ التماثيل والمقتنيات التي استخرجها العمّال لتنقل إلى بريطانيا، كانا حريصَيْن على أن تُجرى عملية التحميل بعيداً عن أعين السكان.

نقلت بعثة بورتشر وسميث 140 قطعةً أثريةً على الأقل إلى المتحف البريطاني، من أهمّها تمثال أبولّو الشهير الذي يقف في قلب إحدى قاعات المتحف. وقد كانت إحدى أطول مهمّات التنقيب عن الآثار في القرن التاسع عشر، إذ استمرت عشرة شهور. وقد واجه الرجلان فيها صداماتٍ كثيرةً مع السكان المحليين الرافضين لنشاط بعثتهم. ويَظهر أثر العلاقة السيئة بين السكان والمنقّبَيْن البريطانيَّيْن فيما تركاه من نصوصٍ تتّسم بالازدراء والعنصرية تجاه الأهالي، وأحياناً من غير داعٍ أو مناسبة. فمثلاً يقولان في إحدى الفقرات: "منذ وصول البحارة والنجارين إلى قورينا، ظلّ عشراتٌ من العرب قبيحي المنظر يتجوّلون حولنا".

فتحت رسومات باشو ونجاحات سميث وبورتشر البابَ على مصراعيه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في وجه نشاط البعثات الأجنبية وجامعي الآثار والتجار والوسطاء، القادمين من دولٍ شتّى، للبحث عن المقتنيات الأثرية في ليبيا. لم يكن جميع هؤلاء من الخبراء، لذا خلق هذا التدفق غير المسبوق سوقاً جديدة. فقد ذهب بعضهم للحفر بنفسه، وتشجّع آخَرون على شراء تلك المقتنيات من السكان أنفسهم. فقد كان هؤلاء يبيعونَ هذه المقتنيات لوسطاء محلّيين وتجارٍ في المدن، مثل بنغازي. أدّى هذا الطلب المتزايد إلى نشوء سوقٍ للحفريات العشوائية ونهب الآثار وتهريبها. ويوجد اليوم أكثر من خمسين متحفاً حول العالم تضمّ مقتنياتٍ أثريةً ليبيةً، جلّها نُهِبَت في تلك الفترة.

الرحالة في ليبيا
من مقابر النيكروبوليس الشمالية في قورينا، رسم الضابط إدوين بورتشر | نقلاً عن المتحف البريطاني

عندما استيقظَتْ السلطات العثمانية، كان الأوان قد فات. صدر أوّل قانونٍ عثمانيٍّ ينظم الآثار والمقتنيات القديمة سنة 1869. ومع أنّه حَظَر تصديرَ الآثار واشتَرَط إذنَ السلطات المسبَقَ قبل أيّ أعمال تنقيبٍ، إلّا أنه أبقى تجارتها مشروعةً داخل أراضي الإمبراطورية مترامية الأطراف. وفي سنة 1874، استبدلت السلطات العثمانية بالقانون آخَرَ أكثر صرامةً وتفصيلاً. وفي ليبيا، يذكر الرحّالة التونسي محمد بن عثمان الحشائشي في كتابه "جلاء الكرب عن طرابلس الغرب" الذي يوثّق فيه رحلته سنة 1895 أن الوالي العثماني أحمد راسم باشا "جَعَلَ حراساً على تلك الأطلال [يقصد الآثار]" بعد حادثة نهبٍ إنجليزيةٍ للآثار. لكنه يستشهد ببيت شعرٍ يقول: "إِذَا نَفَذَ الْقَضَاء بِجِسْمِ عَبْدٍ، فَمَا يُجْدِي الْمُحَنِّك وَالطَّبِيب".

لم يتغيّر الواقع كثيراً. فالسلطات العثمانية في ليبيا استمرت، وبضغوطٍ سياسيةٍ، في إيذان كثيرٍ من بعثات التنقيب وفشلت في مراقبة الأنشطة غير المرخّصة. واجه السكّان الليبيون المحيطون بالمناطق الأثرية حينئذٍ حملاتِ التنقيب العشوائيةَ هذه، واتّسمت العلاقة بينهم وبين البعثات الأوروبية بالعداء الشديد. فمثلاً، تنصّ مذكّرات زوجة القنصل الهولندي فان بروغل سنة 1831 على أن السكان يعيقون نشاط التنقيب. ويقول الرحالة الأسكتلندي جيمس هاملتون في كتابه "تجوال في شمال أفريقيا" سنة 1852: "يكاد يكون من المستحيل على أيّ رحالةٍ هاوٍ القيام بالتنقيب والحفريات [. . .]. ومن أسباب ذلك أنه لا يمكن قمع غيرة السكان الأصليين الذي سيعتبرونه باحثاً عن الكنوز، إلّا بمساعدة الحكومة". وقد تدخّل السكان حقاً وأوقفوا مراراً أعمالَ الحفر والتنقيب. ورويداً استحال فصل عمل البعثات الأوروبية عن حُمَّى الحملات الاستعمارية التي كانت تستعر، ليتّضح معها التنافس الاستعماري في الاستيلاء على البلاد.

في جلّ الكتابات الأوروبية المعاصرة لتلك الأحداث، قُرئت تلك العلاقة المتوترة ضمن سردية التوحش والبدائية لهؤلاء الأهالي. لم يُنظر إلى هذا الرفض المحلّي لأنشطة التنقيب والحفريات غير المشروعة في أغلبها على أنّها نوعٌ من رفض النشاط الاستعماري الأجنبي، أو نوعٌ من حماية الآثار تبعاً لحماية أراضي هؤلاء السكان ونفوذهم. فقد ساد التنقيب والنهب العشوائي مدداً طويلةً. حتى إنّ القناصل الأوربيين نقّبوا بأنفسهم عن الآثار في العهدين القرمانلي والعثماني في القرن التاسع عشر، كما فعل القنصل البريطاني فردريك كرو والهولندي كليفورد فان بروغل والقنصل الفرنسي فاتييه دو بورفيل. فكان هؤلاء ينهبون التماثيلَ والعملاتِ والأعمدةَ وكلّ ما وقع في أيديهم من آثارٍ، وينقلونها إلى بلدانهم. إمّا خلسةً، أو تحت قوّة نفوذهم.

واجَه جلّ الرحالة والمستكشفين صعوباتٍ مع المجتمعات المحلية، خصوصاً حين أصبحت الأطماع الاستعمارية الأوروبية واقعاً في جوار ليبيا في تونس والجزائر. اضطرّ كثيرٌ من هؤلاء لأخذ احتياطاتٍ أمنيةٍ شديدة. بل إنّ بعضهم ادّعى الإسلام واتّخذ أسماءً عربيةً، مثل غيرهارد رولفس الذي سمّى نفسه مصطفى. فقد سهّل هذا الادّعاء لهم الحصولَ على تصاريح ورسائل تؤمّن مرورَهم وأعمالَهم. لكن الحذر لا ينجي من القدر. فقد قُتِل لينغ عقب مغادرته تمبكتو في ظروفٍ غامضة. وتوزّعت الاتهامات بين مرافقيه والفرنسيين منافسي البريطانيين على النفوذ. وفي سنة 1881 قضى الطوارق بين غدامس وغات، جنوب غرب ليبيا، على بعثتين فرنسيتين تضمّان عشرات الأفراد على أقلّ تقدير. وفي سنة 1910 أطلق مجهولون النار على عالم النقوش الأمريكي هيلبرت دي كو ممّا أودى بحياته، ليفجّر جدلاً وتحقيقاتٍ وسط تنافسٍ إيطالي أمريكي على امتيازات التنقيب الأثري في قورينا.


يعزو ليبيون كثيرون، مُجتالين بسرديةٍ استعماريةٍ، الفضلَ في اكتشاف المدن الأثرية الرئيسية والحفاظ عليها إلى السلطات الاستعمارية الإيطالية وحدَها. ويتجاهل هؤلاء دورَ الأهالي والعمال والقادة السياسيين، سواءً قبل الاستعمار أو أثناء عمليات التنقيب الإيطالية المكثفة. وليس هذا سوى اختلافٍ في فهم علاقة الآثار بالسكّان، إذ يراها الأوروبيّ تاريخاً منقطعاً عن حاضرها. أمّا السكّان المحليون، فينظرون إليها جزءاً من واقعهم الاجتماعي وحيّزهم المكاني. وليس أدلّ على ذلك من قصة قوس الإمبراطورَيْن الرومانيَّيْن ماركوس أوريليوس ولوشيوس فيروس، وسطَ مدينة طرابلس، والمعروف عند الأهالي بمخزن الرخام.

نُصّب القوس في عهد الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس وأخيه بالتبنّي لوشيوس فيروس في القرن الثاني من الميلاد. وعلى عكس كثيرٍ من الآثار الرومانية في ليبيا، التي هُجرت أو طمرتها الرمال، بقي القوس شاهداً تاريخياً على الوجود الروماني في البلد. وقد كانت له استعمالات عديدة في التاريخ. منها اتّخاذه دكّانةً ومخزناً، قبل أن يزيل الإيطاليون الأبنيةَ حوله ويعيدونه قوساً ورمزاً لوجود روما في ليبيا، ويحيلوا الساحة حوله إلى معرضٍ للآثار الرومانية. لكن قبل ذلك، كان القوس مهدداً بالتدمير في القرن السابع عشر حين أراد الولاة العثمانيون، محمد باشا الساقزلي وإبراهيم داي، الإطاحةَ به. ولم يَحمِه من هذا المصير إلّا تدخّل أهالي البلاد الذين عارضوا توجهاتهما. فأشاعوا أنّ نبوءةً تناقلوها من أجدادهم تقول إنّ تدمير القوس هو نذيرٌ لخراب طرابلس ودمارها.

ولم يكن وعي الليبيين بأهمية آثارهم مرتبطاً بالحقبة الاستعمارية، فثمّة قصصٌ وشواهد تكشف اهتمام أهل البلد. إذ وثّق بروتشر وسميث لقاءهما بواحدٍ من أقدم خبراء التنقيب الأثريّ الليبيين. فقد اجتمعا بعجوزٍ من بنغازي، كان خبيراً يمارس التنقيب عن الآثار مدّةً طويلة. عثر العجوز على عددٍ كبيرٍ من التماثيل الفخارية و"الأمفورات"، أي القُلل الفخارية كما هو متعارفٌ عليها في الآثار الرومانية. وقد حاولا جاهدَيْن ضمَّ الرجل إلى فريقهما للذهاب إلى قورينا. لكنهما صرفا النظر لأنه طلب أجراً يعادل أجرَ عشرة عمالٍ تقريباً.

إضافةً إلى ذلك، كانت ثمّة جهودٌ رسميةٌ في تعليم الآثار. ففي سنة 1911 مع بدء حملة الاحتلال الإيطالي لليبيا وصل الضابط التركي الشهير أنور باشا، أحد القادة البارزين لحركة تركيا الفتاة. قاد أنور باشا مجاهدين ليبيين في بعض المعارك ضدّ الإيطاليين، خاصّةً حول درنة، حتى سنة 1912. وعلى هذا يذكر عنه المؤرخ الإيطالي أولدريكو تيغاني سنة 1915 إشارةً لرغبة أنور باشا بنِيّتِه في تأسيس أوّل مدرسةٍ لعلم الآثار في البلد. فقد وصفه بأنّه "المتحمّس الذي فكّر في إنشاء مدرسةٍ أثريةٍ للبدو خلال الحرب. وجمع بالفعل عدداً من المقتنيات الأثرية ووضعها في مبنى زاويةٍ، لتحويلها إلى متحفٍ إغريقيٍ تركيٍ سنوسيٍ، وتعليم النابهين من البدو دراسةَ الجَمال الفنّي".

أشار عالم الآثار البريطاني ريتشارد غودتشايلد إلى ما قد يثبت صحة القصة. إذ وجد الإيطاليون سنة 1913 عدداً من المكتشَفات الأثرية قد جُمعت حقاً في إحدى القلاع التركية. لكن كما يبدو، فقد أجهضت الأحداث السياسية والعسكرية المأساوية مشروعَ هذا المتحف المدرسة.

كان علم الآثار قد تطوّر آنذاك. فقد تراكمت المعرفة والتجارب وأنشئت أقسام الجامعات التي خرّجت المختصّين. وطوّر علم الآثار أساليبه ومناهجه العملية والميدانية، لكن اختباراً جديداً لاح في الأفق. وُضِعَ علم الآثار في ليبيا في قلب المعركة، فوظّفه الإيطاليون أداةً للدعاية الاستعمارية والحربية وروّجوا لفكرتَيْن أساسيتَيْن. تتموضع إحداهما في قلب الدعاية الإيطالية عن الحقّ التاريخي لإيطاليا، المستمد من التاريخ الروماني في إفريقيا وليبيا على وجه التحديد. والعودة إلى "الشاطئ الرابع" وهو الوصف الذي أطلقه الإيطاليون على ليبيا. أما الفكرة الثانية فجاءت ضمن ما سيق من دعايةٍ عن إكمال المهمة الحضارية. وفي الأوساط الأوروبية، استُخدِمَتْ الآثار مسوّغاً ثقافياً لاحتلال ليبيا. فصارت مهمةَ حماية الآثار إحدى مسوّغات ضرورة احتلال الأوروبيين للبلاد.

مع صعود الفاشيين إلى الحكم في إيطاليا بقيادة بينيتو موسوليني في العشرينيات، أُعيدَ ترتيب أولويات العمل الأثري ليكون في خدمة العقيدة الاستعمارية. وأصبح الهدف الرئيسي والملِحّ هو إعادة الحياة للمدن الرومانية القديمة، وإبرازها على ما سواها. فقد وضعت وزارة المستعمرات الإيطالية يدَها على إدارة الآثار وسيطرت عليها.

وحين وصلت أعمال الحفريات والترميم مرحلةً متقدمةً في أواخر الثلاثينيات، ظهرت شخصياتٌ سياسيةٌ كبيرةٌ مثل بينيتو موسوليني الدكتاتور الإيطالي، ورودولف هيس نائبِ حليفِه أدولف هتلر، وحاكم ليبيا إيتالو بالبو. التقطت هذه الشخصيات صور في مسارح لبدة الكبرى وصبراتة وميادينها، في إشارةٍ واضحةٍ لرمزية هذا الإنجاز. وطيلة سنواتٍ، زيّنت الآثار الرومانية في ليبيا الطوابع البريدية والملصقات الدعائية والأوسمة والقلائد والأفلام والإنتاج السينمائي الإيطالي. وغُيِّرَ اسم أهمِّ دوريةٍ في علم الآثار من "النشرة الأثرية" إلى "أفريكا إيتاليانا"، أي إفريقيا الإيطالية. واحتفى الجنود الإيطاليون بالتقاط الصور أمام الاكتشافات الأثرية والمباني المرممة.

أرادت السلطات الإيطالية تشغيل المساجين خارج أسوار السجن للمساعدة في الأعمال العامة وتشغيلهم في التنقيب على الآثار. فعدّلت من أجل ذلك قانون السجون الإيطالية. وكانت الحفريات الأثرية في لبدة وصبراتة بين أكثر الأماكن التي أجبر فيها المساجين على العمل قسراً في ظروفٍ قاسيةٍ. مات وأصيب كثيرون في مواقع العمل. إذ لم يعد كافياً وضع عددٍ كبيرٍ من العمال الليبيين في خدمة علماء الآثار الإيطاليين. وفي المجلّد الذي صدر سنة 1926 للاحتفاء بإنجازات الكونت جوسيبّي فولبي، الحاكم الإيطالي لطرابلس، تحت عنوان "لا ريناشيتا ديلّا تريبوليتانيا" (نهضة طرابلس)، يورد الكاتب أدالجيسو رافيزا تبريرات لهذه السياسة تجاه المساجين. يقول رافيزا: "لوحظ أن العقوبات التي تقيّد الحرية الشخصية ليست مناسِبةً للسكان. إنهم بطبيعتهم ميّالون إلى الكسل. ولذلك فهم يشعرون براحةٍ تامّةٍ في السجن. وأيضاً لأنّ مستوى الحضارة لا يسمح لهم بإحساس عالٍ بالكرامة، وبالتالي لا يجعلهم يشعرون بالعار الناتج عن السجن. لذلك لا يمكن القول إنهم يقضون عقوبة".

الآثار في ليبيا
إجبار السجناء الليبيين على العمل قسراً في حفريات لبدة الكبرى | نقلاً عن كتاب "لا ريناشيتا ديلّا تريبوليتانيا"

أُقصي هؤلاء العمال فجأةً عندما حان موعد الصور التذكارية والخطابات التكريمية. وأُسقطوا من ذاكرة العمل الأثري. وتنكّر لهم الجميع، حتى علماء الآثار أنفسهم. وُضع الليبيون على الهامش، عمّالاً وخبراءَ وتاريخاً وذاكرةً، بسبب المركزية الإيطالية التي سيطرت على علم الآثار برمّته في العهد الفاشيّ. أدّى ذلك إلى انحرافٍ في صلب العمل الأثري نفسه. فأُزيلَت بسبب الاستعجال مبانٍ غير رومانيةٍ كانت موجودةً في مواقع، مثل لبدة وصبراتة بلا دراسةٍ أو تسجيل. ورد ذلك في مقال "إيتاليان كولونيال أركيولوجي إن ليبيا" (علم آثار الاستعمار الإيطالي في ليبيا) لستيفن ألتيكامب، أستاذ الآثار في جامعة هومبولت ببرلين، المنشور سنة 2004. ولهذا لا نملك صورةً واضحةً اليوم عن مرحلة إعادة استخدام هذه المواقع، وإن بشكلٍ محدودٍ في العصور الإسلامية المبكّرة. ووُضِعَتْ الاكتشافات الصغيرة، مثل العملات الإسلامية، على الهامش. وظهر تأثير هذا الانحراف في تفسيراتٍ كثيرةٍ قدّمها علماء آثارٍ دعمت رواية الفاشيين السياسية، لاسيما بشأن مزاعم التدفق الكبير لمهاجرين من الإمبراطورية الرومانية إلى ليبيا.


حين كنتُ أدرس قبل سنواتٍ الدعايةَ الحربية المكتوبة بالعربية في الحرب العالمية الثانية، شدّني أحد المناشير الإيطالية التي يحتفظ بها الأرشيف الوطني البريطاني. يُظهر المنشور صوراً للدمار الذي خلّفه الجنود البريطانيون لأحد المتاحف. كانت الصورة مرفقةً بعباراتٍ عربية: "التخريب والسلب صفتان مميّزتان لجنود صاحب الجلالة البريطانية. تأمّل متحف قورينا القديمة الذي كان بالأمس داراً عامرةً تقدّم تراث مدنيةٍ عريقةٍ، أمست تماثيله مهشمةً، وحوائطه المزخرفة ملوثةً مشوهة". وهذا ممّا حدا بالبريطانيين ليشعروا بضرورة التحقيق والردّ على تلك المزاعم. ومهما يكن، فإن توجيه مثل هذا الخطاب الدعائي للسكان المحليين بلغتهم يدلّ على أن الوعي العامّ بأهمية الحفاظ على الموروث الثقافي والمواقع الأثرية والمتاحف كان قد شاع وتطوّر محلياً، حتى أصبح مدعاةً لإنتاج دعايةٍ موجّهةٍ للشعب.

الشيخ الكيلاني البعباع كان مثالاً يثبت هذا الوعي المبكر. فقد قضى خمسين عاماً في مهمة الحفاظ على آثار مدينة قرزة، جنوب شرق طرابلس. ساعد الشيخ الكيلاني علماءَ كثراً، على رأسهم العالمة البريطانية إلوين بروغان مؤلّفة أهمّ دراسةٍ حول قرزة بعنوان "قرزة.. مستوطنة ليبية في العصر الروماني". وعندما توفّي الشيخ الكيلاني نعاه علماء آثار بارزون، مثل باري جونز وغْريم باركر. وكلاهما يشهد أنّ الكيلاني البعباع كان يعرف جغرافية منطقة ما قبل الصحراء، جنوب جبل نفوسة، أفضل من أيّ شخصٍ آخَر. فقالا في نَعيِه: "كنا سنضيع تماماً لولا توجيهاته". وكان الرجل العمودَ الفقريَّ لفريق مشروع مسح الوديان الليبية التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو".

شقّ عددٌ ممّن عملوا في الحفريات الأثرية في عهد الاحتلال الإيطالي، وبعده طريقَهم في مجال علم الآثار. كان عمر المحجوب طفلاً حين انضمّ للعمل في لبدة الكبرى سنة 1931،وتلقّى مبكّراً دوراتٍ في مجال الحفريات، وترقّى في الوظائف إلى أن تربّع لاحقاً على رأس مراقبة آثار لبدة. ويرجع له الفضل في الكشف عن آثار "فيلّا سيلين" قرب لبدة، ونشر عدّة أبحاث.

آثار ليبيا
علي بوباكرة، ليبي اكتشف وصية بطليموس التي تظهر إلى جانبه في شحات وتعود للقرن الثاني قبل الميلاد

يتطابق الأمر مع إبراهيم كاموكا، الذي بدأ رحلتَه مع العمل الأثري في صبراتة منذ الثلاثينيات. عمل إبراهيم مع علماء آثارٍ مثل جياكومو غويدي وجياكومو كابوتو، الذي ضمّه لإدارة الآثار. وقد لقي شقيقه مصرعَه أثناء أعمال ترميم مسرح مدينة صبراتة. لكن ذلك لم يمنع إبراهيم من المواصلة. فاستمرّ تقدّمه في المجال إلى أن أصبح واحداً من أهمّ خبراء الآثار في ليبيا، وظلَّ وفيّاً لعمله حتى وفاته.

لقد ولّدت تلك المرحلة الصعبة أسماءً عدّةً، مثل مبروك الجمل وعبد المجيد الزروق ونور الدين الشللي وعيسى الأسود وابريك عطية. حَمَلَ هؤلاء الأمانةَ الأثرية في مرحلةٍ شديدة الحساسية انتقلت فيها البلاد من الاحتلال، مروراً بالحرب العالمية الثانية، إلى الاستقلال سنة 1951. وشكّلوا نواة مصلحة الآثار الليبية التي تأسّست سنة 1953 بفضل استمرارهم في المجال. حَفَرَ هؤلاء أسماءَهم خلافاً لكثيرٍ ممّن لم يحالفهم الحظّ وتنكّر التاريخ لفضلهم.

اكتشف عالم الآثار الإيطالي فابريزيو موري مومياءَ وان موهي جاج في جبال أكاكوس جنوب غرب طرابلس. فكان ذلك الاكتشاف أحد أهمّ الاكتشافات الأثرية في البلاد. ووَضَعَت أعمال موري وكتاباته اسمَه على رأس قائمة علماء الآثار المبرّزين الذي عملوا في ليبيا. يقرّ فابريزيو في كتابه "رسالة إلى إخواني الطوارق"، المنشورة ترجمته سنة 2023، بفضل مرافقيه ومساعديه في عمله الطويل. ويثمّن الدورَ الذي أدّاه ليبيّون، مثل أبشيني والحاج أمغار وكرنفودة، في إنجاح الدراسات الأثرية لتلك المنطقة المهمّة، فيما بات يُسَمّى لاحقاً "علم آثار الصحراء الليبية". يُظهِر هذا تغيّراً في النهج. فلم تكن أسماء هؤلاء لتُذكَر أبداً لو كانوا مثل المرشدين والخبراء والعمّال في العشرينيات وما قبلها.


طيلة أكثر من قرنٍ ونصف، دَفَنَت المركزية الأوروبية بأشكالها القديمة والحديثة – إلى جانب غياب الحسّ التوثيقي المحلّي – ذكريات كثيرٍ ممّن كانت إسهاماتهم محوريةً في العمل الأثري حمايةً وتنقيباً وترميماً ودراسة. حين أُقلِّب عشرات الصور للحفريات الأثرية التي جمعتُها في سنواتٍ، أشْعر بالأسى تجاه كلّ أولئك المجهولين وذكراهم المنسيّة. الحرّاس الأوائل للتراث الثقافي الليبي. سواء الذين آمنوا بتلك الرسالة وأحبّوا عملهم وأخلصوا له، أو الذين أُجبروا على ذلك. وبينهم من فقدوا حياتهم وهم يعملون في لبدة وصبراتة وقورينا، بلا رثاءٍ أو نعي. أولئك الذين حفروا الرمال ورفعوا الحجارة وعبروا المسالك الوعرة والوديان والصحارى الممتدة. هؤلاء الخبراء والحرفيون الذين كانت معرفتهم أساسية لإتمام الأعمال الأثرية وفهم كثيرٍ من الأسرار التاريخية لهذا البلد، وكلّ من لم ينصفه زمانه.

إنّ ردَّ الاعتبار لهؤلاء المنسيّين لايزال ممكناً. وتقع مهمة تبنّي مشروعٍ للتعرّف إليهم، والاعتراف بدورهم، على عاتق الباحثين والمؤسسات الليبية أساساً. ليس الغرض من هذا مجَرّد الرثاء والذكرى، وليس ردم الفجوة التوثيقية التي غيّبتهم فحسب. إحياء تلك الذاكرة يمكن أن تكون خطوةً مهمةً لتعزيز ثقافة الحفاظ على الآثار، وإشراك المجتمع في حماية الموروث الثقافي المادّي وغير المادّي، وتذكيره بالجهد الذي بُذل والثمن الذي دفعه آباؤهم وأجدادهم لتصبح على ما هي عليه.

اشترك في نشرتنا البريدية