يرتبط محو السكان الأصليين ببنية الاستعمار الاستيطاني نفسه. لذلك فهي عمليةٌ مستمرةٌ وبنيوية. ولكنها اتخذت أشكالَ محوٍ مختلفةً وفقَ الظروف والسياقات، سواءً تلك المتعلقة بالفاعلين الدوليين أو بمدى مقاومة السكان الأصليين. تمظهرت تلك العملية في التهجير القسري والعنيف في النكبة. إلّا أن غالبية المخططات الإسرائيلية اعتمدت إمّا على تشجيع الهجرة الطوعية بالتضييق على اللاجئين أو على تقديم حوافز لدفعهم إلى الرحيل. وطوال عقودٍ سبقت الحربَ الحاليّةَ على قطاع غزة وعملياتِ التهجير القسرية في الضفة الغربية، خضعت هذه المخططات –التي طُبّق كثيرٌ منها– لنقاشاتٍ موسّعةٍ داخل أروقة مؤسسات الحكم الإسرائيلية بهدف تطوير آليّاتها، كي تبدو أكثر نجاعةً وأقلّ فجاجةً ولفتاً للأنظار.
مرّت هذه المخططات بثماني مراحل رئيسة. ومع اختلاف الوضع في كلّ مرحلةٍ وتحقيق التهجير واقعاً، فإن مخططات تهجير الفلسطينيين لم تتوقف، بل مازالت مستمرةً حتى سنة 2025. ويبدو أن وجود الفلسطينيّ نفسه سيبقى دافعاً لصياغة خطط التهجير حتى آخِر فلسطينيٍّ في أرضه. وكان محور هذه السياسات الإسرائيلية مرتبطاً أوّلاً بالاعتبارات السكانية (عدد السكان وتوزيعهم الجغرافي وفئاتهم العمرية والتعليمية وسواها)، كما يقول المفكّر الفلسطيني إيليا زريق في دراسته المعنونة "الديموغرافيا والترانسفير" والمنشورة سنة 2003.
لم تتأثر مخططات التهجير والمخاوف الديموغرافية الإسرائيلية بالتغيّرات السياسية الداخلية فيها، أيْ تبدّل المواقع بين حكومات اليسار أو اليمين أو الائتلافات الحاكمة. فسياسات التهجير والتخلّص من الوجود الفلسطيني سياساتٌ عامّةٌ مستمرة ومرتبطة بمشروع الدولة الاستيطانية نفسه. ويؤكد ذلك الأكاديمي الفلسطيني نور مصالحة في كتابه "أرضٌ أكثر وعربٌ أقلّ"، المنشور سنة 1997، بقوله: "منذ سنة 1967 لم يوحّد الفلسطينيين شيءٌ كالترحيل".
لاحقاً، تضمّنت مذكرات مؤسّس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل، المنشورة سنة 1895، قولَه: "عندما نحتلّ الأرض، سنحقّق فوائد فوريةً للدولة التي تستقبلنا. يجب أن نصادِر بلطفٍ الممتلكاتِ الخاصّة في الأراضي المخصّصة لنا. سنحاول تهريب الفقراء عبر الحدود بتوفير فرص عملٍ لهم في دول العبور، مع حرمانهم من أيّ عملٍ في بلدنا. سينضمّ إلينا أصحاب الأملاك. يجب أن تتمّ عملية المصادرة وتهجير الفقراء بحذرٍ وتكتّم".
أيّد آباء الحركة الصهيونية الذين عاصروا المؤتمر هذه الدعوات. ورأى رئيس مجلس إدارة الصندوق اليهودي مناحيم أوسيشكين أن المشروع الصهيوني "أعلى وأنبل من إبقاء مئات الألوف من الفلاحين".
كانت أرض العراق وسوريا هي الوجهة التي اقترحها الزعماء الصهاينة، ومنهم أبراهام شارون مؤلف كتاب "هتزيونوت هأخزريت" (الصهيونية القاسية) المنشور سنة 1944. وعرضَ المموِّل الرئيس لمشاريع الاستيطان البارون إدموند روتشايلد مدَّ يدِ العون المادّي لهؤلاء الفلسطينيين المهجَّرين. أما فلاديمير زئيف جابوتنسكي، فقد نظّر للجدار الحديدي الذي يحول دون عودة الفلسطينيين بعد ترحيلهم. وآمَنَ رئيس أوّل حكومةٍ إسرائيليةٍ ديفيد بن غوريون بأن نقطة انطلاق المشروع الصهيوني هي ترحيل الفلسطينيين "قبل أن يصبح ذلك أصعب". وحتى منظّر اليسار الصهيوني بيرل كتسنلسون، الذي أنشأ منظمة العمال الرئيسة في إسرائيل لاحقاً "الهستدروت"، قال إنّه هانئ البالِ لهذا الخيار، وإنّ الفلسطينيين لن يخسروا بنقلهم إلى سوريا والعراق.
في المؤتمر الصهيوني المنعقد سنة 1912، عَدّ ليو موتسكين –وهو من زعماء الحركة الصهيونية– خيارَ التهجير وسيلةً لتجنّب "الصراع العربي اليهودي". وبعد سنتين، نشر القيادي الآخَر في الحركة ناحوم سوكولوف سلسلةَ مقالاتٍ في الصحف العبرية دعا فيها لتمويل عمليات نقل الفلسطينيين إلى خارج أرض فلسطين. كانت هذه المقالات أوّلَ مخططٍ استراتيجي لمشروع التهجير القسري.
وعليه، فمنذ السنوات المبكرة للمشروع الصهيوني، أصبح تهجير الفلسطينيين شرطاً أساسياً في نجاحه. ورافق الدعم البريطاني هذه المخططات الأولى التي تبلور عنها وعد بلفور سنة 1917. في البدء أنجزت الحركة الصهيونية تشبيكاً بين التنظير لفكرة التهجير والتواصل السياسي مع الأطراف الدولية ومشاريع التمويل التي قدّمها التجار. وبعد ذلك، بدأت العصابات المسلحة تنفيذ هذه المخططات بالحديد والنار.
في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، باتت فكرة تهجير الفلسطينيين محوريةً في المخططات الصهيونية. وظهرت أصواتٌ تنادي بترحيل الفلسطينيين إلى العراق، وليس سوريا وشرق الأردن، بزعمِ أن أراضي سوريا والأردن جزءٌ من إسرائيل. وفي سنة 1930، قدّم رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمن للحكومة البريطانية خطّتَه لترحيل الفلسطينيين، مقترحاً فيها توطينَ الفلاحين الفلسطينيين في إمارة شرق الأردن. ومع أن البريطانيين رفضوا الخطّة، إلّا أنها كانت حجر الأساس للمخططات اللاحقة.
عقب اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 احتجاجاً على الهجرة اليهودية لفلسطين وممارسات الانتداب البريطاني، شكّلت بريطانيا "لجنة بيل" للتحقيق في أسبابها. وفي يوليو 1937 أوصت اللجنة بتقسيمِ فلسطين إلى دولةٍ يهوديةٍ على مساحة 20 بالمئة من فلسطين، ومنحِ معظم المساحة الباقية لشرق الأردن. ولتفادي الاحتكاك بين العرب واليهود، اقترحت اللجنة نقل الفلسطينيين من مناطق الدولة اليهودية المقترَحة، وكان عددهم 225 ألفاً، في مقابل نقل 1250 يهودياً فقط من المناطق العربية. احتفل قادة الحركة الصهيونية بتوصيات اللجنة. وقال بن غوريون إن "النقل القسريّ للعرب من أودية الدولة اليهودية المقترحة قد يمنحنا شيئاً لم نحصل عليه قطّ".
وجدت الحركة الصهيونية فرصةً أكبر لتنفيذ مخططات تهجير الفلسطينيين مع بداية الحرب العالمية الثانية. وفي مذكراته لسنة 1940، كتب يوسف فايتس مدير إدارة الأراضي (الاستيطان) في الصندوق القومي اليهودي: "لا مكان للشعبَين في هذه الأرض. الحلّ الوحيد هو أرض إسرائيل بدون العرب. لا مجال للتنازلات، ولا سبيل إلّا نقل العرب جميعاً إلى الدول المجاورة. لا يجب ترك قريةٍ واحدةٍ ولا قبيلةٍ واحدة. يجب توجيه النقل إلى العراق وسوريا وحتى شرق الأردن".
ترأّس فايتس لجنةَ استيطان الأراضي خلال الثلاثينيات، ثم لجنةَ "الترانسفير" المزمعة لترحيل الفلسطينيين خلال حرب 1948. وفي الستينيات، قاد فايتس مشروعاً لزراعة ملايين الأشجار على أنقاض القرى العربية المهدّمة والمهجورة. وسُمّي في الأدبيات الصهيونية بالأب الروحي لمشروع ترحيل الفلسطينيين.
ينقل آفي بارئيلي في مقاله "هجرة الغزّيين: نظرة تاريخية ولمسة معاصرة"، المنشور بصحيفة "إسرائيل هَيوم"، أن البرنامج السياسي لحزب العمال البريطاني سنة 1944 تبنّى فكرةَ التبادل السكاني وتهجير الفلسطينيين قسراً التي اقترحتها لجنة بيل قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
تحمّلت الأمم المتحدة مسؤوليةً قانونيةً وأخلاقيةً أيضاً في هذه المرحلة بوقوع التهجير. فقد تبنّت الجمعية العامة القرارَ رقم 181 الصادرَ في نوفمبر 1947. اقترح القرار تقسيم فلسطين، مناقضاً مبدأ حقوق السيادة الوطنية التي أعطِيَت للشعب الفلسطيني على كامل أراضي فلسطين الانتدابية التي حدّدها ميثاق عصبة الأمم سنة 1919. وذلك وفق ما أشارت دراسة المحامية غيل ج. بولنغ "لاجئو عام 1948 الفلسطينيون وحق العودة الفردي" المنشورة سنة 2001.
تبع قرارَ التقسيم عمليات ترحيلٍ فعلية. فبين ديسمبر 1947 ومارس 1948، بدأت أعمال عنفٍ بين العرب واليهود. وشنّت الميليشيات الصهيونية حملةَ هجماتٍ منظمةٍ واسعة النطاق ضدّ العرب، ردّ عليها العرب بعملياتٍ مضادّةٍ مع فارق القوة. وكانت نتيجة الهجمات تهجيرَ أكثر من مئة ألف فلسطينيٍّ من منازلهم بسبب هجوم العصابات الصهيونية الفعليّ أو الخوف من هذا الهجوم. كان معظم هؤلاء من أبناء الطبقات الوسطى والعليا من المدن الكبرى، وخاصّةً حيفا ويافا والقدس. إضافةً إلى إخلاءٍ شبه كاملٍ للسكان العرب من الساحل بين تل أبيب وحيفا وبعض المناطق الريفية الأخرى. ظلّ بعض المهجَّرين داخل حدود فلسطين التاريخية ونزح آخَرون إلى خارجها، بحسب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" المنشور سنة 1987. وتكرّر هذا النفي الطوعي بالترهيب والتضييق خلال مراحل المشروع الصهيوني، ممهّداً الطريقَ للطرد الجماعي الذي حدث في حرب 1948 ثم حرب 1967.
بدأت العصابات الصهيونية في هذه المرحلة سلسلةَ عملياتٍ عسكريةٍ للسيطرة على المدن الكبرى والممرات الاستراتيجية قبل انسحاب القوات البريطانية في مايو 1948، ضمن ما عُرف بخطّة دالِت (دال). وكان عدد المهجّرين في هذه المرحلة مئتين وخمسين إلى ثلاثمئة ألف فلسطينيٍّ، وفق تقديرات بيني موريس في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين". وتعدّ تلك أكبر موجة نزوحٍ إبّان النكبة، وكانت حاسمةً في تفريغ الساحل الفلسطيني والمدن الكبرى من سكانها العرب. ولترسيخ هذا الواقع، وافق بن غوريون في يونيو 1948 على خطّة "النقل بأثرٍ رجعيّ"، التي تضمّنت خطواتٍ لمنع اللاجئين من العودة. وقد تبعها تدمير مئات القرى، وعمليات نهبٍ واسعة النطاق.
بين 8 و18 يوليو 1948 نفّذت القوات الإسرائيلية "عملية الأيام العشرة" لتوسيع مناطق سيطرتها وتأمين الممرّ بين تل أبيب والقدس، وربط الساحل بالمستوطنات في النقب. وألحقتها بسلسلة عمليات "تطهير" ضدّ عرب فلسطين استمرّت حتى أكتوبر 1948. أدّت هذه العمليات إلى تهجير نحو مئة ألف فلسطينيٍّ، معظمهم من اللدّ والرملة.
وبين أكتوبر ونوفمبر 1948 نفّذ الجيش الإسرائيلي عمليات يوآف وحيرام في النقب والجليل، نجم عنها نزوحٌ جماعيٌّ لعددٍ تراوح بين مئتين إلى مئتين وثلاثين ألف فلسطينيٍّ، وفق موريس أيضاً.
شهدت هذه الحرب بالمجمل تهجيرَ ما لا يقلّ عن سبعمئة ألف فلسطينيٍّ، تحقيقاً لنصف قرنٍ من مخططات التهجير وأحلامه، وهو ما ينطبق على أيّ تعريفٍ للتطهير العرقي. وقد أكّد مؤرّخون إسرائيليون، مثل دانييل بلاتمان وإيلان بابيه، أن الحركة الصهيونية تبنّت فعلاً سياسة "التطهير العرقي". ولا سبيل لأن تمحوَ إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة تلك الجرائمَ مهما حاولوا ذلك. فقد وُثِّقَت تلك الجرائم في مذكرات قادة إسرائيل حينئذٍ، ومنهم إسحاق شامير وموشيه ديان وديفيد بن غوريون وغولدا مائير ومناحيم بيغن. وكلّهم مؤسّسون ومنخرطون في العصابات الصهيونية التي ارتكبت المذابح وجرائم الترويع التي أدّت لتهجير الفلسطينيين، فضلاً عمّا كَشف عنه الأرشيف الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 194 لسنة 1948، الذي نصّ على حقّ العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين. استند القرار إلى تقرير الوسيط الدولي فولك برنادوت، الذي اغتالته منظماتٌ صهيونيةٌ قبل صدور التقرير. قال برنادوت في تقريره إنّ "نزوح العرب الفلسطينيين نتج عن ذعرٍ ناجمٍ عن القتال في مجتمعاتهم، وعن شائعاتٍ حول أعمالٍ إرهابيةٍ حقيقيةٍ أو مزعومةٍ، أو عن طردهم".
سفكت العصابات الصهيونية الدماءَ في سبيل تهجير الفلسطينيين. وهذا أسلوبٌ تابَعَه لاحقاً الجيش الإسرائيلي الذي تطوّر عن تلك العصابات بعد تأسيس الدولة، استناداً إلى قاعدة أن "ما لا يأتي مع القوة، يأتي مع مزيدٍ من القوة".
وضعت إسرائيل حينئذٍ عدّة خططٍ وخرائط لتهجير الفلسطينيين. عملت قواتها على تدمير أكبر عددٍ من قرى الفلسطينيين ومنعتهم من العمل في أراضيهم. وأعدّت حملةً دعائيةً تطلب فيها "مساعدة الدول العربية على استيعابهم" وتشجيع اليهود على الاستيطان في المدن والقرى العربية المهجورة كي لا تنتظر البيوت والأراضي عودة أصحابها. كذلك سنّت إسرائيل وقتئذٍ قوانين لتَحول دون عودة الفلسطينيين. ومن ذلك قانون حقّ العودة الذي ينصّ على حقّ كلّ يهوديٍّ في العالم بالقدوم لإسرائيل والتجنّس بجنسيّتها، وقانون استملاك الأراضي وأملاك الغائبين الذي يصادر ممتلكات الفلسطينيين الذين خرجوا أو هُجّروا من ديارهم بعد قيام إسرائيل. واستمرّ تدمير القرى الفلسطينية وعمليات القتل فيها، وزجّ المستوطنين نحوها.
وبسبب الضغوط الدولية على إسرائيل لقبول عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين كان بينهم ربع مليونٍ في غزة وحدها، اقترح وزير الخارجية الإسرائيلية موشيه شاريت (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء) على الحكومة في يوليو 1949 مشروعَ لمّ شمل العائلات الفلسطينية بعددٍ أقصى يبلغ مئة ألف لاجئٍ، عوائلهم داخل مناطق 48. ووافقت الحكومة بعد صراعاتٍ داخليةٍ على نسخةٍ مخفّفةٍ من هذا المقترح. والحقيقة كما قال موريس أنه حتى سنة 1951، عاد 1965 فلسطينياً فقط، لأن المشروع اقتصر على موافقة عودة النساء والأطفال والشابات العازبات.
وفي سنة 1949، اقترح مدير قسم الأراضي والتشجير في الصندوق القومي اليهودي يوسف فايتس خطّة "يوحنان"، التي استهدفت تشجيع الفلسطينيين المسيحيين في منطقة الجليل على الهجرة إلى دول أمريكا الجنوبية باستعمال حوافز ماليّة. ولكنها أوقِفَت نهاية سنة 1952 بعد إخفاقها في إنجاز الطلبات المعدودة التي تلقّتها من عددٍ قليلٍ من الأسر الفلسطينية التي أبدت رغبتها بالرحيل. وقد وثّق مؤرخون من قرية الجش تفاصيل هذا المخطط، منهم مصطفى العباسي في كتاب "الجش تاريخ قريةٍ جليلية" المنشور سنة 2010.
وبين سنتَيْ 1953 و1958، أعدّ فايتس خطةً بديلةً تقترح توطينهم في ليبيا بشراء أراضي المستوطنين الإيطاليين هناك. صادقت الحكومة عليها في مايو 1954. ولكنها فشلت في النهاية إثر اندلاع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 وتسريب تفاصيلها.
سَعت إسرائيل لاستغلال العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 لطرد فلسطينيِّي 48 إلى الأردن، ضمن خطّة "حفرفيرت" (الخُلد) التي أعدّها رئيس الأركان موشيه ديان. وفي إطارها ارتُكِبَت مجزرة كفر قاسم التي راح ضحيّتَها 49 فلسطينياً. كذلك استغلّت اسرائيل أجواء الحرب لطرد عدّة آلافٍ من قريتَيْ كراد الغنامة وكراد البقارة في قضاء صفد إلى سوريا.
ولم يترك الجيش اللاجئين الذين انتقلوا لغزّة، فارتكب مجازر لإرغام السكان على الفرار. فقد اقتَحَم القطاعَ بين أكتوبر 1956 ومارس 1957، وقَتَلَ نحوَ ألفٍ ومئتَيْ مدنيٍّ في مدينتَيْ خان يونس ورفح وحدهما، وفق ما ذكر نور مصالحة في كتابه "أرض أكثر وعرب أقل". لكن مع تلك المحاولات العديدة، فإن مجموع الفارّين نحو الأردن وسوريا لم يتجاوز الألف. ممّا صدم رئيس الوزراء بن غوريون لدى زيارته القطاع للاحتفاء بمناسبة "النّصر". فبحسب كاتب سيرته ميخائيل بار زوهار، تفاجأ بن غوريون بأنّ "الفلسطينيّين لم يفرّوا من الجيش الإسرائيلي مثلما فعلوا سنة 1948".
ظلّت محاولات تهجير الفلسطينيين مستمرّةً حتى عشيّة حرب 1967. ففي سنة 1965، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول أمام الكنيست مشروعَ توفير "موارد هائلة" لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية. بُنِيَ الموقف الإسرائيلي في هذه المرحلة على أساس تهجير الفلسطينيين من جهةٍ ومنع عودة المرحّلين سابقاً، بزعم عدم تهديد الصبغة اليهودية للدولة. وهذا هو المبدأ الذي سَعت لتكريسه جميع الحكومات اللاحقة. ورافق ذلك ضغوطٌ على من باتوا يُعرَفون بِاسم "فلسطينيي 48" ممّن بقوا في أراضيهم المحتلة ولم يغادروها بعد نكبة 1984، وكان معظمهم في مناطق المثلث والجليل.
كانت تقديرات الإحصاء المصري سنة 1966 أن عدد سكان قطاع غزة نحو 455 ألف نسمة. بعد الحرب، انخفض العدد المسجّل لدى المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء إلى 354 ألف نسمة. عزا الإسرائيليون الفارق إلى عدم دقّة المصريين، ولكن فارق مئة ألف فلسطينيٍّ يصعب معه إغفال التهجير بسبب الحرب.
اعتمدت إسرائيل بعد الحرب استراتيجيةً متعدّدة الجوانب لتشجيع الفلسطينيين على الرحيل الطوعيّ، وخاصّةً من غزة. فاقترحت عشرات الخطط في الأشهر التي تلتها. كذلك أنشأت بعد الحرب مباشرةً أربع مستوطناتٍ في القطاع وفق خطّة "الأصابع الخمسة". وذلك بتقسيم قطاع غزة إلى خمس مناطق معزولةٍ تُحكِم إسرائيل سيطرتَها عليها. آنذاك أنشأت إسرائيل مكاتب للهجرة في مخيمات اللاجئين بغزة تَعرِض الأموال على من يوافقون على الانتقال النهائي للخارج. وفي الوقت ذاته، عمدت إلى خفض مستوى المعيشة في غزة لدفع الناس إلى المغادرة. وأعدّت مجموعة أكاديميين وموظفين رسميين، سمَّت نفسها "مجموعة رحوبوت"، مخطّطاً استهدف تطوير الضفة لتشجيع هجرة العمال إليها من غزة.
وفي اجتماع لجنة المدراء العامّين سنة 1967، نوقشت خطة نقل السكان من قطاع غزة إلى الضفة الغربية. وتوصلت اللجنة إلى أسلوب تشجيع الهجرة من خلال الحوافز الاقتصادية. اعتمدت الخطة على عوامل الطرد (التضييق) والجذب. فالسكان يهاجرون بسبب عوامل الطرد، مثل البطالة والتهديد الأمنيّ في منطقة المنشأ. وبالعكس مع عوامل الجذب، مثل توفر الوظائف والاستقرار السياسي في نقطة المقصد. وقال الحاكم العسكري للقطاع وشمال سيناء آنذاك مردخاي غور: "إننا نحتاج لخلق الظروف المشجعة للناس على الرحيل. علينا أن نمارس الضغط عليهم بطريقةٍ لا تتسبّب في توليد مقاومةٍ، بل تدفعهم إلى المغادرة حتى يفقدوا الأمل في قطاع غزة".
وفي مناقشات الحكومة الإسرائيلية اقتُرِحَت أفكارٌ عدّةٌ لتهجير الغزّيّين أو تقليص عددهم. كانت فكرة موشيه ديان تقليص العدد إلى مئة ألفٍ فقط. أما وزير العمل يغآل ألون، فقد اقترح توطين لاجئي غزة في العريش والضفة الغربية. ولكن رئيس الحكومة ليفي أشكول اقترح تجفيف القطاع لدرجة الكارثة وتقييد الوصول لإمدادات المياه، وفق حجّةٍ بسيطة: "إذا لم نمنحهم ما يكفي من الماء، فلن يكون لديهم خيارٌ آخَر غير المغادرة".
وأعلن وزير الدفاع موشيه ديان خطة "الجسور المفتوحة" لتسهيل حركة الفلسطينيين من الضفة وغزة وفي اتجاه مصر والأردن، ويشجعهم على الهجرة هناك. وأمر بتنظيم رحلاتٍ يوميةٍ بين غزة والضفة. وكانت تلك أوّل مرّةٍ يُسمح فيها لأيّ شخصٍ من القطاع بمغادرته منذ 1948، بعد أن كانت المغادرة مشروطةً بالحصول على أذونٍ معقّدة.
واعتمدت الحكومة في أكتوبر وثيقة "مبادئ العمل للأراضي المحتلة". منحت الوثيقة الأولوية لإجلاء اللاجئين من مخيمات غزة، ثم خروج المقيمين الدائمين منها وتقليص عدد سكان الضفة، مع تسهيل حركة اللاجئين نحو الضفة ثم الأردن.
نتيجة هذه الخطط، عَيّن أشكول في فبراير 1968 لجنةً مسؤولةً عن تشجيع "الهجرة الهادئة من القطاع". كانت الخطة تشجيعَ الهجرة الطوعية بتوفير الحوافز المالية. وكانت الدول المستهدَفة هي الأردن والخليج العربي. وكان هدفها هجرة 350 ألف لاجئ. ولكن لم يخرج في المحصّلة سوى عشرين ألفاً، معظمهم رغبةً في التئام شملهم مع أسرهم المقيمة في الخارج.
باءَ المشروع بالفشل. فقد أوقفت الأردن دخول الفلسطينيين، وقدّمت مع مصر شكوىً للأمم المتحدة تكشفان فيها هذا المشروع. وفي تلك الآونة قدّم القيادي في الجيش الإسرائيلي يغآل ألون النسخة النهائية من خطّته للسلام الإقليمي التي اعتمدتها الحكومة في مفاوضاتها مع الأردن. وتتبنّى خطّته بناءَ مستوطناتٍ في وادي الأردن وخضوع المتبقّي من الضفة الغربية لحكمٍ أردنيٍّ، مع تجاهل الحديث عن حقّ العودة للّاجئين طبعاً. وكان هاجس التفوق الديمغرافي بتقليل عدد العرب داخل إسرائيل هو المسيطر على هذه الخطة.
ولكن الحاكم العسكري للضفة الغربية –الذي أصبح رئيساً للأركان لاحقاً– الجنرال مردخاي غور لاحظ أن مخططات تهجير الفلسطينيين أتت بنتيجةٍ معاكسة. فقد صعّدت رفضَ المجتمع الفلسطيني ومقاومتَه ضدّ إسرائيل. وفي اجتماع لجنة الشؤون الخارجية والأمن بالكنيست في فبراير 1969، قال إن الغرض من الوضع الاقتصادي السيّئ كان تشجيع هجرة الفلسطينيين ولكنه دفعهم لأحضان المقاومة.
ركّزت الوثائق الإسرائيلية في هذه المرحلة على جعل أمريكا الجنوبية في مخططات تهجير الفلسطينيين. ونُفّذت خطّةٌ سرّيةٌ لم يكشَف عن تفاصيلها حتى سنة 2004، حين كتبت الصحافة الإسرائيلية تقارير عنها. ففي مايو 1969، توصّل رئيس الموساد تسفي زامير إلى اتفاقٍ مع السلطات في باراغواي لاستيعاب ستّين ألف فلسطينيٍّ عبر تأشيرات عملٍ لأربع سنوات. تخوِّل هذه التأشيرات حامليها دخول باراغواي قانونياً، ثمّ التأهل للحصول على الجنسية. إلّا أن أعداد المستجيبين كانت ضئيلةً وغير ملحوظة. وانتكست الخطّة عقب وصول شابَّيْن من غزة إلى باراغواي سنة 1970 وقتْلهما سكرتيرةَ السفير الإسرائيلي هناك. حُكِم على الشابّين بالسجن ثلاث عشرة سنةً، وتكلّما عن خطّة النقل الإسرائيلية وقتها ولكن لَم يصدّقهما أحد.
فشلت تلك الخطّة. لكنها عُدَّت أوّلَ محاولة تهجيرٍ "ترانسفير" مؤسسيةٍ ومنهجيةٍ، إذ أشرف عليها مكتب رئيس الوزراء. وشُكّلت وحدةٌ سرّيةٌ للعثور على مرشحين مناسبين وإقناعهم. وفي باراغواي استقبلهم عملاء الموساد. وأسهَمَ محلّيون ممّن يدينون باليهودية وبعض المتعاطفين مع إسرائيل هناك بالمال والعلاقات لاستيعاب المهجَّرين.
بذلت إسرائيل كثيراً من الجهد والمال لتهجير أهل القطاع، لكن هذا لا يعني نجاح السياسات الاستعمارية بالضرورة. فقد تحوّل القطاع إلى المنطقة الأعلى كثافةً سكانيةً في العالم. آنذاك قاوم الغزّيون عملية تنظيم الهجرة الطوعية. فقد قَتَلَ سكّان القطاع خلال أربعة أشهرٍ أربعةً وثلاثين متعاوناً مع الإدارة الإسرائيلية في عملية التهجير الطوعي، بحسب دراسة المؤرخ الإسرائيلي يوآف غيبلر "ميتسيأت مِي عَزّة" (الخروج من غزة) المنشورة سنة 2016. رافق هذه المخططاتِ مواجهة خلايا المقاومة في غزة والضفة بممارساتٍ عقابيةٍ جماعيةٍ، واستغلال عمليات المقاومة لتبرير دفع السكان نحو الرحيل.
من تحركات العقاب الجماعي تلك كان قرار قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي أرييل شارون في ديسمبر 1970 بإقامة أسوارٍ حول مخيمات القطاع الثمانية وفرض حظر تجولٍ فيها. كانت خطة شارون اقتلاع ثمانيةٍ وثلاثين ألف فلسطينيٍّ من غزة وتوطينهم في أماكن أخرى. وفي السنة التالية، بدأ هدم آلاف المنازل في المخيمات وإنشاء طرقٍ فسيحةٍ فيها يمكن أن تعبر منها الدبابات وتمنع اختباء الفدائيين. وبدأت رحلاتٌ أسبوعيةٌ لنقل اللاجئين إلى مخيماتٍ أخرى في الضفة. ولكن العدد الأكبر من المشرّدين نقلَ إلى مخيماتٍ أخرى داخل غزة.
وفي يوليو 1972 نُقل خمسة آلاف شخصٍ إلى العريش في مصر، بحسب المؤرخ الإسرائيلي أرييل هاندل في كتابه المشترك مع مجموعة مؤلفين بعنوان "سلطة الإقصاء الشامل" المنشور سنة 2012. بينما قدّرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية عدد المهجّرين إلى سيناء بِاثني عشر ألفاً. لم تنجح خطة تهجير الفلسطينيين إلى مصر. فقد عاد المهجرون لاحقاً إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978.
أسفرت مشاريع الهدم عن تدمير اثنين وعشرين ألف منزلٍ وتشريد واحدٍ وستّين ألف شخصٍ بين سنتَيْ 1967 و1988. أكدت ذلك عالمة الاقتصاد السياسي الأمريكية سارة روي في كتابها "قطاع غزة: السياسة الاقتصادية للإفقار التنموي" المترجم للعربية سنة 2018.
يصعب تجاوز ملاحظة أن الحكومات التي رعت مخططات تهجير الفلسطينيين بين 1948 و1977 هي حكوماتٌ عمّاليةٌ وتمثّل تيارَ يمين الوسط واليسار. تلك المصنّفةَ بأنها تتبنّى التسوية السلمية مع الفلسطينيين والعرب، ويراها قطاعٌ واسعٌ من السياسيين الفلسطينيين والعرب شريكاً لإنجاز حلٍّ سلميٍّ للصراع.
قدّم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن سنة 1977 أوّل مشاريع تهجير الفلسطينيين بعد الحرب. إذ رفض حقّ التعويض للّاجئين بالتزامن مع رفع أعضاء حزب الليكود الذي يرأسه شعارَ "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل، بموجب كتاب إسرائيل". وفي سنة 1982 أعلن رئيس منظمة "اليهود القادمون من العراق" مردخاي بن بورات خطّةً لنقل ثمانيةٍ وعشرين مخيماً تضمّ نحو ربع مليون لاجئٍ في الضفة وغزة تجاه مناطق جديدةٍ يتوطّنون فيها، لإنهاء الارتباط القائم بين وضع المخيمات وحقّ الفلسطينيين في العودة. لقيت الخطّة استحسان حكومة مناحيم بيغن التي استمرّت في السلطة بين عامَيْ 1977 و1983، ولكن اندلاع حرب لبنان أوقف الخطّة.
ومع اجتياح القوّات الإسرائيلية لبنانَ سنة 1982 ظهرت خططٌ هدفها إفراغ مخيمات الضفة ونقل سكانها إلى الأردن، مستندةً إلى حججٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ ودينية. فقد دعا زعيم حركة "كاخ" اليمينية والمصنَّفة إرهابيةً، الحاخام مائير كاهانا، سنة 1984 في الكنيست إلى تهجير الفلسطينيين اعتماداً على النصوص التوراتية. ولاتزال نداءاته وتوجهاته المتطرفة تجد من يتبنّاها بعد سنين من اغتياله على يدِ شابٍّ مصريٍّ في أمريكا.
اندلعت انتفاضة الحجارة سنة 1987، ولكن لم تتوقف معها طموحات إسرائيل في تهجير الفلسطينيين. ووضع الوزير اليميني المتطرف رحبعام زئيفي سنة 1991 ضمن أجندة الحكومة هدفَ تهجير الفلسطينيين، رافعاً شعار "الترانسفير". وقال بأن الفلسطينيين "طابور خامس" يقيم وسط المجتمع اليهودي. ولكن خطط زئيفي لم ترَ النور عقب انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في السنة نفسها وإعلان اتفاق أوسلو لاحقاً، قبل أن تغتاله الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سنة 2001.
اعتمدت مخططات تهجير الفلسطينيين في هذه المرحلة على استغلال إغراء الوضع الاقتصادي الأفضل في البلدان المقترَحة للّجوء. وكانت الدول التي تكرّر ذكرها في الخطابات ووثائق الاجتماعات لتكون وجهاتٍ للتهجير هي دول الخليج العربي وأمريكا اللاتينية.
وقد استغلّت إسرائيل الحروبَ والتوترات لتسريع التهجير وتشجيع المنكوبين على الرحيل، في ظلّ الانشغال الدولي بمجريات القتال وعدم تركيزه على ما يُرى تفاصيلَ ثانويةً، مثل "انتقال" أو "سفر" الفلسطينيين. وذلك بحسب المصطلحات المخففة التي كان يذكرها الخطاب السياسي الإسرائيلي ما عدا اليمين المتطرف الذي كان يستعمل مفردة "الترانسفير".
استهلّ مشاريعَ هذه الحقبة وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، الذي كان عرّابَ مفاوضات السلام مع الفلسطينيين والعرب. دعا بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، المترجم للعربية سنة 1994، إلى توطين اللاجئين في "الدولة الفلسطينية المستقبلية". وسنة 1994 أنجز رئيس الاستخبارات العسكرية الجنرال شلومو غازيت مشروعَه الخاصّ بمستقبل اللاجئين الفلسطينيين، الذي بات مرجعيةً للحكومة، ويدعو فيه لتوطينهم حيث هم مع إلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".
تردّد صدى هذه المشاريع في واشنطن. فقد اقترحت عضوة مجلس العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي دونا آرزت مشاركةَ دول الخليج العربية في عملية توطين اللاجئين، في كتابها "من لاجئين إلى مواطنين" المنشور سنة 1997.
وفي أواخر التسعينيات دعا أفيغدور ليبرمان، مؤسّس حزب "إسرائيل بيتنا" وزعيمه، إلى تطبيق سياسة "التبادل السكاني". وكانت حجّته أنه "لا يوجد سببٌ يجعل فلسطينيِّي 48 مواطنين في الدولة، بل يجب نقلهم للضفة وغزة". واقترح شرطاً لمنحهم الجنسية قَسَمَ الولاء للدولة باعتبارها "دولة يهودية وصهيونية". وكان شعاره الانتخابي سنة 2009 "لا مواطَنة بدون ولاء".
اندلعت انتفاضة الأقصى في سنة 2000 عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وبين سنتَيْ 2002 و2003، نفّذ الجيش الإسرائيلي عملية "السور الواقي" في الضفة الغربية. فهجّر آلاف الفلسطينيين من مخيماتهم وقراهم. لاحقاً في سنة 2005 انسحب الجيش الإسرائيلي من غزة لأسبابٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ واقتصاديةٍ، بينها القلق من تزايد الكثافة السكانية الذي بات عبئاً عليه. ولكنه في السنة التالية فرض حصاراً على القطاع، عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية. وشهدت سنوات 2008 و2012 و2014 و2021 حملاتٍ عسكريةً إسرائيليةً على القطاع.
في الحصار والحروب المتعاقبة زادت معدّلات البطالة على 70 بالمئة، ووقع 60 بالمئة من سكان غزة تحت خط الفقر. شجّعت هذه الأوضاع حركةَ الهجرة إلى خارج القطاع. وفي سنة 2018 أجرى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني مسحاً للظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسَر الفلسطينية. وبلغ عدد الراغبين بالهجرة من قطاع غزة 87 بالمئة. وفعلاً بلغ عدد من غادروا القطاع بين سنتَيْ 2006 و2023 240 ألفاً، بنسبة 11 بالمئة من السكان، وفق البيانات التي حلّلتها دراسة أحمد مأمون وزهراء شبانة "الاستعمار الاستيطاني وولادة السجناء الجدد" المنشورة سنة 2024.
ترافقت الهجمات الإسرائيلية المتعاقبة على القطاع مع طرح مزيدٍ من مخططات التهجير. ففي سنة 2010 أعلن الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي الجنرال غيورا إيلاند خطّةً تعتمد على أن تخصّص مصر للفلسطينيين منطقةً في سيناء، مساحتها 750 كيلومتراً مربّعاً، مقابل حصولها على منطقةٍ مساويةٍ في النقب الغربي. لم يتأخر الرفض المصري حينها، ولكن التفكير بمصر وجهةً للتهجير لم يزل قائماً منذئذ.
وفي سنة 2017 أعلن رئيس حزب "الصهيونية الدينية" عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش "خطة الحسم" لتشجيع الهجرة الطوعية للفلسطينيين مقابل تعويضاتٍ ماليّة. وكشف عن هدفه بألّا يبقى في غزة سوى 100 أو 150 ألف فلسطينيٍّ من بين ما يربو على مليونين. لاحقاً أصبح سموتريتش وزيراً في الحكومة الإسرائيلية التي نفّذت أكبر عملية قتلٍ وتدميرٍ وخطّة تهجيرٍ في القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023.
شهدت سنة 2019 حراكاً نشطاً في مخططات تهجير الفلسطينيين. فقد ناقشت الحكومة طرقَ تشجيع الهجرة الطوعية نحو الدول العربية، ولكنها لم تعثر على بلدٍ يوافق على استقبال الفلسطينيين المُهجّرين. وطالبت وزيرة العدل السابقة آياليت شاكيد بتسهيل الرحيل على الراغبين.
شهدت إسرائيل بين سنتَيْ 2018 و2022 حالة عدم استقرارٍ داخليٍّ تخلّلتها انتخاباتٌ مبكرةٌ خمسَ مرّات. ومع صعود اليمين المتطرف، برزت مخططات تهجير الفلسطينيين ركناً أساسياً في البرامج الحزبية. وهدّد عضو الكنيست عن حزب "البيت اليهودي" يانون ماغال الفلسطينيين في مقابلةٍ تلفريونيةٍ في أبريل 2022 بقوله: "إذا رفعتم رؤوسكم، فستكون نكبةً أخرى هنا". ترافق صعود اليمين مع موجة خطاباتٍ عنصريةٍ علنيةٍ داعيةٍ للتهجير وإنهاء وجود الفلسطينيين.
لم تبقَ هذه الدعوات محضَ دعايةٍ انتخابيةٍ أو كلامٍ خطابيّ. ولكنها بدأت التحقق بسَنّ مزيدٍ من القوانين العنصرية والسياسات الميدانية، وصولاً إلى شنّ الحملات العسكرية. ففي سنة 2020 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "صفقة القرن" لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. وتضمّنت خطّته تطويرَ شمال شبه جزيرة سيناء واستقدام مستثمرين إليها، على أن يدير المشاريع الفلسطينيون والمصريون معاً. ومؤدّى هذا توطين الغزّيين فيها.
وبعد معركة سيف القدس في مايو 2021، التي تزامنت مع مشاركةٍ واسعةٍ لفلسطينيِّي 48 في التظاهر الرافض لتهجير سكّان حيّ الشيخ جرّاح والاعتداءات الإسرائيلية على القدس وغزة، صدرت دعواتٌ إسرائيليةٌ لإبعادهم خارج الدولة. وحذّر حينها عضو الكنيست –وزير الدفاع لاحقاً– يوآف غالانت بأن "الدولة قد تتخلى عنهم، وسيكون الثمن باهظًا". وقال زميله في الكنيست –وزير المالية لاحقاً– سموتريتش لأعضاء الكنيست الفلسطينيين إن "أمثالكم لن يبقوا هنا". وقال زميلهما –وزير الأمن القومي لاحقاً– إيتمار بن غفير إن "فلسطينيِّي 48 قد يذهبون للسعودية أو العراق أو إيران، ولكن ليس هنا. هذا المكان لنا [. . .] إسرائيل أرضنا. وكلّ من يعمل ضدّ الدولة سيُطرد". واقترح عضو الكنيست عن حزب "القوة اليهودية" إسحاق فاسرلاوف ترحيل داعمي المقاومة إلى سوريا.
استمرّت تهديدات اليمين المتطرف بالتهجير في السنة التالية. فقد هدّد وزير الاتصالات شلومو كيرعي أيَّ فلسطينيٍّ يؤذي يهودياً بالطرد. فقال: "من أراد النكبة، ربما يحتاج للتذكير بما تعنيه". وقال عضو الكنيست الذي شغل حقائب وزاريةً عدّةً قبل ذلك وبعده، يسرائيل كاتس، للطلاب العرب الذين تظاهروا في الجامعات "تذكّروا سنة 1948 [. . .] حرب استقلالنا ونكبتكم [. . .] سنعلّمكم درساً لن تنسوه".
صدرت مخططات التهجير وخطاباته في هذه المرحلة من الحكومة الإسرائيلية ودوائرها. وقامت على هاجسٍ أمنيٍّ بسبب صعود قوّة فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع والعمليات التي تستهدف القوات الإسرائيلية في الضفة. وأكدت هاجس الصراع الديمغرافي بين الفلسطينيين واليهود. فقد ردّدت أصوات اليمين المتطرّف مصطلحَ "الكابوس الديمغرافي" الذي يمثّله تزايد أعداد الفلسطينيين، إذ يَعدّونه تهديداً لوجود الدولة إن زادت أعداد الفلسطينيين على أعداد اليهود خلال السنوات اللاحقة.
افتتحت هذه المبادراتِ بعد أيّامٍ من الحرب وزيرة الاستخبارات غيلاه غمليئيل، التي كشفت عن خطّتها وثيقةٌ مسرّبةٌ نشرتها الصحافة الإسرائيلية. تقوم الخطة على تشجيع هجرة الغزّيين إلى سيناء، وأن تنشئ إسرائيل مدينةً مزدهرةً هناك وتبنيَ لهم شققاً. ولكن تبدأ الخطة بإقامة مدن خيامٍ داخل سيناء، ثمّ إنشاء ممرٍّ إنسانيٍّ إليها، ثمّ إعداد منطقةٍ فاصلةٍ داخل مصر تمنع عودة المهجّرين إلى غزة. واقترحت غمليئيل عدّةَ دولٍ بديلةٍ على إسرائيل إقناعها باستقبال الفلسطينيين، مثل إسبانيا واليونان وكندا والكونغو والدول العربية. كذلك درست الحكومة خطط إنشاء مطارٍ قرب غزة لنقل السكان إلى وجهاتهم الجديدة.
بعد أسابيع من الحرب، قال الباحث الأمنيّ المقرّب من صنّاع القرار رفائيل بن ليفي إن السبيل الوحيد الممكن لتحقيق الاستقرار في غزة هو "ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، وإنشاء مبادرةٍ دوليةٍ لاستقبالهم في دول أجنبية". وقبل نهاية السنة أعلن عن مخططاتٍ أخرى للتهجير. فقد دعا عضوان من لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست إلى صياغة خطةٍ تسمح بهجرة الفلسطينيين من غزة إلى البلدان التي توافق على استقبالهم ودعمهم ماليّاً. كذلك أسّس عضو حزب الليكود أمير ويتمان مبادرة "حركة الهجرة الإنسانية لسكان غزة".
ولكن الثقل الأهمّ في خطط التهجير كان في دعم واشنطن العلنيّ للمرّة الأولى. فقد أوردت صحيفة "إسرائيل هَيوم" أن النائب في مجلس النواب الأمريكي جو ويلسون دعم خطةٍ تربط المساعدات الأمريكية لدولٍ عربيةٍ بقبول استقبال لاجئين من غزة، ولم تصدر تصريحاتٌ رسميةٌ بعد الضجة الإعلامية حولها. في نوفمبر 2023، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اجتماعٍ مغلقٍ لكتلة الليكود عن بدء العمل على تسهيل ترحيل سكان غزة لدولٍ أخرى، مع اعترافه بصعوبة العثور عليها.
في سبتمبر 2024 عاد الجنرال المتقاعد غيورا إيلاند، صاحب خطة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وطرح ومعه ضباطٌ في الجيش الإسرائيلي مقترحاً عُرف بِاسم "خطة الجنرالات" للقضاء على حركة حماس في شمال غزة وإعادة استيطانها. وقامت الخطة على تهجير السكان إلى جنوب القطاع، وفرض حصارٍ كاملٍ وسياسة تجويعٍ شاملةٍ على منطقة الشمال، وتصيير جميع من يبقى فيها هدفاً عسكرياً. ومع أن الجيش لم يعلن رسمياً تبنّيَه الخطةَ، إلّا أنه توخّى تنفيذَها عملياً. وتزامن التهجير نحو جنوب القطاع مع تصاعد صوت دعوات التهجير والتوطين في شمال سيناء. ورافقها مقتل الآلاف في القصف وطرق النزوح والخيام وبسبب التجويع والتدمير الممنهج للقطاع الصحي.
شهدت الحرب الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023 قتل أكثر من خمسين ألف فلسطينيٍّ، ونزوح نحو مليونين منهم داخلياً عدّة مرّات. وقالت الأمم المتحدة إن 92 بالمئة من المساكن دُمّرت أو تضرّرت جزئياً مع انهيار المنظومة الصحّية والمرافق الحيوية، ما يجعل وضع التهجير داخل القطاع أكثر ديمومةً حتى إن انتهت الحرب.
وتوّج الدعمَ الأمريكي للحرب الإسرائيلية وخططَ التهجير في القطاع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فبراير 2025 خطّتَه لإخلاء سكان غزة نحو مصر والأردن ودولٍ أخرى. وهي خطةٌ رفضتها الدول العربية في تصريحاتٍ علنيةٍ، فيما رحّب بها السياسيون الإسرائيليون وخاصّةً المنتمون لأحزاب اليمين. وعَدَّها بن غفير "تحقيقاً للحلّ الوحيد لغزّة المتمثل بتشجيع هجرة سكانها". وسمّاها رئيس الكنيست أمير أوحانا "فجر يومٍ جديد". وقال ليبرمان إن "الحلّ العادل في غزة يمرّ عبر سيناء". وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية في مارس 2025 إطلاق أوّل مشروعٍ تجريبيٍّ لتشجيع الهجرة الطوعية من غزة بقيادة منسّق أنشطتها هناك الجنرال غسّان عليان.
لم تكن أفكار التهجير حكراً على النخبة السياسية ورموز اليمين المتطرف. فقد أظهرت نتائج استطلاعٍ أجراه معهد سياسة الشعب اليهودي تأييداً شعبياً واسعاً لفكرة التهجير باعتبارها "الحلّ الأخلاقي والعملي والمرغوب"، فأيّدها 81 بالمئة في أوساط اليمين، و57 بالمئة في يمين الوسط.
رَفَضَت جميع الدول المقترَحة لاستقبال الفلسطينيين خطّةَ ترامب، وخاصّةً مصر والأردن. ولكن وافقت بعض الدول في وقتٍ سابقٍ على قبول عددٍ محدودٍ من الفلسطينيين ممّن لديهم أقارب فيها. فمنحت كندا ألف تأشيرة لجوءٍ لثلاث سنواتٍ لأقارب فلسطينيين يحملون جنسيّتها. وقدّر السفير الفلسطيني في مصر، دياب اللوح، عددَ الغزّيّين فيها بنحو مئة ألف شخصٍ بحلول أبريل 2025.
وبسبب الحساسية من مصطلح التهجير، فقد عاد مصطلح "تبادل الأراضي والسكان" للظهور. وهي فكرةٌ اقترحها في عقودٍ سابقةٍ الجغرافيّ يهوشع بن أرييه، وتعني مضاعفة أراضي غزة في اتجاه البحر المتوسط وشمال سيناء بعد أن تُخليها مصر بموجب عقد استئجار ثلاثمئة كيلومترٍ مربّعٍ مقابل حصولها على مساعداتٍ دوليةٍ وعربيةٍ ضخمةٍ. وذلك حتى تتوسع مساحة القطاع ويمكن إعادة توطين مخيمات اللاجئين المدمَّرة وإقامة بنيةٍ تحتيةٍ لإنشاء مدنٍ جديدةٍ منزوعة السلاح.
لم يقتصر ترحيل الفلسطينيين على قطاع غزة خلال حرب السابع من أكتوبر. فقد شهدت الضفة الغربية موجة نزوحٍ وتهجيرٍ في مخيمات اللاجئين، لاسيّما طولكرم ونور شمس وجنّين. وجرّف الاحتلال شوارعَها وطرد سكّانَها وحظر عودتَهم إليها.
وطالما أن الحرب الإسرائيلية على غزة مستمرةٌ منذ سنةٍ ونصفٍ، فإن مخططات تهجير الفلسطينيين تبقى ممكنة التحقّق. إذ تصبح الهجرة مع الوقت والموت خيار النجاة الوحيد، مع امتداد القصف الإسرائيلي إلى المنازل والمستشفيات وطرق الهروب وخيام النازحين. إضافةً إلى إعدام المنظومة الصحّية والمرافق الحيوية، وتكرار نزوح العوائل وسط المذبحة.
