في مدينتِي العتيقةِ، تتناثرُ حكاياتُ الماضي بين الأزقّةِ والأسواقِ الممتدّةِ سبعةَ عشرَ كيلومتراً والمغطّاةِ بأَسقُفَ تَروي قصصاً تعودُ إلى الألفيةِ الثالثةِ قبل الميلادِ. اليومَ، وبعدَ سنواتٍ من إِعادةِ الإعمارِ والتجديدِ، عادَت بعضُ أسواقِ حلبَ تنبضُ لكنّ وجوهَ المدينةِ تغيّرَت. فالأسواقُ التي كانت تعُجُّ بالحركةِ والحياةِ تعيشُ مزيجاً من الأملِ والحنينِ إلى ذلك الماضي، وبينما تُواصِلُ السلطاتُ جهودَ الترميمِ، يظَلُّ التحدّي الأكبرُ في إعادةِ الروحِ إلى مدينةٍ تحملُ بين جنباتِها نُدوبَ الحربِ.
لِتَجرِبَتِي مع حلبَ القديمةِ حكاياتٌ بُنِيَت على مراحلَ متعدّدةٍ، صاغتْها مشاهَداتي المختلفةُ والمتغيّرةُ بتغيّرِ منظورِي في سنينِ عُمري. كيف لي أن أعيشَ في واحدةٍ من أقدمِ المدنِ المأهولةِ بالسُكّانِ ولا أعرفَ عنها شيئاً حتى دفعَتني الحربُ لذلك حين فاتَ الأوانُ؟ بعد أن أكلَ الدمارُ مدينتي العتيقةَ، ما بين حربٍ وزلزالٍ، عدتُ إلى حلبَ محاوِلةً تلقُّفَ جَمالِها واقتفاءَ أثرِ ما بقيَ من بيوتِها وأسواقِها ومبانيها القديمةِ. وعملتُ في مشاريعِ ترميمِ ما هُدِمَ وتعميرِه ليعودَ للمدينةِ شيءٌ من مبانيها لكنها لم تُحْيِ روحَ حلبَ التي أعرفُها؛ حلبَ العامرةِ بالناسِ وبالحركةِ وبالزحامِ وبصخبِ الحياةِ.
دخلتُ جامعةَ حلبَ سنةَ 2009 وبدأتُ الدراسةَ في كليةِ الهندسةِ المعماريةِ وكسبتُ بعضَ الصداقاتِ وتعرّفتُ إلى جزءٍ صغيرٍ من ذلك الركنِ المجهولِ من المدينةِ. معرفةٌ كانت سطحيةً ولا تَستهدفُ الاستكشافَ المعماريَّ.
كنّا نَستقِلُّ وسائلَ النقلِ الداخليِّ، وهي متعةٌ لطلابِ الجامعاتِ القادمين من مجتمعاتٍ مختلفةٍ، ينتهزون فرصةَ حرّيةِ التنقّلِ واستكشافِ مدينتِهم. نَمُرُّ مِن بابِ الحديدِ وتلتقطُ أعيُنُنا الفوضى الشعبيةَ وأوعيةَ الجُبنِ الكبيرةَ ومحلّاتٍ تبيعُ العمّالَ مامونيّةَ حلبَ الشهيرةَ في الصباحِ الباكرِ. نَصِلُ حيَّ الجْدَيدة على تخومِ المدينةِ القديمةِ ونمشي في الأحياءِ الضيّقةِ ونأخذُ بعضَ الصورِ التذكاريةِ في نهاياتِ الأزقّةِ المعترشةِ بالورودِ، وأمام أبوابِ البيوتِ المتنوعةِ الأشكالِ والألوانِ حتى نَصِلَ ساحةَ الحطبِ فنجلسُ فيها مندهِشين لوجودِ السيّاحِ. نَرقُبُهم إذ يشترون الكتبَ على البسطةِ ويلتقطون صورَ المجسّماتِ التراثيةِ وينظرون مَلِيّاً في الخرائطِ. ثمّ نُنهي المشوارَ والضحكُ سيّدُه، لا العمارةُ ومعرفةُ خباياها في مدينةٍ عريقةٍ مثل حلب صَدَفَ أننا نعيشُ في كنفِها. قد يكون السببُ أن معظمَ جامعاتِنا تَنسى أو تَتناسى أن تعلِّمَ طلابَها حُبَّ ما تَعلَّموه، أو أننا لم نكن ندركُ أو نستبصِرُ أيَّ خرابٍ سَيَؤُولُ إليه هذا المكانُ بعد سنينَ قليلةٍ.
بين 2012 و 2016 أصبحَت حلبُ، أكبرُ مدنِ سوريا ومركزُ تجارتِها تاريخياً، ساحةَ معركةٍ رئيسةٍ بين أطرافِ النزاعِ السوريِّ، المعركةِ التي قد تكونُ أشرسَ الحروبِ في العصرِ الحديثِ. فدُمِّرَت أحياءٌ من المدينةِ بكاملِها أو تكادُ، بما فيها تلك الرقعةُ العمرانيةُ بالغةُ القِدَمِ، والتي سجّلَتها اليونِسكو على لائحتها إحدى أقدمِ المدنِ المأهولةِ بالسكانِ في العالَمِ عامَ 1986. ثمّ سجّلَتها على قائمةِ التراثِ العالميِّ المعرَّضِ للخطرِ عامَ 2013، لِما آلَت إليه تلك المباني التي صمدَتْ قروناً، أضرَّت الأنقاضُ الذاكرةَ الحلبيةَ ودَمّرَت هويّتَهم الممثّلة جزئياً بأحجارِ فراغاتِهم العمرانيةِ القديمةِ وأسواقِ حِرَفِهم التقليديةِ.
تُقسَم حلبُ القديمةُ إلى قسمَيْن: داخلَ الأسوارِ وخارجَها. فأمّا ما يقعُ خارجَها حيثُ حيُّ الجْدَيْدَة ودكّانُ أبو عبدو الفوّال الشهيرُ وساحةُ الحطبِ وتعريشاتُ الورودِ فقد كان منطقةَ تُخومٍ وخطَّ جبهةٍ بين طَرَفَي القتالِ وهي الأكثرُ ضرراً. وأمّا داخلَ الأسوارِ، حيثُ شبكةُ الأسواقِ القديمةِ والشوارعُ المرصوفةُ وأسواقُ حلبَ السبعةُ والثلاثون الممتدّةُ سبعةَ عشرَ كيلومتراً. ويَذكرُ المؤرّخُ الحلبيُّ كامل الغزّي أن فيها أكثرَ من خمسةَ عشرَ ألفَ دكّانٍ والعديدَ من الحمّاماتِ الأثريّةِ والجوامعِ و"الخانات" و"التكيات" و"البيمارستانات" التي نَدخلُها من أبوابِ حلبَ التاريخيةِ؛ بابِ الجِنانِ (أو الجْنين) وبابِ الفرجِ وبابِ النصرِ وبابِ قنّسرينَ وبابِ أنطاكيّةَ. أمّا مَشْرَبِيّاتُ البيوتِ الخشبيةُ النافرةُ ذواتُ الزخارفِ فقد كانت كلُّها في قلبِ التخريبِ الحاصلِ في سنينِ الحربِ وفي أَتُونِ المعاركِ الأخيرةِ عامَ 2016.
في حربِ حلبَ، تعلّمتُ الاطّلاعَ على معالمِ حلبَ القديمةِ بعد كلِّ اهتزازٍ للأرضِ تحتَنا. يقولُ الخبرُ: تفجيرُ مبنى الكارلتون، فأقرأُ أنه كان مستشفىً يُداوِي الغرباءَ قديماً. اهتزازٌ آخَرُ وتفجيرُ المدرسةِ الخُسْرَوِيّةِ، أقرأُ أنها كانت أَوّلَ مدرسةٍ بُنيَت في العهدِ العثمانيِّ في حلبَ وصمّمَها المعمارُ سِنانُ. المدينةُ تختنقُ من رائحةِ الدخانِ في منتصفِ اللّيلِ، والخبرُ يقولُ: حريقٌ في سوقِ المدينةِ في حلبَ القديمةِ، ثمّ أقرأُ أنّ السوقَ تأسّسَ قبلَ الميلادِ بثلاثمئةٍ واثنتَيْ عشرةَ سنةً، وأسّسَه سلوقس نيكاتور، وهو مِن أكبرِ الأسواقِ المسقوفةِ في العالَمِ. كيف سمحتُ للسنواتِ أن تَمضيَ بي وأنا أعيشُ قريبةً في حيِّ السِريانِ الذي لا يَبعدُ عن المدينةِ القديمةِ سوى خمسَ عشرةَ دقيقةً مشياً فحسبُ، بينما أبقى بعيدةً عن معرفةِ ما يَكمنُ في هذه المساحةِ الجغرافيةِ. تَوالَت الاهتزازاتُ مصحوبةً بأصواتٍ قويةٍ ودخانٍ ملأَ المدينةَ ستَّ سنينَ. قرّرتُ حينَها أنّ أوّلَ مكانٍ سأزورُه إذا ما أتيحَ لي العيشُ هو حلبُ القديمةُ، على خرابِها.
كان يوماً بارداً جداً في منتصفِ ينايرَ عامَ 2016. ولا أدري إن كانت الغيومُ الداكنةُ هي السببَ أمْ أنّ سوادَ الحرائقِ والقصفَ ووُجومَ وجوهِنا كان قد صبغَ المكانَ في ذلك الحينِ. يومَها تلقّيتُ وبعضُ الأصدقاءِ دعوةً للمسيرِ في حلبَ القديمةِ من الأمانةِ السوريةِ للتنميةِ، وهي المؤسسةُ التي احتكرَت لاحقاً "الحفاظَ على تراثِ حلب". ومع أننا مرَرْنا بين جنباتِ التاريخِ، إلا أننا صادفْنا الكثيرَ من البؤسِ والخرابِ والدمارِ، خلا الإنسَ. مدينةُ أشباحٍ انطَوَت على نفسِها ويرقدُ ردمُها على صورٍ فوتوغرافيةٍ وخزفياتٍ ولوحاتٍ وذكرياتٍ منثورةً على الأرضِ لا أهلَ لها يحمونها من أيادي العابثين والفضوليّين.
انتابَني أَسىً عميقٌ حين رأيتُ القلعةَ، وتذكرتُ شروحاتِ أَبي والصورَ التي التقطَها لنا أمامَ بوّابتِها الضخمةِ بآلةِ التصويرِ التي استعارَها من صديقٍ آنذاك، ونحن نرفعُ شارةَ النصرِ أمامَ برجِ المدخلِ وكأنّنا مَن حرّرَها بعمرِ الخمسِ سنين. مَشينا بعدَها ولم نَرَ شيئاً في الأسواقِ التقليديةِ حتى شمَمتُ رائحةً مألوفةً في سوقِ العطّارين. تلك الرائحةُ التي حفظَتها ذاكرةُ الطفولةُ في حواسِّي ثمّ أيقظَها مرورٌ بسوقٍ مدمَّرٍ بالكاملِ ما زال يعبقُ برائحةِ التوابلِ وصابونِ الغارِ.
بدأتُ بعدها سلسلةً من الزياراتِ وحدي داخل أزقّةِ المدينةِ الخاليةِ من سكّانِها، أنا وعدسةُ آلةِ التصويرِ أحاولُ بها تعميقَ علاقتي بمدينةٍ أَنكَرَت عَلَيَّ الانتماءَ وعزلَتْني بسببِ هُويّتي الكرديةِ، والآن نرسمُ مِن بعدِ المعاناةِ خطوطاً عريضةً لإمكانيةِ احتواءِ بعضِنا بعضاً. نتجَ عن هذه الزياراتِ آلافُ الصورِ التي التقطتُها للبيوتِ المفتوحةِ على مصراعَيْها للمستكشِفين، والأزقّةِ المليئةِ بركامِ المباني التي كانت واقفةً يوماً على طرفَي الزقاقِ، والمَحالِّ التجاريةِ بأثاثِها المدمَّرِ ولافتاتٍ تحدِّدُ أيامَ العُطلاتِ، والأسواقِ أو ما بقيَ منها. وقد صوّرتُ حتى القصورَ التي كانت تعودُ للولاةِ والأُمراءِ الكُردِ في العهدِ العثمانيِّ كقصرِ جان بولات وقصرِ أميرةِ بيتِ الصباحِ الكويتيةِ وقصرِ جوليان جلال الدين فايس، المتصوّفِ الموسيقيِ الفرنسيِ الذي أمضى خمسَ عشرةَ سنةً من عمرِه في حلبَ في أواخرِ الثمانينياتِ، يقيمُ حفلاتِ الموسيقى والقدودِ الحلبيةِ في بيتِه التقليديِّ في حيِّ بابِ قنّسرين. صورٌ صَنعَت لي سجلّاً سأحملُه معي بطاقاتَ بريدٍ بائسٍ إلى أيِّ أرضٍ تحملُني إليها السنين القادمةُ.
بدأَت الرحلةُ بفتحِ المحاورِ الرئيسةِ للمدينةِ، ففتحَتها مديريةُ المدينةِ القديمةِ ومديريةُ آثارِ ومتاحفِ حلبَ ليَسهُلَ على الزائرين استكشافُ ملامحِ المعالمِ ومحاولةُ تحديدِ عقاراتِهم. بقيَت الحالُ سنةً ونصفاً ثمّ تلَتها عودةُ التجّارِ والسكّانِ الراغبين بإعادةِ بناءِ ما هُدمَ من ممتلكاتِهم وترميمِها. كانت مرحلةً عنوانُها الرسميُّ "تيسير العودة للمواطنين" من تسهيلِ منحِ رخصِ البناءِ، وتخفيفِ المراقبةِ، والالتزامِ بمعاييرِ البناءِ في المدينةِ القديمةِ، وتأمينِ تياسيرِ العودةِ، وتهيئةِ صورةِ الحياةِ الطبيعيةِ التي كان يرادُ الترويجُ لها في تلكَ المرحلةِ.
وبدأَ الناسُ العودةَ، على صعوباتِ تأمينِ موادِّ البناءِ التقليديةِ، وخاصّةً مادةِ الكلسِ الأساسيةِ في البناءِ عند الحلبيّين. وقد كانت القوّاُت الحكوميةُ التي تسيطرُ على مداخلِ المدينةِ حينَها تمنعُ دخولَ تلك المادّةِ لإمكانية استخدامها في صناعةِ المتفجّراتِ.
كنتُ ألقى العمّالَ ومتعهّدي البناءِ والسكّانَ يومياً وأنا أعملُ. كانت أصواتُهم تحملُ شيئاً من الأَملِ، وإنْ كانت شاكيةً. كنتُ أستشعرُ الأملَ من طاقتِهم في الحديثِ عن ارتباطِهم العميقِ بالمكانِ، وتَشارَكْنا هذا الأَملَ، كُلٌّ مِن موقعِه. كنتُ أُشرِفُ على الترميمِ الذي ينفّذُه الناسُ ممّن التمَسوا الترخيصَ، فقُسمَت الورشاتُ بين حجّارٍ وبنّاءٍ، ومَن يعملُ على تحضيرِ الخلطةِ الكِلسيةِ الشهيرةِ في حلبَ التي سُمحَ بعد ذلك بإدخالِها بكمّياتٍ قليلةٍ وأسعارٍ مرتفعةٍ. ثمّ هناك مَن يعملُ بتشكيلِ السياجِ الحديديِّ أو ترميمِ أبوابِ الخشبِ المكسَّرةِ، ثمّ ترتفعُ أصواتُ قصِّ الأحجارِ ولهجةِ العمّالِ الحلبيةِ وتعتيقِ الحجرِ الحديثِ بالشاحوطةِ، وهي أداةُ بناءٍ يُعتَّقُ بها الحجرُ، وغبارِ الكِلْسِ، فيَحِلُّ كلُّ ذلك محلَّ صمتِ الخرائبِ. كان كلُّ واحدٍ منهمِكاً بالعملِ، شَروَى عادتِهم المتوارَثةِ، فلا هدفَ أمامَهم إلا العودةُ ومنافعُها، وبعضُهم انتهى مِن الترميمِ وبَدَأَ يَعرضُ بضاعتَه المتواضعةَ في مدخلِ سوقٍ معتمٍ لا تلوحُ منه إلا رائحةُ الحريقِ الذي ما كان يَبرَحُ المكانَ. يُشبِّهون أنفسَهم بالقناديلِ التي ستجذبُ رفاقَ العمرِ ليرمِّموا أيضاً ما تَركوه خلفَهم ويعودَ كلُّ سوقٍ وحَيٍّ وشارعٍ رويداً رويداً إلى ما عهِدوه مِن قَبلُ.
كنتُ أجوبُ مع أصدقائي شوارعَ المدينةِ نحلمُ ببنائِها معاً، ونعملُ ساعاتٍ طوالاً في مديريةٍ حكوميةٍ تعطينا راتباً شهرياً لا يتجاوزُ عشرين دولاراً. فقد كان "العوض" يكمنُ في المعنى؛ ذاك المعنى الذي يلاحِقُه الناسُ ما دارت الأرضُ، كنا نحن نلتقِطُه في تقييمِ الأضرارِ وتوثيقِ التاريخِ المبنيِّ فوق كومةِ الأحجارِ الكِلسيةِ.
دامَ حالُ المدينةِ ثلاثَ سنينَ حتّى عام 2019. قلَّ الغبارُ وخَفّتْ كتلُ الركامِ وبدأَت الواجهاتُ النظيفةُ تَطغَى على الشوارعِ والمحاورِ الرئيسةِ. أُهِّلَ معظمُ ما يحيطُ بالقلعةِ وتَشَجّعَ الناسُ لِارتيادِها يومياً بحثاً عن مُتَنَزَّهٍ ساكنٍ وهواءٍ منعِشٍ.
لَم يَمنعْني صغرُ سنِّي العملَ مع العديدِ من زملائي وزميلاتي ولا ملاحظةَ العيوبِ والنواقصِ في القوانينِ وآليّاتِ تنفيذِها، والتي تَباطأَ تأقلمُها مع "الحالة الجديدة" بعد الحربِ. عومِلَت المعالمُ الأثريّةُ المميَّزةُ معاملةَ البيوتِ العاديّةِ، وحتى المخالِفةُ نسيجَ المدينةِ القديمةِ، وبالدرجةِ نفسِها من الصرامةِ في تطبيقِ القوانينِ والمعاييرِ دون تمييزٍ لخصوصيّةِ المَعالمِ. ولَم يؤخَذْ بعينِ الاعتبارِ نقصُ التمويلِ، وغيابُ اليونِسكو، ونقصُ موادِّ البناءِ التقليديةِ وغلاءُ أسعارِها، وقِلّةُ الأيدي الماهرةِ، وقِلّةُ الكوادرِ المشرِفةِ والمراقِبةِ، فضلاً عن نقصِ الموادِّ الموثَّقةِ تاريخياً من مخطَّطاتٍ وصورَ فوتوغرافيةٍ. كان هذا نتيجةَ إهمالٍ ولا مبالاةٍ معتادةٍ، أو لعدمِ توقعٍ لِما آلَتْ إليه واحدةٌ من أقدمِ المدنِ المأهولةِ بالسكانِ في العالَمِ، أو لِاحتكارِ المستثمِرين ومقاوِلي البناءِ لأهدافٍ منها تبديلُ المعالمِ القديمةِ بأُخرى قد تكونُ أسهلَ تنفيذاً وأقلَّ تكلفةً، ومنها تصعيدٌ تدريجيٌّ في ممارَسةِ الضغوطِ من جهاتِ الإشرافِ ومراقبةِ الترميمِ على مَن أرادَ العودةَ وإعادةَ البناءِ.
بدأَت الصورةُ تتّضحُ لي وللعديدِ من العاملين والعاملاتِ في هذه المدينةِ، خصوصاً من الشبابِ. كنّا مجرَّدَ أدواتٍ بيَدِ بعضِ الفاسدين من عاملين في المديرياتِ ورجالِ الأعمالِ من أصحابِ العقاراتِ الاستثماريةِ ممّن يَرَونَ المدينةَ كومةَ أحجارٍ بلا ذاكرةٍ ولا هويةٍ. حَمَلْنا العملَ على كواهلِنا منذ البدايةِ ظنّاً بأنّ المكافأةَ ستكونُ إحياءَ التراثِ المادِّيِّ وغيرِ المادِّيِّ وبأقلِّ ضررٍ على الناسِ. إلّا أنّ المخالَفاتِ كانت تكثرُ لِقِلَّةِ الكوادرِ والعاملين وحجمِ العملِ الكبيرِ وحاجةِ الناسِ إلى العودةِ مع نقصِ بعضِ موادِّ البناءِ التقليديةِ للبناءِ بمعاييرَ وُضِعَت لحالةٍ مثاليةٍ سَبقَت الحربَ. وحُوسِبَ مخالِفو معاييرِ الترميمِ ونظامِ المدينةِ القديمةِ العمرانيِّ ممّن لا نُفوذَ لهم. أمّا رجالُ الأعمالِ المتنفِّذين فقد عاثوا ما يحلو لهم مِن فسادٍ في تلك الأحياءِ. كانت لحظةُ تكشّفِ الحقيقةِ إنذاراً لي بالتخلّي، فأنا أصغرُ من أن أُغيِّرَ أيَّ شيءٍ في منظومةِ الجشعِ هذه، في نظرِ مَن قادوا عمليةَ إعادةِ الإعمارِ آنذاك. لقد كانت عودةُ العوائلِ الثريّةِ لتناولِ الفطورِ في حلبَ القديمةِ كافيةً لهم للترويجِ من أجلِ "قيامة الفينيق". أمّا أنا فقد رأيتُه مكاناً لا حولَ ولا قوّةَ فيه لطائرٍ ولا عاقلٍ حُرٍّ.
سنةَ 2019 تركتُ المكانَ الذي أُحبُّ والذي صاغَ معظمَ أفكاري عن قيمةِ المكانِ وجوهرِه وما تحمِلُه تلافيفُ الذاكرةِ الجمعيةِ من صورَ، حتى أحكيَ وأكتبَ عنه وأحتفظَ بصُورِه بعيداً عن أُناسٍ يَمتهِنون تشويهَ ذاكرةِ المكانِ وصُورَه وقيمتَه وروحَه.
زائرُ هذه الأَحياءِ سيلتقي الكثيرَ من الباحثين عن الصورِ التذكاريةِ والفعالياتِ والأنشطةِ التي تقيمُها منظَّماتٌ تحبُّ مضغَ التراثِ بلا أيِّ تغييرٍ في الرُؤَى أو المناظيرِ لحالةِ ما بعدَ الحربِ وخصوصيّتِها. يعودُ الناسُ ويَلجَؤُون لتلك الحاراتِ، فلكلٍّ منهم بيتُ جَدٍّ أو جَدّةٍ هناك أو محلُّ أبٍ أو بضعةُ أسواقٍ ما زالت الأمّهاتُ يُحبِبنَ التسوّقَ فيه حتى اليوم. تحكي لهم عمّا يُذاعُ على التلفازِ عن طائرِ الفينيقِ الحلبيِّ فلا يُصدِّقون.
وما أنْ تزلزلَت الأرضُ تحت أقدامِ الحلبيّين في ليلةِ السادسِ من فبرايرَ سنةَ 2023 حتى استفاقوا على خرابٍ فوق الخرابِ. أَتَى الزلزالُ على العقاراتِ التي كانت الحربُ قد هَدمَتها جزئياً. وشهدوا دمارَ ما ظلُّوا يرمِّمونَه طوالَ السنواتِ الماضيةِ. تضرّرَت معظمُ البيوتِ السكنيةِ في محلّةِ العقبةِ وحيِّ الجلومِ وبرجِ قلعةِ حلبَ، حيث كنّا نصوِّر، ومئذنةِ الجامعِ الأيوبيِّ ومدخلِ البرجِ المملوكيِّ والثكنةِ العثمانيةِ، وتهدَّمَ البرجُ الدفاعيُّ في سورِ بابِ أنطاكيةَ كاملاً. كلُّ ما سبقَ جعلَ الناسَ يَرمون بذلك الجزءِ المتبقّي من أرواحِهم في حاراتِ حلبَ الساكنةِ إلى أن توقظَهم معجزةٌ بيدِ مَن يعرفُ كيف يجعلُهم يصدِّقون.
جَهدَ العاملون على الأرضِ ويَجهَدون لإعادةِ الترميمِ بعد الزلزالِ. فُتِحَت المحاورُ الرئيسةُ، وأُعيدَ فرزُ الأحجارِ وبناؤها مع المونةِ من جديدٍ وتدعيمُ كلِّ آيلٍ للسقوطِ وإحياءُ أملِهم بالعودةِ روحاً وجسداً. فقد يتمنَّون ونتمنَّى الهربَ جميعاً ممّا فعلَته هذه المدنُ بأرواحِنا، ولكن لا مفرَّ، فهي لا تَستحِقُّنا ولا نَستحِقُّ ما جرى لنا بسببِها. ستدفعُنا هائمين نبحثُ عن الوضوحِ في الكتبِ والصورِ والأرشيفاتِ العالميةِ وفي ساحاتِها وهوائِها المنعشِ وفي ضجيجِ أسواقِها وسكونِ أزقّتِها، مدنُ الشعائرِ والذاكرةِ الجمعيةِ وعيونِنا الدامعةِ من الضحكِ مع الأصدقاءِ.
أَستيقظُ من أفكاريِ في سوقِ "واقف" وأنا أستخلصُ قيمةَ ما شهدَته حلبُ القديمةُ: رائحةُ التوابلِ العنيدةُ، وتواترُ أملِ الناسِ ويأسُهم، وعدساتُ المصوِّرين الهواةِ، وتراتيلُ الجمعةِ العظيمةِ في ساحةِ فرحاتَ في حيِّ الجْدَيْدةِ، وأذانُ المآذنِ التي أُعيدَ بناؤُها في أحياءَ مفرغةٍ، وتلك المعلوماتُ التي اكتسبَتها بعد كلِّ تفجيرٍ، والصورُ التي كنتُ أوّلَ من التقطَها. كلُّها قيمٌ متراكمةٌ أضافت قصصاً ومشاهدَ وحتى حواراتٍ حقيقيةً ومتخيَّلةً عن المكان. ولو كنتُ سائحةً لاخترتُ معرفةَ ما شهدَه المكانُ قبل زيارتِه؛ هذا المكانُ الذي كنتُ الأعظمَ حظّاً لأُخلَقَ فيه، والأكثرَ بؤساً ليدفعَني مع غيري إلى الهربِ منه، خوفاً على أنفسِنا من ألمِ إيجادِ المعنى.