الأمان مقابل المتعة: تأملات في المنفى بين عالَمَين

قد يمنح المنفى الأمان لكنه يسلب التجارب والعلاقات والأُلفة، ويجعل التعايش بديلاً عن المتعة، كما في رحلة محمد أمير ناشر النعم من حلب إلى ألمانيا، مروراً بمصر وتركيا

Share
الأمان مقابل المتعة: تأملات في المنفى بين عالَمَين
أشخاص يجرّون حقائبهم باتجاه مكتب التسجيل المركزي لطالبي اللجوء في برلين (تصوير شون غالوب / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

في شهر مايو من سنة 2013 فتحنا باب شقّتنا في الإسكندريّة. دخلناها معاً واتجهنا مباشرةً إلى الشرفة المطلَّة على البحر وعَبَبْنا من الهواء المنعِش وارتوينا من المنظر الخلَّاب، ثمَّ التَفَتُّ إلى الأولاد قائلاً: "مصر بلد المحيا والممات".

كانت العودة إلى سوريا ميؤوساً منها، لذا قرَّرتُ أنَّ البلد الذي اصطفاه قلبي هو وطني الجديد الذي لن أَبرَحَه. ولكن بعد وصول عبدالفتاح السِّيسي إلى السلطة مباشرةً لم أَجِد مِن الحصافةِ البقاءَ في بلدٍ تعصف فيه كلُّ النُّذُر بالتحوُّل إلى حُكمٍ استبداديٍّ شبيهٍ بالحُكم الأسديّ. فيَمَّمْتُ وجهي شطرَ إسطنبول واستأجرتُ بيتاً في حي بيليك دوزو ثمَّ استدعيتُ عائلتي من مصر، فوصلتْ في صباحٍ خريفيٍّ نَدِيٍّ من السنة نفسها 2013. دخلنا شقّتَنا الجديدة جميعاً، وبعد أن وضعنا الحقائبَ والأغراضَ وقفتُ بينهم قائلاً، وقد امتلأتُ بالأمل والبشرى: "تركيا بلد المحيا والممات".

حاولتُ دائماً غرسَ حُبِّ الوطن في قلوب أولادي مع تغيُّر البُلدان. كنتُ قبل مجيئنا لمصر وتركيا أكرِّر أمام الأولاد: "سوريا بلد المحيا والممات" عند كلِّ فرصةِ عملٍ تجثُمُ إزائي وتدعوني لمغادرة سوريا، وأُكرِّرُها لدى عودتي من كلِّ سَفرةٍ من أسفاري المتعدِّدة إلى دولٍ عربيَّة أو آسيويَّة أو أوروبيَّة. وبعد أن أمضينا سنتين في إسطنبول سُدّت السُّبُل في وجوهنا فلجأتُ إلى ألمانيا أواخرَ سنة 2015. وبعد عدَّة أشهُرٍ التحقتْ بي العائلة، وعندما وضع الأولادُ حقائبَ السفر في بيتنا الجديد في مدينة إزرلون، وقبل أن أتفَوَّهَ بكلمة، بادَرَني ابني الصغيرُ عبد الرحمن متبسِّماً: "بابا! هل ألمانيا بلد المحيا والممات أيضاً؟"

كان هدفي من تكرار هذه الجملة في سوريا أولاً أن أزرع في قلوب الأولاد حبَّ الوطن والانتماء إليه، وفي مصر ثانياً وفي تركيا ثالثاً أن أزرع في نفوسهم فكرة الاستقرار وأنَّنا ثابتون راسخون نملك وطناً جديداً لن نغادره كما غادرنا وطننا الأوَّل، وأنَّ وجودنا فيه ليس مؤقَّتاً وأنَّنا لسنا في رحلةٍ طارئةٍ ووجودٍ عابر، وهذا ما يحفِّزُنا على التركيز في العمل والدراسة وإعادة بناء الحياة. ولكنَّني كنتُ أُخفِق في كلّ مرَّة، فقد غَدَوْنا مثلَ برتولت بريخت الذي فرَّ من الحُكم النازيِّ، وتنقَّل بين السويد وفنلندا وأمريكا فقيل في وصفِه: "غيَّر بلادَه أكثرَ ممّا غيَّر حذاءَه".

ونحن أيضاً غيّرْنا البلاد وتشرّدنا في اللغات وزاغت أبصارُنا بين الحروف والكلمات وتُهْنا بين أزمنةِ الأفعال، وكنّا كلّما آنسَتنا لغةٌ ارتحَلْنا إلى غيرها.

عقوباتُ النظام السوري تمتدُّ لتطالَ المنفيِّين بآثارها النفسية والاجتماعية. تُعاقِبُنا السُلطةُ الأسديَّة صباحَ مساءَ منذ خمسين سنةً، وكلَّما شَطَّ بنا الزمنُ وامتدَّ ازدادت عقوبتُها فداحةً وهَوْلاً. من كان في الوطن تعقّبَته بجرائمها، ومن كان خارجَه تُعاقبُه بأخبارها وبصُوَرها في المنفى الذي فرضتْه على الشعب السوريِّ فرضاً يهشِّم أرواحَهم ويحطِّم نفوسَهم ويغالِب صبرَهم وقوَّةَ تحمُّلِهم.


السعيُ نحو التغيير الديمقراطي كان حُلُمَنا البسيط وسط واقعٍ مرير. كنَّا أُناساً عمليِّين واقعيِّين لا نتوق إلى المثالية "اليوتوبيا" بل إلى الحدِّ الأدنى من كُلِّ شيء. كان حُلُمُنا بسيطاً: مجرَّد مَجازاتِ انتقالٍ ديمقراطيةٍ هادئةٍ مِن دولةٍ مسخٍ يخنقُها أبٌ خالدٌ وأسرةٌ حاكمةٌ وحزبٌ واحدٌ قائدٌ للدولة والمجتمع إلى دولةٍ جمهوريَّةٍ عاديَّة.

كان معظمُنا مستعدّاً للمسامحة والعفو والتغاضي والنسيان، بل كان مستعداً ليرفع بشارَ الأسد إلى سدَّةِ عظماءِ سوريا إنْ تحقَّقَ على يديه إنجازُ هذا المَجاز. لكنْ كان أدقُّ خيطٍ من خيوطِ آمالِنا هو أعلى جبلٍ من جبالِ أوهامنا.

وضعتُ أملي في الجيش السوري ليكون حامياً للشعب لأنَّ أفرادَه مِن عُمومِ الشعب الذين يُفترَض أن يقِفوا مع أهاليهم إنْ نابَتْهم نائبةٌ، على خِلاف المؤسَّسات الأمنيَّة التي تمحضُ ولاءَها للديكتاتور، ولو على حساب الكونِ كلِّه.

كنت أظنُّ أنَّ الجيش إذا نزل إلى الشارع فسوف يحدُّ من تغوُّلِ الأجهزة الأمنيَّة ومِن عسفِ إجرامها، وكانت وجهةُ نظري صحيحةً إلى حدٍّ ما، فقد حوى الجيشُ آلافَ الشرفاء. لكنَّهم كانوا مغلوبِين على أمرهم، فلم يكن لهم من بُدٍّ سوى الانشقاق، وهكذا نَفَى الجيشُ شُرفاءَه ليبقى الخبثُ فيه مصطفى ومصفّى. أما الأجهزة الأمنيَّة فكان الانشقاق فيها بالقياس إلى الجيش لا يتعدى الواحدَ بالألفِ أو أقلّ من ذلك.

كان أوَّلُ احتكاكٍ مباشرٍ لي مع حاجزٍ من حواجز الجيش يوم تمهّلتُ بقيادة سيارتي أمام حاجز ضيعةِ "معربليت" على طريق حلب اللاذقية سنة 2012. رفع جنديٌّ رشَّاشَه الكلاشينكوف على بُعد عشرة أمتار منَّا وصوَّبَه مباشرةً نحونا، فغطَّى أولادي الصغارُ وجوهَهم بأكُفِّهم الصغيرة متيقِّنِين من الموت. وعندما أطلق النارَ سَمِعْنا صوتَ عواءِ كلبٍ جريح، وعلى بُعد مترٍ واحدٍ شاهدتُه من جانب السيَّارة الأيسر يزحفُ على الطريق وقد شُلَّت قدماه وضرَّجَته الدماءُ. صرخ جنديٌّ ثانٍ بالجندي الأوَّل لاعِناً دِينَه ورَبَّه ومُرْدِفاً: "أَبَقَى تمزح هيك مَزح! ليك الكلب ما مات" ومباشرةً خرج ثلاثةُ جنودٍ من وراء الساتر الترابيّ وانهمر رصاصُهم على الكلب المسكين! لقد كان ذلك الجنديُّ يمزحُ معي ومع أولادي ومع الكلب أيضاً. هكذا كان مزاحُ من يحمل البندقيَّةَ من جنود الجيش السوري.

أنباء الموت والدمار في سوريا لم تتركنا حتى بعد مغادرتِنا البلادَ. تَوالَت أنباءُ الموتِ والقتل والتدمير حتى أَنْهَكَت جسدي وهَدَّت حَيْلي.

من بين القصص التي أَثْخَنَتْني حزناً وهَمّاً كانت قصّة صديقي القصَّاب جمال البو الذي أُصيبَ بشظايا قذيفةِ هاون وهو في محلِّه في سوق الهال في أريحا بإدلب. وكان من عادةِ الجيش الرابض على أطراف المدينة أن يُمطِرَ سُوقَها الشعبيَّ بين الحين والآخَرِ ببعض قذائف الهاون، خاصَّةً في مناسباتِ التسوّقِ واحتشاد الناس. هُرِعَ ولداهُ عبسي وعلاء لإسعافه، وجاءا بسيَّارةٍ تنقلُه للمستشفى الوطني في مدينة إدلب لأنَّ جميع مستشفيات أريحا قُصفَت ودُمِّرَت. شقَّت السيَّارةُ طريقَها إلى مدخل المدينة، حيثُ كان حاجزُ الجيش ينتظرُهم.

أَمَرَ الجنودُ رُكّابَ السيَّارة بالترجُّل. رُكّاب السيَّارة جميعاً؛ نعم جميعاً! بمن فيهم المُصابُ النازفُ الذي شارَفَ على الستّين. قال أحدُ الأولاد: "لقد أُصيبَ والدُنا بشظايا قذيفةِ هاون وهو في دُكّانه. إنَّه ينزِف! أرجوكم سهِّلوا مرورَنا لنُسعِفَه". فانهالت كَفٌّ غليظةٌ على وجهِه فَرَمَتْهُ أرضاً. امتثلَ الولدان لأوامرِ جنودِ الوطن وحَمَلا والدَهما الجريحَ ووضعاهُ على الإسفلت. أَمَرَهم الجنودُ بالجلوس في الطَرَف المُقابِل من الشارع، فجَلَسا يشاهِدان والدَهما يتقطَّرُ دَماً. مرَّت ساعاتٌ وبدأَ شخيرُ الوالدِ يعلو وجسمُه ينتفض، وكلَّما همَّ الولدان بالتحرّك كانت البندقيةُ الملقَّمةُ مترصِّدةً لإعادتهما إلى مكانهما، إلى أن لفظَ نَفَسَه الأخير. عندئذٍ اقتيد الولدان وسائق السيَّارة إلى معسكر المسطومة، فأقاموا في ضيافة الجيش أسبوعاً ثم غادَروه بعدَها مهشَّمي الأضلاع ومكسَّري الأيدي والأرجُل. أما جمال البو فعاد إلى مدينته بعد أن طبَّبَه جنودُ ذلك الحاجز مِن مرضِ الحياة.

وفي 28 يوليو 2019 قُتل ابنا أخ جمال، القصّابان عبسي ومحمود البو في دكّانهما أيضاً في ساحة أريحا بصاروخٍ أطلقَته طائرةٌ حربيةٌ سوريّة. في ذلك اليوم لم أشعر بالحزن، بل بالقهر الذي استحوذ على شعوري كلّه.

منذ نهاية سنة 2011 استشعر كثيرٌ من السوريين الخطرَ فاتّخذوا الهروبَ والفرارَ وسيلة. وتَوالَت فيما بعدُ موجاتُ النزوح، في وصفٍ مطابقٍ لما حدَّثَنا عنه شتيفان تسفايغ في مذكّراتِه "عالَم الأمس" عن فرار الناس من النازيَّة: "كانت كلُّ مجموعةٍ تبدو تعيسةً ومذعورةً أكثر من سابقتِها، فالمجموعات الأولى التي أسرعَت في مغادَرة ألمانيا والنمسا أفلحَت في إنقاذ الملابس والأمتعة وأثاث المنزل، بل إن بعضَها كان معه بعضُ المال، وأمَّا الذين وضعوا ثقتَهم في ألمانيا، وصعُبَ عليهم انتزاعُ أنفسِهم من وطنهم الحبيب، فقد عُوقِبوا أشدَّ العقاب".

لقد عوقِب السوريون أشدَّ العقاب كذلك. مَنْ قرَّ ومَنْ فرَّ، مَنْ بَقِيَ ومَنْ نُفِيَ. مَنْ بَقِيَ قُتِلَ أو سُجِنَ أو اضُطهِد، ومَنْ نُفِيَ اقتُلِعَ من جُذورِه و"شروشه" وقُذفَ به إلى المخيَّمات وعصابات التهريب، وتَقَحَّم الهَلاكَ في قوارب الموت وحشود السير المذهول بين الأحراش والأدغال.

المنفى عقوبةٌ وزجرٌ وانتقامٌ دون تكاليفَ على المعاقِب. فالمجرم هنا لا يدفع ثمنَ رصاصةٍ ولا أجرةَ سجَّانٍ ولا تكاليفَ سجْن.

تُسمَّى الهجرةُ أحياناً المنفى الاختياريّ، أما الفرار والهروب فهو المنفى القَسريّ، وإنْ لَم يُمهَر بقرارٍ قضائيٍّ أو بحُكمٍ خطِّيٍّ من الديكتاتور أو من أجهزته الأمنية. ومع أن مغادرَتَنا كانت بسبب الخطرِ المُميت الذي حاقَ بنا إلا أن البعضَ لا يُقِرُّ بأنَّنا منفيّون، ويَعُدُّ وجودَنا خارجَ الوطنِ نوعاً من السياحة. وهكذا يَكشِفُ التاريخُ البشريُّ عن اشتباكٍ بين الأخلاق والمصلَحة وبين الجريمة وإدانتِها وبين الثقافة والهمجيَّة وبين من يمارِس العنفَ ومن يرفضُه، وبين الطاغية والثائر أو بين الديكتاتور والمَنفِيّ.


العلاقات الإنسانية تحتاج إلى زمن طويل لتتشكّل وتترسّخ. عندما قرأتُ قولَ الشاعر:

 تَلْقَى بِكُلِّ بِلادٍ أَنْتَ سَاكِنُهَا   ...   أَهْلاً بِأَهْلٍ وَجِيرَاناً بِجِيرَانِ 

قلتُ في نفسي: لَم يُصِب الشاعرُ في قَولِه. فهناك عنصرٌ يدخلُ في تركيبِ العلاقة ونسيجِها؛ هو الزمنُ المديد، فأنّى لنا في فترةٍ قصيرةٍ أن نَلقَى أهلاً أو جيراناً يعادلون الأهل والجيران الذين كوّنَتهم التجارِبُ والسُنون. ثم قرأتُ في وقتٍ لاحقٍ تعليقاً لأبي دلف على هذا البيت يقول فيه: "هذا أَلْأَمُ بيتٍ قالَتْه العربُ". تعدَّدَت الأماكنُ والأشخاصُ الذين كوَّنوا جزءًا من حياتي في الوطن. لَم يكُن الأهلُ والجيرانُ، بالنسبة إليَّ، هم الأسرةَ وسكّانَ البناية والحيّ فقط، فالمكتبةُ والمطعمُ والمقهى والمسجدُ والسوقُ والموسيقى واللغةُ أوّلاً وأخيراً أهلٌ وجيرانٌ أيضاً.

الأماكن الجديدة لا يُمكِنها أن تعوِّض عن الذكريات والمكانةِ التي تملؤها الأماكن القديمة. هل تعوِّضني مكتبةُ "تاليا" في مدينتي الألمانية بعامِلاتها اللطيفات الأنيقات الودودات عن مكتبة الحاجّ عمر زيتوني أو مكتبة الحاجّ يحيى إسطنبولي أو مكتبة الحاجّ بكري جزماتي أو مكتبة الطُعمة أو مكتبة الشيخ عبد الغني مقيِّد أو مكتبة عجّان الحديد أو مكتبات آل اللحموني في حلب؟

الذكريات في مكتبات الوطن تحمل طابعاً خاصاً ومميّزاً. جلستُ في مكتبة "تاليا" على أريكةٍ من أرائكها بعد تجوالٍ طويلٍ فطوَّحَت بي الذاكرةُ إلى مكتبة دار الفلاح لصاحبها محمد علي إدلبي سنة 1985 عندما اشتريتُ منها كتابَ "إحياء علوم الدين"، وكنتُ في الصف العاشر، وبعد فترةٍ اكتشفتُ طبعةً أُخرى لكتاب "الإحياء" أجملَ من الطبعة التي اشتريتُها فحملتُ النسخةَ إلى المكتبة وقلتُ للشيخ: "أريدُ إرجاعَ هذه النسخة". سألني عن السبب فأخبرْتُه أنني اكتشفتُ طبعةً أحسنَ، فأَخذَ مِنّي الكتابَ وهو يتبسّمُ ثمّ سألني:
ــ في أيّ مدرسةٍ تدرسُ؟
ــ في الخسرويّة.
ــ إذاً أنتَ طالبُ عِلم.
هززتُ له برأسي بابتسامةِ افتخارٍ عريضةٍ؛ عريضةٍ جداً على وجهي.
ــ إذاً يجب أن ندعمَك، أنت مِن الآن فصاعداً زبونٌ مدلّلٌ ويجب أن تُكوّنَ مكتبةً تليقُ بطالب العلم، وتُحسِنَ اختيارَ كُتُبِك. بإمكانك أن تشتري أيَّ كتابٍ مهما غلا ثمنُه وتدفعَ بالتقسيط المُريح.
ثم سألني: "هل في مكتبتِك المعجمُ الوسيط؟ قلتُ: لا.
ــ لا يجوزُ أن تَخْلُوَ مكتبةُ طالب العلم من المعجم الوسيط.
وأخرجَ لي نسخةً وقال: "يجب أن تشتري هذه النسخة". فاشتريتُها ولَم أُفوِّت فرصةَ عرضِ اقتناء الكُتُب بالتقسيط، فأشرتُ إلى كتابِ "البناية في شرح الهداية" لبدر الدين العينيّ، وكان في عشرةِ مجلّداتٍ ضِخام.
ــ ما رأيك بهذا الكتاب؟
ــ إذا كنتَ حنفياً فهو ممتاز.
ــ أنا حنفيٌّ، سآخذُه وأدفعُ ثمنَه بالتقسيط.
تبسّمَ ووضعَه في علبةٍ كبيرةٍ، ودفعتُ ثمنَه بالتقسيط؛ التقسيط المريح جداً.

مكتبات حلب كانت قِبلةً للاكتشاف والتعلّم. كانت مكتبةُ الحاجّ أحمد شامية في آخِرِ طلعةِ خان الوزير المطلّةِ على قلعة حلب مَوْئِلي عندما بدأتُ شراءَ الكتب في الصف الأول الإعدادي. أَبْتاعُ الكتابَ وأَقَرَؤه، ثم أطلبُ تبديله بكتابٍ آخَرَ فيوافِق بأريحيةٍ، وكان يطلبُ أحياناً فرقَ السعرِ فأدفعُه عن طِيبِ خاطِر.

أوّلُ ثلاثةِ كتبٍ اشتريتُها من مكتبته وأنا في الصف السابع والثامن "مقدمة ابن خلدون" و"ضحى الإسلام" لأحمد أمين و"تاريخ الخلفاء الراشدين" لعبد الوهاب النجار. والكتابُ الأخيرُ أرجَعْتُه بعدَ أن قرأتُه، وأخذتُ بدلاً منه "تاريخ الأدب العربي" لأحمد حسن الزيات، ودفعتُ يومَها عَشرَ ليراتٍ سوريةٍ فرقَ السِعر. أمّا آخِرُ كتابٍ اشتريتُه مِن عندِه في أواخرِ الثمانينيات فكان "فلسفة التأويل" لنصر حامد أبو زيد.

في نهاية التسعينيات، ولسببٍ لا أَعلمُه، باع الحاجُّ أحمد المَحَلَّ وصار يبيع الكتبَ على الرصيف في باب جنين قربَ فندق الأمير. وعندما اشتدَّت المعاركُ في حلب بعد سنة 2012 ظَلَّ جالساً مُرابِطاً يَعرِضُ الكتبَ أمامَ باب بيتِه بالشغفِ نفسِه.

في عالَم المكتبات بحلب لَم نكُنْ زبائنَ وبَاعةً؛ كُنّا عائلة.


المطاعمُ في الوطنِ تحملُ أيضاً ذكرياتٍ لا يمكنُ تعويضُها في المنفى. فأيّ مطعمٍ يمكن أن يعوِّضني عن مطعم وانيس أو أبو نواس أو دار وكيل في حلب، أو مطعم ستّ الشام أو الكمال أو أبو كمال أو أبو العز في دمشق.

كنتُ إذا أردتُ الاحتفاءَ بأحد الأصدقاء أدعوه لمطعم حاج عبدو الفوّال في حي الجْدَيْدَة في حلب القديمة قربَ ساحة الحطب، لنتصبّح بصحنِ فولٍ كأنّه قد نزل توّاً من الجنّة. ولكن لا بدّ قبلَ ذلك أن نُعرِّجَ على الفرن فنشتري أرغفةَ الخبز التي خَرَجَت للتّوِّ من بيت النار، ثم نَدْلِفُ إلى المطعم فنتناولُ الفولَ، ونمازِح حاج عبدو والنُدُل الذين يلفّون بين الزبائن كأنّهم المَوْلَوية. ونمازِح الزبائنَ أيضاً، لأنّ ضِيقَ المكان يجعلُ الزبائنَ جميعاً منصهرِين في دعوةِ كريمٍ، وما أظنُّ أن واحداً منهم كان يشعر أنّه يأكل بمالِه "نصف دولار ثمن الوجبة" بل بدعوةِ حاج عبدو وعزومَته. لقد حقّقَ هذا الرجلُ ما لم يحقِّقه السياسيون، كان عنوانُه بحقٍّ وصدقٍ: الدِين لله والفولُ للجميع.

أمّا مطعم صديقي أبو محمود دنّو في عبّارة سينما القاهرة فكان يستحق جائزة نوبل جنباً إلى جنبٍ مع نجيب محفوظ، ولكن للكبّة المشوية والكباب بالباذنجان. وعندما يكون صاحبُ المطعم صديقَك يُشعِرُكَ ذلك بالفخر والاعتزاز أمام أضيافك للمحبّة والحفاوة والإكرام التي تُغدَقُ عليكم، فتغدو طاووساً تَأْتَلِقُ ألوانُ ريشِه سروراً وحُبوراً، ويغدو اللقاءُ مسروقاً من ريب الزمانِ وعنوان التذكّر والأماني.

وكذلك مطعم أولاد الجليلاتي أمام الطرف المقابل لجامع بانقوسا قرب دوار باب الحديد، وكان مطعماً شعبياً بامتياز ويستحق جائزة البوكر في شوي السودة "الكبدة" والكبّة القصّابية. كانوا أربعة إخوةٍ يتقاسمون العملَ بينهم في انسجامٍ لطيف. واحدٌ يقطّع اللحمَ وآخَرُ يفرمُه وثالثٌ "يسيّخه" ورابعٌ يشويه على منقلِ فحمٍ طويلٍ واضعاً السيجارةَ بجانب فمِه مع تكشيرةٍ خفيفةٍ ونصف إغماضةٍ للعين اتقاءً للدخانِ المنبعثِ من المنقل. كان أبناءُ الجليلاتي يُدلّلونني وضيوفيَ أيضاً لأنّني صديقُ خالِهم الشيخ أحمد قزموز الذي تُوفّيَ بقذيفةٍ نزلَت في صحن دارِه العربية في حيّ القصيلة بجانب القلعة. 

في عالَم المطاعم بحلب لَم نَكُنْ زبائنَ وأصحابَ مطعمٍ، كُنّا عائلة.


مقهى الربيع في حلب (تصوير الكاتب)

مقهى الربيع وأصحابُه كانوا يمثّلون جزءاً من النسيج الاجتماعي لمدينة حلب. فإذا خرجتَ من باب جامع الملّاخانة، مقرّ أتباع الطريقة المولوية تاريخياً، يصادفك مباشرةً على يدك اليمين مقهى الربيع. صاحب المقهى كان الحاج أحمد سعيد أبو محمود، صديقي وجاري الذي كنت أودّه وأعزّه لما ينطوي عليه من دماثةٍ وخُلُقٍ و"أكابرية". وكانت له هوايةٌ تُرهِفُ أحاسيسَ الإنسانِ وتصقلُ مشاعرَه وتُنمّي إنسانيتَه، ألا وهي تربيةُ النحل التي تقتضي أن يتنقّل بخلايا النحل من مكانٍ إلى مكانٍ يلاحقُ المرعَى الطيّب. وذلك يدفعه دائماً لعقد صداقاتٍ في مختلفِ أنحاء سوريا. ولربما لو لَم تقُم الثورةُ لاتّخَذتُ من تربية النحل هوايةً لكثرةِ ما شرح لي عن طبائع النحل ومزاياها وحاجاتها وطرق العناية بها.

كانت تطيبُ لي "أرجيلة التنباك" في مقهاه، ويمُدُّني الجلوسُ فيه بعُصارةِ المسرّةِ والسعادة. على الحائط الأيسر من المقهى مشجبٌ طويلٌ عُلِّقَت عليها حقائبُ صغيرةٌ، في كل حقيبةٍ "أمزك" (وهو خرطوم سحب الدخان) خاصٌّ لزبونٍ من الزبائن، وعند دخوله يتوجّه أوّلاً إلى حقيبته فيُخرج "الأمزك" وينتظر أن تأتي "أرجيلته" ليدخّن الأنفاس، لأنّ المدخِّن العريق لا يدخّن بـ"أمزك" تتناقلُه الأفواه. كان عندي أيضاً "أمزك" خاصٌّ صَنَعَه لي أحدُهم في محلِّه بسوق الخابية.

كانت الأجواءُ الدينية والاجتماعية تتداخل بشكلٍ جميلٍ في مقهى الربيع. عندما يؤذِّنُ المؤذِّنُ يَلُفُّ نصفُ الزبائن خراطيمَ الأرجيلةِ ويقومون إلى الصلاة، ثم يعودون بعد الانتهاء منها سِراعاً إلى كراسيهم فيبادرُهم الجالسون بالسلام: "تقبّلَ الله أبو عبدو، تقبّلَ الله أبو صبحي، تقبّلَ الله حسني".

كان الوئامُ والاحترامُ المتبادَل سمةً رئيسيةً في مقهى الربيع، وحالةً من حالات الوئام قلّما تجدُها في مكانٍ آخَر. الجميع يقبل الجميع والكل يحترم الكل، ربما لميزةٍ تجمع معظمَهم؛ مصلّين وغير مصلّين، وهي قلّة الكلام. يجلسون صامتين فلا تسمع سوى بقبقة ماءِ الأرجيلة تملأ المكان. كان أحدُ أصدقائي يسمّي هذا المقهى "مقهى الصفنة". كانت هذه الصفنةُ مِن أَلَذِّ المناظر لديّ وأكثرها متعةً، لأنّ فيها حالةً تتجاوز "النيرفانا". فذلك السكوت يترفّع حتى عن التأمُّل، إنّه الاستغراق المطلَق في اللاشيء، وهذا قمّةُ الإعجازِ الحلبي.

تجارِبُ المقاهي كانت متشابهةً في مختلف أنحاء سوريا. ولم يكن الحال ليختلف شَروى شَعرةٍ في مقاهي دمشق، ومنها مقهى الشرق الأوسط في البحصة والنوفرة خلف الجامع الأموي ومقهى الحجاز بجانب محطة الحجاز. في المقهى كنّا عائلة.


لافتات باتجاه بعض الكنائس والمطاعم في حلب (تصوير الكاتب)

الأماكنُ الدينيةُ والتاريخيةُ في الوطنِ تحملُ ذكرياتٍ وروابطَ خاصة. هل أجدُ في المنفى جامعَ الخسروية أو البهرمية أو العثمانية أو جبَّ الجوجه أو البكره جي أو الأصفر أو الابن أو الشعبانية أو العادلية أو الرومي أو الملّاخانة أو أبو يحيى الكواكبي أو السفّاحية أو الحموي أو الفردوس أو الأطروش أو سليمان. وهل يُتاح لي أن أنعم بعَبَقها ورَوحها ورَيحانها، وأين أجدُ كنيسة الأربعين شهيداً أو الكاتدرائية المارونية أو قلّاية الموارنة أو كاتدرائية السيدة، وهل يتسنّى لي أن أترفّه بأُبّهَتها وأصالتها وسِحر تاريخها. هل يؤاخذُني اللهُ إذا كانت ساحةُ الحطب في حلب أعزَّ على قلبي من الشانزليزيه في باريس أو ساحة ألكسندر في برلين.


المنفى يَسلبُ الإنسانَ شعورَ الانتماء والتمكّن. عندما يُقتلَع الإنسانُ من مكانه جبراً وقهراً وخوفاً يُسلَبُ التمكّنُ. ومهما كان جذع البلد الذي يصير إليه راسياً في الأرض وجذوره ممتدةٌ حتى الصخر، يظلُّ المنفيُّ مجرَّدَ ورقةٍ على غصنٍ في هذا الجذع قد تُطيّرُها هبّةُ ريح. في المنفى أنت وافدٌ، والوافدُ طارقٌ طارئٌ وعارضٌ يزول.

الحكمة الشعبية داهية. تعرف كيف تصوغ أفكارَها وكيف تعمّمُها: "من تَرَكَ دارَه قلَّ مقدارُه". المنفيُّ قليلُ المقدار وضئيلُ المكانة، وعندما يأتي من عالَمٍ صُنّفَ على أنّه أدنى فحظُّه أن يكون في موقع التعلّم والاستفادة فقط. 

الترحيب في المنفى مؤقَّتٌ ومشروطٌ بالحاجة. تخبرُني تجربةُ سنواتٍ عديدةٍ في ألمانيا ما يلي: أنتَ مرحَّبٌ بكَ ما دمتَ بحاجةٍ إلينا وتتعلمُ منّا. اطلُب ما تشاءُ وعيونُنا لك ولكن كُن تلميذاً وفِيّاً. اسْعَ جهدَكَ لأنْ تندمجَ وسوفَ نصفّقُ لك. أنت دليلٌ على إمكانيةِ تعلُّمِ الإنسان وتطوُّرِه، ونحن ههنا لنعلّمَك ونطوِّرَك. 

في المنفى أَتَأَمَّلُ سِيَرَ المنفيِّين على اختلاف صُنوفهم وحقَبِهِم الزمنية. أَعْتَبُ على بعضهم أو أَتَفَهَّمُهم، ويكون بعضُهم الآخَرُ مثالاً لي ونبراساً. قصصُ المنفيّين مثل "أوفيد" الشاعرِ الروماني تجعلُني أتساءلُ عن حدود الصبر والتمسّك بالأمل. أقرأُ في سِيَرِ معظمِهم: "ضَرَبَهُ المَنْفَى بِشدَّة" فتأخذُني رِقَّةٌ ومرحمةٌ وأتساءلُ: هل أعتبُ على الشاعر أوفيد وهو يرسل القصائدَ ورسائل الالتماس من منفاهُ للإمبراطور "أوغسطس" الذي نفاه إلى آخِر بقعةٍ من الإمبراطورية الرومانية، واصفاً إياه بالحاكم الأكثرِ لطفاً، على أملِ أن يعفوَ عنه، أم أتفهَّمُه وهو يلتمِسُ منه لسنواتٍ عديدةٍ من دون جدوى أن يمنحَه مكاناً في المنفى أقربَ إلى روما.

بعض المنفيّين يخفِّفُ عنّي معاناتي كالأديب الألماني توماس مان حين يقول: "إنَّه [المنفى] صعبُ التحمُّل، ولكنّ ما يجعلُ الأمرَ أسهلَ هو الوعيُ بالأجواء السامَّة السائدة في ألمانيا. [...] لن أخسر أيَّ شيءٍ. حيثما أكونُ، تكونُ ألمانيا. أحملُ ثقافتي الألمانيَّة معي. أعيشُ على اتصالٍ مع العالم، ولا أعُدُّ نفسي رجلاً ساقطاً".

الحديث عن المنفى يشبه الرقصَ على حافّةِ حائطٍ عالٍ غُرِزَت فيه قطعُ الزجاج المكسور منعاً لتسوُّر اللصوص أو المتطفّلين. كيف تتحدَّث عن معاناتك دون أن تثير الشفقة أو الشماتة. أن تكون مثيراً للشفقة يعني أنك ستغدو مثيراً على نحوٍ سريعٍ لعدم الاكتراث، ثمَّ للإهمال ثمَّ للاستخفاف ثمَّ للاستهجان. كيف تمشي منتصِباً وأنت تحملُ ركامَ الأرواح الهائمة والأنفس الشاردة والمدن المدمَّرة. حياةُ المنفيِّ عَركٌ ومكابَدةٌ للمحافظة على التوازن. فعليه أن يخاصم دون أن ينزلقَ إلى الكراهية، وأن ينتظر طويلاً دون أن يسقط في القُنوط، وأن يَحْزَنَ دون أن يُهْلِكَه الاكتئابُ، وأن يفرحَ دون أن يفترسَه شعورُ الخيانة، وأن يحملَ الهمَّ فيبقى بين يديه ولا يمتدَّ إلى ذراعيه ليتشعَّبَ في أطرافه ويتغلغل في كيانه.

المَنفى شبيهُ الموت. ففي الموت يقيمُ الجسدُ في الأرض وتغادرُ الروحُ إلى مكانٍ بعيدٍ، وفي المنفى يرتحلُ الجسدُ إلى مكانٍ بعيد وتبقى الروحُ في الوطن. يسير المنفيُّ بين البشر، بين آلاف البشر الوادعين المطمئنين كحيوانٍ مهدَّدٍ بالانقراض، لا يشعرُ به أحد. هل يفهم الزرزور الـذي يطير في أسرابٍ بالآلاف هواجسَ البطريق ذي العين الصفراء المهدَّد بالانقراض.

المنفى ألمٌ مديد. لأنّك إذا كنتَ في المنفى فهذا يعني أنَّ سببَه ما زالَ قائماً، وقيامُه غصَّةٌ دائمةٌ، ودوامُه حرقةٌ مضطردةٌ، واستمرارُه تنغيصةٌ متواترة. المنفى قرحةٌ كلَّما ظننتَ أنَّها الْتَأَمَتْ عاوَدَت انفجارَها، وأشدُّ ما فيه ألا تكونَ على يقينٍ من معرفةِ كيف تنتهي معهُ قِصّتُك.

يقول الكاتب والفنان السويدي أوغست ستريندبرغ: "إذا مرَّ الوقتُ الكافي فكلُّ الذكريات جميلة". ولكنَّني أستثني: إلَّا في المنفى، فكلُّ الذكريات فيه متعِبةٌ ومُمِضَّة. ربما يعطيكَ المنفى سلعةً نادرةً هي الأمانُ، لكنَّه يمتصُّ ثمنَها من روحكَ بالتقسيط إلى أن تتيبَّس رويداً رويداً، وفجأةً على حينِ غفلةٍ تسمعُ صوتَ تشقُّقِها وتكسُّرِها.

كتب المنفيُّ فيكتور هوغو: "ليسَ ثمَّةَ مَنفىً جميل". وأضيفُ: وليسَ ثمَّةَ مَنفىً مُمتِع.

اشترك في نشرتنا البريدية