استمع لهذه القصة
أناطَ آيةُ الله الخميني مؤسسُ النظامِ بعبّاس واعظ طبسي مهامَّه في 14 فبراير 1979 بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان انتصار الثورة، وقبيل ولادة الجمهورية الإسلامية. في سبعةٍ وثلاثينَ عاماً، حوّلَ طبسي منصباً دينيّاً يبدو شكلياً تماماً إلى إحدى أبرز الوظائف الحكومية نفوذاً في الشرق الأوسط. فكان للعتبة المقدّسة التي يرقد فيها الإمام علي بن موسى الرضا هيمنة تجارية تقدر قيمتها بمليارات الدولارات وعملها في صناعات متنوعة، من الشحن حتى البناء. أما زعيم العتبة نفسه فتحوّل من شابٍّ متحمّسٍ ينقل السلاح للمتشدّدين ويشارك في الاغتيالات السياسية في الستينيات، إلى شخصيةٍ معتدلةٍ ذات مصالح اقتصادية مستقرة، ومعارِضٍ للتهوّر والتشدّد الثوري الذي يتبنّاه المقرّبون من خامنئي. لكن خامنئي لم يصِل إلى السلطة المطلقة لولا التهوّر والتشدّد الثوري، ولولا الميليشيا الضخمة المعروفة باسم الحرس الثوري. اكتشف واعظ طبسي وأمثالُه منذ زمنٍ طويل أن الخمينية، تلك العقيدة الثورية التي تبنَّوها في شبابهم، تعطّل التجارة ولا تُوائِمُ القرنَ الحادي والعشرين. فأصبحوا عقبة في طريق خامنئي. ولهذا دعم واعظ طبسي وأمثالُه من ثوريّي الأمس أكبر هاشمي رفسنجاني، الحليف السابق لخامنئي، والذي أصبح معارِضاً له ثم تولى رئاسة البلاد.
لكن خامنئي كان يعمل بدأب على تقويض مراكز المنافسة. فقد عيَّنَ الشيخَ المثير للجدل أحمد علم الهدی إماماً لصلاة الجمعة في مشهد عامَ 2005، لمراقبة واعظ طبسي ومنعه من تحويل المدينة إلى مزرعته الخاصة. لكن عقب وفاة الأخير في 2016 نصّبَ خامنئي علمَ الهدی مبعوثاً شخصيّاً إلى محافظة خراسان رضوي حيث تقع مدينة مشهد، وبدّلَ بزعيمِ العتبة الرضوية المتوفّى صهرَ علم الهدى، الذي كان آنذاك شخصاً مغموراً يبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، أمضى حياته المهنية في الجهاز القضائي المشهور بوحشيته البالغة، واسمه إبراهيم رئيسي. لم تلحظ أكثرُ وسائل الإعلام اختفاء صور رفسنجاني من أبنية مؤسسات العتبة الرضوية. سقطت مشهدُ في يد خامنئي، وفَقَدَ رفسنجاني الذي لُقِّبَ لقوّته يوماً "الملك أكبر" أوراقَ القوّة. حتى أن محاولته الترشح للرئاسة مجدداً عام 2013 حظرها مجلس صيانة الدستور، وهي هيئة تنظيمية يهيمن عليها موالون لخامنئي. بعد أشهر سيتوفى رفسنجاني بطريقة مبهمة وصادمة، ولن يقف شيءٌ في وجه رئيسي.
لكن إن كان علم الهدی بارعاً في تسليط منبرٍ ضدَّ التيار الإصلاحي، فإن لخامنئي ورئيسي خطّة أبعد. وُلد رئيسي عامَ 1960 في عائلة متدينة بحي نوغان الثريّ طبقيّاً في مشهد القديمة. توفي والده عندما كان في الخامسة من عمره. ثم بدأ دراسة الدين في سنّ مبكرة مثل أبناء المرجعيات الدينية. كان أوّل نشأته عندما تعمّم والتحق بالمدرسة الدينية في مشهد، ثم انتقل إلى عاصمة الدراسات الشيعية بمدينة قم. ومِثل شيخه خامنئي، الذي جالسه أربعةَ عشر عاماً، يزعم رئيسي أنه من نسل آل البيت، مما يخوّله ارتداء عمامة سوداء ونيل احترام المتديّنين الذين يقدّسون المنحدرين من سلالة الرسول محمد. لولا الثورة لم يكن لرئيسي أن يكرّس حياته إلا للعلم والإرشاد الدينيَّين، وهو الذي كان يافعاً حينَ اندلعت ولم يلعب أيَّ دور معروف فيها.
انتصرت الثورة وباغت الخمينيُ حلفاءَه اليساريين حينَ أصرّ على منح رجال الدين دوراً مركزياً في الجمهورية الناشئة. لم تكن المهمة سهلة؛ فأكثر علماء ورجال الدين الشيعة غير منخرطين في السياسة كغيرهم من علماء ورجال الدين في العالم، ناهيك عن نوع السياسة الشعبوية الذي قاده الخميني. لكن العشرات من المساعدين الذين أحاطوا بالشيخ العائد من باريس ساعدوه على تطهير البلاد من العلمانيين وبناء دولة دينية لم يُسبق إليها. ومن المعروف أن محمد بهشتي، الأكثر موهبة بين هؤلاء المساعدين جمع سبعين عاملاً في السلك الديني لبناء مؤسسات عقائدية للجمهورية الوليدة، وهم الذين سيطروا فيما بعد على مستويات الدولة كافة.
ومع إمكانية إبقاء السلطة القضائية على حالها، فُكّكت وبُنِيت من جديد؛ إذ بات يعمل في المؤسسة نساءٌ قاضيات، مثل شيرين عبادي، التي أصبحَت بعد عقودٍ أول شخصية إيرانية تنال جائزة نوبل. وتعتمد المؤسسة أيضاً على مثقفات نِسْويات لصياغة تشريعاتها المتعلقة بالأسرة، ما يتعارض مع خطط الخميني ورفاقه في هندسة مجتمعهم الإسلامي الجديد. وبعد فصل موظفي القضاء بالجملة أُنشئت "محاكم ثورية" مسؤولة عن الإعدام الجماعي لمسؤولي النظام القديم، ولثلّة متزايدة من المنافسين السياسيين.
كان رئيسي شاباً في التاسعة عشر من عمره عندما اُختير من رجالات الدين السبعين. كان يفتقر إلى السمات الشخصية المتميزة وتنقصه المعرفة الدنيوية فعوّض ذلك بالوحشية. في مهمته الأولى ساعد في إنشاء محاكمَ ثورية في مدينة مسجد سليمان بمحافظة خوزستان جنوب غرب البلاد، حيث يهيمن عمال النفط المتحالفون مع الثوريين الشيوعيين الذين قُمعوا بوحشية. ثم خدم زمناً قصيراً في مركز "التعليم العقائدي" الخاص بكوادر النظام شمال شرق شاهرود، قبل أن يصبح عام 1980 المدعيَ العام الأعلى في كرج، وهي ضاحية صناعية قرب طهران. ومع منصبه في كرج أصبح المدعيَ العام الأعلى في همدان.
كان العقد الأول من الثورة الأكثر توحّشاً، وكانت أعمال القضاء الأعنف. قُتل آلاف المعارضين القوميين والإسلاميين والشيوعيين، وشاعَ اعتقال المواطنين لمجرد امتلاكهم كاسيت أو شريط فيديو أو آلة كمان أو ورق لعب، واعتُقِلت المواطنات لعدم التزامهنَّ بمعايير اللباس الديني المفروضة. كان رئيسي ذو الولاء المطلق للنظام خيرَ مَن يتولّى الأعمال الوحشية ويتلقى المكافآت بالترقيات. ففي 1985 أصبح المدعي العام في العاصمة طهران. وفي 1988 كان أحد الأعضاء الأربعة في "لجنة الموت" سيئة السمعة التي أشرفت على إعدام آلاف المعتقلين السياسيين. كان أمر الخميني مبرّراً شرعياً وكافياً لتنفيذ تلك الجرائم الإنسانية في غضون أسابيع.
كانت تلك المأساة منعطفاً في تاريخ إيران المعاصر. فقد هزّت هذه الوحشيةُ خليفةَ الخميني آيةَ الله حسين علي منتظري فاستقال من منصبه، وذلك بعد مواجهة رئيسي وآخرين في جلسة مغلقة عام 1988 حذّرهم فيها من أن يُكتبوا في التاريخ "أكابر المجرمين". ومع وفاة الخميني وصل خامنئي إلى السلطة وكوفئ هؤلاء الأكابر على صنيعهم. وصل رئيسي إلى منصب المدعي العام الأعلى في طهران، وشغل المناصب العليا في الجهاز القضائي، باستثناء الفترة ما بين 2016 و 2019 عندما تزعَّم العتبة المقدسة في مدينة مشهد. ومنذ 2012 شغل منصب المدعي العام الأعلى للمحكمة الروحية الخاصة، وهي هيئة مخصّصة لفرض عقوبات منظمة وغير مسبوقة على كل مرجعية دينية لا تمتثلُ الأوامر. أما في عام 2016 فقد ساعد رئيسي في محاكمة أحمد نجل منتظري، بعد تسريب ملف صوتي من الجلسة المغلقة التي تظهر فيها إدانة رئيسي وأنصاره من سفّاحي لجنة الموت عام 1988.
وعندما برز رئيسي مرشّحاً محافِظاً مؤيداً لخامنئي في انتخابات عام 2017، تبدّى للناس في حالة ضعف وهوان؛ فقد اضطرّ رجلُ الدين الصارم الذي اعتاد إرسال الآلاف إلى المقابر، والتفاخر بدوره في بتر أيدي المواطنين وأقدامهم علناً، إلى أن يسعى لكسب أصوات الشعب. كانت مباراةً خاسرةً قبل أن تبدأ. فمنذ المناظرة التلفزيونية الأولى، اتضح للجميع أن رئيسي ليس كُفؤاً كخصمه حسن روحاني الذي كان يسعى إلى ولاية ثانية. لم يستطع رئيسي قولَ جملة مفيدة، ناهيك عن الفوز بأصوات جماهير عريضة. ومع انسحاب الشخصيات المحافظة لصالحه مثل عمدة طهران محمد باقر قاليباف، ومع حصوله على تأييد مغني الراب أمير تتلو، حاز رئيسي 38 بالمئة فقط من الأصوات بينما نال روحاني 57 بالمئة. لكن خسارة انتخابات ديمقراطية لا تعني خسارة الشرعية ولا السلطة في جمهورية الملالي. ففي 2019 أصدر خامنئي قراراً بترقية رئيسي إلى رأس السلطة القضائية في البلاد، ليحل محل صادق لاريجاني الذي كان من عائلة ثرية منحازة إلى روحاني.
ظهر رئيسي مرة أخرى في انتخابات 2021 أهمَّ مرشح محافظ. في حين كان مشروع روحاني في فوضى عارمة؛ إذ فشل في تأمين الحقوق الاجتماعية التي وعد بها، وشاركت حكومته في قمع موجتين من الاحتجاجات الاقتصادية ما بين 2017 و2020. أما إنجازه الدبلوماسي الذي تمثل بالاتفاق النووي فدمّره الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أطلق سياسة "الضغط الأقصى" على إيران ودفعها إلى حضيضٍ اقتصادي لم تعرف مثله منذ عقود.
وبما أن النظام لم يفتح باب الترشح للرئاسة إلا لعدد محدود جداً من السياسيين، لم يكن من الصعب على المحافظين المؤيدين لخامنئي التغلب على الوسطيين أو الإصلاحيين المؤيدين لروحاني. لم تكن تلك انتخابات عاديّة أيضاً، فخامنئي كاد يبلغ اثنين وثمانين عاماً، مع أنباء عن تقهقر صحته، مما يعني أن لرئيس الجمهورية القادم يداً طُولى في الصراع الذي سينشأ بعد وفاة المرشد الأعلى. ويمكن أن تتولى مرجعيةٌ شيعية عُليا مثل رئيسي المنصبَ ليواصل مسيرة خامنئي. لكن السؤال هل سيستطيع أن يحوز الأصوات بأدائه الضعيف في انتخابات عام 2017 وافتقاره لأي جاذبية أو موهبة خطابية؟
استُبعد أي منافس محتمل لرئيسي. فخامنئي يختار أعضاء مجلس صيانة الدستور الاثني عشر تصريحاً أو تلميحاً، فكانت تلك أول انتخابات معدومة التنافسية منذ 1993. فقد كانت النتائج معروفة قبل أسابيع من التصويت. رفض مجلسُ صيانة الدستور الإصلاحيين الديمقراطيين مثل نائب وزير الداخلية السابق مصطفى تاج زاده، والمحافظين المعتدلين مثل علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق. واستَبعدت هيئةُ التدقيق الشخصياتِ العسكريةَ في الحرس الثوري الإيراني، وعلى رأسهم سعيد محمد، الذي يبلغ اثنين وخمسين عاماً وكان رئيس الذراع الهندسي للحرس الثوري المسيطر على قطاع المقاولات والمشاريع سنوات. وفي 2019 كان خامنئي يؤكد أن الأيام المقبلة بيد القوى "الشابة والمخلصة والثورية". عدَّ كثيرون ذلك دعوةً إلى نقل الراية من جيل إلى جيل. بينما تذكّر بعضُهم نداء ماو تسي تونغ للحرس الأحمر خلال الثورة الثقافية الصينية عام 1966. انتظر الإيرانيون أن يشهد العام 2021 انتقال الرئاسة إلى شابٍّ يرتدي الملابس العسكرية، ربما شخص مثل العميد في الحرس الثوري الإيراني سعيد محمد. يقال عنه عمدة طهران القادم، وهو المنصب الذي يبدأ منه الطموح السياسي في الجمهورية الإسلامية.
يهيمن الملالي على المؤسسة التي تنعقد أساساً في مجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء، وهو هيئة من ثمانية وثمانين عضواً معظمهم من المرجعيات الدينية المحافظة الذين يكلّفهم الدستور باختيار المرشد الأعلى القادم. على مدى ثلاثة عقود وببراعة تخطيطية مشهودة، كدَّ خامنئي في إبعاد منافسينه مثل واعظ طبسي ورفسنجاني عن المناصب المهمة والحساسة. مستعيناً على ذلك بمرجعيات دينية يعوَّل عليها مثل رئيسي، وبالقوة الضاربة للحرس الثوري الإيراني، ممن يقودون مشاريع التدخل الإيراني العسكري في العالم العربي ويمثّلون أهم مصادر الشرعية الثورية لخامنئي.
كان رئيسُ الجمهورية الإسلامية العقبةَ الأخيرة أمام الدكتاتورية المطلقة، بسبب استناده إلى قاعدة انتخابية مستقلة محدودة. كل الرؤساء الأربعة الذين تولوا مناصبهم في عهد خامنئي، من الإصلاحي محمد خاتمي إلى المتشدّد محمود أحمدي نجاد، تصادموا معه. خاتمي وأحمدي نجاد اليوم خارج اللعبة تماماً، والأخير يدعو بجرأة إلى مقاطعة الانتخابات. زالت هذه العقبة الأخيرة بعد صعود رئيسي إلى السلطة، وأصبح خامنئي صاحبَ الكلمة الأولى والأخيرة، أو كاد. لكنه خسر في المقابل دور الحكَم الذي يفصل بين الفصائل المختلفة التي تدور في فلك نظامه. ربما يحنّ خامنئي الآن، بعد سنوات من الحراك الشعبي ضد نظامه، للزمن الذي كان أقصى آمال الساخطين فيه أن يعبّروا عن سخطهم إما بالتصويت للإصلاحيين أو بالاحتجاج على حكوماتهم.
إن مسيرة إبراهيم رئيسي متدرجاً من قاضٍ شرس في محاكم الثورة ليصبح رئيسَ إيران تكشفُ الكثيرَ عن طبيعة النظام السياسي في البلاد. رئيسي، الذي كان يُعرف بولائه المطلق للنظام وقدرتِه على تنفيذ الأعمال الوحشية، كوفئ بالترقيات حتى وصل إلى قمة السلطة. إن موته المفاجئ يلقي بظلاله على مستقبل النظام الذي خدمه بإخلاص. لقد مثّل صعود رئيسي، بدعم من المرشد الأعلى علي خامنئي، خطوةً نحو تعزيز السلطة المطلقة في يد المرشد، مع تهميش أي دور مستقل لرئاسة الجمهورية. مع ذلك، فإن تزايدَ السخط الشعبي والتحولات السياسية في إيران يضعُ النظامَ أمام تحدّيات غير مسبوقة. قد تكون وفاةُ رئيسي رمزاً لنهاية فصلٍ في تاريخ إيران، وبدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ من التوتر والصراع على السلطة داخل الجمهورية الإسلامية.