أبناء الجيل الثالث في ليبيا بعد الاستعمار

"تاريخ مشترك": تأثير الثقافة الإيطالية على الموروث الشعبي الليبي

Share
أبناء الجيل الثالث في ليبيا بعد الاستعمار
تصميم حاتم عرفة / الفِراتْس

تساءلتُ حين وصلتُ روما في يونيو من العام الماضي، بعد مئة سنة من صعود الفاشية فيها، هل ستعرفني المدينة؟ أَتَذْكُرُ أنّ حكامها حاولوا يوماً جعلَ مدينتي نسخةً منها وأجدادي نسخةً من أبنائها؟ هل بقي ما يشير إلى ثلاثة عقود من جرائم الاستعماري في بلدي، ليبيا؟

أنا ابنُ الجيل الليبي الثالث بعد الاستعمار الإيطالي، جيلٌ لا يرى تلك المرحلة إلا بعدسة نظام القذافي الذي خَوَّن رجالَ العهد الملكي الليبي وعلى رأسهم الملك إدريس السنوسي. جيلنا يتواطأ على تجميل الاستعمار ويرجو عودته، ساخراً أو جادّاً. لا ريب، فكثير منّا يرى الجنرال الإيطالي إيتالو بالبو، الوحش المجنّح الذي قصف البلدات الليبية في العشرينيات، أحدَ أهم أبطال الأمة الليبية. جيلنا يحملُ على عاتقه مهمّة تذكير الجيل الرابع بمرحلة الاستعمار؛ مهمّة لا بد له من إنجازها مع صعوبتها، فنحنُ آخر جيل يحملُ ذاكرة شفويّة حيّة عن الاستعمار، ولكننا أيضًا أوّل جيل عايَش في شبابه حرباً أهليةً وعانى من ويلات لم يسمع عنها إلا في قصص الجدّات. 

جيلنا دائم البحث عن هوّية أو جذور إيطالية في كل ما هو ليبي. اضطرابٌ ظاهرٌ في الهوية طالما دفعني لفهم العلاقة التاريخية والثقافية التي تجمعنا بإيطاليا دون الغرق بفكرة أن الليبيين منذ استقلالهم لم يقدموا لليبيا ما قدّمه الإيطاليون خلال أربعة وثلاثين عاماً من الاستعمار.

قبل وصولي روما بساعات أَتينا صباحاً، زوجتي ريما وأنا، إلى مدينة حلق الوادي شمال العاصمة التونسية، لنستريح عند الصديقة الإيطالية فلانتينا التي تعمل باحثة في علم الاجتماع وتحبّ مدينة جرجيس التونسية حبَّها روما. تحدثنا وقتئذٍ عن تونس أكثر من روما، عن مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وعن سياسات الدولة التونسية العدائيّة تجاه المهاجرين غير النظاميين في البلاد، والتي باركَتها في الخفاء دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما إيطاليا.

كان لا بدَّ من الحديث عن روما، فقد جهّزت فلانتينا قائمة بالأماكن التي ترى أنه ينبغي علينا زيارتها، أماكن تراثية وأثرية ومطاعم وأحياء ومحلّات "جيلاتو" أو "البوظة" الإيطالية. ناقشنا هذه الأماكن. تحدثنا عن السكوبّا أو الشكوبّا كما ينطقها الليبيون، وهي لعبة ورق إيطاليّة مشهورة في ليبيا وتونس. وتحدثنا عن محلات بيع السجائر التي تبيع ورقَ اللَّعب وتذاكر النقل العمومي والمشروبات المعلبة والشوكولاتة، وعن مشكلة النقل العمومي في المدينة وندرة قطار الأنفاق بسبب الآثار التي يكتشفها الإيطاليون تحت روما كلما حفروا نفقاً، وعن حيّ معرض روما العالمي الفاشيّ الذي خلّفه موسّوليني رمزاً للعظمة الرومانيّة التي كان يسعى لها.

كلّمَتني فلانتينا أيضاً عن حدائق روما ومتاحفها وعن المدينة العتيقة فيها. سألتُها عن قوس الإمبراطور الروماني الفينقيّ الأصل والمولود بلبدة "سبتيموس سيفيروس" في روما القديمة، فارتسمَت على وجهها علامات استفهام. أجابتني: "مَن هذا؟" تعجبتُ وسألتُها مرّة أخرى: "ألا تعرفين سبتيموس سيفيروس؟" شعرتُ ببعضٍ من الذنب بعد أن راودني إحساس بالتفوّق عليها.

فلانتينا أوّل صديقةٍ لي في تونس. تعرّفتُ عليها في المنفى الاختياري سنة 2017 بالمدينة القديمة بتونس العاصمة. لم نتحدث حينها عن ليبيا وإيطاليا أبداً. بعد ذلك بسنوات صرنا نتحدث عن ليبيا، ولا أذكر أننا تحدّثنا عن إيطاليا، فضلاً عن الاستعمار الإيطالي لليبيا. فلم يكن موضوعاً سهلاً لنخوضَ غمارَه. كنتُ أعرفُ أنّ الدولة الإيطالية لم تعلّم شعبها ما اقترفَته في إريتريا وليبيا وأثيوبيا عندما أرادت الالتحاق بركبِ الدول الاستعماريّة. كان سؤالي عن سبتيموس أوّل نقاشٍ لنا عن "تاريخنا المشترك". 

كأني بها شعرت بالذنب أيضاً عندما بدت جاهلة بتاريخ إمبراطورٍ حَكَم بلدَها وخلّف قوساً عظيماً واضح المعالم عند مدخل المدينة الأثرية. لا يفقه الإيطاليون كثيراً بتاريخهم، عدا أنهم أبناء حضارةٍ عظيمة. لا يعرفون من أباطرة روما إلا المشهورين. لا يعرفون عن موسّوليني إلا الزعيم الفاشيّ الأوحد الذي حَكَم بلادَهم. لا يعرفون موسّوليني ليبيا. ويجهلون رودولفو غراتسياني الرجل الذي قادَ آخر حملات إيطاليا الاستعمارية لسحقِ المقاومة الليبية في الشرق وأعدم زعيمها الشهيد عمر المختار. لا يدرون من إيتالو بالبو إلا الطيّار المغامر الذي قطع المحيط الأطلسّي. لا يعرفون بالبو ليبيا، الذي ألقى القنابل على خيام القبائل الليبية من السماء في عشرينيات القرن الماضي ثمّ عاد إلى ليبيا في الثلاثينيات منفياً من إيطاليا ليبني ليبيا الجديدة ويكون أوّل حاكمٍ لليبيا الموحدة. لا يعرفون من هو الدوق بييترو باودوليو حاكم طرابلس وبرقة وصاحب فكرة معسكرات الاعتقال الفاشيّة لآلاف من أبناء ليبيا. أزعمُ أنّ المواطن الليبي أَعْرَفُ بزعماء الحزب الفاشي من المواطن الإيطالي، ربمّا لأنّ الليبي تعلّم عنهم من حكايات الأجداد والمدرسة والسينما والتلفزيون.


بروح فلانتينا النبيلة تخطيّنا الحديث عن تاريخنا المشترك وعُدنا للحديث عن محلّات الجيلاتو التي تفضّلها، أو كما ينطقه الطرابلسيّون الجيلاطّي جمعاً بلكنةٍ تشبه لكنة أبناء الجنوب الإيطالي. ثم لعبنَا سكوبّا بطريقة الإيطاليين وقوانينهم. اكتشفتُ أنّها تختلفُ عن طريقة الليبيّين والتونسيّين؛ فمثلاً يحسبُ الإيطاليون عدد النقاط المؤهّلة للفوز باثنتي عشرة نقطة، أمّا الليبيون فيحسبونها بإحدى وثلاثين أو بستين نقطة، مما يقصّر الشوطَ الإيطالي ويطوّل الشوطَ الليبي. لم تكن فلانتينا معجبَة بالسكُوبّا التونسيّة والليبية بينما لَم أُعجَب أنا بالسكوبّا الإيطالية، أما ريمَا فلم تأبه وهزمَتنا بأوّل شوطٍ لعبَتْه في حياتها.

يبدو التأثيرُ الإيطالي حاضراً في ثقافة شعوبِ شمال إفريقيا لا سيما ليبيا وتونس. فتونس كانت الطموح الاستعماري الأوّل لإيطاليا قبل أن تسرقها منها فرنسا عام 1881. قبل ذلك أرسلت إيطاليا مهاجرين من الجنوب الإيطالي إلى حلق الوادي ليشكّلوا جاليةً إيطاليةً صارت جزءاً من المجتمع التونسي هناك. وما زال الإيطاليون بالآلاف في مدنٍ كالحمّامات جنوب العاصمة التونسية. ليبيا كانت المُستَعمَرة التي رضيت إيطاليا باحتلالها بعد توزيع الكعكة الإفريقية على الدول الأوروبيّة ومن بينها فرنسا وبريطانيا وألمانيا. أثّرت إيطاليا في حياة الشعبين، بما في ذلك الكيفية التي يقضي بها الليبيون والتونسيون أوقات لعبهم، فقد أدخلوا على حياة الشعبين الاجتماعية لعبَ كرة القدم وألعاب الورق وألعاب الأطفال. كثيرٌ من أسماء ألعاب طفولتنا كانت إيطالية، بل كنا نغنّي بكلمات إيطالية ظننتُ حينها أنها رطانة غير مفهومة حتى تعلمتُ اللغة الإيطالية. ربما الفرق في التأثير الإيطالي بين التونسيين والليبيين أنّ الأوّلين تأثروا سلمياً أمّا الليبيون فمن عقودٍ من الاستعمار الاستيطاني.

تغدّينا عند فلانتينا أيضاً واسترحنا ثمّ ودّعناها ووعدناها بالقصص والحكايات عن روما في اللقاء القادم. صعدنا طائرة الخطوط الجويّة الإيطالية من مطار تونس قرطاج الدوّلي. كانت زيارتنا روما لتحضر ريما دورة تدريبية في جامعة لويس جويدو كارلي للعلوم الاجتماعية، وهي جامعة إيطالية خاصّة تعمل معها ريما باحثةً في برنامج اسمه منصة المتوسّط، تكتب لهم أبحاثاً عن سياسات الدولة الليبية في قطاعات الكهرباء والبيئة والنظافة. نظّمت لي الجامعة أيضاً أمسية عن الأدب الليبي، كوني روائياً ليبياً حائزاً على الجائزة العالمية للرواية العربية، صحبةَ الشاعر الليبي الأمريكي والأستاذ المحاضر في جامعة ميشيغان خالد مطاوع. وهو رجل كتب ديواناً شعرياً بالإنجليزية عن المهاجرين الأفارقة الذين يقطعون البحر الأبيض المتوسط سنوياً بالآلاف بعنوان "أطلس اللاجئين"، وله إسهامات ثقافية مهمّة في المشهد الليبي منها مؤسسة آريتي الثقافية. لحكمةٍ ما كان خالد جزءاً مؤلماً من تجربتي في روما، كما سنرى.

وصلنا فندق بوينس آيريس بشارع تشيتّونو قربَ مربّع كوبّيدي التاريخي. ليس بعيداً عنّا تقع فيلّا بورغيزي وهي إحدى حدائق وسط روما وبها حديقة حيوانات. كانت ريما متعَبة وجائعة، لهذا خرجنا مجدداً نبحث عن عشاءٍ في أحد المطاعم القريبة، ولم يكن معي من عملة نقدية غير الدولار في بلدٍ لا يقبل إلاّ اليورو، لكن قررنا خوض المغامرة. كان الإيطاليّون يجلسون للحديث وشرب النبيذ وأكل البيتزا والمعكرونة. بدا المكان شبه مزدحم. التقت عيناي بعينَي النادل فقررتُ تجربة لغتي الإيطالية أخيراً. 

تعلّم أجدادنا اللغة الإيطالية من احتكاكهم بأرباب أعمالهم الإيطاليين. جدّي محمّد الهادي، رحمه الله، كان مزارعاً يزرع نباتَ التبغ في أرضه الصغيرة ويربّي الأغنامَ. كانت الأغنام ثروته، أمّا التبغ فيجفّفه ثمّ يبيعه إلى "الطُّلْيَان" كما كانت تقول أمّي. تعلّم جدي الإيطالية "بـالمخالطة" كما يقول الليبيون. جيل أبي، أوّل جيلٍ في ليبيا المستقلّة، أخذ بعض التعبيرات والتعريفات باللغة الإيطالية من آبائهم. من هذه التعبيرات: قطع غيار السيّارات كُلّها بدءاً من إطارات السيّارة التي نسمّيها "قومّا" إلى القطع الصغيرة في غرفة المحرّك مثل "الكامبيو" أي نظامِ تغيير السرعات، وكذلك المعدّات الزراعية والإنتاجية، وكلمة بيتسا أو بيتزا كما ينطقها العالم، وقواعد ومناطق الملعب في كرة القدم، فمثلاً نسمي الدكّة "بانكينا" وهي كلمة إيطالية تعني مقعد. ولم ينسَ الآباء اقتباس أسماء الشوارع وأوصاف بعضِ الأماكن والأمراضِ والأكلاتِ وبعض الأثاث وأدوات البيوت وكلّ الإهانات والشتائِم من اللغة الإيطالية أيضاً.

جيلنا استعمل من اللغة الإيطالية ما تذكّره آباؤنا من آبائهم فقط. لا سيما بعد إعلان نظام الجماهيرية سياساته العروبية التي عرّبت كل شيءٍ ومحت أيّ هويّة لغوية لليبيين عدا العربية. لم يكن الإيطاليّون مستعمِراً يبحثُ عن شعبٍ يدّعى أنّه يعلّمه الحضارة كما فعل غيرهم من الأوروبيين، بل كانوا يبحثون عن أرضٍ يتخلّصون فيها من مشاكلهم الاقتصادية في الجنوب الإيطالي الذي انتشرت فيه البطالة وهاجر أولاده إلى بقاع شتّى. كما أرادوا إثبات جدارة الأمّة الإيطالية في اللحاق بالدول التي كانت استعماريةً استيطانيةً.

كانت ولاية طرابلس الغرب ــ الاسم العثماني لليبيا ــ الحلّ الأمثل للإيطاليين لتحقيق طموحاتهم والتخلّص من مشاكلهم، رغم ما أشيع عن فقرها. طرابلس الغرب بلدٌ هامشيٌ يقع بالضبط جنوب إيطاليا. بلدٌ شاسعٌ يسكنه البدو قد يعوّض إيطاليا عن خسارتها تونس وهزيمتها الأليمة بمعركة عدوة بأثيوبيا في القرن التاسع عشر. ما لم تأخذُه إيطاليا في الحسبان أنّ طرابلس الغرب بالذات، البلد الفارغ وصندوق الرّمل كما كان يسمّيها بعضُ قيادات الحزب الفاشي، ستكونُ البلد التي تتعثّر فيها طموحاتها الاستعماريّة بعد مواجهتها بمقاومة شعبية استمرّت عقدين، ثم تتخلّص فيها من تلك الطموحات بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية على يدِ بريطانيا وجيش التحرير الليبي بقيادة الرجل الذي سيصبح لاحقاً ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي.

بدأتُ تعلّم الإيطالية في طرابلس في أغسطس 2021 عند السنيورة علياء، وهي امرأة ليبية إيطاليّة، قصّة حياتها بها من الدراما والاغتراب عن الهُويّتَين اللّتين جاءت منهما ما بها. تزوّج أبوها الليبي أمَّها الإيطالية في خمسينيات القرن الماضي. هربت أمّ السنيورة من والدها الذي كان عضواً في الحزب الفاشي فتنكّر لها وهجرها. وعندما حاولت أمّها إرسال صورة الحفيدة إليه رفض رؤية "ابنة العَرَبي"، وبقيت الصورة في درجِ مكتبه حتى فتحها خطأً فرقّ قلبه وخرّ باكياً على فراق ابنته وحفيدته. تمثّل قصة السنيورة جيلاً من الليبيين الذين عاشوا بين هُويّتين مختلفتين ومتناحرتين. مع ذلك اتسع قلب السنيورة لهما وعلّمتهما العيش معاً بسلام. عشتُ مع السنيورة أياماً جميلة أحببتُ فيها اللغة وتكلمتها وكدتُ أتقنها قبل أن أتوقّف عن تعلّمها في مايو 2022 بعد إعلان نتيجة الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). اضطُرِرتُ حينها إلى المكوثِ في مدينةِ الحمامات بتونس بعد حملةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا نادت بسجني ومنع روايتي "خبز على طاولة الخال ميلاد" من التداول لأنها تناقش محرّمات المجتمع الثلاثة: الدين والجنس والسياسة. المهمّ، كنتُ متحمسّاً لتجربةِ لغتي الإيطالية تلك الليلة في روما مع نادل المطعم.

لَم أنجح في اختباري الإيطالي العملي الأول. لَم يفهمني النادل ربما لأنني كنتُ متوتراً، فنادى سيّدة تبدو مديرته المباشرة، تحدّثت معنا الإنجليزية. أخبرتُها بإشكاليّتي الماديّة وجوعنا وتعبنا من رحلة السفر. سألَتني: "في أي فندقٍ تقيمون؟" أجبتُها، فردّت: "لا بأس إذن، حتّى لو لم تستطع الدفع ببطاقتك يمكنك الدفعُ غداً". 

شكرتُها بعد أن أجلسَتنا عند طاولتنا وسلّمَتنا قائمة الطعام وأخبرَتنا أنّها ستعود. تحدثنا أنا وريما عن الإيطاليين حولنا. عندما عادت السيّدة، تشجّعتُ وأخبرتُها بأنني أتحدّث الإيطاليّة وأودّ الطلبَ بها. فرِحت. نطقتُ الكلمات وأخبرتها بأنّ زوجتي حبلى، أضفتُ: "فهل يوجد طعامٌ مناسبٌ لها؟" قالت: "المعكرونة بالأرضي شوكي. لا تخافوا، فهي حلال لا كحول فيها ولا لحم خنزير". حينها طلبت: "معكرونة بالأرضي شوكي لزوجتي، وبيتزا مارغريتا لي." ابتسمَت. تلك أوّل إيطالية أتحدّث إليها. كانت لطيفة وودودة. لم أعتد على هذا في ألمانيا وهولندا وحتّى تركيا.

قلتُ لريما: "هل تلاحظين؟ لا برافا جنتِي، يعني الشعب الطيّب". الشعبُ الطيّب شعار الشعب الإيطالي، شعارٌ رفعَته سلطات إيطاليا ليصبح دعايةً لبلدهم منذ خمسينيات القرن الماضي. الشعب الطيّب لا يَخرج منه الطغاةُ أمثال موسّوليني، فهو سوسٌ في عظمِ هذه الأمّة كما كان معمّر القذّافي في ليبيا. تنكّر الإيطاليون لموسّوليني عند هزيمته كما تنكّر الليبيون لمعمّر القذّافي، كأنّ الطغاة ليسوا نتاجَ شعوبهم وسياقاتها التاريخية والسياسيّة وطموحاتها. 

قبل زيارتي روما عرفتُ أنني سأكتبُ عن المدينة، لكنني لم أعرف كيف. أقصد، ما السؤال الرئيس؟ هل علي أن أسردَ ما فعله الإيطاليّون في ليبيا؟ هل ينبغي أن أعرّج على التاريخ الروماني عبر مدن روما الثلاث شمالَ إفريقيا (لبدة وصبراتة وأويا أو طرابلس الحديثة)؟ في صباحِ أوّل الأيام جاءتني الإجابة بعد أن رافقتُ ريما إلى الجامعة. مشينا عبر شارع الملكة مارغريتا ثم وقفنا عند إحدى العمارات، كانت خضراء اللون تعود إلى حقبة "إل فوتشوريستا" أي المستقبليون، وهي حركة معمارية إيطالية أرادت التمرّد على التقاليد المعمارية الكلاسيكيّة. لا يشبه البِناءُ روما التي اعتدنا رؤيتها في السينما بل يشبه الطراز المعماري في الظهرة، أحد أحياء طرابلس. يعود المبنى الإيطالي إلى حقبة الثلاثينيّات، وهو المفتاح الأوّل لمعرفة سؤالي. بعد ثلث ساعة من المشي وصلنا الجامعة. ودّعتُ ريما ثمّ انطلقتُ لأستكشف المدينة.

رجعتُ إلى مقهى رأيتُه في طريقنا إلى الجامعة. طلبتُ قهوة إسبريسّو وخبز "كورنيتّو" أو الكروسان، وجلستُ أعمل قليلاً. الإيطاليّون يشربون الإسبريسّو بسرعة، واقفين ويتحدّثون بسرعة ويَبدون دائماً مهرولين للحاق بأعمالهم. هم في ذلك عكس الليبيين الذين يعاملون الإسبريسّو كأي شرابٍ آخرٍ، يحتفظون به ساعات.

وِجهتي الأولى كانت حديقة فيلّا بورغيزي التي تتكئ على هضبة وتضم حديقة حيوانات ومتاحف أثرية وفيلّا الكاردينال شيبيوني بورغيزي. تحوّلت الفيلّا إلى متحف به لوحاتٌ ومنحوتات مشهورة لفنّانين عظماء مثل منحوتة "اغتصاب بروسِربينا" للفنان جان لورينزو بيرنيني. مشيتُ نصفَ ساعة حتى وصلتُ إليها. انبهرتُ بتماثيل الحديقة المزروعة في سورِها الفاصل بين غابتها الخضراء وغابة الإسمنت. التماثيل في روما كالنخيل في تاجوراء شرق العاصمة طرابلس، تجذبك في البداية، لكن سرعان ما يختفي انبهاركَ بها. تمثالٌ واحدٌ ظلّ يحضُّني على السير في الحديقة وهو التمثال الذي كان سبب دخولي أوّل الأمر. كنت متحمّساً لدخول متحف فيلّا بورغيزي لكنه كان مغلقاً للصيانة. مشيتُ في حديقته قليلاً أنظر إلى ما بقي من تماثيل لنيرون وماركوس أوريليوس وكاركالّا بن ستّيموس سيفيروس الطرابلسي وجوليا دومنا السُوريّة.

حاولتُ التقاط أنفاسي من المشي في صيفِ المدينة بينما كنتُ جالساً أمام نافورةٍ بمجسم امرأةٍ عاريةٍ، تبدو كأنّها ترقصُ تحت الماء، أتأمّل إتقان الإيطاليين صنعةَ النوافير المنتشرة في كلّ زاوية. تذكّرتُ تمثالي الذي جئتُ إلى الحديقة من أجله. نهضتُ ودخلتُ غابة الأشجار متتبعاً الخارطة على هاتفي. كان الإيطاليّون والسيّاح الأجانب يستمتعون بظلال الأشجار في الحديقة. يتريّضون أو يتحلقون حول مائدة على الأرض. تجدُ نوافير المياه قرب الأشجار يتجمّع حولها سيّاحٌ أمريكيّون يحاولون ملء عبوّاتهم. أمشي، ثم أراقب سنجاباً يحاول النزول من شجرته، مستعداً لخوضِ مغامرةٍ من أجل ثمرةٍ كان يراقبها على الأرض. أتوقف بعد أن اختَطفَ نظري نصبٌ للملك أومبرتو الأول والد الملك عمانويل الثالث ملك إيطاليا وليبيا وأثيوبيا. كان نصب الملك أومبرتو يختبئ بين الأشجار الرومية الشاهقة. أجلسُ عند النصب، وأشعلُ سيجارتي. الوقتُ في روما يمرّ ببطء، وعليكَ مثل الإيطاليين أن تقدّر هذا الأمر لتستمتع بتجربتك. فتمثالي لن يتحرّك من مكانه، بهذا علّلتُ نفسي. جلستُ دقائق، وبدأت أقرأ رواية "الفسيفسائي" للكاتب المغربي عيسى ناصري التي أحضرتها معي. قبل أن يناديني هاتفٌ يخبرني أنّه حان موعد اللقاء فنهضتُ أكمل مشيي حتى وصلتُ إلى مبتغاي. هتفتُ حين وصلت: " فونتانا داي كفالّي ماريني" (نافورة أحصنة البحر). النافورة التي يسميها أهل طرابلس نافورة الأحصنة المجنّحة هي عملٌ فنيٌ رأيتُه مئات المرّات في طرابلس حتى أصبحَ مثل نخيلِ تاجوراء مَعلماً باهتاً من معالم العاصمة الليبية. 

جلستُ عنده متأمّلًا مرّاتٍ عدة، ومررتُ بجانبه دون ملاحظته أكثر من ذلك. لا تضاهي نافورةُ الأحصنة المجنحة جمالَ نافورة تمثال الغزالة والحسناء في طرابلس ولا رمزيتها. ربما لم أحاول يوماً فهمَ رمزيّة الأحصنة المجنحة بقدر ما حاولتُ فهم رمزيّة تمثال الغزالة والحسناء. أعاد نظامُ الجماهيرية تصميمَ الغزالة والحسناء ببناء نافورة جديدة تحيطُ بالتمثال وتبدو أعلى بحيث تُعزَل الحسناء وغزالها عن أهل المدينة. وظلّ الأمر على هذا الحال بعد سقوط النظام سنة 2011 حتى تضرّر التمثال مرّة بقذيفة أصابته ثمّ اختفى في الرابع من نوفمبر سنة 2014.

كانت نافورة الأحصنة معلماً إيطالياً آخر داخل ميدان الشهداء أو ميدان إيطاليا كما كان يطلق عليه الإيطاليّون وسط المدينة، لكنّ اللامبالاة التي صاحبتني حيالها انقشَعت عند وقوفي أمامها أوّل مرة حين انكشفت رمزيّتها لي.

عندها سألتُ نفسي عن دافع المستعمر الإيطالي إلى إرسال نسخة من هذه النافورة تحديداً إلى ليبيا. أأرادَ أن يُشعِر الإيطاليّين في طرابلس أنّهم في الوطَن؟ هل كان ذلك بسبب رمزيّة نافورة أحصنة البحر؟ أم أنها كانت عملاً فنياً عشوائياً أرادَ المستعمر زرعه في مدينةٍ أرادها أن تكون يوماً ما مِثل روما؟

لم تكترث إيطاليا لليبيين في مرحلة الاستعمار الأولى (1911-1922)، لأنها كانت تطمع بموطئ قدم آخر في إفريقيا بعد إريتريا، عبّر عن ذلك شكلُ العمارة الإيطالية قبل صعودِ الفاشيّة في شارع ميزران وسط طرابلس، أو "فيا لاتسيو" كما يسميها الإيطاليون، والشوارع المحيطة بميدان الشهداء؛ إذ ما زالت غالبية العمارات والمعالم الإيطاليّة هناك تشبه العمارة الإيطاليّة الكلاسيكيّة.

لم يتغيّر النمط المعماري بعد ذلك إلا مرتين؛ الأولى عند صعودِ موسّوليني ورفاقه الفاشيين إلى سدّة الحكم عام 1922، حينها اهتمّ الفاشيّون بإبراز الهُويّة الرومانية لطرابلس الغرب، فأذعنوا إلى أن الماضي الروماني هو ماضي البلاد الوحيد. لذلك اهتموا بالآثار الرومانيّة أكثر من قبل، وجاؤوا بتمثال موسّوليني ووضعوه وسط ميدان الشهداء. أما الثانية فكانت عند نفي إيتالو بالبو إلى طرابلس الغرب وبرقة وفزّان عام 1934، ليصبح أوّل حاكمٍ لليبيا المُوحَّدَة ينحو في تخطيط المدن الليبيّة وفنّ العمارة نحو المزج بين العمارة الإيطاليّة والليبية التقليدية. ونافورة الغزالة والحسناء مزجٌ بين الطبيعة الليبية والفنّ الإيطالي، فالغزال تجسيدٌ لليبيا والحسناءُ التي تعانقه تمثّل إيطاليا. في عهدِ بالبو ارتضت روما أن يكون لليبيا هُويّتها الثقافية لكن الفاشيين المتطرفين عارضوا ذلك. 

إذن، فالأحصنة المجنحة في طرابلس موسولينيّة بينما نافورة الغزالة والحسناء بالبويّة، وهما بذلك متناقضتان. ففاشيّة موسوليني إقصائيّة لا تعترفُ إلا بما هو إيطاليٍ، أما فاشيّة بالبو، مع أنها ابنةٌ الفاشيّة الموسّولينية، فقد تعلّمَت المراوغة وركَنت إلى خداعِ الليبيين بمبدأ المصالحة وبدء الاعتراف بهم مواطنين إيطاليين تمهيداً لزيادة عدد المهاجرين من الجنوب الإيطالي إلى البلاد. وهذا الأمر يتضّح عند دراسة المصادر التي تتحدث عن تلك الحقبة؛ فمثلاً، بعد أن شجّعت سلطاتُ بالبو الليبيين على إلحاق أطفالهم بالمدارس، جعلت من شعارات تمجيد الفاشيّة وموسّوليني جزءاً لا يتجزأ من مرحلة التعليم. وسهّلت لليبيين الذين يلتحقون بحركة الشباب الفاشي سُبُلَ الحياة والحق في المواطنة؛ حقٌّ عارَضه كبارُ المسؤولين في الحزب الفاشي.


وقفتُ نهاية تطوافي أعلى هضبة تطلّ على وسط روما، بانَت لي كل معالم المدينة السياحية: ساحة الشعب "بياتزا دِل بوبولو" والفاتيكان وروما الأثرية وساحة إسبانيَا وساحة فينيتسيا. نزلت بعد دقائق معدودة فشمسُ الصيف بدأت تصحو من غفوتها وترتفعُ في كبدِ السماء. 

نزلتُ إلى ساحةِ الشَّعب، ورأيتُ هناك العمّال يجهزّون منصة احتفاء بمهرجان صيف روما، وهو مهرجان موسيقي سنوي، يحتفل فيه الإيطاليون بالرقص. منذ الطفولة مهّدت لي الموسيقى الإيطالية عشقَ اللغة، فعندما كنّا فتياناً كنتُ أسمع وأخي أغنية "لاشاتيمي كانتاري" أي دعوني أغنّي، وهي أغنية إيطالية شعبية ذائعة الصيت كنا نغنّيها دون معرفة معانيها. احتجْتُ عشرين عاماً لأفهمها؛ كان ذلك بمساعدة السنيورة علياء. في أيّام دراسة اللغة كانت السنيورة تصرّ أنّ بناء اللهجة الليبية يكاد يشابه بناء اللغة الإيطالية. لعلها محقّة في ذلك، فالليبيّون يستعملون كلمات مثل "قاعد" كما يستعملها الإيطاليّون؛ أي بمعنى "ما زال". لذلك فإن ترجمة الجُمل والمقاطع الإيطالية إلى اللهجة الليبية يسيرة، مقارنةً بترجمتها إلى الفصحى، بسبب التواصل الحضاري القديم بين روما وطرابلس الغرب. إنّ روما الحديثة أو إيطاليا تعدّ نواة الدولة الليبية الحديثة، ذلك أن بعض مؤسّسات الدولة الليبية ما زالت تحتفظ بالمقرّ نفسه الذي اتخذه المستعمرون لها، مثل وزارة الزراعة والتربية الحيوانية. 

مشيتُ في شوارع وسط البلد، دخلتُ أسواقاً وأزقةً تبيع منتجات شركات العلامات التجارية العالميّة والإيطاليّة، كان الإرهاق قد أخذني كلَّ مأخذ؛ فالشمسُ ارتفَعَت واستنزَفَت جولةُ الصباح في فيلّا بورغيزي جُلَّ طاقتي، استرحتُ قليلاً في أحد المطاعم، أكلتُ المعكرونة ثمّ حلوى التيراميسُو، وهي كلمة إيطالية تعني حرفياً ارفعني عالياً، أو كما يقول الليبيون "رد ليا الروح" أو "أثْلِجْ صدري" إن صحّ التعبير. فعلاً، أعاد التيراميسُو الآن لي روحي ونشاطي وأكملتُ جولتِي مارّاً من ساحة إسبانيا. كنتُ أرغبُ في صعود الأدراجِ فيها إلا أنني وجدتُها مغلقة بسبب افتتاح عرض جزء جديد من فيلم "المهمّة المستحيلة" للممثل العالمي توم كروز. انتظرتُ صحبةَ الجماهير لرؤية توم كروز وعندما مللتُ قررتُ العودة إلى الفندق.

كانت مهمّة بناء بلدٍ مثل ليبيا بعد إعلان استقلالها ليلة عيدِ الميلاد سنة 1951 شبه مستحيلة. أنفقَت إيطاليا على ليبيا لكنه كان استثماراً شبه خاسر؛ إذ أن ليبيا لم تنفع إيطاليا كثيراً، إلا إن استثنينا الطموح الاستعماري والتقليل من الفقر المتزايد جنوب إيطاليا بتوزيع الأراضي الليبية على فلاحي نابولي وصقليّة وسردينيا. واجهت المملكة الليبية المتحدة المشكلة الأخيرة ذاتها، فقد ورثت شعباً فقيراً وافتقرت الدولة إلى موارد تمكّنها من تحسين جودة الحياة. فاضطّرت سلطات المملكة إلى التعاقد مع الولايات المتحدة وبريطانيا لإنشاء قواعد عسكرية مقابلَ إيجارٍ سنويٍ وإرسال مساعدات إنسانيّة وخبراء في شتّى المجالات؛ ذلك بعد محاولات الاقتراض من الحكومة المصريّة التي باءت بالفشل. أمست القواعد الأجنبيّة هاجساً لليبيين في مرحلة صعبة من عمر الأمة العربية والليبية حتى بعد اكتشاف النفط، ولا سيما بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 والنكسة عام 1967، الأمر الذي منح الشرعية للانقلابيين الليبيين صباح "ثورة الفاتح" في الأول من سبتمبر عام 1969. استغل معمّر القذّافي وجود القواعد الأجنبيّة ونفوذ بقايا الجالية الإيطالية في ليبيا أحسنَ استغلال، ولم يفوّت مناسبة إلا وصف فيها الاستقلال الليبي بالاستقلال المُزيّف.

الشمس صارت لاذعة لكن ليس لي سبيلٌ إلا السير قُدماً. دخلتُ الأزقة والشوارع متتبعاً الخريطة في هاتفي. ابتعدتُ عن أماكن اجتذاب السيّاح. أقفُ مرّة عند مبنىً أعجبني أو لوحة مرسومة على الحائط. أمشي دون دليلٍ، كما يوصي المفكّر اللبناني الأمريكي نسيم طالب صاحب كتاب "البجعة السوداء"، إلا استراق النظر إلى الخريطة بين الفينة والأخرى لمعرفة مكاني من الفندق. نشاطي الذي استعدتُه ينفد في تسلّق المنحدرات لأقف في تقاطع شوارع حيث وجدتُ ضالّتي على غير ميعاد، ضالّة سأظلّ دوماً أذكر روما بها، ففي الزوايا الأربع للتقاطع كان هناك "فيا ديللي كواترو فونتاني" أي شارع النوافير الأربع. 

نوافيرُ صُمّمَت بشكل نصف دائري، كل واحدة منها تلتصق ببناية عند تقاطع الطرق، وتُظْهِرُ التصاميم ذكَرين وأنثَيين بشريّين خلفهم نباتٌ وحيوان؛ أسد أو ذئب أو إوزّة. يرمز الذكران إلى أنهار إيطاليا التيبر وأرنو، أمّا الأنثيان فترمزان إلى آلهتها الأنثويّة ديانا وجونو زوجة جوبيتر (المرّيخ). لم أرَ في رحلاتي حول العالم – وقد رأيتُ كثيراً – نوافير بدقّة النوافير الأربع وجمالها. يكمن جمالها ببعدها عن مناطق الجذب السياحي.

أحيانًا لا يفتّش المرء عن الرموز في سفره، بل تفرضُ نفسها عليه. في المدينة القديمة بطرابلس زقاق اسمه زنقة الأربع عَرصات، و"العَرْصَة" في اللهجة الليبية تعني عامود البناء. هذه الأعمدة الأربعة جاء بها الليبيون قديماً من آثار مدينة لبدة. أعاد الليبيون قديماً استعمال الآثار الرومانية من مدينة لبدة في بناء المساجد والقلاع الأثرية، بينما استعمل الفاشيون الإيطاليون الماضي الروماني والليبي في صيغته المعنويّة لتشكيل دولتهم. من ذلك الماضي المعنوي قصّة الأخوين فيلّيني اللذين رسما الحدود بين قرطاجة الفينيقيّة وبرقة اليونانيّة، فيُحكى أن الدولتين اتفقتا على رسم الحدود بينهما سلميّاً بانتقاء عدّاءين من كل بلد يجريان حتى يلتقيا بعدّائي الطرف الآخر، وفي مكان اللقاء تُرسم الحدود. انطلق الأبطال من قورينا شرقاً والأخوان فيلّيني من قرطاجة غرباً حتى التقوا قرب مدينة راس لانوف اليوم. احتجّ البرقاويون على غشِّ القرطاجيين، ولم يقبلوا برسم الحدود إلا باقتراح دفن الأخوين فيلّيني حيَّيْن ليكون قبرُهما حدّاً فاصلاً بين البلدين. استندت الإمبراطورية الرومانيّة بعد ذلك على هذه القصّة لترسيم حدودها، ثم نُسيَ الأمرُ قروناً عدّة، اختفت فيها برقة اليونانيّة وراحت قرطاجة وتغيّرت الحدود بين الدول عشرات المرّات حتّى جاءت إيطاليا الفاشيّة لترسم الحدّ من جديد بتشييد قوس عظيم من الرخام ليكون حدّاً رمزياً بين طرابلس وبرقة. ظلّ القوس بعد ذلك على حاله في المملكة الليبية المتحدة ولم يتغيّر فيه شيء إلا تبديل نقوش شعارٍ فاشيّ يقول: "لن ترى ما هو أعظم من روما" بقصيدةٍ عربيّة مطلعُها:

شَاء البُغَاةُ بناءً يبتغونَ بِه … تَخليدَ روما وَشَاءَ اللهُ أنْ يَقَعُوا

تؤرّخ القصيدةُ لوحدة ليبيا وتعلن انتهاء حقبة الاحتلال. أحاججُ هُنَا بأنّ ذلك القوس يرمز إلى سياسات الاستعمار الإيطالي التي بثِّت الخلافات بين أبناء الشعب الواحد وسعت إلى تقسيمهم جماعات. لم يطُل الزمن بالقوس حتّى هدمه معمّر القذّافي بحجّةِ أنه من مخلّفات الاستعمار الفاشّي، لكن ما لم يلتفت له القذّافي ولا الملك إدريس السنوسّي قبله أنّ رمزيّة القوس علامة انفصال ظلّت حبيسة في نفوس الليبيين، لتصير تلك الحدود حجّة الانفصاليين في برقة وطرابلس بأنّ قدر ليبيا أن تصبح دولتين؛ شرقية وغربية. ومع عدم حدوث ذلك رسمياً حتّى اللحظة، إلا أنّه واقع الحال، فالدولة الليبية منقسمة إلى جزئين؛ شرقي وغربي، وما زال الفرقاء يغذون الأحقاد بين أبناء الشرق والغرب وينشرون صور ذلك القوس، لا للمناداة بإعادة بنائه فقط بل لخطّ الحدود وتشييد سورٍ بين "الدولتين" عند موقع قبر الأخوين فيلّيني.

تابعتُ مشيي متجهاً إلى الفندق داخلاً شوارع وأزقة عشوائيّة، اتصلتُ بريما لأطمئّن عليها فأخبرتني أنّها ما زالت بالدورة التدريبية. صارت السّاعة الثانية ظهراً وروما تُظْهِرُ لي وجهاً لم أعرفه في المدن الأوروبيّة التي زرتُها، بل لم أعرفه حتى في طرابلس ولا تونس العاصمة الحارّتين صيْفاً. لا بدّ أنّ نارَ روما العظيمة التي أحرقتها كاملةً في عهدِ النيرون ما زالت مشتعلة. 

سِرتُ تحتَ الشّمس دقائق كأنها ساعات، فالأشجار تقلّ في شوارع المدينة الواسعة. لم أتوقف حتى وصلتُ إلى مَعلمٍ إيطاليٍ آخر يربط ليبيا بروما، نصب الجندي المجهول، نصب يمجّد "بطولات" جنود إيطاليا الذين قضوا من أجل مجدِ الدولة الإيطالية في معارك عدّة أهمّها معركة الهاني أو معركة شارع الشّط في أكتوبر 1911؛ المعركة التي هَزم فيها المجاهدون الطرابلسيّون الدولةَ الاستعمارية المتغطرسة بقوتها وقدرتها على هزيمة الأتراك والبدو المتحالفين معهم. في حي الهاني بطرابلس نُصبٌ آخر يؤرّخ تلك المعركة أيضاً، نصب كان مهمَلاً سنواتٍ قبل أن تبدأ حكومة الوحدة الوطنية بصيانته منذ أشهر، وهي المرة الأولى منذ بنائه في عهد الجماهيرية. الفرق شاسعٌ بين النصبَين، نصب روما يلفت الأنظار بحجمه والحرفيّة والإتقان فيه بينما نصب الهاني لا يكاد يلفت نظرَ أحدٍ حتّى سكّان الهاني أنفسهم. الليبيّون، حتى يومنا هذا، لم يفطنوا لقراءة تاريخهم أو الاستفادة منه، ولم يقدّروا إنجازات أجدادهم وآبائهم وإخوانهم ولم يستثمروها في الدعاية لهُويّة بلادهم الثقافية. يبدو كل هذا الإرث الوطني والثقافي محضَ تركة تصارع الأبناء عليها ولم يتفقوا فظلّت مهمَلةً. يذكّرني هذا بقطعة أرضٍ واسعة أمام بيتنا في تاجوراء، مات صاحبها فاختلف الورثة إلى أن صارت مكبّاً للقمامة ومكاناً نركنُ فيه سيّاراتنا.

الإيطاليّون عكس الليبيين تماماً، استفادوا من تاريخهم وعرفوا ما يحتاجونه منه و ما يجب نسيانه. ساعدَتهم الولايات المتّحدة والحلفاء الذين خرجوا منتصرين بعد الحرب العالمية الثانية. أرادوا، بعد أن انقلبوا على بعضهم، أن يشكّلوا جبهة قويّة تعارض وجود الشيوعية والتمدد السوفييتي في أوروبّا. استفاد الفاشيّون الإيطاليّون من هذه المرحلة التاريخية حينَ كانوا القوّة الوحيدة الفاعلة داخل البلاد فخرجوا رابحين من حربٍ خسروها، وضحّوا برمزهم بينيتّو موسّوليني ودفنوا حقيقتهم البشِعة بينما بدؤوا بالدعاية لإيطاليا جديدة، إيطاليا رومانسيّة، إيطاليا الفنّ والتاريخ والطعام والأدب والموسيقى والسيّارات الفارهة والموضة، إيطاليا التي تملك أجمل لغاتِ العالم. أضحى الإيطاليّون "الشعب الطيّب" الذي لم يؤذِ أحداً، الشعب الذي عاش تحت حكمٍ ديكتاتوري تخلّص منه بمساعدة قوّات الحلفاء من أجلِ دولة ديمقراطيّة تواجه توغّل الوحش الأحمر أو الاتحاد السوفييتي الذي يحاول تحويلها إلى بلدٍ متخلّف. 

تعبتُ عند نصب الجندي المجهول. نظرتُ إلى الخريطة بجهازي. أحتاج نصف ساعة لأصِل الفندق. مشيتُ والشمس تحرق وجهي، أقاومُ الإغماء. وعندما خارت قواي دخلتُ أحدَ المحلّات التجارية متعرقاً أبحث عن شيء يثلج صدري فاشتريتُ زجاجة ماء ومشروباً غازيّاً. تبادلتُ الحديث مع صاحب المحلّ، كان رجلاً خمسينياً، لاحَظ تعبي والعرق الذي يندى من جبيني فقال لي: "الجو حارٌ اليوم" أجبته: "نعم، مشيتُ حتى الآن 18 كيلومتراً داخل روما". فصاحَ بوجهي كأبٍ يصيح في ابنه: "هل جننت؟ في هذا الطقس؟" قلت ببرود: "أعلم، لكن هذه أوّل مرة لي في روما ولم أعرف بأنّها حارّة في هذا الوقت" فأجابني: "روما ليست حارّة، روما جحيم يشتعل". وضحكتُ. الإيطاليّون لا يعرفون برود الشمال الأوروبيّ، ربما كان ابن خلدون محقّاً حين قال إن الجغرافيا والطقس يؤثّران في طباع الشعوبِ وأمزجتها.

عدتُ إلى الفندق مرهقاً، نمتُ ولم أستيقظ إلا على جلبةِ ريما تدخل الغرفة. رأتني أحمَر الوجه – بعد مجزرة الصباح – بأقدامٍ تصرخ من التعب. هي أيضاً كانت مرهَقة من العمل والدراسة وأرادت أن ترتاح أيضاً فأكملتُ قيلولتي. خرجنا من الفندق مساءً. كانت ريما متعَبة من الحَمْل والعمل والدراسة. لم نشأ المشي في المدينةِ وفضّلنا أن نتمشّى في حيّ "كوبيدّي كوارتيري"، وهو تحفة معمارية رهيبة، يتألف من دوّارٍ فيه نافورة تسّمى نافورة الضفادع، تلتفّ حولها مبانٍ في كلّ زاوية، كلّ مبنىً تحفة معمارية تستحق الوقوف عندها. تختلف هذه المباني في شكلها عن بقيّةِ روما، تبدو مزجاً بين العمارة الإسبانيّة والسويسريّة والإيطاليّة. النافورة أيضاً عملٌ فنيٌ بديع تسيطرُ عليه ضفادع يخرج من أنوفها ماء، وفيها نحلٌ وكائنات أسطورية. روما مدينة النوافير ومياه السَّبيل. ونوافيرها ليست مكاناً معمارياً مقدّساً فقط، بل عمراناً متصلاً بالمجتمع الذي يستعملها للتبريد أو للعبِ الأطفال. وهذا يحقق فلسفة الجمال الذي يؤدّي وظيفة اجتماعية وثقافية. صوّرت ريما عند النافورة أكثر مما يجب.

حاولَت روما أيضاً توظيف ثقافة النوافير في طرابلس على حساب "الشيشمَة" أو مخازن ماء السّبيل التي كانت تنتشر في المدينة أيّام الحكم العثماني. كانت طرابلس أيّام الدولة العثمانية قد أَخذَت من إسطنبول تلك الثقافة، لكنّ الإيطاليّين هدموا كثيراً من تلك المباني التراثية وما بقي منها خَرَجَ عن الخدمة. استعاضت إيطاليا عن الشيشمة بمياهِ سبيل في حنفية تَخرج من الأرض، نَشَرَتها وسطَ المدينة. يصعب الآن رؤيتها لكنها موجودة وقد رأيت بعضاً منها في الحدائق، وقد توقّفَت جميعُها عن العمل بعد عقود من الإهمال.

نقَلت روما فلسفة عمارتها في تصميم الأحياء إلى طرابلس، وصدّرت مجموعة من أهمِّ معماريِّيها إلى المدينة مثل فلورستانو دي فاوستو أهمّ معماريِّي ليبيا الحديثة. دي فاوستو وزملاؤه حققوا فتحاً معمارياً في ليبيا لم يحققه قبلهم ولا بعدهم أحد. فقد خرجت من تحت أيديهم المدرسة الإيطاليّة الليبية التي أتقنَت تصميم فنادق مثل الودّان والمهاري، وأعادت الحياة إلى آثار المدينة، مثل قوس ماركوس أوريليوس، إضافة إلى تصميم حيّ "كازالانجس"، وهو اسم من شقّين؛ "كازي" و"إنشس"؛ الأوّل يعني "بيوت" والثاني اختصارٌ لجملة إيطالية تعني "المعهد الوطني لمنازل موظفي الحكومة". ما ذكّرني بكازلانجس – بطريقةٍ ما لا أعرف كُنْهَها حتى الآن – هو حي كوبيدّي، فحيُّ كازالانجس لا يشبه طرابلس، كما لا يشبه كوبيدي روما. مَزَج المهندسون في كازالانجس العمارة المحليّة بالعمارة الإيطاليّة بحيث تتحلق المباني حول مساحةٍ واسعةٍ مفتوحةٍ، فيصبحُ الحيّ كتلةً كاملة شبيهةً ببيتٍ من بيوتِ المدينة القديمة، وتتخذُ العمارة المتوسطّية مظهراً خارجياً لها، فينعزلُ عن المدينةِ رغم امتزاجه بها، لا يتبدّى الحيّان كازالانجس وكوبيدّي إلا لمن يبحثُ عنهما أو يدخلهما مصادفةً. لا وجود لحيٍّ آخَر بمثل هذه الفلسفة داخل طرابلس كلّها.

اشتهر حي كازالانجس بين الليبيين وأبناء مدينة طرابلس بعد انتشار صور قديمة له في وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت فيها مطاعم ومحالّ تجارية وحلاقة وبوظة كُتبت أسماؤها بالإيطالية، فصار الحي رمزاً للروح الإيطالية ومركز انبعاث اللغة الإيطالية حتى لَتَسمعُ الليبيين هناك يحيّون بعضَهم صباحاً بكلماتٍ مثل "بونجورنو" و"بيلّو" أي جميل، بل يسمّون المَحالّ والمقاهي بالإيطالية تحضُّراً، بعد أن حاربها نظام القذافي عقوداً، بينما أصبحت اللافتات باللغة العربية تعتبر "دقة قديمة" في الحي وفي طرابلس كلّها بعد ذلك.


لَم نَبْقَ في كوبيدّي كثيراً. تمشيّنا في الأحياء المجاورة ثم توقّفنا للعَشاء في مطعمٍ حدّثتني عنه فلانتينا يقدّم زهرة الكوسا المقليّة، واسمه "زهرة الكوسا". أنا طلبتُ بيتزا رومانا مارغريتَا التي تختلف في تحضيرها عن بيتزا نابولي الشهيرة، وريما طلبَت بيتزا بالفطر وزهرة الكوسا المقليّة. عادت الروح إلى ريما وارتاحت، أخبرتها عن وسط روما وسألتُها ما إذا كانت قادرة على مواصلة المسير فوافقَت. طلبنا سيارة أجرة وذهبنا إلى ساحة الشّعب حيث شهدنا حفلاً موسيقياً مجانياً في أوّل أيام مهرجان الصيف. استمعنا إلى أغنيتين أو ثلاث ثمّ تمشيّنا في الأحياء الملاصقة. أخبرتني ريما أنها تريد الجيلاطّي، فقطعنا نهر "التيبِر" إلى الضفة الأخرى، لنصل إلى "جيلاتّريا لا رومانا"، أو محلّ "لا رومانا" للبوظة، وهو أحد المحلاّت القديمة في المدينة، وقفنا في الطابور وأخذنا حصّتنا من الجيلاتو.

لا يدرِك المرءُ أنّه لم يذق يوماً مثلّجات أو بوظة إلا عندما يتذوق الجيلاتو الإيطالي في إيطاليا. عندها ينفتحُ أمامه عالمٌ جديدٌ لم يعرفه قبلاً. لكلّ محلّ في روما مثلّجاته أو نكهاته الخاصّة. في تلك الرحلة ذقتُ نكهاتٍ جديدة لم أعتد عليها، كالفانيلّا الطبيعية وحلوى الطرّوني الإيطالية، وتشجّعتُ على إعادة علاقتي المعقدّة بالجيلاتُو؛ علاقة ممتدة منذ الطفولة ترنّحت بين مقاطعة وإعادة اكتشاف. جرّبته في أغلب البلدان التي زُرتها وعشتُ فيها، لكن لَم أجد مثل جيلاتو روما. حتى الجيلاتو الإيطاليّ الذي يُباع في طرابلس لا يشبهه. في طرابلس تجد في أكثر المحالّ نكهات ترتبط بالعلامات التجارية للشكولاتة العالميّة. أما في روما ــ عدا المحلّات التي تُعدُّ فِخاخاً للسيّاح ــ فلن تجِد في المحلّ الواحد إلا طعمين أو ثلاثة من الشكولاتة، ولن تجِد أيّاً منها يحملُ اسم علامة تجارية، فكلّ النكهات من إنتاجِ المحلِّ. هناك احترامٌ للمهنة. الجيلاتو ليس فاكهة صيف فقط بالنسبة إلى أهل المدينة بل هو ثقافة وجزء من هُويّتهم وفرصة أُخرى للارتباط الاجتماعي، فتجد الإيطاليّين من كلّ الأعمار يقفون في طابورٍ طويلٍ خارج المحل ينتظرون دورهم.

بعد أن انتهينا من الجيلاتو، عدنا إلى الفندق؛ لأدرك حينها أنني بأول يومٍ في روما مشيتُ ثلاثين كيلومتراً داخل المدينة لعلّي أدرك علاقتي بها.

أيّاً كان ما فعله الإيطاليّون بالجيلاتو، فقد أفنوا كل إبداعهم فيه ولم يتركوا حظّاً للمواصلات العامّة؛ إذ كما أسلفتُ سابقاً، يكادُ يكون خطّ "المترو" معدوماً داخل المدينة، مما يجعل أكثر النّاس يعتمدون على الحافلات التي لا تعدّ تجربة جيّدة على كل حال. المواعيد أبعد ما تكون عن الدّقة، بعكس خطوط الحافلات في إسطنبول ومدريد وأمستردام وبرلين بل وتونس العاصمة. وما يزيد الأمرَ صعوبةً عدمُ وجود آلات بيع التذاكر في المحطّات إنما في محلّات بيع السجائر التي تغلق في السابعة مساءً. أوّل تجربة لي بالحافلة كانت في اليوم الثاني؛ تأخّرَتْ ربع ساعة عن موعدها. الإيطاليون هم من أدخلوا ثقافة المواصلات العامّة إلى طرابلس، بل إنّ بعض الأسماء التي يستخدمها الليبيون يومياً للوظائف المتعلّقة بالحافلات هي أسماء إيطالية؛ مثل "بولتاي" أو بائع التذاكر المشتقة من "بوليتا" بمعنى تذكرة، ربما كان هذا أحد أسباب فشل منظومة المواصلات العامّة في ليبيا. 

كنتُ متّجهاً إلى وسط المدينة. لَم أخططّ ليومي، بل أردتُ أن أعيش التجربة الرومانية التي يوصي بها المثل الإنجليزي "عندما تكون في روما، افعل ما يفعله الرومان". نزلتُ بمحطّة شارع كورسو، أهمّ شوارع وسط المدينة والذي يؤدّي إلى معظم الأماكن الأثريّة، وبحثتُ في الخريطة فوجدتُني قريباً من "البانثيون" أكثر آثار روما اكتمالاً وأحد المعابد الرومانيّة القديمة التي نجَت من امتحان الزَمن بتحوّله إلى "كنيسة" كاثوليكيّة. يقع "البانثيون" أمام ساحة قريبة من نهر التيبر حيث تلتف عمارات قديمة تظهر عليها وعلى لافتاتها آثار الزمن. رأيتُ طابوراً طويلاً من السيّاح ينتظرون الدخول إلى البانثيون فوقفتُ به، عرفتُ أنّ ذلك اليوم – ومن حظّي – هو يوم دخول مجاني، وبعد انتظار ربع ساعة دخلْتُ. لا يمكنكَ تصوّر ما بداخل البانثيون من الخارج فالعمران الخارجي له يعدك بروما يوليوس قيصر، ولكن العمران الداخلي يخبرك بأنّك ولجت – بخطوة واحدة داخل الباب – إلى عالم قسطنطين الأوّل الذي كان أوّل إمبراطور روماني يدين بالنصرانيّة، ثمّ ستجدُ نفسك بعد الاعتياد على المكان في عالمنا هذا، عالم الرأسماليّة التي تُخْضِعُ كلَّ شيء لقوانينها، فالسيّاح بالداخل يتدافعون للتصوير. 

لَم أمكث كثيراً داخل البانثيون. خرجتُ لأشرب القهوة في مقهىً يُعِدّ حسب ما فهمْتُ مِن أقدم المقاهي في المدينة، اسمه "تاتسا دورو" أو فنجان الذهب، عليه لافتة تعود إلى حقبة الخمسينيات، مكتوبٌ فيها "لا كاسا دل كافّي" أي بيت القهوة. تحوَّل المقهى أيضاً إلى مَعلمٍ سياحيٍ، وكنت آمل العمل على إحدى طاولاته الخارجية لكن تعذَّر ذلك بسبب ازدحام الزبائن. أخذتُ قهوتي و"الكورنيتّو" على عجَلٍ كما يفعل أهل روما وخرجتُ أتابع خَطْوِي بين مكتبات بيع الكتب المستعملة التي لم تفتح بعد.

للقهوة قصّتها في طرابلس أيضاً. يدّعي الليبيون بأنّ القهوة الإيطاليّة "إسبريسّو" لا طَعم لها إلا في بلدين هما إيطاليا وليبيا. ولهذا يميّز الليبيون بين القهوة التركية – العربيّة وصفاً لكلّ ما هو محلّي ومعتاد – والقهوة الإيطاليّة "الإسبريسّو". نجَحَ الإيطاليون في نقل ثقافة قهوتهم إلى ليبيا، لكن واجَهَ تلك الثقافة مطبٌّ تاريخيّ في ثمانينيات القرن الماضي، يومَ حاربت ليبيا كلَّ ما هو استعماريٍ إمبريالي، فتوقفت عَجَلة ثقافة القهوة الإيطالية حتى عادت مجدّداً بدايةَ الألفية. ثم انتشرت لتَهزم ثقافة القهوة العربيّة بعد ثورة السابع عشر من فبراير في عموم البلاد، فأصبح بإمكانك في ظرف سنواتٍ قليلةٍ أن تشرب قهوة إيطالية جيدة في مصراتة وتاجوراء والزّاوية وبنغازي، وهو أمر كان نادراً قبل سنواتٍ فقط.

أنهيتُ عملي، وتابعتُ جولتي الصباحيّة التي يسمّيها نسيم طالب بالفرنسيّة "فلانور"، أي المشي دون وجهة أو هدف؛ مشيٌ تأمُّليّ على طريقة الفلسفة الرواقيّة التي تؤمن بأنّ على المرء إعمال العقل والتأمل حتى في مشيه، وهذا ما كان يفعَله ماركوس أوريليوس الإمبراطور الفيلسوف الرواقي. وصلتُ ميدان "نافونا" أحد الأماكن السياحية الذي تنتشر فيه مقاهي السيّاح، وفيه ثلاث نوافير: نافورة نبتون، نافورة "الموريّ" أي المغاربي، و "فونتانا دي فيومي" أي الأنهار. كلّ نافورة منها تستحقّ التأمل، لكنني أحببتُ نافورة الأنهار وجلستُ عندها زمناً أطول من البقيّة، فالتماثيل فيها منحوتة بدقّة رهيبة تذكّرك بتمثال داود لمايكل آنجلو. زادت هذه النوافيرُ حُبّي لروما.

تجوّلتُ بين الأزقّة والشوارع، "أخيّطها" جميعاً كما تقول الجدّات الليبيّات. أستكشفُ منزلاً يعجبني أو محلّ مشغولات جلديّة أبحثُ فيه عن هديّة أو "بيتزاريّا" تبيع البيتزا الروميّة. لم يَبْقَ لي إلا اكتشاف المكتبات التي بدأت تفتح أبوابها. دخلتُ مكتباتٍ عدّة وبحثتُ عن كتبٍ تتحدث عن التاريخ الليبي فلم أجد شيئاً حتّى كدتُ أفقد اهتمامي بالموضوع. خرجتُ إلى شارع كورسو مجدداً، وبالصدفة وجدتُ مكتبةً اسمها "كالّيجرامّ" وهو نوعٌ من الشِعر الذي يَمزجُ بين الصورةِ والكلمات. أعجبني تصميمها الداخلي فقرّرتُ الدخول.

كانت المكتبة من طابقَين؛ أرضيٌّ وسفليٌّ. نزلتُ إلى الطابق السفليّ لأجد رجلاً يشتغل. تَركتُه وفتّشتُ بين الكتب والمخطوطات والطوابع البريدية والملصقات الدعائية عن شيء قد يعجبني، لا أعلم كم لبثتُ أفتّش لكنّ الرجل لاحَظ اهتمامي فقرّر الحديث معي بالإنجليزية سائلاً: "هل أساعدك بشيءٍ ما؟" أجبته بالإيطالية: "نعم، أبحث عن كتبٍ عن ليبيا الإيطاليّة". لاحظتُ تحسُّن لغتي. ردّ متعجِّباً: "تتحدّث الإيطاليّة؟" جاوبته: "نعم، لكن ما زلتُ أتدرّب". قال: "جميل. نعم لديّ كتبٌ عن ليبيا الإيطاليّة. تعال معي. أنتَ أوّل إنسان أقابله يَسأل عنها، بل أنا نفسي لستُ مهتماً بها. إنها كُتُب أبي". كان يتحدّث بسرعة فقلتُ له: "اسبيتّا اسبيتّا، بالشوي بالشوي"، ضحكَ ثم أخذني إلى المخزن يبحث عن كتب أبيه. 

وجدتُ في المكتبة كتاب "نهضة طرابلس" وهو مذكّرات الكونت فولبي حاكم مصراتة، أحد أقسى الحكّام الفاشيين الذين حكموا طرابلس، بل أحد المنادين بإبادة الليبيين والتخلّص منهم. وجدتُ كتباً للمشير غراتسياني، اليد الضاربة لموسّوليني والذي قضى على حركة المقاومة الليبية. قرأت له كتباً بالعربية منها "نحو فزّان" و"برقة المهدّأة". مِثل كثيرٍ من قادة الحزب النازي في ألمانيا، لم يَطُل المشيرَ غراتسياني أيُّ عقاب، بالرغم من محاولات محكمةٍ إيطاليّةٍ تجريمَه، بل عاش حياته بهدوءٍ يكتب عن تجاربه ونجاحاته بصفاقةٍ رهيبةٍ حتى وافته المنيّة في بيته بروما عام 1955.

اعتذرَتْ إيطاليا لليبيا سنة 2008 عن سنواتِ استعمارِها البلادَ اعتذاراً باهتاً بتعويضٍ بَخْسٍ قَدْرُه خمسةُ مليارات دولار. اعتذارٌ لا يشمل الاعتراف بالتاريخ الاستعماري داخل إيطاليا، فضلاً عن تدريسه في مدارسها، ولا يَعترفُ بالفظائع التي ارتكبها الاستعمار في ساحات إيطاليا العامّة اعترافَه بالانتصارات التي حقّقَها وخلَّدها نُصباً تذكاريّة. عرف أجدادنا الليبيون الإيطاليين وقاوموهم، وعملوا معهم وعندهم، وتكلّموا لغتهم، وتزوّجوا منهم، ثم انتزعوا استقلالهم ليعوّلوا بعد ذلك على تعليم أبنائهم لبناء ليبيا المستقبل. كان جيلاً يدرك واجبه الوطني بالفطرة، ويحتفظ بهُويّته التي لم يَعرف غيرها. أما الجيل الثاني – جيل أبي – فقد عاش زمناً غريباً لم يستقرّ على حال، زمنَ النَّكسَة والبحث عن المهدي المنتظر ليخلّصهم من تبعات الاستعمار، ورفْض لسانِ المستعمر كما رفْض وجوده، فطرْد الجالية الإيطالية عام 1970. دخل هذا الجيلُ متاهةً تاريخيّة منذ منتصف السبعينيّات ولم يخرج منها إلا بدايةَ الألفيّة، لم ينشأ عقائديّاً على يدِ النِّظام الجماهيري لكنّ طائفةً منه تماهت معه بحكم الواقع. كما أنّهم مزجوا بلا دراية بين هُويّةِ المستعمر وثقافته وبين هُويّتهم وثقافتهم الليبيّة.

جيلنا تربّى عقائدياً على يدِ الجماهيرية دون هُويّة تربطه بالبلاد، وخرَج من حروبٍ تحرق الأرواح والعقول قبل الأجساد، فوجَد نفسه ليبياً بالاسم فقط. ليبيٌّ لا ينتمي إلى ليبيا بل يتماهى مع العَرب تارة ومع المستعمِر السابق أُخرى، وغالباً ينصهر مع هُويَّاتٍ قزميّة كالقبيلة والمدينة والأعراق. لا أعرف شكل هُويّة الجيل الرابع – جيل أبنائنا – هل سينفصل عن ليبيا؟ أم سيرجع إلى جذوره؟ ربما يتوقف الأمر على جيل آبائه - جيلنا - أيعزز ارتباطَه بليبيا الروحِ أَم ليبيا الجسدِ فقط.

الإيطاليون في ظنّي أفلَحوا في تخطّي كل ذلك. مرّوا هم أيضاً بعقودٍ من العُنفِ والتفكك الاجتماعي، لكنهم خرجوا منها بمساعدة أفلام هوليوود وحملات التسويق والدعاية. يصوّر فيلم "أون سونيو إيتاليانو" أي الحلم الإيطالي تمكُّنَ إنريكو بياتجو، مُبتكرِ الدرّاجة النارية الشهيرة "فيسبا"، من التسويق لمنتَجه بالدعاية له من خلال الفيلم الأمريكي العطلة الرومانية "رومان هوليداي"، لتكون "فيسبا" رمزًا إلى الطريقة التي ساعدَت بها هوليوود إيطاليا. كانت تلك المساعدةُ الترياقَ الذي داوى أمراضَ الإيطاليين وطمَسَ جرائمَهم؛ فرأسُ مال إيطاليا سمعتُها العالميّة في الفنّ والموضة والسيّارات والطعام والآثار والثقافة والموسيقى. هناك دائماً صورةٌ واضحةٌ للإيطالي، سواء عند الإيطاليين أو العالم، بل إنّ صورة رجل العصابات الإيطالي أو "المافيوزي" نفسها خَدمَت الإيطاليين عالمياً أكثر مما أضرّت بهم. لكن ما هي صورة الليبي؟ الليبي نفسه لا يعرفها.

وجدني البائع في المكتبة زبوناً استثنائيّاً لا بالسؤال عن كتبٍ منسيّةٍ فقط بل بالاستعداد لدفع ثمنٍ باهظ مقابلَها. فاتفقتُ معه على التفكير بشرائها وأخذتُ رقمَه لأتصّل به – لَم أفعل حتّى اللحظة – ثم خرجتُ أمشي إلى جادّة فينيسيا. هناك تعثّر نظري بآثارٍ رومانيّة جديدةٍ، ربما وجدها الإيطاليّون خلال حَفرهم شبكةَ المترو، تشبه آثارَ لبدة لكن بقياسٍ أصغر. الحرّ أصبح مزعجاً، إلا أنني تابعتُ سَيري حتى وصلتُ إلى قصر فينيسيا مقابل قصر الملك عمانويل الذي يخبّئ خلفَه روما القديمة. عمانويل هذا ملك إيطاليا وليبيا يقفُ تمثاله مرتفعاً ينظر إلى روما، وتتبدّى المدينة الأثرية خلفَه. واصلتُ المشي نحو الآثار الرومانيّة، حتى رأيت شيئاً بهيّاً؛ "الكولوسيوم" وهو المسرح الرومانيُ القديمُ الذي مات فيه رجالٌ كثرٌ في سبيل الترفيه عن أهل روما. يقفُ "الكولوسيوم" وحيداً في الأفق أمامي، وعلى اليمين المدينة الرومانيّة والسيّاح يجيئون ويذهبون بينما يحاولُ المهاجرون الأفارقة شدّ انتباههم نحوَ أشياءَ يبيعونها. هناك وجدتُ قوس "سبتيموس سيفيروس" ذا الوجهَين؛ القوس الذي أردتُ دخولَ المدينة الرومانية من أجله.

"سبتيموس سيفيروس" قوسٌ عظيمٌ في لبدة الكُبرى شرق العاصمة طرابلس، وله قصّة عجيبة تقول إن لبدة ظلّت مدفونةً تحتَ التُراب قبل الفتح العَربي للبلاد، وأُعيد اكتشافها مع الاستعمار الإيطالي لليبيا. انتصَر العلماء الإيطاليون لتاريخ ليبيا بمساعدة حكومة الاستعمار وأعادوا الحياة لآثار البلاد، ورمّموا مسرح صبراتة غرب طرابلس، واعتنوا بقورينا شرق البلاد ونقّبوا عن آثارها وبنوا المتاحف في كل مدينة بها آثار. شغّلوا جزءاً من قصر السراي الحمراء في طرابلس ليصير متحفاً وطنياً جامعاً، كما أخذوا بعض تلك الآثار إلى بلدهم الأمّ وأعادوا بعضها إلى وظيفتها الرمزيّة الأولى بعد تحوّلاتٍ طرأت عليه مثل قوس النصر للفيلسوف الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي انتقل مع الزمن من متجرٍ إلى حانةٍ إلى مخزنٍ ثم سينما، إلى أن عاد قوساً رمزياً لنصر روما في إفريقيا.

لم يجد الإيطاليون تمثالاً كاملاً في لبدة للإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس فصنعوا تمثالاً من البرونز ووضعوه بطرابلس في مدخل المدينة القديمة الشرقي عند التقاء سوق المشير بميدان الشهداء. ظَلّ التمثال هناك يراقب تحوّلات الحياة في طرابلس. وفي النكسة خرجَ الليبيون يتظاهرون في الشوارع مخرّبين ومهدّدين بحرق كل شيء أمامهم بعد انتشار إشاعة زائفة تقول إن طائرات أمريكية خرجت من القاعدة الأمريكية في طرابلس لقصف الجيش العربي الموحد. من المعالم التي أراد المتظاهرون استهدافها آنذاك تمثال سبتيموس سيفيروس. وللراحل محمد ازواوي الفنّان الساخر رسومٌ عظيمةٌ تؤرّخ لتلك الحقبة. عندما تشجّع ضبّاطٌ شبابٌ لقيادةِ انقلابٍ على سلطات المملكة الليبية في سبتمبر 1969، وبعد أن استقرّت الأمور للقذافي، أمَر الرجلُ ــ حسبَ الحكاية الليبية ــ بنقلِ تمثال الإمبراطور الليبي إلى لبدة بحجّة أنّه ابن لبدة لا طرابلس. ليبقى التمثال حتى يومنا هذا عند مدخلِ لبدة ولترحل ذكراه عن المخيّلة الشعبية لسكان طرابلس بعد أن ارتبط بتاريخهم الحديث. هذه القصّة الرمزيّة من حياةِ التمثال تكشف ما مرّت وتمرّ به الآثار الليبية منذ إماطة غبار الزمن عنها.

في أغسطس 2021 زرتُ مدينة قورينا أو شحّات في الجبل الأخضر شرق البلاد، وعرّجتُ على معبد زيوس. ورغم جمال المكان الذي بَنى فيه الإغريقُ المعبدَ في أعلى نقطة بشحّات، ورغم وقوعي في حُبّ عذريّتِه الخضراء، إلا أنّ الإهمال الذي يعاني منه عكّر صفوَ المشهد. لم أرَ في الملاحق الخاصّة بالمكان أيَّ تحديث منذ عهد الإيطاليين. البوابة نفسها أصبحت أثراً إيطالياً. لا وجود لحمّاماتٍ عامّةٍ أو مكتب آثارٍ أو أيٍّ من المرافق التي تحظى بها مناطقُ الجذب السياحي حول العالم. ربما حسنة الإيطاليين الوحيدة حِفظُهم الآثارَ الليبية وترميمها واعتناؤهم بها، بينما سيئة الليبيين وحكوماتهم المتعاقبة إساءتُهم للآثار الليبية. ولا ريبَ أنّ الإساءة لتلك الآثار إساءةٌ لتاريخ ليبيا ولأرضها ولأهل الأرض الذين تمكنوا من حماية قوس "ماركوس أوريليوس" في القرن السابع عشر من بطشٍ أراده به الوالي العثماني، وذلك بإيمانهم بنبوءة أجدادهم التي تقول إن زوال القوس إيذانٌ بزوالِ طرابلس عن وجه الأرض.

أقفُ عند الخندق الفاصلِ بين المدينة الأثرية في روما وشارع فينيسيا. أتأمّلُ مرّةً بعد مرّةٍ قدرةَ الإيطاليِين على تسويق ثقافتهم. تحاول كثيرٌ من العواصم الغربيّة تقليد روما علّها تصبح روما عصرِها. ربما هذا سبب استمرار الحياة الإيطاليّة. أخذت ليبيا وإيطاليا منذ انفصالهما في منتصف القرن العشرين طريقين مختلفين. إيطاليا الاستعمارية مرّت بمرحلة من الاحتراب السياسي بين الشيوعيين والفاشيين لكنّ هذا الأمر لم يَطُلْ كثيراً؛ إذ أنقذَها انتهاءُ الحرب الباردة ونشوءُ الاتحاد الأوروبي لتستعيد إيطاليا روحَها. أمّا ليبيا فدخلَت متاهاتٍ اجتماعية وسياسية واقتصاديّة مختلفة نتيجة مرحلة الاستعمار. حينها بنى القذّافي مجدَه الشخصي والعائلي على معاداة أشكال الاستعمار المختلفة بل سمّى عهدَ المملكة الليبية والاستقلال الليبي بالاستقلال المزيّف، وطَرَد الجاليةَ الإيطاليةَ سنة 1970.


يبدو أنّ الليبيين يقاومون الخروج إلى العالم. عزَّز ذلك السياساتُ الجماهيريةُ المعاديةُ للنجوميّة والظهور التي جَهّلَت الليبيين – فضلاً عن العرب والأجانب – بليبيا، رغم أنّها تشارك في موروثها الثقافي والتاريخي الدولَ المحيطةَ بها. الأدب والفن الليبيّان نموذجان مهمّان لهذه الحالة التي تناقض الحالة الإيطالية مناقضةً تامّة. لَم يفلح الفنانون والكتّاب الليبيون – إلا النزر القليل – بالخروج من السجن الليبي إلى العالم. ورغم عدائه لكل أشكال الاستعمار اعتمَد القذّافي لا سيما في ثورتيه الزراعية والصناعيّة على إيطاليا؛ إذ كانت أغلبُ العلامات التجارية الإيطاليّة تُباع وتوزَّع في ليبيا تحت اسمٍ ليبيٍ؛ مثلاً "إيفكو" أهمّ شاحنات وحافلات ليبيا هي ابنة شركة "فيات" الإيطاليّة.

لَم تتوقف إيطاليا حتى اليوم عن انتهاز المال والغاز والنفط الليبي، ربما لأنها، عكس فرنسا وبريطانيا، تخلّت عن مجدها الاستعماري وتاريخها القديم ورضخت للأمر الواقع. وهذا ما ساعَد في الاعتراف التاريخي لرئيس الوزراء الإيطالي الراحل سيلفيو بيرلسكوني عن الحقبة الاستعمارية وتقبيلِه يدَ القذافي ويدَ ابنِ المجاهد عمر المختار. وهذا أيضاً ساعَد الحكومات الإيطالية المتعاقبة في التعاون مع الحكومات الليبية بملفّاتٍ عدَّة، أهمُّها ملفّا الطاقة والهجرة، وليس ببعيدٍ لقاء رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني برئيس حكومة الوحدة الوطنيّة عبد الحميد الدبيْبَة بطرابلس في يناير 2023 لبحث ملفّات الطاقة والهجرة.

في ظهيرة ذلك الصيف كانت الحرارة شديدة وكان السيّاح يتدافعون لدخول المدينة الرومانية الأثرية، المَعلم التاريخي المهمّ في إيطاليا والعالم. وقفتُ عند مكتب التذاكر. أخبرَتني موظفةُ الاستعلامات أنّه لا يمكنُها بيعُ التذاكر بل يجب شراؤها من الإنترنت. شرحتُ لها مشكلة بطاقتي الائتمانية دون جدوى. وبعد إخفاقي في شراء تذكرة من الإنترنت رضيتُ بمشاهدة المدينة من الخارج.

لَم أبقَ كثيراً في المكان، فقد وصلني اتصالٌ من الشاعر الليبي خالد مطاوع الذي سيشاركني الأمسية. أخبرَني أنّه وصَل روما لكنه أصيب بوعكة صحيّة وسيزور المصحّة قبل لقائنا. لم أكنْ أعلم أنّ إيطاليا خبّأَت لخالد تجربة مرهقة مع نظامها الصحّي بعد أن عانى فيها قبل ذلك منه ومن نظام الهجرة، عندما حلّ ضيفاً على إحدى منظّمات إنقاذ المهاجرين في البحر الأبيض المتوسّط، للكتابة عن تجربة المهاجرين الذين يأتون من ليبيا إلى إيطاليا.

مساء ذلك اليوم، عدتُ صحبةَ ريما وتمشّينا وسطَ روما القديمة. هدأ سُعَار الشمس القاسي وتمكّنّا من الوصول إلى "الكولوسيوم". لَم أحصل على تذاكر دخول واكتفينا بالوقوف قربَه وتأمُّله وتصويره من الخارج، ولَم ننسَ شراء الجيلاتو. عُدنا بعدَها إلى حيّنا وتعشّينا في مطعمنا الأوّل، مطعمنا المفضّل.

لَم أُنجز كثيراً في اليوم الثالث. بلغَ عددُ الكيلومترات التي مشيتُها اليومين السابقين ستّين كيلومتراً. اكتفيتُ صباحاً بالمشي في المنطقة المحيطة واكتشاف كل الأزقّة والشوارع القريبة من الفندق. جلستُ بأحدِ المقاهي للعمل. زرتُ أيضاً محطّة الحافلات الرئيسية بالمدينة، وذلك بعد سماعي قصّةً لأبي عن زيارته الوحيدة إلى روما، وبقائه في فندقٍ قريبٍ من محطّةِ الحافلات. هناك تعرّف على تاجرٍ يهوديٍ ليبيٍ يملك متجر ذهبٍ. بحثتُ عن الفندق وعن دكاكين الذهب ذلك الصباح دون فائدة. كنتُ أريدُ لقاء التاجر والتقاط صورة معه لأبي. أخبرَني أبي أن التّاجر عندما عرف برغبته في شراءِ حُلِيٍّ ذهبيّة لأمي وأخواتي رغم أنّه لا يملك المال في جيبه، أصرَّ عليه أن يأخذَ المجوهرات ثمّ يعودَ إليه متى ما توفَّر له المال.

هاجرَت آخرُ دفعات اليهود الليبيين بعد إعلان هزيمة 1967. كانت ليلةُ الهزيمة دمويّةً بالنسبة إليهم، ما اضطّر سلطات المملكة الليبية إلى التدخل لإنقاذهم، وجمعَتهم في معسكرات ثمّ أَجْلتهم إلى إيطاليا. بقي كثير منهم هناك على أملِ العودة إلى وطنهم ليبيا، بينما حزم آخرون حقائبَهم وهاجَروا إلى فلسطين المحتلّة ليكوّنوا جاليةً هناك. بقيَت أسماءُ أحيائهم في ليبيا كما هي، كحارة اليهود في المدينة القديمة بطرابلس. في تاجوراء كنّا ونحن صغارٌ نمرُّ بتلك الأحياء دون أن ندري أنّها لليهود.

عمل موسّوليني بعد تحالفه مع هتلر على إثارة النعرات ضدّ اليهود كما فعل الأوربيّون قبله بعقود. عندما جاءَ بالبو إلى ليبيا اقترب من الليبيين العَرب وأكل معهم وسعى إلى منح كثير من زعاماتهم الجنسيّةَ الإيطاليةَ بينما قوَّض صلاحيّاتِ زعاماتِ الأقليّة اليهوديّة. بعد هزيمة المحور في الحرب العالمية الثانية ودخول بريطانيا إلى ليبيا، قرّب الحاكمُ البريطانيُ إليه الزعامات اليهوديّة وهمَّش العربَ، فتراكمت الأحقادُ لا سيما بعدما فعلَته الجماعاتُ الصهيونيةُ في فلسطين وبعد هزيمة القوّات العربية سنة 1948 وحلول النكبة، ليتفجّر الشارع الليبي عام 1967 وينقاد نحو سُعارِ عنفٍ دمويٍ لَم يفرّق بين اليهود والمسلمين والنصارى ولا بين الحجر كما حدث مع سبتموس سيفيروس. 

هذا ما يفعله المستعمر دائماً؛ التفرقة. الغريب أنّ القذّافي ومن جاؤوا بعده انتهجوا نهجَ المستعمر في إثارة التفرقة. عدتُ مجدّداً ذلك الصباح إلى نصب الجندي المجهول، فقد تذكّرتُ أنني لَم أصوِّره أوّلَ يوم. عنده وصلني اتصالٌ أقلَقني ففضّلتُ العودة إلى الفندق مبكراً؛ إذ علمتُ بأنّ الصدّيق والأستاذ خالد قد دخل المستشفى إثرَ بكتيريا أصابت كاحلَه من جرحٍ قديمٍ تعرّض له في بنغازي، وأنه يعاني من دوّامة الإجراءات البيروقراطية الإيطاليّة. حاولتُ الاتصال به دون فائدة. غمَّ عليَّ الخبرُ وأشعَرَني بالتقصير تجاهه.

اكتفينا مساءً بقضاء الوقت في حديقة فيلّا بورغيزي ثم في طابورين؛ أحدهما عند مطعمٍ شهيرٍ في المدينة وآخر عند محلّ جيلاتو، ثمّ انتظرْنا الحافلةَ العامّةَ ساعةً أو أكثر. هذه هي إيطاليا، حتّى في الليل تتعطّل منظومة المواصلات العامة. 

كان اليوم الرابع عطلة ريما، لهذا استثمرنا الفرصة بالاستيقاظ باكراً وزيارة نافورة تريفي. نافورة ظلّت ريما تحدّثني عن عشقها من فيديو أغنية "قولي أحبّك" للفنان كاظم الساهر، وعن حلمها الطفولي بالرقص مع العرائس اللواتي كنّ يرقصن مع كاظم. حمدتُ الله أنّها تحملُ عُمَرَ في بطنها وإلا ستكون فضيحةً ليبيةً بكل المقاييس عندما سأضطّر إلى إخراجها من مياه النافورة بعد أن تسقط فيها محاوِلةً الرقص، بينما يصورّنا النّاس ضاحكين. اكتفت من كلّ ذلك بارتدائها فستاناً أبيض أحضرَته لهذه المناسبة. وصلنا في السابعة والنصف صباحاً إلى النافورة، ووجدْنا حشداً من النّاس يصوّرون أمامها. حاربتُ خوفي من التجمعات من أجل ريما، وأمضيت معظم الوقت بتصويرها حسب طلبها.

نافورة تريفي أضخمُ النوافير الإيطالية التي رأيتُها، متقنة البناء وجميلة. لكني لا أراها أجمل نوافير المدينة. ليس ذلك بسبب بعض تفاصيل تصميمها التي تشي بأنها موجودة للإيحاء بالعظمة فقط بل بسبب الازدحام حولها. فالنافورة في ظنّي مكانٌ للاسترخاء من تعب الصيف والحياة لا مكانٌ للتسيّح والازدحام وأخذ الصور ونصبِ فِخاخٍ للسيّاح ورمي النقودِ النُحاسية.

أخذتُ ريما إلى مقهىً اكتشفتُه أوّلَ يومٍ ولَم يسعْني الوقتُ للجلوس فيه. أمضينا هناك معظمَ الصباح، أنا أكتبُ وهي تصوِّر المكان وتحدّثني عن حبّها روما وانزعاجها من الجدول اليومي للدورة التدريبية. في الواحدة عُدنا إلى الفندق بُغيةَ التجهّز لحدث المساء. للأسف سأكون الضيف الوحيد في أمسية "الكتابة في ليبيا" بعد جلوس خالد في المستشفى.

كانت الأمسيةُ في قاعةِ دراسةٍ زجاجيّةٍ مذهلةٍ مقابلَ السفارة الليبيّة، في قصرٍ اسمه الفيلّا البيضاء، اشترته جامعة "جويدو كارلي" حُطَاماً وحوَّلَته إلى تحفةٍ معماريةٍ رائعة. وبِخِلاف القائمين على الحدث الذين أصابهم الإحباط بسبب قلّة الحضور، شعرتُ بالسعادة والارتياح، فهذا سيتيح لي الحديث بعفويّةٍ واطمئنان. أمضيتُ ساعةً صحبةَ الصحفيّة الإيرلنديّة ماري فيتزجيرالد ــ وهي امرأةٌ أدينُ لها بكثيرٍ من العرفان والاحترام ــ نتحدّث عن التاريخ الإشكالي للأدب في ليبيا من عهد العقيد وحتى يومنا هذا، وعن رمي المجتمع الليبي بطلائعه المثقّفة إلى المنفى النفسي، كما قال مرّةً الكاتبُ الليبيُ يوسف القويري.

لَم تكُن بداياتُ الأدب الليبي في خمسينيّات القرن الماضي، فهناك أدبٌ أُنتِج فترةَ الاستعمار الإيطالي، وكان أحدُ أعلامه الشاعرُ الليبيُ الراحل أحمد رفيق المهدوي الذي دَفَع ثمنَ نضاله الشعري والصحفي بالمنفى الإجباري. ورغم أنّ المناضلين الليبيين في مصر والشام حاربوا الاستعمار الإيطالي بنشر جرائمه في الصحف العربية الكبرى فترة العشرينيات والثلاثينيات وبداية الأربعينيات، لكنّ الأدب الذي أرَّخ لجرائم الاستعمار هو الأدب الشعبي الشفهي، كالشعر الشعبي الذي أرّخ لذلّ الوقوع في المنفى ومعسكرات الاعتقال. من ذلك رائعة الشاعر الليبي رجب بوحويش "ما بي مرض غير" التي أرّخت لجريمة السلطات الفاشيّة في إبادةٍ جماعيّةٍ سبقَت "الهولوكوست". في القصيدة حاسَب رجب بوحويش نفسَه أوّلاً ثمّ التاريخَ ثانياً والاستعمارَ ثالثاً، ووضعَنا أمام مأزقٍ أخلاقي؛ إذ حاسَب الأجيالَ التالية التي قد تَنسى ما حدث له ولقبيلته من عملياتِ إعدامٍ واغتصابٍ وعملٍ بالسُّخرة وذُلٍّ ومَهانة وفقدان الرفاق والأطفال. رغم القمع الذي تعرّض له الشعراء الليبيون تلك الفترة إلا أنّ قصيدة بوحويش نجَت من فخِّ النسيان لأنّ الألسُن تناقلَتها. اليوم، تُعَدّ هذه القصيدةُ من أهمّ الأعمال الأدبيّة التي تؤرِّخ تلك الحقبة.

نوعٌ أدبيٌّ شعبيٌّ آخر كان له الأثر نفسه ألا وهو فنّ القصص الساخرة التي انتشرت بين الأجيال وتحدثت عن محاولة الإيطالي تحويلَ الليبي إلى نسخةٍ منه بكلّ الطرق المتاحة لكن يأبى الليبيُّ. بعض القصص الساخرة في فترة ما بعد الاستعمار تحدَّثَت عن التوترات القَبَلية والجِهَوية بين الليبيين؛ إذ يُحكى أنّ قناة "الجماهيرية" وهي القناة الرسمية فترة حُكم القذّافي أرادت توثيق شهادات المجاهدين والمناضلين الليبيين فاستضافت أحدهم من الشرق الليبي. حدّث الضيفُ المذيعَ عن مواجهتهم قوّات الاحتلال الإيطالي ببسالةٍ في إحدى المعارك، فقال المذيع معلّقاً على شجاعتهم : "لا غرابةَ في ذلك"، نهض المجاهدُ ليَحلِف له: "عليّا اليمين ما كان معانا غرباوي" يقصد أنّ تلك المعركة لم يشارِك فيها أحدٌ من الغرب الليبي.

ربما نزعة التوثيق الشفهية سواءً بالشعر أو بالنكتة السوداوية أحيَت فترةَ الاستعمار الإيطالي في وجدان المواطن الليبي الذي لا يقرأ ولا يستهويه شعر أحمد رفيق المهدوي أو كتابات المؤرّخين الليبيين أو القصص والروايات التي قوّضَتها سلطاتُ المملكة الليبية والجماهيرية لحماية الترابط الاجتماعي، وصفّتها ممّا رأته مثيراً للجدل في تاريخ الجهاد الليبي. هذه النزعة كانت غائبة عند السلطات الإيطالية التي استغلّت عدم اهتمام شعبها بما يجرى خلف البلاد لطمس التاريخ، وحرق بعض الأدبيّات والوثائق التي تثبتُ جرائمَهم الاستعمارية بل حاربَت كُتّابَ مرحلةِ ما بعد الاستعمار مثل آلساندرو سبينا، الإيطالي الليبي ذي الأصول الشاميّة الذي ظلّ يكتب عن حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا بالإيطاليّة رغم اللامبالاة الإيطالية بكتاباته الروائية التاريخية. هذا الوأدُ الممنهَج للتاريخ يناقشه الدكتور علي عبد اللطيف احميدة بكتابه المترجم من الإنجليزية إلى العربية "الإبادة الجماعية في ليبيا" الذي تحدث فيه عن منع السلطات الإيطالية إيّاه من الوصول إلى الأرشيف الإيطالي في الثمانينيات. وعَرَض في الكتاب أدلّةً على ما فعلَته إيطاليا الفاشيّة بالليبيين. لَم أتحدّث عن هذا الأمر في تلك الأمسيّة، ربما لأنّ المناسبة نفسها لا تحتمل تقريع جمهوري الإيطالي الذي يجهل تاريخَه، أو ربما لأنني لم أكن شجاعاً بما يكفي للحديث عنه، أو لأنّ الأسئلة التي طرحَتها ماري لم تفتح لي المجال.

رغم أنّ الكتابات الليبية المؤرشَفَة كانت شحيحة نظراً لقلّة المتعلّمين ولقمعِ السلطات الفاشية، إلا أنّ الكتابات الإيطالية عن ليبيا كانت غزيرة. فالإيطاليون كتبوا عن كل شيءٍ في ليبيا؛ عن عادات المجتمعات البدويّة وأنواع النباتات المحليّة والزراعة والطبيعة والجغرافيا والأمراض داخل المجتمع الليبي. كتبوا عن العمارة وعن الحرب. وهذا دأب السلطات الاستعماريّة التي تهدف إلى الاستيطان وإبدال السكّان الأصليين بآخرين جدد. 

في اليوم الخامس أمضيتُ الصباح في مستشفى "القدّيس جيميلّي" التي تتبع الفاتيكان روحياً وتُعَدّ تقاطعاً بين المشافي الخاصّة والعامة، صحبةَ فيرجني مديرة البرنامج الذي تعمل فيه ريما، وهي امرأة فرنسيّة تتحدث الإيطاليّة والإنجليزية والعربيّة. كنّا على موعدٍ لزيارة خالد، وصلنا المستشفى ودخلنا دوّامةً من الإجراءات البيروقراطيّة خرجْنا منها بالنزر القليل. فقد كان المرضى بقسم الطوارئ ينتظرون ساعاتٍ للدخول إلى القسم بسبب الفوضى المأساوية التي تعمّ المكان. كنتُ أفكّر طيلة الوقت في ما يمرّ به خالد وحيداً، فهو لا يتكلّم الإيطالية، والإيطاليّون لا يتكلّمون غير لغتهم. بعد محاولات فشلَت فيها فيرجني بإقناعِ الممرضين، اتصلَت بصديقٍ لها لتُحرِّك المستشفى من أجْل خالد، ثم أعادتني إلى الفندق واعدةً بإخراجه من الطوارئ. بعد ذلك بساعةٍ أو اثنتين، اتصَّل بي خالد وأخبَرني أن أُحضِر له احتياجاته من ملابس وموادّ عناية وأدوية، ولَم ينسَ كتاباً أراد قراءته.

لَم أظنّ عند معرفتي بحادثة خالد أنّ الوقت سيطول به في قسم الطوارئ ثلاثةَ أيام، وأننا سنضطّر لاستخدام الواسطة بعدها. قلتُ لنفسي حينها هناك تشابُهٌ كبيرٌ بين ليبيا وإيطاليا. فبينما يتوحّش القطاعُ الخاصُّ يذبلُ القطاعُ العامُّ ويصير مقبرةَ المعدَمين وتُعساءِ الحظّ.

إيطاليا هي التي أدخلَت الطبَّ الحديثَ إلى ليبيا. في كتاب "ترياقٌ للثعابين" للأمير والطبيب الإيطالي آلبيرتو دينتي دي بيرا-آنو، آخر حكّام ليبيا الإيطاليين قبل دخول قوّات الحلفاء، يتحدث الأمير آلبيرتو عن عادات الليبيين وطِبِّهم الشعبيّ وتعاملِهم مع الأطباء، إذ يحكي أنّ القبائل البدويّة كانت دائماً خائفة ومشكِّكة في الأطباء. يحكي أنّه عانى الأمرَّيْن ليكسب ثقتَهم. وهذا الخوف طبيعيّ لأن إيطاليا لم تستعمر ليبيا لعلاج المرضى والمكلومين، فالذاكرة الشعبيّة تضجُّ بقصص الإيطاليين الذين قتلوهم وهجّروهم. 

الليبيون حتّى اليوم لا يثقون بالنظام الصحّي، بل إنّ أجيالاً كاملةً تخاف الذهاب إلى مستشفىً حتّى من أجل جرحٍ بسيط. كذلك الأمر في التعليم، فعندما قرّر الإيطاليون في عهد بالبو فتحَ المدارس العامّة لتعليم من أطلقوا عليهم اسم السكّان المحليين، جُوبِه بدعواتٍ دينية واجتماعية رافضةٍ تعليمَ أولاد الليبيين في المدارس الإيطاليّة، وعدّ كثيرون الأمرَ خيانةً بل كُفراً. وهذا نقيض ما حدث في مرحلة الاستقلال الليبي حين أرسل الليبيون بناتِهم لا أولادَهم فقط للتعلّم في مدارس المملكة الليبية. أقول هذا وكلّي عِلمٌ بأثر مرحلة الجماهيرية في انحدار النظامين الصحّي والتعليمي. لكن لا يسَعُني إلا التفكير بتأثير الاستعمار الاستيطاني في الأجيال التي لحقَت زوالَه، إذ يبدو لي الأمرُ كمجاعةٍ عابرةٍ للأجيال، يحضُر أثرُها في الجيل اللاحق غريزيّاً من خلال الأكل بسرعةٍ ونهمٍ خوفاً من انتهاء الطعام.

في اليوم السادس، نزلتُ وريما مَرّةً أخيرةً وسطَ روما لشراءِ الهدايا سريعاً لأنني كنتُ على موعدٍ مع فيرجني لزيارة خالد الذي تحسّنت حالته وخرج من الطوارئ. في الحافلة قطعَت طريقَنا مظاهرةٌ كبيرةٌ من أجل إصلاح النظام الصحّي وطوَّلَته ساعةً. عجيبةٌ هي الأقدار والترابط الذي تخلقه الأحداث أمامي. قلتُ لريما: "ليتني أنزل إلى الشارع معهم متظاهراً"، فقد كنتُ أَعرِف مطالبَهم بتجربةِ يومٍ واحدٍ في مستشفى "جيميلّي".

قبل عودتي إلى ليبيا التقيتُ الكاتبَ والدبلوماسي الليبي عبد الرحمن شلقم في أحد المقاهي. كان الأستاذ عبد الرحمن سفيرَ ليبيا في روما وممثلَ ليبيا في الأمم المتحدة أيامَ الجماهيرية، وهو شاعر وكاتب وشخصية جدليّة. قرأتُ كتابه "أشخاص حول القذّافي" المنشور عام 2012، وهو كتابٌ مليء بالتفاؤل وتمجيد ثورة فبراير والسخط على القذّافي وسواعده. تحدّثنا حينها كثيراً عن الأدب وليبيا وتاريخه الشخصي والقذّافي وإيطاليا، وناقشنا كتابه الجدليّ "أشخاص حول القذّافي" ثم سألتُه: "إن كتبتَ نفْسَ الكتاب الآن، هل ستكتبه بالطريقة نفسها؟" أجابني: "نعم. اسمع يا محمّد، أنا لَم أَكُن من أزلام النظام، بل كنتُ ركنًا من أركانه". أعجَبني ردُّه وازددتُ احتراماً وتقديراً له، فهو من الأقلام الليبية القليلة الجريئة التي تكتب التاريخ كما هو، لا كما نريده أن يكون.

الجيل الثالث لا يدرِك أهميةَ نفْسِه، فهو آخر الأجيال التي تمتلك ذاكرةً حقيقيةً عن الاحتلال الإيطالي شكّلَت جزءاً من هُويّته. تحدّثتُ كثيراً مع أبناء وبناتِ أخواتي فوجدتهم يجهلون حقيقة الاستعمار الإيطالي وتأثيره في المجتمع الليبي، يظهر ذلك مثلاً في استعمالهم الكلمات الإنجليزية أو العربية لوصف الأشياء لا الإيطالية التي يستعملها جيلنا، ممّا يشي باندثار الثقافة الإيطالية بين أبناء الجيل الرابع. جيلنا أشدُّ اشتباكاً بمرحلة الاستعمار فهو نشأ على نقاشها والتنقيب في أحداثها ومحاكمة أشخاصها رغم الهوّة الزمانية، لكنّ تيه ما بعد ثورة فبراير 2011 جعل ذكرى الاستعمار خافتةً أمام واقعٍ حربيٍّ غير مستقرٍّ اقتصاديّاً وسياسيّاً. لكن لا بدّ للجيل الرابع أن يتذكّر الاستعمارَ بصورته التي عايشها الأجداد حتى لا يقعوا في فخِّ تجميله والهيام به، إذ من لا يَعرف تاريخَه إلا النزرَ القليل فسيجمِّلُه ويُلْبِسُه ما لم يكُن فيه. على الجيل الثالث أن ينظر في تلك الحقبة ويعيد قراءتها بموضوعيةٍ مستفيداً من هذه اللحظة التاريخية التي كشفت له ما لم تكشفه للجيل الأول الذي عايش الاستعمار ولا للجيل الثاني الذي عايَش حكايات آبائه وتصورات الأنظمة الليبية عن الاستعمار. فالجيل الثالث الذي عايَش حرباً أهليّةً هو مَن يستطيع الكتابة عن الحروب الأهلية أثناء الفترة الاستعمارية ويستطيع إعادة النظر في الشخصيّات الجدليّة مثل المجاهد الليبي رمضان السويحلي الذي كان ضابطاً في العسكر الليبي لإيطاليا ــ كما كانت تطلِق عليه الحكومة الفاشيّة ــ وانقلب على الحكومة الإيطالية لينضمّ إلى المجاهدين. لكن نَحتاج أوّلاً أن نتجرّد من عواطفنا من أجل التاريخ، ومن أجل الأجيال القادمة.

أعدتُ سفري إلى روما في عقلي مرّاتٍ ومرّاتٍ لكنني لم أتمكّن من الكتابة عنه إلّا بعد مضيّ أشهرٍ ستّة. ولَم أَصِلْ عندما هممْتُ بالكتابة ــ ولا أظنني وصلتُ حتى بعد الانتهاء ــ من استخلاصِ علاقتي بها. ربما لأنها علاقة حرجة تحتاجُ رحلاتٍ وقراءاتٍ عدّةٍ لفهمها، أو ربما لأنني قبل الكتابة عنها أحتاج أن أفهم جزءاً مني، جزءاً أثّر فيه الاستعمار الإيطالي وفي طريقة تفكيره رغم مضي جيلين على تحرّر ليبيا؛ الوطن الذي استحدثَه الإيطاليون أنفُسُهم وسمّوه بهذا الاسم، بل أسَّسوا معظَم قوانينه ومؤسساته ونمط حياته بعد محاولتهم هدم طريقة الحياة التقليدية لسكّان هذه المساحة الجغرافية. ربما نجحوا في ذلك، مَن يَعلم؟ يقول الإيطاليّون: "كي فيفرا فيدرا" ومعناها ما نقصده نحنُ العرب بقولنا: "اللي يعيش ياما يشوف"، لعلّ جيلَنا والجيل الرابع يبنُون على أرض ليبيا أعظَمَ ممّا بَنَتْه روما. 

اشترك في نشرتنا البريدية