حَرْكِي جزائري يسردُ قصّته في حرب التحرير الجزائرية من الاستعمار الفرنسي

يقصّ سالم العود أحد "الحَرْكَى" أو الخونة كما يصفهم الجزائريون قصّته في حرب التحرير الجزائرية وكيف وصم الجزائريون أبناءه وأحفاده بالخيانة

Share
حَرْكِي جزائري يسردُ قصّته في حرب التحرير الجزائرية من الاستعمار الفرنسي
جندي حركي في وضع المراقبة قرب وهران بالجزائر في أغسطس 1959 (تصوير جون لوي سوانيرز / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

كنتُ حديثَ عهدٍ بباريس طالباً في جامعة باريس الثالثة وباحثاً عن عملٍ يُعيشني. رأيتُ في جريدةٍ إعلانَ عملٍ في مكتبةٍ عامّة، فتقدمتُ إليه مع جهلي بعلم المكتبات، لكني استبشرتُ خيراً لعملي في الكتابة والصّحافة. أرسلتُ إلى المكتبة سيرتِي الذاتية، فوردني اتّصالٌ بعد أسبوعٍ من موظف البلدية، حيث تقع المكتبة، يطلب مقابلتي. كان موظّف المكتبة دمثاً وكريماً معي فاستغربت حتى أخبَرَني أن رغبَتَه في لقائي ليست للعمل؛ إذ لفت انتباهَه أنني من أبناء مدينة بوسعادة الجزائرية مسقط رأسه الذي غادَره في الخامسة من عمره.

أخبرَني الموظف أنّ والده هاجَرَ مع عائلته كآلاف الجزائريين عقب الاستقلال عام 1962 إثر اتّهامهم بالانضمام إلى فئة "الحَرْكَى" أو الحركيين، وهي كلمة في اللهجة الجزائرية الدارجة مفردها "حَرْكِي" ويُقْصَدُ بها الجزائريون الذين خَدموا الاستعمارَ في سنوات حرب التّحرير بين عامي 1954 و1962 ويُقدَّرون بمئتي ألف إنسان، لكن العدد أكثر من ذلك؛ فهو يشمل فئاتٍ أخرى رَفضَت الانضمام إلى المجاهدين أو انشقوا عنهم طلباً للأمان، ويشمل أبناءَ الحَرْكَى وأحفادهم الذين كانوا حينها إما أطفالاً وإما لم يولدوا. يقول المؤرّخ الفرنسي بنجامين ستورا أحد كبار المتخصصين في تاريخ حرب الجزائر: "إن عدداً يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى خمسة وعشرين ألف حَرْكِي اغتيلوا في الجزائر عقب الاستقلال".

لا يزال الحَرْكَى موضوعاً شائكاً، فلن تَسمعهم يتحدّثون عن أنفسهم في الجزائر أو بالعربية. كأنّهم يَفتحون باب العار إن تحدثوا عن ماضيهم. هذه المَعَرَّةُ واضحةٌ من الوصم بـ"الحَرْكِي" للإساءة. وقد يغُضُّ الجزائريُّ الطَّرْفَ إذا انهالت عليه شتائمُ شتّى، لكنّه لن يقبل أن يوصَف أو يشبَّه بحَرْكِي. ويَلْمزُ الجزائريون حتى اليوم أبناءَ الحَرْكَى وأحفادَهم كأنّهم شاركوا آباءهم فيما يرونَه خيانةً للجزائر. يظهر هذا أيضاً في كتابات مؤرّخي الجزائر والمناهج التربوية الرسمية التي ناقشت تاريخ حرب الاستقلال فهي تَحذف ذِكر الحَرْكَى، وإن ذكرَتْهم خوَّنَتهم.

التمَسَ منّي موظفُ المكتبة أن أحدِّثه عمّا آلت إليه المدينة التي وُلِد فيها، ففعلتُ، وطال الحديث عن أشخاصٍ وافاهم الأجل وآخرون لا يزالون أحياء. تكلّمنا عن الشوارع والشواهد والأزقّة قبل أن يَطلب منّي مقابلةَ والده في اليوم التّالي، فلم أمانِع. شعرتُ أنني وَطِئتُ أرضاً لم يسبقني إليها أحدٌ؛ فقد وَدّ الرجلُ أن يلتقي والدُه بشخص من مدينته يخفّف عنه عزلتَه، وأنا وددتُ مقابلة أحدِ مَن نسمع عنهم؛ إذ احتفظت الذاكرة الشفوية في الجزائر بتاريخهم أكثر مما فعل المؤرخون الجزائريون.

والد الموظف من مواليد سنة 1931. تخفي تضاريسُ جبهته قصصاً. أمّا ركبتاه فلا تعينانه على المشي مسافات طويلة. لكن لسانه ما زال لَهِجاً وذاكرته يقِظة. تحدَّث الشيخُ معي بالفرنسيّة لهجره عربيّتَه منذ أن هَجر بلدَه، فقال: "أتممتُ شهادة التّعليم الابتدائي وتنقّلتُ بين مهنٍ شتّى قبل أن أستقرّ معلّماً في كُتّابٍ". ثم سرد لي تاريخه، فقال إنه انضمّ إلى حركة "انتصار الحريّات الدّيمقراطية" المُشار إليها في المراجع باسم "ح إ ح د" سنة 1948 وصار اسمُه الحَرَكِيُّ الذي فضَّل استعمالَه "سالم العود".

أَسَّس هذه الحركةَ مصالي الحاجّ زعيمُ الحركة التحررية في البلاد سنة 1946، وهي حركةٌ وطنيّةٌ ضَمّت في صفوفها زعماء دولة الاستقلال كأحمد بن بلّة أوّل رئيس للجزائر، ومحمّد بوضياف رابع رئيس لها، وابن يوسف بن خدّة رئيس الحكومة المؤقتة حينها. وكانت الحركةَ الأكثرَ شعبيةً قُبيلَ حرب التّحرير؛ إذ بلغ عددُ المنتسبين إليها مئة ألف جزائري منهم سالم العود نفسُه الذي جَمع لها التّبرّعات ووزَّع منشوراتِها. كان الرَّجلُ في خانةٍ واحدةٍ مع من سيحكمون البلاد، قبل أن يُعَدّ من الحَرْكَى أو الخونة.

في البدء أَسّس مصالي الحاج حزبَ "نجم شمال إفريقيا" عام 1926 بين المهاجرين في فرنسا مغتنماً دعم الشّيوعيين الفرنسيين له. ودعا في خطابه الأول إلى إلغاء قانون الأهالي الفاصلِ بين الجزائريين والمستوطنين الفرنسيين في الحقوق والواجبات، المُعلي شأنَ الأوروبيين المقيمين في أرض البلاد المُستعمَرَة، المسيءِ إلى سكّانها الأصليين. ثم تطوّر خطاب الحزب فصار دعوة صريحة إلى الاستقلال مع ضرورة إقرار فرنسا بسيادة الجزائر على ترابها. لم يلبث مصالي أن انشقّ عن الشّيوعيين، وضَعُفَ الحزبُ في غياب داعمين له فأَمرَت الحكومةُ الفرنسية بحلّه عام 1937. ثم أسّس مصالي حزباً آخر باسم "حزب الشّعب الجزائري" متبنّياً الخطابَ ذاته حتى 8 مايو 1945 يومَ خرج آلاف الجزائريين إلى الشّارع عقب انتصار قوّات التحالف التي ضمّت فرنسا على النّازية في الحرب العالمية الثّانية.

خرج الشعب إلى التّظاهر ملبّياً دعوة مصالي الحاج، فتحوّلت الاحتفالات بالنّصر ومطالبة فرنسا بالاستقلال إلى مآتم. أصاب رصاصُ الجيش الفرنسي المتظاهرين، فانتقم الجزائريون من المستوطنين. كان الموتُ عنوانَ تلك الأيام فقضى فيها خمسة وأربعون ألف شخص في الإحصاءات الجزائرية التي عارضها الفرنسيون بالقول إن العدد أقل من ذلك. نتج من تلك المظاهرات أمرٌ بحلّ حزب الشّعب في العام التّالي، وصار الثامن من مايو "يوم الذاكرة"، يُحتفى به كلّ عام يوماً وطنياً. أسّس مصالي حركة "انتصار الحريات الديمقراطية" التي تحوّل خطابها إلى العمل المسلّح بتأسيس المنظمة الخاصّة، وهي الجناح العسكري للحزب المؤسَّس عام 1947، فتزعّم المنظمة محمد بلوزداد الرجل الثوري والعقل المدبّر للمنظمة التي نفّذت عمليات ضد فرنسيين. سطت المنظمة على مركز بريد وهران في الخامس من أبريل 1949 واستولت على أموال لشراء العتاد والسلاح قبل أن تكتشف الشّرطة الفرنسية أمرها وتحلّها عام 1950، لكن الحركة واصلت نشاطها سرّاً.

يتذكّر سالم العود تلك الأيام قائلا: "كنت أخبّئ السّلاح في حوش البيت، لم أكن محلّ شكٍّ من طرف البوليس مما سهّل عملي، وكانت تصلني مسدسات وذخيرة". شرع سالم في نشاطه السّياسي في السّابعة عشر من عمره والتقى شخصيات من الحزب متوارياً وراء صفته معلِّماً ومتكفّلاً بنقل الرسائل وملتزماً السرّية منذ عام 1953.

يقول سالم العود: "بل إني لم أكن أثق بأخي، حتى إنني أحرق الرّسائل التي تصلني من الرّفاق ما إن أطّلع على فحواها، فكنتُ حذراً في كلامي مع الآخرين؛ لا أبوح بما أصنع ولا ألمح". لم يكن سالم يأتمن أحداً، وكان يتّصل مع زملائه بكلمة سرّ سألتُه عنها، فأجاب:"عمّار جاء اليوم"، وهي جملة لا معنى لها لكن يفهم السّامع أنه زميلٌ له.

بقي السّؤال العالق في تلك الفترة: هل سيعود مصالي الحاج إلى العمل المسلّح بعد حلّ المنظّمة الخاصّة أم لا؟ فقد كانت الأخبار تصل تباعاً من الجبهة الفيتنامية عقب انتصار الفيتناميين على الجيش الفرنسي في معركة "ديان بيان فو" في مارس سنة 1954. وتوالت أخبارُ مقاومةِ اتحاد استقلال فيتنام الاستعمارَ الفرنسي في الهند الصّينية وهزيمتِه. يقول سالم العود: "قرأتُ ما يحصل في الهند الصّينية في جريدة "واست فرانس" التي كانت تصلنا نسخة منها فتتداولها الأيدي كلّها".

تساءل القادة الجزائريون ما إن كان بوسعهم أن يفعلوا مثل الفيتناميين، أمّا مصالي ذو الشعبية الواسعة بين النّاس مع إقامته الجبرية في فرنسا فقد ظلّ متأنياً ولم يبادر إلى حمل السّلاح مرّة أخرى. ظلّ الفرنسيون ينظرون إليه بعين الرّيبة مع يقينهم أن أي عمل ضدهم في الجزائر هو من تدبيره.

وفي ربيع سنة 1954 حصل انشقاق في حزب حركة انتصار الحريّات الدّيمقراطية فانفصل عنه أعضاء من اللجنة المركزية وانضمّ إليهم مقاومون آخرون من داخل الجزائر، وشكّلوا ما سمّي "اللجنة الثّورية للوحدة والعمل" المؤلفة من اثنين وعشرين فرداً كلّهم اتخذوا من مصالي خصماً لهم لمماطلته في حمل السّلاح، وشرعوا في المقاومة.

محمّد بوضياف، أحد زعماء الثورة الجزائرية ينفي تلك الفرضيّة؛ إذ صرّح في حوار أجراه مع صحيفة لوموند الفرنسية في نوفمبر سنة 1962: "لم نكن في خصومة مع مصالي، بل وددنا تحرير الحزب من عجزه وجموده، وأن ندفع به إلى المقاومة". مع ذلك لم يتوان بوضياف في الحوار ذاته من نعت مصالي بالـ"ديكتاتور". كانوا شُبَّاناً انشقّوا عن مصالي الذي لم يأخذ الأمر على محمل الجدّ ظنّاً منه أن خيارهم هذا لن يفضي إلى شيء.

في شهر يونيو من السّنة نفسها وُلِدت مجموعة الستّة عن اللجنة الثّورية للوحدة والعمل، مكوّنةً من: محمّد بوضياف منسّقاً بين القادة وهم مصطفى بن بولعيد قائد ولاية الأوراس شرق البلاد، ومراد ديدوش قائد منطقة شمال قسنطينة، وكريم بلقاسم قائد منطقة القبائل، ورابح بيطاط قائد منطقة الجزائر العاصمة، والعربي بن مهيدي قائد منطقة وهران. وسُمِّيَت اللجنة "جبهة التّحرير الوطني". كانت هذه التّحولات سرّية؛ يقول سالم العود: "لم أكن أعلم بما يجري. أظنّ أن كثيرين لم يكونوا على علم بظهور جبهة التّحرير الوطني". تسارعت الأحداث حينها في الجزائر العاصمة، لذلك كان ما حدث في الأول من نوفمبر سنة 1954 مباغتاً. 

كان ذلك اليوم يومَ إجازةٍ يوافق عيد القديسين في التّقويم المسيحي. وقعت عمليات حربية متزامنة ومتنوّعة في أماكن عدّة هاجمت فرنسيين ومواقعَ عسكرية فرنسيّة، وقد تبنّتها جميعاً جبهةُ التّحرير. وصفت الجبهة عملها بأنه ثورة بينما وصفته الصحف الفرنسية الصادرة في اليوم التّالي بالـ"أحداث" وسمّت من قاموا بها "خارجين عن القانون".

أصدرت الجبهة بياناً في الأوّل من نوفمبر تسوّغ فعلَها، جاء فيه: "الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنيّة من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص لدفعها إلى المعركة الثّورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتّونسيين". أمّا مصالي فكان يقبع في منفاه الفرنسي ولم يعلم من قاد أحداث الأول من نوفمبر 1954، لكنّ الشرطة الفرنسية رأت أنّه كان القائد، فحُقِّقَ معه واتُّهِمَ بتدبير ما حدث.

نفى مصالي التّهمة، مع ذلك أمر فرنسوا ميتيران وزير الداخلية بحلّ حركة انتصار الحريّات الدّيمقراطية، كما نقلت جريدة لوموند. إلا أنّ الثّورة لم تتوقّف وشعبية مصالي في الداخل لم تتراجع، لكن دخل سالم العود في حيرة كغيره، يقول: "كان ولاؤنا ثابتاً لمصالي الحاجّ"، أمّا الثّورة فقد أشعلها شباب انفصلوا عنه فلم يعلم سالم أينضمّ إليهم أم يتريّث، ثم مال إلى الخيار الثّاني. غضب مصالي الحاجّ وشعر أن الرّفاق المنشقين عن حزبه قد انقلبوا عليه؛ فقد ثاروا، كما دعا، من غير استشارته.

أحسّ مصالي بالعزلة، وعندما بدأت المستعمرات الفرنسية تتحرر، فَهِم أن القطار تجاوزه وأنّ ما شيّده طوال ثلاثة عقود لتحرّر الجزائر لن يفضي إلى أمَلِه. شعر أن شبّاناً مجهولين يسلبونه شيئاً فشيئاً طربوشَ الزّعامة.

شغل آنذاك محمّد بلونيس الرأي العامّ، وهو أحد المقربين من مصالي الحاج، وأكثر رجالاته إخلاصاً. اكتسب محمد خبرة عسكرية من مشاركته في الحرب العالمية ونجاته من أسر النازيين. وشكّل جيشاً سمّاه "الجيش الوطني للشعب الجزائري"، وتبنّى محاربة الفرنسيين وجبهة التحرير الوطني.

بهذا دخلت حرب الجزائر مرحلة حرب زعامات يتبنى كل واحد منها نضالات الشّعب. فقد سيطر بلونيس على مساحة واسعة قائداً آلاف الجنود مغتنماً عتاداً وأسلحة. نقرأ في صحيفة لوموند في مقال عنوانه "الجزائر يجب أن تظل مرتبطة بفرنسا" بتاريخ 6 ديسمبر 1957: "صارت البلاد منقسمة بين طرفين متحاربين: جبهة التّحرير الوطني وأتباع الجيش الوطني، هذان الطّرفان الوطنيان المتقاربان في الماضي صارا لا يقتربان من بعضهما إلا للقتال".

وجدت الجزائر نفسها على هامش محاربتها المستعمرَ في حرب أهلية لا اسم لها، ويتذكّر سالم العود تلك الوقائع قائلاً: "أنا لم أطلق رصاصة واحدة لكنني رضيت بالتّعاطف مع مصالي الحاج". ومن يميل إلى مصالي يميل إلى تلميذه محمد بلونيس، فكان سالم يستقبل المنخرطين في جيش بلونيس ويوفّر لهم الطعام والشراب مع تجنبه عداء رفاقٍ له فضّلوا الانضمام إلى جبهة التحرير. استمرّ الاشتباك بين الطرفين حتى 1957 يومَ "مجزرة ملوزة" أفظع لحظات حرب التحرير. ملوزة بلدة صغيرة في منطقة السهوب تبعد عن الجزائر العاصمة ثلاثمئة كيلومترٍ جنوباً، وقعت فيها مجزرة راح ضحيّتها ما يزيد على ثلاثمئة إنسان. اتَّهَم بلونيس جبهةَ التّحرير باقتراف المجزرة انتقاماً من أهالي البلدة لدعمهم له. نفت جبهةُ التحرير التهمةَ عن نفسها واتهمت الفرنسيين بأنّهم فعلوا ذلك ليزيدوا الناس حقداً عليها.

أدرك محمّد بلونيس أنْ لا قوّة له على صدّ جبهة التحرير التي تزايدت شعبيّتها في البلد، فكسب تعاطف الفرنسيين معه، فصارت جبهة التحرير الوطني في جهة والجيش الوطني للشعب الجزائري بقيادة بلونيس مع الفرنسيين في الجهة الأخرى. لم يُبدّل سالم العود موقفَه وظلّ وفيّاً لجماعة بلونيس، فقد رأى فيها بديلاً عن مصالي الذي ظلّ غائباً عن الواجهة مكتفياً بحياته في المنفى من غير أن يدين أعمالَ مُريديه أو يشجّعها. أمّا بلونيس فنصّب نفسه عميداً حين كانت أعلى رتبة عسكرية في جبهة التحرير هي رتبة عقيد لقادة الولايات.

نظّم الرجل جيشه على الطريقة الفرنسية، لكن تقارير الأمن الفرنسي المنشورة عقب الاستقلال أشارت إلى أن الرجل لم يكن يثق بفرنسا مع ظهوره في المذياع قائلاً: "لقد آمنتُ ولا أزال مؤمناً أن الجزائر يجب أن تَحفظ صِلتَها مع فرنسا".

ظنّ الفرنسيّون أنّ بلونيس يستغل تقاربه معهم لمصلحته ويودّ أن يستفردَ بحرب الاستقلال ويزيحَ جبهة التحرير ثم يُرجِعَ مصالي إلى الواجهة. لقي الرجلُ مصرعَه في اشتباك بين فرقةٍ كانت معه والفرنسيين سنة 1958 في جبل زمرة، وظلّ السؤالُ المهمّ غيرَ مجابٍ عنه في الأرشيف: لماذا قتل الفرنسيون محمّدَ بلونيس وقد كان ذراعَهم في محاربة جبهة التحرير؟ أثار موتُه الشكوكَ، واختلفت الصحافة حينها فيمن نفّذ عملية القتل، فقد نقلت صحفٌ أن مقرباً منه قتله، بينما أفادت أخرى أنه قُتِل برصاص الفرنسيين أنفسهم. غَيّرَ موتُ بلونيس حياةَ سالم العود حتى صار معزولاً كغيره من أنصار مصالي الذين صُفِّيَ بعضهم في الاحتراب مع جبهة التّحرير.

أُرَجِّحُ أنّ الفرنسيين لم يعودوا بحاجة إلى بلونيس عقب تكريس ما أُطلق عليه الفصيلة الإدارية الخاصة، المشار إليها اختصاراً بكلمة "لاساس"، وهي مؤسسة ظهرت بمرسومٍ وقَّعه الحاكم العامّ للجزائر جاك سوستال في أواخر 1955، وجاء فيه: "يرأس الفصيلة الإدارية ضابطٌ منخرطٌ في الجيش أو متقاعدٌ عنه" وفي حالات نادرة شخص مدني. وعقب ثلاثة أعوام من صدور المرسوم انتشرت هذه المؤسسة في الجزائر كلّها لا سيما في الأرياف. وكانت مهمّتها ردّ ثقة الجزائريين في الاستعمار؛ بأن توفّر لهم التعليم والرعاية الصحية، وتجندّهم لمطاردة جنود جبهة التحرير.

شاع بين الناس أن الفرنسيّين اقتنعوا بألّا خلاص من المقاومة التي تواجههم إلا بضرب الجزائريين ببعضهم. وتمكّنَت لاساس من تجنيد أعينٍ لها، وقايضت الأهالي على الطعام والتعليم بالإبلاغ عن المقاومين ومحاربتهم. فهَدّدَت جبهةُ التحرير بمحاسبة كلِّ من يلتحق بهذه المؤسسة. إذَن، ترافقَت نهايةُ جيش بلونيس مع ترسيخ مواقع لاساس. انطلقت حملة انتقام من كلّ من خَدم الاستعمار سواءً كانوا من قدامى جيش بلونيس أم ممن انخرطوا في الفصيلة الإدارية الخاصّة. شعر سالم العود حينَها أن سلوك رفاقه قد تغيّر معه. وقال مستذكراً تلك اللحظات: "سمعت أوّل مرّة من يتّهمني بالعمالة لأنّي تعاطفتُ مع مصالي وبلونيس". سكن الخوفُ سالماً، وبلغته أخبار اغتيال من عَرَفهم ممّن كانوا مثله من أنصار مصالي وممّن تعاونوا مع الفرنسيين في عملية "المنظار". وقد نشرت صحيفة "لا ديباش دالجي" في الجزائر العاصمة مقالاً يفيد أن تلك العملية أفضت إلى توقيف 356 مجاهداً ومصادرة الفرنسيين مئتين وثلاث عشرة قطعة سلاح.

تعددت المعارك التي هوجمت فيها لاساس وقادتُها الفرنسيون والمتعاونون معها من الجزائريين. يقول سالم: "قلّلتُ خروجي من البيت، فقد بات الخوف يساور قلبي وقلّلتُ كلامي مع الناس". ومع أنّه لم يطلِق رصاصةً واحدةً ولم يكن سبباً في قتل مجاهدٍ ولا في التّبليغ عن أحد إلا أنّه ظلّ عدوّاً لجبهة التحرير.

عندما اندلعت الحرب قسمّت جبهة التّحرير البلد إلى ستّ ولايات، وعيّنت على كلّ واحدة منها قائداً ونوّاباً له. ولم تغفل الجبهة عن الجزائريين المقيمين والعاملين في فرنسا، فأسست مكتب الولاية السابعة (فيدرالية فرنسا). حشد هذا المكتب العمّال الجزائريين وضمّهم إلى مسعى التّحرير. وبعدما ضعفت قوة المصاليين في الجزائر، نقلوا نشاطهم إلى الخارج؛ فدارت في فرنسا حرب أخرى نادراً ما يحكي عنها المؤرّخون، وتحوّل مكتب الولاية السابعة من التّعبئة إلى المواجهة الصّريحة مع أنصار مصالي.

تَرِدُ شهادةُ مناضلٍ من جبهة التحرير كان يقيم في فرنسا في الشريط الوثائقي "بستانيّو ساحة الشّهداء" الصادر عام 2003 للمخرجة والمناضلة الجزائرية ليلى حبشي، يقول فيها: "كنت أعمل في مصنع من الواحدة صباحاً إلى التّاسعة ليلاً وفي كلّ مرّة أغيّر طريق ذهابي وعودتي خوفاً من العرب والبوليس". قصد الرجل بالعرب: المصاليين وقصد بالبوليس: الشّرطة الفرنسية التي كانت تلاحق المتعاطفين مع جبهة التحرير. يقول: "في النهار كان البوليس يدقّق في وثائقنا ومعلوماتنا وفي الليل يطلق المصاليون النار علينا". وقد لمّح المخرج الجزائري رشيد بوشارب إلى هذا الصراع في فيلمه "خارجون عن القانون" سنة 2010، فحرب التحرير الجزائرية هي أوّل حرب استقلال تنقل معاركها من الداخل إلى الخارج، فهاجمت جزائريين على أراضٍ فرنسيّة.

وقّعت فرنسا نهاية 1961 مع جبهة التّحرير اتفاقاً تلتزم فيه الجبهةُ ألّا تتعرّض الحَرْكَى، ثم في مارس 1962 وقّع الطرفان اتّفاقيات "إيفيان" التي تقضي بوقف إطلاق النار وتنهي الاستعمار وتشرّع الباب للاستقلال. يذكر كتاب "حقائق خفيّة عن حرب التحرير" للمؤرّخ جان سيفيا الصادر سنة 2018 أنه أُطلق في الوثيقة الفرنسية على الحَرْكَى "المسلمون المنخرطون في جناح فرنسا". بعض المنضوين في الجبهة لم يلتزموا أوامر قاداتهم، وصار كل من وُصف بالحَرْكَى في قوائم سوداء ومنهم سالم العود. وباتوا يخشون على أرواحهم، إذ قَتل أعضاءٌ من الجبهة ستةَ عشر حَرْكياً في بلدة سيق غرب البلاد واثنين وعشرين آخرين في مدينة سعيدة المجاورة عقب توقيع اتّفاقيات "إيفيان".

ضُمّ إلى قائمة من وُصفوا بالخونة أو الحَرْكَى جنودٌ سابقون في جبهة التحرير فضّلوا الانسحاب منها إذ ظنّوا أن الحرب ستطول، فهجروا السلاح وباتوا محلّ ريبة رفاقهم القدامى.

يتذكر سالم تلك الأيام قائلاً: "عقب توقيع اتّفاقيات إيفيان، علّق الجيش الفرنسي أعماله" إذ لم يعد بوسع فرنسا التدخّل في حماية الحَرْكَى، ونُعِتت التصفيات التي سُجِّلَت نهاية 1961 ومطلع 1962 بـ"العمليات المعزولة". ظنّ سالم العود مثل غيره أن الأمر لن يتفاقم وأردف قائلاً: "دعوت ربّي أن لا يَصِلوا إليّ" لكن صدر أمرٌ في أبريل سنة 1962 بتجريد الحَرْكَى من قطع السلاح التي أخذوها من المستعمرين. فأصبحوا بذلك معزولين نفسياً أمام الشعب ومجرَّدين من أسلحة حموا بها أنفسهم.

لم يرَ سالم العود سبيلاً للنجاة بنفسه وعائلته حينها سوى الهجرة إلى فرنسا. لكنه واجه منْعَ وزير الدفاع الفرنسي بيير ميسمر هجرات الحَرْكَى إلى فرنسا، وذلك في المراسلة رقم 1334 الموقَّعة بتاريخ 12 مايو 1962. طمأنهم ميسمر بأن لا ضرر سيمسّهم وأن جبهة التحرير مُلزَمة ألّا تتعرضهم كما جاء في بنود اتفاقيّات "إيفيان".

دخلت الجزائر حالة من الغليان بين مارس ويوليو 1962، أي بين وقف إطلاق النّار وإعلان الاستقلال. بعد انسحاب الجيش والأمن الفرنسيَيْن، فُتح الباب لتصفية الخصومات الشخصية. فهُوجِمَ أولئك الذين نُعتوا بالحَرْكَى، واضطرّ بعضهم إلى تغيير سكنه من مدينة إلى أخرى ولجأ آخرون إلى الصحراء. وَفَرّتْ طائفةٌ منهم إلى فرنسا لأن وعود ميسمر ذهبت سُدًى. كان سالم العود من الراحلين إلى فرنسا.

يقول سالم: "حملتُ معي ستَّ حقائب واصطحبتُ زوجتي وأبنائي الثلاثة وتوجّهتُ إلى ميناء الجزائر العاصمة المكتظّ في تلك الأيّام بالمسافرين، لا سيما ممن أُطلقَ عليهم الأقدام السّوداء". والأقدام السوداء أوروبيون وُلدوا وكبروا في الجزائر من بينهم مشاهير مثل الكاتب ألبير كامو والمغني أنريكو ماسياس ومصمّم الأزياء إيف سان لوران.

ظنّ سالم العود كرفاقه من الحَرْكى أنه سيحظى باستقبالٍ لائق في فرنسا، لكنهم وجدوا أنفسهم في ملجأ بضواحي مارسيليا سبقهم إليه جمهوريون إسبان فرّوا من حكم فرانكو، كما قال. كان الملجأ يتّسع لأربعمئة شخص، فوُزِّعَ حَرْكَى آخرون على مراكز استقبال في فرنسا قاسية أحوالها. وَعَدتْ وزارة الدّفاع أن وضعهم سيتحسّن، وحثّتهم على الصبر إلى أن تدمجهم الدولة بالمجتمع.

صَوَّرَ الفيلمُ الفرنسي "حَرْكَى" عام 2006 للمخرج آلان تاسما الأحوالَ القاسية التي وصل فيها الحَرْكَى إلى بلد المستعمر القديم، ونظرةَ الفرنسيين المستخّفة بهم وبأطفالهم. وجد سالم ورفاقه أنفسهم مرفوضين في الجزائر وفرنسا، وفي أول السّتينيات طرأت كلمة جديدة على لسان الفرنسيين فصارت "حَرْكِي" تشمل كلّ لاجئ من الجزائر إلى فرنسا.

ظنّ الفرنسيّون أن الجزائريين كلّهم كانوا حَرْكَى لعددهم الكبير في فرنسا. عَبَرَ المصطلحُ البحرَ ووصل الجزائرَ، فصار الجزائريون أيضاً يَصِفُون سرّاً المواطنين اللاجئين إلى فرنسا بكلمة حَرْكِي. لَم تعُدْ هذه الكلمةُ حكراً على سجلات حرب التحرير، بل تداوَلها الناس في الحياة اليومية.

قضى سالم العود اثنتي عشرة سنة في ذلك الملجأ، وكبُرَ أبناؤه فيه قبل أن يتمكّن من الاندماج في الحياة الفرنسية وينتقل إلى باريس. نعم، تغيّرَت حياته لكن التاريخ الذي شهده لم يُراجَع عربياً، فالمراجع الدقيقة عن الحَرْكَى جُلّها بالفرنسية. وإن كانت الدولة الجزائرية تحتفي كل عام بيوم الذاكرة، إلا أنّها تتجنب ذكر اسم مصالي الحاج.

يبدو سالم العود فخوراً بمنصب أصغر أبنائه في بلديةٍ قرب باريس؛ إذ قال: "كان يهمّني أن يعيش أبنائي حياة لائقة". لكن ألسنة الناس لم ترحم هذا الابن الذي ظلّ يزِرُ وزرَ أبيه، وقال متأسّفًا: "يقولون عنّي ابن حَرْكِي". فالحَرْكَى، إذن، صفة يتوارثها الأجيال. أمّا سالم، فيَنْشُدُ إنصافَ أولادِه؛ إذ يقول: "أنا دفعت الثّمن، فما هو ذنب أبنائي؟" وابنُه له رأيٌ مماثل إذ يقول: "حرب التّحرير انتهت عام 1962. لماذا يطيلون عمرها بالإساءة إليّ وإلى أمثالي؟"

أمّا أنا، فلم أحزن على زيارة ابن سالم في مكتبه، مع أنه لم يتحدث معي عن العمل الذي تقدّمت إليه. فارَقتُه منتفِعاً بمقابلة سالم الحَرْكَي.

قصّة سالم العود وعائلته هي من قصص جزائريين لا يريد كثيرون في الجزائر أن يسمعوا عنها شيئاً، مع أن أبناء الحَرْكَى وأحفادهم يعيشون ماضي آبائهم وماضي الجزائر بكلّ تعقيداتِه المخالفةِ الروايةَ الرسميةَ. دفعني هذا لذِكر قصّته، وجعلني أتساءل هل يَضُرُّ فتحُ الأرشيفِ الجزائري المُغلَقِ بعضَ الأحياء الذين يَحكمون البلدَ؟ وكيف يمكن للدولة الجزائرية أن تنصِف أبناءَ سالم الذين باتوا ضحايا حربٍ لم يكونوا طَرَفاً فيها؟

اشترك في نشرتنا البريدية