بهذه الطريقة، بدأ كارلسون مرحلةً إعلاميةً جديدة. فبعد سنواتٍ من الإطلالة على الجمهور عبر قنواتٍ كبرى، تصدَّر خلالها شاشات فوكس نيوز في برنامجه الأشهر "تاكر كارلسون تونايت"، قرّر التحوّل إلى منصات التواصل الاجتماعي بدلاً من العمل مع قناةٍ أخرى. ولهذا، سرعان ما تصدَّر مقطع الفيديو الذي نشره على "إكس" عناوين الأخبار في الصحف والقنوات. وخلال ساعةٍ واحدةٍ من بثّه، شاهده ما يقرب من مليونَي شخص.
لم يكن تاكر كارلسون وحده. فقد شهدت الأعوام الأخيرة تحّولاتٍ عميقةً في الإعلام الأمريكي دفعت بعض الإعلاميين، الذين ظهروا في برامج تلفزيونيةٍ على قنواتِ مؤسساتٍ إعلاميةٍ كبرى، لتركها والظهور عبر قنواتهم على منصات التواصل الاجتماعي.
بدأت رحلة كارلسون من الصحافة المكتوبة ثم التلفزيون وصولاً إلى صعوده داخل "فوكس نيوز" وانفصاله عنها سنة 2023. وقد أدّى دوراً في تشكيل خطابٍ يمينيٍّ مؤثّرٍ يعكس مساره تحوّلاً أوسع نحو إعلامٍ يتمحور حول الفرد لا المؤسسة.
حاول تاكر بعد تخرّجه الالتحاق بوكالة الاستخبارات الأمريكية. لكن طلبه رُفض، فاتجه للعمل الصحفي. وبدأ مسيرته المهنية مدققَ معلوماتٍ في مجلة "بوليسي ريفيو" المحافِظة، ثم كاتب مقالات رأيٍ في صحيفة "أركنساس ديموكرات جازيت" في مدينة ليتل روك بولاية أركنساس. وفي سنة 1995، انضمّ إلى مجلة "ذا ويكلي ستاندَرد"، التي شارك في تأسيسها الصحفي والسياسي المحافظ ويليام كريستول، أحد أبرز الأصوات اليمينية في الولايات المتحدة. وخلال الأعوام اللاحقة، كتب كارلسون لعددٍ من أشهر الصحف والمجلات الأمريكية، مثل مجلة "فوربس" وصحيفة "وول ستريت جورنال". ورُشِّح مقاله "ذا ليغ أوف إكسترا أوردينري جنتلمن" (رابطة السادة الاستثنائيين)، المنشور في مجلة "إسكواير" سنة 2003، لجائزة المجلة الوطنية الأمريكية.
ظهر تاكر كارلسون تلفزيونياً أول مرةٍ سنة 1995، حين أجرت شبكة "سي بي إس" لقاءً معه حول محاكمة أو جاي سيمبسون، لاعب كرة القدم الأمريكية والممثل المتهم بقتل طليقته وصديقها. وتكرر ظهوره في عددٍ من البرامج السياسية والإخبارية حتى عُيِّن مذيعاً بشبكة "سي إن إن" سنة 2000، وقدّم برنامج "ذا سبِن رُوم" (غرفة الدوران)، الذي غطّى النقاشات السياسية الأمريكية، قبل أن يلغى بسبب ضعف نسبة المشاهدة. وفي العام التالي، شارك كارلسون بول بيغالا، المستشار السياسي من الحزب الديمقراطي حينها في تقديم برنامج "كروس فاير" (نيران متقاطعة)، وهو برنامجٌ حواريٌّ بدأ منذ سنة 1986. استمر كارلسون وبيغالا في تقديم البرنامج حتى استضافهما الإعلامي الساخر جون ستيوارت في برنامجه "ذا ديلي شو" سنة 2004، ووصفهما في الحلقة بالمهرّجَين السياسيَّين المضرَّين بأمريكا. وبعدها بثلاثة أشهرٍ، ألغت شبكة "سي إن إن" برنامجهما، وقال رئيسها في مقابلةٍ صحفيةٍ إنه يتفق مع تقييم ستيوارت.
غادر تاكر كارلسون "سي إن إن" ليبدأ رحلةً طويلةً مع وسائل إعلامٍ مختلفة. فالتحق أولاً بشبكة "إم إس إن بي سي"، وقدّم فيها برنامجه "تاكر" الذي استمر حتى سنة 2008. ثم ظهر سنة 2009 في قناة فوكس نيوز معلّقاً سياسياً في برامج مختلفة. وفي سنة 2010، وبالتوازي مع عمله في "فوكس نيوز"، شارك صديقه نايل باتيل، المستشار السياسي للحزب الجمهوري، تأسيس موقعٍ إخباريٍّ بِاسم "ذا ديلي كولر". وجَّه الرجلان من خلال الموقع نقداً متكرراً لقيادات الحزب الديمقراطي، وروَّجا إشاعاتٍ بشأنه، مثل ادعاء تورّط أحد موظفي الحزب في شبكةِ تجسّسٍ واختراقٍ لأجهزة الكونغرس. كان الموقع سمعةً مثيراً للجدل بسبب ترويجه صوراً نمطيةً عنصريةً وجندرية. وأخيراً، بعد سبعة أعوامٍ من ظهور كارلسون على شاشة فوكس نيوز، انطلق برنامجه "تاكر كارلسون تونايت" سنة 2016. فأصبح واحداً من أكثر البرامج الإخبارية شعبيةً في تاريخ القنوات الإخبارية الأمريكية.
لم يتوقف تاكر كارلسون عن دعمه ترامب عند حدود ولايته الأولى. فبعد خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية سنة 2020، وزعمه وعددٍ من الجمهوريين تزوير الانتخابات، تبنّى كارلسون تلك الادعاءات وروَّج لها في برنامجه. وبعد اقتحام أنصار ترامب مبنى الكابيتول، مقرّ الكونغرس، في 6 يناير 2021 لمنعه من المصادقة على فوز جو بايدن، اتهم كارلسون مكتبَ التحقيقات الفيدرالي بتلفيق الهجوم ورَفَضَ اعتبارَ الهجوم تمرّداً حقيقياً.
انعكس الانخراط في مزاعم التزوير على القناة في صورةِ أزمةٍ قانونيةٍ كبرى. في مارس 2021، رفعت شركة "دومينيون"، المتخصصة في تصنيع أجهزة التصويت الإلكتروني، دعوى تشهيرٍ ضدّ شبكة فوكس نيوز، بعد أن روّجت ومقدّمي برامجها مزاعم بأن أجهزة الشركة شاركت في تزوير الانتخابات الرئاسية. طالبت الشركة بتعويضٍ قدره 1.6 مليار دولار، مؤكدةً أن "فوكس نيوز" نشرت تلك الادعاءات مع علمها بكذبها. وكشفت التحقيقات عن مراسلاتٍ داخليةٍ بين مذيعين ومديرين في الشبكة الإعلامية، من بينهم تاكر كارلسون، تعكس تشكّكهم في صحة المزاعم التي بثّوها على الهواء. وفي مارس سنة 2023، أكد القاضي كذب الادعاءات التي روّجتها الشبكة، تمهيداً لبدء المحاكمة. قبل انعقاد الجلسات، توصّل الطرفان إلى تسويةٍ ماليةٍ ضخمةٍ دفعت بموجبها شبكة "فوكس نيوز" 787.5 مليون دولار. وبعدها، أنهت الشبكة تعاقدها مع كارلسون.
خاطب كارلسون جمهوراً أكبر، بعيداً عن الرقابة التحريرية التقليدية. ففي أولى حلقاته على منصة إكس، قال إنه يأمل أن تكون المنصة مثل "الراديو قصير الموجة تحت البطانية"، أي وسيلةً للبثّ الحرّ دون حراسةٍ أو رقابةٍ تحريرية. وأضاف: "إذا تبيّن أن ذلك غير صحيحٍ، فسوف نغادر المنصة".
بدأ تاكر كارلسون سلسلةً من المقابلات التي تحدَّت الأفكار السائدة داخل اليمين الأمريكي، سواءً المتعلقة بالقضايا الداخلية أو الدولية. وفي فبراير سنة 2024، التقى الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين في أول مقابلةٍ يجريها مع إعلاميٍّ غربيٍّ منذ بدء روسيا غزوَ أوكرانيا. غطّت وسائل الإعلام الروسية المقابلةَ وبثّت القنوات الرئيسة مقتطفاتٍ منها، ووصفتها إحدى الوكالات الحكومية الروسية بأنها "طعنة خنجرٍ تخترق ستار دعاية الإعلام غير النزيه في العالم المتحضر". وعند سؤاله عن سبب منح الكرملين مقابلةً لكارلسون دون غيره من الإعلام الغربي، قال المتحدث بِاسم بوتين ديمتري بيسكوف إن موقف المذيع السابق يختلف عن المواقف الأحادية لبقية وسائل الإعلام.
امتدّ صدى المقابلة إلى المجال البحثي. وفقاً لدراسةٍ أعدّها فريقٌ من جامعة ساوث فلوريدا في فبراير 2024، أحدثت المقابلة تأثيراً ملموساً على الخطاب العامّ في منصة إكس. فقد ازداد تفاعل المؤثرين المنتمين لليمين المتطرف، وتوسعت دائرة تداول روايات الكرملين بعد بثّها. تغيّر اتجاه النقاش العام من دعم أوكرانيا وتمويلها إلى جدلٍ حول بوتين وروسيا. وأبرزت الدراسة استغلالَ بوتين اللقاءَ للتأثير في الرأي العامّ الأمريكي وتقليص الدعم لأوكرانيا، فيما ساهم أسلوب كارلسون في تحويل المقابلة إلى أداةٍ دعائيةٍ تتجاوز حدود الإعلام التقليدي.
يرى دان كينيدي، أستاذ الصحافة في جامعة نورث إيسترن، أن نجاح كارلسون يظهر استعداد جزءٍ كبيرٍ من جمهوره لمتابعته في وجهته الجديدة. ويضيف في حديث للفراتس أن التحوّل في المشهد الإعلامي الأمريكي خلال السنوات الأخيرة لم يكن مجرد تطورٍ تقنيّ، بل تطوراً في طريقة تعامل الجمهور مع الأخبار. فالمنصات الجديدة، وعلى رأسها "سبستاك" التي تتيح للكتّاب إنشاءَ نشراتٍ بريديةٍ وإرسالَها ونشرَ محتوىً مستقلٍّ، سهَّلت مهمة الوصول للجمهور والاعتماد عليه مباشرة. في هذه التجربة الجديدة، لا يتابع المشاهد مؤسسةً إعلاميةً معينةً تمثل تيّاره ويثق فيها. هو يتابع شخصاً واحداً يثق به، بمعزلٍ عن القواعد التحريرية التقليدية. تاكر كارلسون مثالٌ واضحٌ على ذلك. فجزءٌ كبيرٌ من جمهوره لم يتخلَّ عنه بعد خروجه من "فوكس نيوز"، بل انتقل معه إلى منصّاته الخاصة.
يؤكد كريس بيرديك، الصحفي الأمريكي المهتم بدراسة تحوّلات الإعلام الرقمي، أن هذا الجمهور الجديد لا يبحث عن الخبر والحقيقة، وإنما يبحث عن محتوىً يتوافق مع أفكاره. ويضيف في حديث مع الفراتس أن هذا ما يدفع كثيراً من المؤثرين لتقديم ما يخالف توجّهاتهم، سعياً لإرضاء الجمهور. ويشير إلى أن التحوّل الرقمي لم يغيّر طرق النشر والوصول إلى الجمهور فحسب، بل غيّر طبيعة الثقة نفسها بين الصحفي والمتلقّي. فمع انتشار المنصات الرقمية وتراجع نفوذ المؤسسات الإعلامية الكبرى، لم يعد الجمهور يبحث عن الخبر بقدر ما يبحث عن الشخص الذي يثق به وينقل له الخبر. هذا التحوّل، بحسب بيرديك، خلق نوعاً جديداً من العلاقة بين الإعلامي والجمهور تقوم على الثقة الشخصية والارتباط العاطفي أكثر من الاعتماد على اسم المؤسسة.
في السياق ذاته، فإن تاكر كارلسون استضاف تيد كروز، عضوَ مجلس الشيوخ الأمريكي وأحدَ أبرز الوجوه الداعمة إسرائيلَ في الكونغرس. تحوّلت المقابلة إلى جدالٍ كشف عن اختلافٍ جوهريٍّ في الخطاب بين الرجلين. فقد شكّك كارلسون في مبررات التدخل العسكري الأمريكي، منتقداً كروز لدعمه مشروع الإطاحة بالنظام الإيراني، وكل التبريرات التي قدّمها للدخول في الحرب دعماً لإسرائيل.
بعدها، أجرى كارلسون مقابلةً مع الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان. استقطبت الحلقة أكثرَ من مليون مشاهَدةٍ على يوتيوب خلال عشرين ساعةً فقط من نشرها، وشاهدها أكثر من مليون متابعٍ على منصة إكس.
ساهم كارلسون من خلال منصته الجديدة في إعادة رسم حدود النقاش داخل اليمين الأمريكي. فبدلاً من الاكتفاء بعرض خطاب التعبئة للحرب، السائد في كثيرٍ من المنابر المحافظة، استثمر كارلسون في إظهار التباينات الداخلية داخل هذا التيار، بين أصواتٍ تخشى تكلفة الحرب على الداخل الأمريكي، بناءً على الشعار الرئيس للحملة الانتخابية لترامب أن تكون "أمريكا أولاً"، وأخرى متمسكةٍ بتحالفٍ غير مشروطٍ مع إسرائيل. واختار كارلسون ضيوفه بعنايةٍ لخلق نقاشٍ داخل اليمين، وانتقاد الحكومة في دعمها غير المشروط لإسرائيل. ثم اتسعت مساحة الحوار لتشمل حواراً مع الطرف الآخر الذي يُتخَذ عدوّاً في هذا الصراع، مثل الرئيس الإيراني.
تطوّرت مواقف تاكر كارلسون نفسها خلال هذه الرحلة الإعلامية. فقد اقتصر نقده في البداية على توجيه الموارد الأمريكية لدعم إسرائيل بدل توجيهها لعلاج الأزمات الداخلية الأمريكية، دون أن يتوجه نقده إلى إسرائيل التي كرّر مراراً حبّه لها. انطلق في هذا الموقف من شعار "أمريكا أولاً"، لكنه سرعان ما اصطدم بآخرين رفعوا الشعار ذاته وأيّدوا ترامب على هذه الأرضية، ثم أصرّوا على أولوية دعم إسرائيل، منهم كروز وبعض رموز الإعلام اليميني مثل بن شابيرو وشون هانيتي ومارك ليفين. تساءل كارلسون عن أثر التحالف مع إسرائيل على المصالح الأمريكية، فتعرّض لنقدٍ واسعٍ من الإعلام اليميني دفعه للتساؤل عن "ولاء" بعض رموز اليمين في السياسة والإعلام للولايات المتحدة متهماً بعضهم بتقديم إسرائيل عليها. ومع استضافته شخصياتٍ معارضةً للحرب الإسرائيلية على غزة، سواءً عسكريين أمريكيين سابقين أو شخصياتٍ دينيةً مسيحيةً، طرح كارلسون أسئلةً أخلاقيةً حول السياسات الإسرائيلية، وتحدث عن الجرائم الإنسانية التي يرفضها أخلاقياً من كونه مسيحيّاً محافظاً. وإجمالاً، تحوَّل موقف كارلسون في أشهرٍ قليلةٍ، من دعمٍ مطلق لإسرائيل مع تحفظٍ على تورّط الولايات المتحدة في حروبها إلى نقدٍ متزايدٍ لتأثير اللوبي الصهيوني على الساسة الأمريكان، ونقدٍ أخلاقيٍ للممارسات الإسرائيلية.
في ديسمبر سنة 2021، أقالت شبكة "سي إن إن" المذيعَ كريس كومو بسبب مشاركته في تقديم المشورة لشقيقه أندرو كومو، حاكم ولاية نيويورك حينها. ساعد كريس شقيقَه في صياغة البيانات الإعلامية والتعامل مع الصحافة أثناء مواجهته اتهاماتٍ من عدّة موظفاتٍ بأنه تحرّش بهنّ جنسيّاً. وهو ما عدّته القناة تضارباً في المصالح ومخالفةً لقواعد الصحافة النزيهة، ففصلته. عاد كومو إلى الساحة الإعلامية عبر شبكة "نيوز نيشن" التابعة لمجموعة "نكستار ميديا"، والتي تقدّم نفسها بديلاً عن القنوات الحزبية، لتقديم أخبارٍ محايدةٍ دون انحيازٍ سياسيٍّ واضح.
أما المذيع الأمريكي المحافظ جيلين بيك، أحد أبرز وجوه شبكة "فوكس نيوز"، فترك القناة سنة 2011 بعد انتقاداتٍ وُجِّهت له إزاء خلط السياسة بالدين، والترويج لنظرية المؤامرة ضد إدارة أوباما، مما دفع عدداً من المعلنين لسحب إعلاناتهم. أسّس بيك منصّته الخاصة "جي بي تي في"، التي تحولت لاحقاً إلى شبكة "ذا بليز" الرقمية، والتي تعمل على إنتاج محتوىً إخباريٍ وتحليليٍ، وتعتمد على نظام الاشتراك المدفوع.
ثمّة تجربةٌ مماثلةٌ خاضها الصحفي المصري حافظ الميرازي. عمل الميرازي في عددٍ من المنصّات الإعلامية الكبرى، منها "فويس أوف أميريكا" وهيئة الإذاعة البريطانية وقناة الجزيرة، قبل أن يسلك مساراً مختلفاً بتقديم حصادٍ أسبوعيٍّ عبر منصّته الخاصة من داخل الولايات المتحدة الأمريكية. قال الميرازي في حديثٍ مع الفراتس إنه قرر العمل عبر منصّته المستقلة نتيجةً للقيود التحريرية التي فُرضت عليه، وهو ما دفعه ليبحث عن بديلٍ يمنحه مساحةً أكبر من الاستقلالية التحريرية.
يؤكد الميرازي أن خيارات الصحفيين ليست سهلة. فالمذيع العامل خارج المؤسسات الإعلامية يحتاج إلى تجهيزاتٍ تقنيةٍ متكاملةٍ وأجهزة تصويرٍ وخطةٍ تسويقيةٍ تضمن له الاستمرار اقتصادياً، وهي أعباءٌ لا يمرّ بها المذيع الذي يتجه مباشرةً إلى الاستوديو لتقديم برنامجه. ويشير الميرازي إلى أن العمل عبر المنصّات الخاصة يجعل جمهور المؤثر الإلكتروني هو المتلقي الوحيد، على عكس العمل في المؤسسات الإعلامية التي تضمن بثّ المحتوى عبر الشاشة ووسائل التواصل الاجتماعي معاً. ومع ذلك، لا يتمتع الفضاء الإلكتروني بحريةٍ مطلقة. فهو يخضع بدوره لسياسات الشركات المالكة للتطبيقات الكبرى، على النحو الذي تجلّى في محاولات الصين السيطرةَ على "تيك توك"، أو محاولة اللجان الإلكترونية تعطيلَ المحتوى. وعلى تلك القيود، يرى الميرازي أن المنصّات الرقمية تمنح المذيع قدراً من الحرية يظلّ أكبر مما تسمح به المؤسسات التقليدية، أو كما يقول: "القيود أقلّ وطأة".
يتخذ الميرازي تجربة تاكر كارلسون مثالاً واضحاً على تحوّل المذيع إلى مؤثرٍ رقميٍّ يجذب جمهوراً وفيّاً يتبعه أينما ذهب. كان بإمكان كارلسون الانتقال إلى قناةٍ أخرى بعد مغادرته "فوكس نيوز". لكنه اختار الفضاء الرقمي لأنه يدرك أن جمهوره سيتبعه، بعدما بنى قاعدةً جماهيريةً ثابتةً خلال سنوات عمله التلفزيوني. يقدّم الميرازي اليوم الأسبوعي من الولايات المتحدة الأمريكية. ومع قدرته على تحليل الشأن السياسي الأمريكي للمشاهد العربي، اختار تخصيص محتواه لمصر، مركزاً على القضايا التي لا يتناولها الإعلام المحلي، والتي يرى أن الجمهور المصري متعطشاً لمتابعتها وفهمها بعمق.
هذا التحول نحو الإعلام الرقمي الفردي لا يعكس فقط رغبةً في التحرر من القيود المؤسسية، بل أيضاً محاولةً لاستعادة الثقة المفقودة بين الصحافة والجمهور من خلال بناء علاقةٍ مباشرةٍ مع المتابعين، في وقتٍ تتزايد فيه أزمة المصداقية والانقسام السياسي.

