أعيش في برلين منذ حوالي عقدٍ ونصف. ابنتي وُلدت هنا وزوجتي ألمانيةٌ تنحدر من منطقةٍ معروفةٍ برياضاتها الشتوية. أيْ أنّنا عرفنا الثلج وشاهدناه ولعبنا به عشرات المرّات. وإن بدا الثلج بما جلبه علينا من سعادةٍ وكأننا نراه أوّل مرّةٍ، إلّا أنه أعادني للحظات لعبي به في شوارع القامشلي في سوريا قبل نحو ثلاثين عاماً. جعلني أفكّر بالطفل الذي كنتُه يوماً وبابنتي اليوم. وتساءلتُ عمّا يجمعنا وما يفرّقنا. فأنا اللاجئ الكردي السوري الذي صار مواطناً ألمانياً، ابن رجلٍ سوريٍّ كرديٍّ سنّيٍّ وامرأةٍ عراقيةٍ شيعيةٍ. نشأتُ في كنف عائلةٍ تبنّت الشيوعية السوفييتية فكراً، وسط بيئةٍ كرديّةٍ في سوريا المدموغة بصبغةٍ عروبيّةٍ قوميّة. وبالمقابل، ابنتي طفلةٌ لأبٍ يحمل هذا الإرث وأمٍّ ألمانيةٍ بتجربةٍ مختلفةٍ كثيراً. وُلدتُ في دمشق وعشتُ طفولتي بين دمشق والقامشلي. أما هي، فوُلدت في برلين وتعيش فيها. عشتُ في غربةٍ وفقرٍ، في حين تعيش هي مثل أيّ طفلةٍ تنتمي إلى الطبقة الوسطى الأوروبية.
في لحظاتٍ كثيرةٍ مشابهةٍ، ووسط هذه الانتماءات المتعددة، تتزاحم في رأسي أسئلةٌ مقلقةٌ عن مصيري وعائلتي هنا، وعمّا سيحدث لنا ولمن هم مثلنا إن وصل "الفاشيون" الألمان إلى السلطة. وفيما إذا كنا سنهرب جميعاً أم نبقى ونقاوم، ونحن عائلةٌ ألمانيةٌ صغيرة. وراء هذا كلّه السؤال الأوسع فيما إذا أصبحتُ ألمانياً حقّاً. والأهم، إذا ما كان الألمان يروني ألمانياً. فالهوية هنا لا يبدو أنها تُمنح بجواز سفرٍ فقط. ومن هذا المنظور صار يعيش كثيرٌ من "الألمان الجدد"، أصحاب الهويات المتعددة، متخوّفين من المستقبل ومن فقدان الأمان مع تصاعد خطر الشعبوية ولاسيما من حزب "آ إف دي" (البديل من أجل ألمانيا). ومع كلّ هذا، لا أستطيع الانفصال عن عالمي الأول. فأنا أعيش بين هويّتين. تلك التي جئتُ بها، وأخرى أحاول أن أكون جزءاً منها. وفي هذا الصراع، كثيرون مثلي في ألمانيا وسط عالمٍ أكبر بدا أنه يتغير وتتصاعد فيه سياسات الهوية ومعاداة المهاجرين والأجانب.
ارتباطي الثقافي واللغوي والتاريخي بالشرق الأوسط، لا بألمانيا. وكثيرٌ من أحداث السياسة الألمانية وتفاصيلها الدقيقة لا تؤثّر على دقائق حياتي اليوميّة، على عكس ما يحدث في البلاد التي وُلدتُ فيها. أتفاعل مع برلين الباردة الرمادية الكئيبة مثل أيّ مواطنٍ ألمانيّ. أشتري حاجيّاتي من المحالّ نفسها، وأجلس في المقاهي نفسها، وأعمل أعمالاً يوميةً تشبه ما يعمله أيّ مواطنٍ من طبقتي الاقتصادية. أنتخب الحزب الذي يقترب برنامجه من مبادئي، وإن كنت لا أنغمس في دقائق السياسة. لكن يظلّ يخيّم عليّ سؤالٌ عن الوطن الذي يقودني دائماً، ومنه ينبثق سؤالٌ آخَر عن أيِّ وطنٍ أعيش فيه الآن فعلاً، وكيف يراني. وفي هذا، لستُ وحيداً.
سألتُ أيضاً أصدقاء ألماناً بِيضاً أباً عن جدٍّ، فلم يجيبوني كذلك إجابةً واحدةً حاسمةً، ربّما أدباً. بعضهم قال: "طالما حصلتَ على الجنسية الألمانية، فأنت كذلك". وبعضهم قال: "أنت ألمانيٌّ من أصولٍ سوريّة". وآخرون كانوا أوضح بقولهم: "لا. الألماني هو من وُلد هنا. لكنك حاصلٌ على الجنسية الألمانية وتتمتع بحقوق المواطنين".
بعض أصدقائي الألمان من خلفياتٍ مهاجرةٍ قالوا إنّ "المجتمع الألماني يرفضهم رغم ولادتهم في ألمانيا". وبعضهم وُلد لأبٍ أو أمٍّ يحملان الجنسية الألمانية. يُسألون دائماً عن المكان الذي قدِموا منه. فإن أجابوا ألمانيا، فسيُسألون عن والديهم. وإن كانت الإجابة ألمانيا، فسيُسألون عن أجدادهم. وكأنَّ الألماني فقط من وُلد هو وآباؤه وأجداده هنا وكان ذا بشرةٍ بيضاء.
إحدى صديقاتي، وهي من أبٍ أردنيّ وأمٍّ ألمانية، قالت لي مرّة: "أشعر أنني ألمانيةٌ مئةً بالمئة وأردنيةٌ مئةً بالمئة. لكن لا الناس هناك يرونني أردنيةً، ولا الناس هنا يرونني ألمانية". حين سمعتُ كلامها، تذكرتُ عمّتي التي تعيش في هولندا منذ التسعينيات. قالت مرّةً إنّها لن تعود إلى سوريا أبداً: "أنا غريبةٌ هنا. وإن عدتُ سأكون غريبةً هناك. الغربة بين الغرباء أفضل من الغربة بين الأهل".
تبدو هذه الازدواجية في الانتماء، وهذا الشعور المعلَّق بين مكانين جزءاً من تجربةِ كثيرين يعيشون خارج الصورة التقليدية للهوية الوطنية. من هنا أفكّر في معنى المواطَنة نفسه، وكيف يعرّف المجتمع من هو ألمانيٌّ ومن ليس كذلك.
لكن هذا ما يقوله القانون فقط، الذي يساوي في الحقوق والواجبات بين حامل الجنسية الألمانية وأهل البلاد الأصليين. أما اجتماعياً وثقافياً، فالأمر يبدو مختلفاً. وربّما كان التجسيد الأوضح على ذلك ما حدث في الحرب الأخيرة على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.
ترافقت الحرب مع دعمٍ حكوميٍّ ألمانيٍّ واضحٍ لإسرائيل. وليس أقلّ ذلك تزويد إسرائيل بالسلاح واعتبار ألمانيا أكبر مزود أسلحةٍ لإسرائيل بعد الولايات المتحدة. أُلغيت كذلك فعالياتٌ ثقافيةٌ لعددٍ كبيرٍ من العرب والفلسطينيين والمتعاطفين مع الفلسطينيين، من ألمانٍ وغيرهم. مُنع مثلاً الطبيب الفلسطيني البريطاني والأكاديمي غسان أبو ستة من دخول البلاد في مايو 2024 ليشارك في مؤتمرٍ فلسطينيٍّ مدلياً بإفادته عن عمله طبيباً في قطاع غزة وقت الحرب. وكذلك أُلغيت فعاليةٌ لجامعة برلين في ديسمبر من العام نفسه، كان مفترضاً أن تستضيف فرانشيسكا ألبينيزي، مقرّرة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية.
وكذا قَمعت السلطات الألمانية في عدّة مناسباتٍ تظاهراتٍ مؤيدةً فلسطينَ، واعتَدَت على مشاركين فيها. ومع خروج آلاف المتظاهرين في شوارع برلين خلال أكثر من عامين احتجاجاً على الحرب على غزة، ظلّ الموقف الحكومي ثابتاً في دعمه إسرائيلَ، حتى وإن انتقد مسؤولون ألمانٌ بعض أفعال إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.
ففي ذروة التظاهرات المناصِرة فلسطينَ في برلين، وخاصةً في شارع العرب حيث كانت الشرطة تقمع المشاركين بعنفٍ في كثير ٍمن الأحيان، قال أمامي شابٌ من الجيل الثاني من العرب: "هذا الشارع لنا. ولو شعرنا لحظةً بأنّه لم يعُد كذلك، سنحطّمه ونحرقه مثلما يفعل الجزائريون والسود في باريس". في إشارةٍ ربما لأعمال الشغب في أحياء المهاجرين في العاصمة الفرنسية، والتي تكررت منذ بداية الألفية، وكانت أبرزها آنذاك ما حصل في يونيو 2023 حين قتلت الشرطة الفرنسية مراهقاً من أصولٍ جزائرية. وشارع العرب هذا اسمه في الأصل "زونن آليه" أيْ "جادّة الشمس"، ويمتدّ عدّة كيلومترات. لكن لكثرة المحالّ العربية في جزءٍ منه، صار هذا الجزء يُعرف بشارع العرب.
بهذا، دفع قمع الشرطة الأشخاصَ ذوي الخلفيات المهاجرة إلى الشعور الدائم بالتهديد، سواءً كانوا مقيمين أو لاجئين أو حاصلين على الجنسية. وبدا الانتماء إلى البلد الأصلي هو الأساس، ليتنحّى ولو قليلاً الانتماء إلى المكان الألماني الجديد. هذا على الأقلّ ما ظهر لي وشعرت به وعدداً من معارفي. غير أن هذا الشعور يتجاوز إرهاصات حرب غزة ويمتد أبعد في الزمن، جزءاً من التحوّلات الأكبر التي عاشتها ألمانيا في العقد الماضي.
لكنّ حضور اللاجئين والمهاجرين في ألمانيا ليس طارئاً، ولا مرتبطاً فقط بتحّولات العقد الأخير. ساهم المهاجرون في إعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حاق بالبلاد دمارٌ واسعٌ وتحوّلت أجزاءٌ كبيرةٌ من مدنها، مثل برلين، إلى ركام. هذا الوضع دفع ألمانيا في مرحلةٍ لاحقةٍ، لاسيما في النصف الثاني من الخمسينيات، إلى استقبال من أسمتهم حينئذٍ "العمّال الضيوف" من عدّة دول. بدءاً بإيطاليا وإسبانيا، ثمّ تركيا والبرتغال ويوغسلافيا، وذلك لسدّ النقص في اليد العاملة ومساعدة البلاد في إعادة النهوض. وهو ما يشير إليه موقع "معهد سياسات الهجرة" المتخصّص بدراسة الهجرة وسياسات الاندماج حول العالم، في مقالٍ بعنوان "إيميغريشن إن ترانزشن" (الهجرة في مرحلة الانتقال) نشر سنة 2004.
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ما انفكّت ألمانيا تستقبل المهاجرين واللاجئين التزاماً باتفاقية سنة 1951 الخاصة بوضع اللاجئين واتفاقية 1967 الملحقة بها، التي تضمن حمايتهم. لذلك دخل مئات الآلاف إلى البلاد فردياً أو جماعياً.
وإن نشأَتْ وسط هذه البيئة أجيالٌ جديدةٌ من أبناء المهاجرين، إلا أن تجاربهم لم تكن سهلةً دائماً. فمع أنّ عائلاتهم أسهمت في قطاعاتٍ حيويةٍ من الاقتصاد والبناء في العقود الماضية، لا يزال كثيرون منهم يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. مثلما بدا في حديث صديقي مع الموظفة الحكومية الألمانية، وبعض من أعرفهم من أبناء المهاجرين في محيطي الاجتماعي. وكثيرٌ منهم كذلك ما زالوا يحتفظون بارتباطٍ قويٍّ ببلدان آبائهم، حتى مع وصول بعضهم إلى مواقع مؤثرةٍ، مثل عضوية البرلمان.
هذه التجارب الشخصية كان لها ما يؤكدها. فعلى سبيل المثال، جاء في استطلاعٍ من مؤسسة برلين للسكان والتنمية سنة 2009، نقلته صحيفة "دير شبيغل"، بأن ثلث أبناء المهاجرين لا يشعرون بالاندماج في المجتمع الألماني. وغالبية غير المندمجين من أبناء الجالية التركية، أكبر مجموعةٍ عرقيةٍ في ألمانيا بعد "الألمان الأصليين"، على عكس المهاجرين من أصولٍ إيطاليةٍ وإسبانيةٍ والذين أبدوا بالمجمل اندماجاً في المجتمع.
مع ذلك، وإن بدت ثمّة فجواتٌ مع الاندماج أو النظر للذات نظرةً تغريبيةً وسط فئاتٍ مهاجرةٍ معينةٍ وقتئذٍ، لم تتحوّل قضية اللجوء ومناهضة اللاجئين إلى محورٍ للنقاش الداخلي والصراعات الحزبية إلّا بعد 2015. وذلك بعدما ظهرت آثارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوضوحٍ أكبر. وهذا ما يشير إليه مثلاً بحثٌ لجامعة كورنيل الأمريكية نشر في سبتمبر 2025، وشمل أكثر من مئةٍ وخمسين عاماً من النقاشات البرلمانية الألمانية حول الهجرة. فقد تحوّلت هذه النقاشات من التضامن مع المهاجرين واللاجئين بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً للبحث، إلى مناهضةِ هذا التضامن منذ 2015. ومع تزايد هذا التحوّل في الأعوام الأخيرة، بدأت آثاره تظهر بلا مواربةٍ في الخطاب العامّ والسياسات المطروحة. فيما زاد بالتوازي القلق والتوجس بين أوساط كثيرٍ من اللاجئين والمهاجرين.
صار الحديث، بل وطُبع في كثيرٍ من وسائل الإعلام وخطابات بعض الأحزاب، عن إعادة السوريين إلى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد. وكذلك الأفغان إلى أفغانستان بعد استقرار حكم حركة طالبان. وقد أعيد كثيرٌ منهم.
يأتي ذلك إلى جانب تصاعد الحديث عن "القومية الألمانية" و"العرق الألماني" و"القيم المهدّدة". وتأتي كثيرٌ من تلك الشعارات من حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وكأنه يعيد بها الرواية التي امتطاها الحزب القومي الاشتراكي النازي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في طريق صعوده المتدرج للسلطة، ولكن مع تعديلاتٍ في الفئة المستهدفة. فالتصوّر هذه المرّة أن من يسعى للقضاء على النقاء العرقيّ الآريّ أو الألمانيّ الأصليّ ليس اليهود بل غالباً نحن المهاجرين.
وما يجعل توجسات الماضي لكثيرٍ منا احتمالاً ممكن الوقوع، بل وحتى واقعاً في أوجهٍ منه، هو ما نرصده من تصاعدٍ ثابتٍ في النهج، لا مجرد أن تكون الشعارات المعادية المهاجرين مؤقتةً ومرتبطةً بأزماتٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ عابرةٍ تضمحلّ باضمحلال هذه الأزمات. فحزب البديل مثلاً سجّل منذ وصوله البرلمانَ تأييداً متصاعداً. وفي انتخابات 2025 المحلية بغرب ألمانيا ضاعف أصواته ثلاث مرّاتٍ مقارنةً بانتخابات 2020. وتوضح ورقةٌ بحثيةٌ بعنوان "ذا رايز أوف بوبيولزم أند ذا ريكُنفيغريشن أوف ذا جيرمن بوليتكل سبيس" (صعود الشعبوية وإعادة تشكّل الفضاء السياسي الألماني)، صادرةٌ عن جامعة كورنيل في يونيو 2021، أنّ أحزاب اليمين الشعبوي — وخاصةً البديل من أجل ألمانيا — أعادت تشكيل الفضاء السياسي في البلاد. وتبيِّن الورقة أنّ هذا التحوّل أدّى إلى نقل الصراعات السياسية من محاور الاقتصاد إلى محاور الثقافة والهوية.
ليس بعيداً عن هذا التحولِ التصريح الذي أدلى به المستشار الألماني فريدريش ميرتس، وسابقاً زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي قادته ميركل لغاية 2018. إذ قال إنّ الحكومة الحالية تعالج ما وصفه بالإخفاقات السابقة في سياسة الهجرة. وأضاف: "ما زلنا نواجه المشكلة المتعلقة بالمشهد العامّ في المدن الألمانية. ولهذا يسهّل وزير الداخلية الاتحادي تنفيذ عمليات ترحيلٍ واسعة النطاق". أثار هذا التصريح اعتراضاتٍ واسعةً، خصوصاً لاستخدامه مصطلح "صورة المدن"، في إشارةٍ إلى المراهقين اللاجئين الذين "يشوّهون" المشهد العامّ في المدن الألمانية، بحسب رأيه.
لكنّ يبدو أن ميرتس تناول في تصريحه جانباً واحداً من المشكلة، متجاهلاً الاعتداءات المستمرة التي يتعرّض لها اللاجئون وأصحاب الخلفيات المهاجرة. وهو ما تتجاهله أيضاً غالبية وسائل الإعلام الألمانية الرئيسة. فلم يتطرق إلى الإهانات اليومية التي يواجهها هؤلاء، ولا إلى مظاهر العنصرية التي يعيشها كثيرٌ منا وإن حملوا الجنسية الألمانية، ولا إلى حوادث حرق مباني اللاجئين التي تكررت في السنوات الأخيرة. ولم يُشر مثلاً إلى تقارير هيئة حماية الدستور التي تؤكد أنّ التهديد الأكبر للنظام الديمقراطي في ألمانيا يأتي من اليمين المتطرف، لا المهاجرين واللاجئين. وذكر أحدث تقريرٍ للهيئة في يونيو 2025 أن عدد الأشخاص المصنَّفين يمينيين متطرّفين ارتفع إلى 50250 شخصاً في نهاية 2024، مقارنةً بسنة 2023 حين كان العدد 40600.
كذلك، سجّل تقرير تحالف "كلايم"، المعنيّ بتوثيق الاعتداءات والتحيّز ضدّ المسلمين في ألمانيا، 3080 حادثةً عنصريةً معاديةً سنة 2024، مقارنةً بسنة 2023 التي سجّلت 1926 حادثة. أي بارتفاعٍ بنحو 60 بالمئة، ما يعادل أكثر من ثمانية اعتداءاتٍ يومياً.
ولا يبدو هذا التفاقم في التطرّف معزولاً عن التحوّلات الأوسع في الخطاب العامّ داخل ألمانيا والعالم. فهو يتزامن مع عودة نبرةٍ قوميةٍ متشددةٍ تضع الهويات في مواجهة بعضها، بعدما بدا هذا العالم وكأنه تحوّل قريةً صغيرةً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1991 وانتشار الإنترنت وسياسات العولمة.
ربما ليس لي أمام هذا كلّه سوى أن أصدّق عينَيّ فيما أراه أمامي وأعايشه. فتلك تجربتي وواقعي وواقع كثيرٍ غيري من المهاجرين واللاجئين وأبنائهم. وما شهدتُه في تظاهرات برلين في 2023 و2024 يشير إلى تصاعد خطابٍ يعيد إلى الأذهان أجواء الماضي. فقد كُتب على إحدى اللافتات التي رُفعت في إحدى هذه التظاهرات "أشمّ رائحة الثلاثينيات"، في إشارةٍ إلى صعود النازية في تلك الحقبة. ويظهر أنّنا اليوم نشهد تقهقراً وسط تحدياتٍ تتعلّق باليمين المتطرف والهويات الأحادية، في ألمانيا وكثيرٍ من دول العالم التي طالما صُنِّفت ديمقراطيةً وغيرها دون ذلك، ومنها بلدي الأصلي سوريا.
ومثلهم أنا، بوصولي إلى ألمانيا، ظننتُ وهلةً أنّ كلّ أسئلة الهوية والتكوين صارت ورائي. فلا شيعيّةُ عائلةِ أمّي تعنيني، ولا نشأتي في بيئةٍ كرديةٍ سنّيةٍ تحدّد طريقة رؤيتي العالم. لكن مع ذلك، ساهمت كلّ هذه الأمور في وجودي كما أنا اليوم.
أنظرُ إلى ابنتي، التي أحبّها بكلّ ما أوتيتُ من حبٍّ وتسعدني ابتسامتها متهلّلةً بتساقط الثلج كلّ عام، وأحاول ألّا أورّثها صدماتي المتوالية عبر الأجيال. أريد كسر حلقة الاضطرابات والهويات الأحادية. أريدها أن تكبر وهي تحتضن هويّتها المركبة، الألمانية والسورية العربية والكردية والمسلمة والمسيحية والملحدة. أريدها أن تكون ما تريد، وأن أكون لها بيتاً آمناً كلّما احتاجتْ مكاناً تهرب إليه. أكثيرٌ هذا؟ أفكّر في كلّ آنٍ بالطفل الذي كُنْتُه، وبابنتي. من نحن؟ ما الذي يجمع بيننا، وما الذي يفرقنا؟ لماذا عالمنا معقّدٌ إلى هذه الدرجة؟

