ذاكرة الجحيم.. هل ينسى الجلاد والضحية تجربة التعذيب؟

كان الموت أمنية المعتقلين الوحيدة هرباً من جحيم التعذيب اليومي في سجن تدمر.

Share
ذاكرة الجحيم.. هل ينسى الجلاد والضحية تجربة التعذيب؟
من تدمر إلى معتقلات صدام حسين وغوانتانامو، التعذيب في السجون واحد | خدمة غيتي للصور

دشّن حافظ الأسد مع تولّيه حكم سوريا مطلع السبعينيات حقبة مظلمة في تعامل الدولة مع سجنائها، لا سيما السياسيين منهم. عرَف المعتقلون السوريون في هذه الحقبة التعذيب المفرط والممنهج في أبشع صورِه. أُودعتُ السجنَ سنة 1980 حتى 1993، وأمضيتُ سنواتي الثمانيَ الأُوَلَ في سجن تدمر، قبل نقلي إلى سجن صيدنايا. وفي غياهب الحبس في الثمانينيات، شهدتُ فظائع من تعذيبٍ همجيٍ صار معه الموت أملاً لنا سكّانَ الزنزانات. طالما كنا نودّع قوافل الإعدام وهم في غاية البهجة لخلاصهم من هذا الجحيم الذي لا يطاق. كنا نحسدهم على هذا الموت السريع معلَّقين على أعواد المشانق، إذ نظلّ في انتظار التعذيب اليومي المستمرّ كلّ ساعةٍ وإلى أجلٍ غير معلوم.
لا أنسى ما حييتُ تلك الليلة السوداء في فبراير سنة 1982 إذ نقبع في مهاجع سجن تدمر بعد يومٍ حافلٍ بالإعدامات. كان صوت الرئيس السوري حافظ الأسد ينبعث من تلفزيون الثكنة العسكرية حيث يربض جلّادو السجن وجلاوزته. سمعنا الأسد يكرّر الترحّم على شهداء الجيش السوري في حماة، ذلك الجيش الذي علِمنا فيما بعد أنه ارتكب أفظع المجازر بحقّ المدنيين.
كنّا ساعتها صامتين مترقّبين نحاول فكّ الطلاسم التي يتفوّه بها، إذ كان الصوت يصلنا متقطعاً بسبب الرياح الشتوية. لم ندرِ ما كان يحدث في حماة يومها. لكننا أحسسنا أن كارثةً كبرى تقع خارج هذه الجدران العالية. وما إن انتهى الرئيس من خطبته حتى علا صوت المعلق الرياضي عدنان بوظو منتشياً بحماسةٍ "أُووووفَر للنصّ (تمريرة طويلة إلى منتصف الملعب)"، تلاه صوتٌ هادرٌ لآلاف المشجعين في ملعبٍ لكرة القدم بمدينة دمشق.
لم يكن عقلنا ساعتئذٍ يستوعب جمع الصورتين في حيّزٍ نفسيٍ وزمنيٍ واحد. فبينما كانت جلودنا تُسلخ وتَنزف مع لسعِ السياط والأسلاك النحاسية التي تنهال على ظهورنا دونما رحمةٍ، كانت جماهير غفيرةٌ من أبناء بلدنا تعيش نشوة الفوز بكرة القدم. أيّ مشهدٍ عبثيٍ مؤلمٍ هذا. كأننا وآلامنا وعذاباتنا خارج دائرة وعيهم واهتماماتهم وحتى ذاكرتهم. إنه القتل مرّتين على الأثر، كلّ يوم. مرّةً بدخول غياهب السجون والتغييب القسري والحجب عن الحياة العامة، وأخرى بالخروج من الذاكرة.
سادت ممارسة التعذيب في التاريخ البشري بشتّى مراحله وسيلةً للسطوة وفرض السلطة. يُمارَس التعذيب اليوم بدرجاتٍ وأساليب متفاوتةٍ في معظم دول العالم، لا سيما القمعية منها، ضدّ من تراهم أنظمة هذه الدول مهدِّدين لاستقرار الحكم فيها أو مخالِفين له. تنفّذ هذه الممارسة مؤسساتٌ محترفةٌ ومدربةٌ تدريباً عالياً. وتتستر عليها هذه الدول بذرائع شتّى أو لا تلقي بالاً للانتقادات عليها. وإن حالت أنظمة بلدٍ ما دون ممارسة التعذيب على أرضها لانتهاكها قوانينها المحلية، فإنها تعمد لاستئجار سجونٍ في بقعٍ نائيةٍ حتى تمارس فيها كلّ ما هو ممنوع على أرضها. وهو ما تجلّى بعدما شنّت الولايات المتحدة ما سمَّته "الحرب على الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر 2000، وتعذيبها سجناء في دولٍ حليفةٍ قبل نقلهم إلى معتقل غوانتانامو. وإن اختلف التعذيب طريقةً أو وسيلةً أو مكاناً أو زماناً، أو معاينةً حيّةً كما في تجربتي في سجون سوريا، فإن آثار هذا التعذيب تظلّ تلقي بثقلها على حياة الضحايا، وكذلك على حياة الجلادين، وتطال إرهاصاتُها البنيةَ الاجتماعية. وهو ما يطرح تساؤلاً طالما شغل اهتمام الضحايا الناجين وشغلني حول إمكان تجاوز هذه العقابيل والتعافي من آثارها.


مورس التعذيب عبر التاريخ البشري على صورٍ ودوافع متعددة. تشير بعض النصوص الفرعونية مثلاً إلى سَومِ التعذيب لنيل اعترافٍ من الضحية، مع أن مبدأ محورية العدالة ونصب الميزان تقع في صميم العقيدة الفرعونية، حسب "موسوعة مصر القديمة" المنشورة سنة 1957 للمؤرخ المصري سليم حسن. كذلك ساد التعذيب، بل غلب، أداةً لفرض السطوة السياسية على الأفراد والمجتمعات، وقمع المخالفين. وعُدّ شكلاً من أشكال إرساء العدالة أو عقاباً مستحَقاً، أو وسيلةً لفرض الأمن وضمان استقرار الحكم.
يزخر التاريخ والشواهد الأثرية بالصور لمشاهد التلذّذ بتعذيب الضحايا وبالدم المسفوك، وبتمزيق أجساد المجالدين الذين يؤسرون ويدرَّبون ليصبحوا مقاتلين وقتلةً محترفين. هناك مثلاً في وسط عاصمة الإمبراطورية الرومانية، اكتظت حلبات القتال بعشرات المجالدين الذين تباروا مكرَهين في قتل بعضهم بعضاً لإمتاع الإمبراطور وضيوفه. وضجّت المدرّجات بصيحاتِ الإعجاب وحضّ المقاتلين على مزيدٍ من التوحش والإجهاز على من سيقع تحت رحمة الآخَر.
لم تكن حلبات المصارعة مسارح دمويةً للفرجة أو أداةً لإرضاء نزعة التسلية لدى الجماهير وحسب، بل أحد تجليات العنف المؤسّسي المنظّم. ترى الباحثة بياتريس هدسون في دراستها "غلادياتوريال إنترتينمنت أت روم" (تسلية حلبات القتال في روما) الصادرة سنة 2002، تماهيَ مشهد الدم المسفوك مع ترسيخ هيبة السلطة الإمبراطورية وهيمنتها على الجسد البشري. كان الإمبراطور حاضراً، لا متفرجاً فحسب، بل"مانحاً للحياة والموت" أمام جموعٍ تُصفّق وتهلّل طرباً لانهيار أجساد المنكوبين. لم تكن تلك الأجساد الممزقة في ساحة مدرج الكولوسيوم مجرد ضحايا، بل أدواتٍ رمزيةً لتمرير رسائل الخضوع، وساحة اختبارٍ علنيٍ لحدود إذلال العدوّ والعبد والمجرم. إذ يصبح التعذيب فنّاً عامّاً يلبس لبوس العقاب والعدل، بينما يخفي فعلاً سلطوياً مغلّفاً بطقوس المتعة.
وفي نمطٍ يشوبه شكلٌ آخَر من الرعب، تفنّنت الكنيسة وممالك أوروبا وإماراتها في العصور الوسطى في ابتكار وسائل للتعذيب لفرض سطوتها على العامة. اختُرِعت آلات تعذيبٍ لانتزاع الاعترافات ولغرض العقاب. كان من بين هذه الآلات "العذراء الحديدية"، وهي عبارةٌ عن صندوقٍ يشبه التابوت يُثبت في داخله مسامير ما تلبث أن تخترق جسد السجين حين يُغلق باب التابوت عليه. وُزّعت المسامير بحيث لا تَخترِق أعضاءَ الضحيةِ الحيويةَ فتقتله فوراً، إنما يُترك ليقاسيَ أشدّ الألم حتى يفارق الحياة ببطء. ومنها أيضاً "الكرسي الحديدي" الذي يوضع الشخص عليه ثم يُسخّن فتشوي الحرارة جسده تدريجياً. ومن وسائل التعذيب أيضاً، التي شاعت في إنجلترا في القرن الخامس عشر "جهاز المطّ"، الذي يشبه الطاولة، يوضع عليها السجين وتُشدّ أجزاء جسمه حتى تنفصل عن بعضها. وهذا بعض ما وثقه مايكل كَريغِن في كتابه "إنسترمنتس أوف تورتشر" (وسائل التعذيب) الصادر سنة 2007.
وفي مظهرٍ وحشيٍ آخَر لفرض إرادة السلطة تحت مبرّرات الدين، فإن محاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر، طبّعت التعذيب منهجاً، وكان جلّ ضحاياها من المسلمين واليهود. ومن أساليب التعذيب التي تبنّتها وعُدّت بالعشرات، "الحوض". إذ يُغمر المتهم في حوض ماءٍ ويُترك فقط وجهه ظاهراً، ثم يُدهن بالحليب والعسل ليجذب الحشرات فتتغذى عليه. ويُترك السجين غارقاً في فضلاته حتى يجهز عليه الدود حدّ الموت. ومنها أيضاً "الشوكة الزندقية"، وهي طوقٌ معدنيٌ يثبّت حول الرقبة فيه ما يشبه الشوكة الموجهة للذقن وأخرى مثلها نحو الصدر. وإذا ما غفى السجين اخترقت الشوكة جسده وقتلته من فوره، فكانت النتيجة عذاباً للسجين إذ يحاول ألّا يستسلم للنوم فيقضي أجله بعنف.
في الشرق لم تكن الصفحة ناصعة. ففي بداية الدعوة الإسلامية، مثلاً، مارس كفار قريش صنوفاً متعدّدةً من التعذيب على معتنقي الإسلام الجدد، خصوصاً بين صفوف الأرقّاء والمستضعفين. وفي العصور التالية لعصر النبوّة، فإن النصّ المقدس لم يكن دائماً رادعاً لتجاوزاتٍ وحشيةٍ بحقّ الناس. يستعرض هادي علوي في كتابه "من تاريخ التعذيب في الإسلام" الصادر سنة 2001، وسائل التعذيب التي استخدمها الخلفاء الأمويون والعباسيون، مثل التحريق بشيّ الجلد والتعطيش والتجويع وسقي الصديد، لعقاب الناس وقتلهم، بعد أن كان قطع الرأس بالسيف الوسيلة الشائعة. يضيف علوي أن الحجاج بن يوسف الثقفي، أضاف لهذه الوسائل الصَلْب بعد القتل.
وفي دراستها المعنونَة "وسائل التعذيب في العصر الأيوبي" المنشورة سنة 2024، تناقش عبير الطويري من جامعة طيبة في المدينة المنورة طرق ممارسة السلطات في العصر الأيوبي للتعذيب وسيلةً إمّا للتعزير والعقاب، أو أداة ضغطٍ وقمعٍ سياسي. وتوضح أن صور التعذيب لأغراض الإخضاع السياسي شملت قطع الأنف أو الشفاه أو اليد، أو كسر القدمين والتحريق والتغريق. استخدم الأيوبيون أيضاً التعذيب بالدبابيس، إذا تلقم الدبابيس في عصاً مدبّبةٍ يُضرب بها المرء. وساد التعليق من الأرجل، وصَلْب المرء حيّاً، بل وحتى التجويع. وقد جُوّع الأمير والقائد العسكري حسام الدين الهذباني بعدما أمر الملكُ الصالحُ إسماعيل، السلطانُ الأيوبيُّ في دمشق، بإلقائه في الجُبّ مع قليلٍ من خبزٍ وماءٍ وبقل.
وكما لم تنته صور التعذيب بانتهاء محاكم التفتيش في أوروبا، لم يكن العهد الأيوبي نهايتها في الشرق الإسلامي. إذ ظلّت هذه الممارسات مستمرةً، مع تنويعٍ في أساليبها وأدواتها، حتى التاريخ المعاصر. بل أُنتجت وسائل تعذيبٍ جديدةٌ مستفادةٌ من التقدم التقني في القرن العشرين. وليست المحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية سوى مثالٍ متوحشٍ عن هذا التطوير. فطفرة المَيْكنة والمعرفة التقنية وُظّفت وسيلةً فعالةً واقتصاديةً للتعذيب. فبالإضافة للإبادة الممنهجة، أخضع سجناء معسكرات الاعتقال للتجويع، والعمل الشاقّ، ونُزعت إنسانيتهم بتجريدهم من ممتلكاتهم وعائلاتهم وعلاقتهم بالعالم الخارجي، وصودرت أيّ ومضة أملٍ من تصوّرهم. كذلك وُظّفوا فئران تجاربٍ لعقاقير أو أسلحةٍ جديدة.
في جلّ هذه الأمثلة، لم يكن التعذيب بالضرورة سلوكاً فردياً، بل طقساً جماعياً ترعاه السلطة أو مؤسساتٌ ترتبط بها عضوياً. وباستمرار هذا النمط، أصبحت الممارسة أحياناً سلوكياتٍ مألوفةً تتكيف معها المجتمعات والشعوب فتتحول إلى جزءٍ من الثقافة العامة. في ألمانيا مثلاً، دجّن الحكم النازي قطاعاتٍ واسعةً من الشعب الألماني – بضخٍّ من آلةٍ إعلاميةٍ ضخمةٍ ترأّسها وزير الدعاية جوزيف غوبلز ضدّ اليهود وفئاتٍ أخرى كالمعاقين والغجر – لتقبّل أو على الأقلّ التغاضي عن اضطهاد هذه الفئات ونزع إنسانيتها، ومن ثم تطبيع تعذيبها وقتلها.


الجرائم المروعة خلال الحرب العالمية الثانية كانت الدافع لسنّ قوانين دوليةٍ تضمن عدم تكرارها. فجاء على سبيل المثال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 والذي ينصّ في مادّته الخامسة على حظر التعذيب، إذ "لا يجوز إخضاع أحدٍ لتعذيبٍ ولا لمعاملةٍ أو عقوبةٍ قاسيةٍ أو لا إنسانيةٍ أو حاطّةٍ بالكرامة". عُزّز هذا الحظر باتفاقياتٍ لاحقةٍ جعلت من التعذيب أمراً محرَّماً بلا قيدٍ أو شرط. منها اتفاقية جنيف لسنة 1949، والبروتوكولات الملحقة بها سنة 1977، والأهمّ اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب سنة 1984.
ورغم ما سنّته المنظومة الحديثة من قوانين واتفاقياتٍ تُجرّم التعذيب وتناهضه، إلّا أن هذه القوانين تحمل بعض الإشكاليات على مستويَي النصوص والتطبيق. ففي اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب عُرّف التعذيب على أنه "أيّ فعلٍ يُسبّب بالعمد ألماً أو معاناةً شديدةً، سواءً كانت جسديةً أو نفسيةً، يرتكب بقصد الحصول على معلوماتٍ أو اعترافٍ، أو لمعاقبة شخصٍ، أو تخويفه، أو إكراهه، أو لأيّ سببٍ يستند إلى تمييزٍ من أيّ نوعٍ، عندما يرتكب هذا الألم أو المعاناة من قِبل موظفٍ عامٍّ أو شخصٍ يتصرف بصفةٍ رسميةٍ، أو بتحريضٍ منه أو بموافقته أو قبوله".
تعامل القانون الدولي مع قضية التعذيب عبر محورين: الأول قانوني يُعنى بعلاقة السلطة الحاكمة بالأطراف المتنازعة والثاني أخلاقي يعمل على حماية الكرامة الإنسانية. لكن يؤخذ على هذا القانون إهماله معالجة أشكال التعذيب الفردية تجاه الأفراد. هذا وإن توسّع تدريجياً في إرساء الحظر التامّ لكلّ أشكال التعذيب مهما كانت المبررات سواءً في أوقات الطوارئ أو الحرب. كذلك صنفت محكمة الجنايات الدولية بعض أشكال التعذيب التي ترتكب ضمن سياساتٍ عامّةٍ ومنهجيةٍ جرائم بحقّ الإنسانية، حسب ما يذكر في نظام روما الأساسي للمحكمة.
لكن من المفارقات اليوم أنه مع التقدم في مفاهيم حقوق الإنسان والنمو المضطرد للمنظمات والهيئات المدافعة عنها، يُتوهَّم أن المتعدّيَ على حقوق الإنسان، مصيرُه أن يقع في قبضة واحدةٍ من هذه المؤسسات. إلّا أن هذه القوانين محدودة الفاعلية لأن الجناة يبرعون في إخفاء الأدلة وتغييب الضحايا. تساهم بهذا الفجوة الموجودة بين القوانين الدولية المجرّمة للتعذيب، وبين القوانين الوطنية التي تخترمها الفجوات بين النصّ القانوني وواقع تفسيره وتطبيقه. ويعزّز الإفلات من العقوبة تطوُّرَ التعذيب والانتهاكات والإبداع في تخليقها. إذ تستخدم مثلاً أدواتٌ إلكترونيةٌ وممارساتٌ نفسيةٌ، وحتى عبر عقاقير كيميائيةٍ، تلحِق ضرراً مديداً بالضحايا، دون ترك أثرٍ جسديٍّ مرئيّ. ويمكن لهذه الآثار أن تلازم الضحية طيلة حياتها عذاباً، بعد العذاب المباشر. والحالة السورية خلال عهد حافظ الأسد وابنه بشار ليست عن هذا ببعيد.


سوريا الأسد واحدةٌ من الحالات المتقدّمة في ممارسة الوحشية، جُعل فيها التعذيب اليوميّ في المعتقلات نمطاً اعتيادياً. فحتى بعد انقضاء مدّة التحقيق يستمر التعذيب، ولا حاجة للسلطة القمعية عندها لممارسته بغية الحصول على معلوماتٍ يخفيها المعتقل. عاينتُ هذا في سجن تدمر طيلة سنواتٍ ثمانٍ، ثمّ في صيدنايا خمس سنواتٍ أخرى. أحالَنا التعذيب والسجن الطويل والجوع الملازم لسنين السجن وفقد الرعاية الطبية، حتى في حدودها الدنيا، إلى أشباه أشباحٍ تمشي على الأرض، تبحث في الموت عن خلاص. ومن فوق رؤوسنا جلادون احترفوا السطوة والإيذاء ومُرّنوا على ممارسته دأباً من عملهم اليومي.
يُصنع الجلاد بعمليةٍ احترافيةٍ أفادت بها أجهزة المخابرات السورية من أنظمةٍ قمعيةٍ سبقتها في هذه الصناعة الوحشية، مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً وكمبوديا وكوريا الشمالية. بل إن نظام الأسد في بداياته استلهم جزءاً من ممارساته القمعية ضدّ معارضيه من مجرم الحرب النازي ألويس برونر، الذي جاء إلى سوريا بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وعمل مستشاراً مقرّباً للدولة.
في البدء يُنتقى الجلادون وفق عمليةٍ دقيقةٍ في مرحلة التدريب الأولي لعناصر الجيش النظامي، التي تدعى في العرف العسكري السوري "دورة الأغرار". يُراقب مشرفو الوحدة التدريبية في الدورة الأفرادَ الجددَ ويقيّمونهم من حيث السلوك والأخلاق وطواعية الانصياع الأعمى للأوامر. ينتقون منهم من تسيطر عليه طبيعةٌ عدوانيةٌ ويتلذّذ بالإساءة للآخرين، وأقلّهم تقديراً لروابط القرابة والصداقة، وأكثرهم بدائيةً فكريةً وأمّيةً ممّن يسهل حشو أدمغتهم بروايات النظام وتبريراته. يُخضَع الجلادون بعدها إلى عمليات غسل دماغٍ، كما كان يُفعل بالعناصر الأمنية المشرفة على التحقيق والتعذيب في عهد هتلر في ألمانيا وستالين في روسيا وبول بوت في كمبوديا. وهناك يربطون بعقد عملٍ صيغ بعنايةٍ، إذ يجرَّم معظم هؤلاء الجلادين بدفعهم لارتكاب عمليات قتلٍ مباشرةٍ ومشهودةٍ أمام مجموعةٍ من رفاقهم في السلك الذي يخدمون فيه، ويُطمأنون بأنهم لن يحاسَبوا على هذه الجريمة ما لم يرفع القائد العسكري أو الأمني أمره للقيادة الأعلى.

هذا ما يُعرف بالإفلات من العقاب، كما ورد بالمرسوم رقم 14 لسنة 1969، الذي يقضي بإحداث جهاز أمن الدولة. وتنصّ المادة 16 منه على أنه "لا تجوز ملاحقة أيٍّ من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهام الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقةٍ يصدر من المدير". وعليه يصبح هذا العنصر الجلاد عبداً طيّعاً بيد قائده. ووفقاً للمادة 30 من المرسوم نفسه، فالمرسوم لا ينشر في الجريدة الرسمية. وتنسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان سرّية المنشور لخوف النظام من الفضيحة أمام الرأي العام الداخلي والدولي، إذ إنّه يقنّن انتهاك حقوق الإنسان ويحجب حقّ القضاء من معاقبة العاملين في دوائر الأمن على جرائم أثناء ممارستهم لوظائفهم أو بسببها.
شهدنا في سجن تدمر مراراً عملية تدجين الجلاد. راقبنا كيف يعمَّد بدم ضحيته، وكيف يُحوّل هذا الجلاد يوماً فيوماً من إنسانٍ عدوانيٍّ سيّء الطباع، إلى وحشٍ يدمن القتل والتعذيب. وكيف كان يستمتع هذا الجلاد بحفلات تعذيبٍ طويلةٍ قد تدوم ساعاتٍ، يختمها بأن يقتل أحد السجناء بوحشيةٍ، فيرضّ جمجمته بحجرٍ كبيرٍ، ويَسْمِل عينيه، وقد يمزق بطنه وأحشاءه. كان هذا الحفل الدموي يجري تحت أسماعنا وأبصارنا معتقلين وشهود، وبحضور "سرية التأديب"، وهي المجموعة العسكرية المسؤولة عن التعذيب وتنفيذ الإعدامات حصراً، والتي يزيد عدد عناصرها عن ستين جلاداً.
الحالة الفريدة، وربما كانت الوحيدة الشاذة عن هذا النسق، هي حالة رقيبين عرفناهما نهاية سنة 1980. الأول كان الراحل الرقيب الحمصي أحمد السباعي، الذي أفردتُ له فصلاً خاصاً في كتابي "ناجٍ من المقصلة" المنشور سنة 2021. أبدى السباعي لنا تعاطفه خلسةً من شقوق الباب بعبارته التي طالما سمعها منه سجناء تدمريون، "بيفرجها الله يا شباب". كانت تَهمي على قلوبنا ماءً زلالاً. ولم يلبث أسابيع على حالته هذه حتى افتضح أمره بوشاية زميلٍ له، فكان عقابه المباشر حفلة تعذيبٍ وجلدٍ دامت ساعتين وهو عارٍ تماماً، انتهت بقتله وتمزيق أوصاله وتحويله إلى أشلاء دامية.

الثاني كان رقيباً مجنداً اسمه سليمان، وقد عمل بدايةً معلّماً للأطفال في المرحلة الابتدائية في ريف طرطوس. كان رقيق الطوية مهذّب النفس، ما جعله موضع سخريةٍ وتندّر من رفاقه السجانين. لم يستطع تمثيل دور الجلاد المتوحش الذي ترتعد الفرائص لقسوته ووحشية صوته، وكنا نتمالك أنفسنا بصعوبةٍ من الضحك، حين يحاول أن يظهر بمظهر الغاضب المتوحش.
لم يطُل الأمر بالرقيب سليمان سوى أسابيع معدودةٍ حتى حضر ولأول مرّةٍ حفلة إعدامٍ تجاوز عدد من قضوا نحبهم فيها مئة وثمانين ضحيةً عُلّقوا على أعواد المشانق توالياً في أقلّ من ساعتين. حولهم كان الضباط والرقباء يضحكون ويتقافزون طرباً على جثث الضحايا، في حين كانت أجهزة تصوير الفيديو توثّق الجريمة، ربما ليتمتع بها الحاكم القابع في قصره على جبل قاسيون بدمشق يومئذ. لم يتمالك سليمان نفسه ساعتها لهول ما شاهد، وكان بين الضحايا فتيانٌ صغارٌ أقرب إلى عمر الأطفال، فصرخ صرخةً طويلةً وطفق يمزّق ملابسه ويركض في ساحة الإعدام كمن أصابه مسّ. ظلّ يصرخ وبعض زملائه الرقباء يجرون خلفه ليوقفوه، ثم ما لبث أن سقط مغشياً عليه ونُقل خارج السجن. لم نره من يومها.
بدا لنا أن استمراء التعذيب والاستمرار به فعلاً يومياً يعتمد في ذات الجلاد على مخزونٍ متراكمٍ من النظر بكراهيةٍ واحتقارٍ لنا، لهذا الكائن الذي يعذّبه. ولهذا السبب تُنزع السمة الإنسانية قُدماً عن الضحية، ما يجعل الجلاد في حالة تصالحٍ مع ذاته، حتى وإن هو لم يدرك ذلك. وتتعزز الكراهية كلما زادت مدّة التعذيب لخلق مزيدٍ من التبرير والدافع الحقيقي لاستمرار التعذيب، وتجاهل صرخات الضحية وأنينها، إلى أن يبلغ الجلاد تمام تشوّهه، فلا يعود بحاجةٍ لمزيدٍ من التعليل أو التبرير. بل يصبح فعل تعذيب الضحية اليومي ركناً أساساً في حياته اليومية قد تصل حدّ الإدمان. وهو ربما ما أشارت إليه الفيلسوفة الألمانية حنّا آرنت في كتابها "آيخمان إن جيروزيليم" (آيخمان في القدس) الصادر سنة 1963. إذ تحدثت كيف أن الضابط النازي أدولف آيخمان في اعترافاته أمام المحكمة الإسرائيلية في القدس قلّل من شأن اضطهاده وقتله لليهود في معسكرات الاعتقال، لأنه كان يتبع الأوامر وحسب. كان الأمر له مجرد ممارسةٍ يوميةٍ، لربما وظيفةً أدمنها وباتت جزءاً من شخصيته، ولم يكن البعد الأخلاقي جزءاً من رؤيته.
رأَينا في سجن تدمر هذا الإدمان في عدم قدرة بعض الجلادين كبح أنفسهم عن تعذيبنا. فأحياناً تحدّى الجلاد أمر رؤسائه بعدم تعذيبنا في يومٍ حدّدته إدارة السجن، تنفيذاً لبرنامجٍ مدروسٍ، مع التهديد بعقوبةٍ كبيرةٍ إن هو خالفه. ومع هذا كان الجلادون يخالفون الأوامر ويستمرون بممارسة التعذيب بوحشيةٍ مفرطةٍ لا يردعهم عن هذا تعرّضهم لأشدّ العقوبات من جلدٍ وحرمانٍ وزجٍّ في الزنزانات.


تنوّعت أشكال التعذيب المرعبة التي طبّقها نظام حافظ وبشار الأسد على الضحايا وكان منها النمط البدائي، إذ حُشر المعتقلون في أماكن مظلمةٍ وحُرموا من ضوء الشمس والهواء النقيّ إلا بالحدود التي تبقيهم على حافة الحياة. اكتظت زنزانات السجناء بأعدادٍ هائلةٍ لا تترك للمرء مساحةً تتعدى ربع مترٍ مربعٍ ليكون واقفاً أو جاثياً على ركبتيه في أحسن أحواله. ناهيك من ارتفاع معدلات الرطوبة والروائح النتنة بما يقهر الروح ويهزم إنسانيتها. لا ينتهي الأمر هنا، بل يعيش السجين أيضاً حرماناً من الطعام، فلا يحصل عليه إلّا بالحدود الدنيا التي تبقيه في الحيز الضيق بين الحياة والموت. كل هذا وسط مكانٍ يشتعل دائماً بأصوات التعذيب وصرخات الألم المنبعثة من الضحايا رجالاً ونساءً، تتمنى لهم حين سماع صرخاتهم الموت الفوريّ رحمةً بهم.
وفي سجننا التدمري شاعت ممارسة الاعتداءات الجنسية بأشنع الأساليب. منها حشر الزجاجات المكسورة في فتحة الشرج والصعق الكهربائي للأعضاء التناسلية وإطفاء أعقاب السجائر المشتعلة في الأماكن الحساسة. كان الهدف كسر كلّ معلمٍ من معالم الكرامة الإنسانية لدى الضحية، وإفهامها قسراً أنها منتهَكةٌ لأقصى درجةٍ، مجلّلةً بالعار الذي لن يسمح لها يوماً أن تستعيد ما فقدته من كرامةٍ مهدورة.
هذا إضافةً لتعريض الجسد للجَلد والحرق والكسر والتمزيق وتطبيق الضغط المفرط، أو السحب المُمزِّق أو الحرق بالماء المغليّ، في شكلٍ من التعذيب يشابه ما ساد أوروبا القرون الوسطى ومحاكم التفتيش. ولم ينتهِ الأمر بهذا، فقد سُمِلت عيونٌ بأسياخ الفولاذ المحموم وحُطمت أسنانٌ وشوّهت وجوهٌ بالأحماض الحارقة. وللتخلص نهائياً من الضحية، استخدام الحمض أيضاً في إذابة جسد الضحية.
ولم يفُت الجلّادين ممارسة أحدث الأساليب النفسية المتمثلة بتحطيم شخصية الضحية وإحالتها إلى كائنٍ همّه الأقصى البقاء على قيد الحياة، ونيل الفتات القليل مما يمكن أن يبقيه حيّاً من ماءٍ آسنٍ وطعامٍ تأنف الحيوانات من تناوله. وفي كثيرٍ من الأحيان كان الجلادون يعمدون إلى التبول في طعام السجناء ويرغمونهم على تناوله.
واستخدم السجانون التسجيلات والمؤثرات الصوتية لإيهام الضحية أن التعذيب الذي ينصب الآن على ضحيةٍ تشبهه، قادمٌ بعد دقائق إلى زنزانته. فتجد السجناء منكمشين على أنفسهم ينتظرون بهلعٍ قسطهم المرعب من التعذيب الذي لا يعلم إلى أيّ حدٍّ سيمارَس بحقّهم. كما تتعدى ممارسة التعذيب حدود شخص الضحية فيهددونه مثلاً بجلب والدته وشقيقاته وزوجته وبناته للمعتقل وفعل الأفاعيل بهنّ وسيلةً للابتزاز. وكثيراً ما حصل هذا بالفعل، إذ تُجلَب تلك النساء ويعذَّبن بعد تعريتهنّ. وكثيراً ما يصل الأمر حدّ اغتصابهن أمام الضحية ليقدم مزيداً من التنازلات والاعترافات.
في النهاية يخرج السجين من سجنه حاملاً الكثير من آثار التعذيب الظاهرة على جسده وعللاً تلازمه بقية عمره، بعد سنواتٍ تجرّع فيها صنوفاً من التعذيب يعجز هو نفسه على الإحاطة بها. ونادراً ما يخرج سليماً من علاماتٍ ظاهرةٍ يحملها الجسد من آثار التعذيب. ومن شبه المحال أن يخرج دون ندباتٍ نفسيةٍ عميقةٍ قد تطمر في الذاكرة، إذ تشعر الضحية أن افتضاح حجم الانتهاكات التي تعرضت لها سيكون كشفاً لمقدار الكرامة المهدورة والإهانة والاحتقار الذي عوملت به.
عايشنا ولا يزال كثيرٌ منا يعايش هذه الندوب النفسية، لدرجة أن تطبع بعضنا بسلوكياتٍ غريبةٍ أصبحت في كثيرٍ من الحالات دافعاً للعزلة عن المجتمع. كما لو أنها محاولةٌ لحماية أسرارٍ عن انتهاك حرمة أجسادنا وأرواحنا في المعتقل. يتعسّر كذلك لمن خاض منّا تجربة الاعتقال والتعذيب سنيناً عجافاً استعادة إحساسه بالأمان تجاه الآخرين، خاصةً الغرباء عنه أو المعارف الجدد. وفي كثيرٍ من الحالات سيكون ذاتاً منفصلةً عن محيطها وهويتها الأصلية. فالمجتمع الذي صمت وتابع حياته الطبيعية خلال سنيّ سجنه وتعرضه اليومي للتعذيب لا يعنيه ولا يشبهه ولا ينتمي إليه.
ومن واقع تجربتي الشخصية حتى الآن وبعد أن مضى على خروجي من المعتقل زهاء ثلاثين سنةً، فإنني عند كلّ مرّةٍ أقف أمام موظف الجوازات في مطارٍ ما، مثلاً، تتسارع نبضات قلبي حدّ الألم خلال عشر ثوان. ويحكي لي العديد من أصدقاء تلك التجربة القاسية أنهم إلى اليوم يشعرون بالغربة بين أهاليهم.
وعلى فداحة الحالة السورية، إلّا أن التعذيب بأقسى الطرق وأبشعها ظلّ طوال عقودٍ سمة كثيرٍ من سجون العالم العربي. وقد خرجت لنا عدّة نصوصٍ أدبيةٍ من عدّة دولٍ مختلفةٍ تسرد هذه الفظاعات، تعبيراً شخصياً عن فظاعتها.


في العراق المجاور لسوريا، سبق التعذيب زمن تولّي صدام حسين الحكم رسمياً سنة 1979، وهو الحاكم الذي ارتبط فيه بالمخيال الشعبي أقسى أنواع البطش والتعذيب. وسجن "قصر النهاية" يعتبر مثالاً مروعاً عن هذا التعذيب في العراق الحديث.
كان القصر يسمى "قصر الرحاب" في زمن رئيس الوزراء نوري السعيد في الخمسينيات. ثمّ تحوّل إلى مستشفىً في زمن عبد الكريم قاسم، رئيس وزراء العراق وحاكمها الفعلي بين عامَيْ 1958 و1963. أصبح القصر داراً للتعذيب في زمن أحمد حسن البكر، رئيس العراق من 1968 إلى 1979. وقد شهد المكان قتلاً وتعذيباً لمئات السياسيين الشيوعيين والقوميين والكرد والإسلاميين والضباط المعارضين. كان القصر مسلخاً بشرياً فعلياً. وفيه نفذت، كما رشح عن بعض السجناء ممّن نجوا منه، أكثر من ستّين نوعاً من التعذيب رُجّح أن جلاوزة البعث، ومنهم صدام حسين، استقوها من السوفييت لإخضاع معارضيهم. كُوي الضحايا بالنار وسلخت جلودهم، أو دفنوا أحياءً أو اغتصِبوا.
وقد أسهب الكاتب العراقي فاضل العزاوي في روايته الشهيرة "القلعة الخامسة" المنشورة سنة 1972 بوصف آلام التعذيب في قصر النهاية. كانت أولَ روايةٍ عراقيةٍ تدور أحداثها حصراً داخل السجن. وعرض فيها الكاتب فكرته عن الدائرة المغلقة للجنون السياسي وما ينتج عنه من قمع. فقصر النهاية في منظور جلاوزته هو مكان "نهاية التحقيق"، وفي عيون ضحاياه "نهاية مسارهم في الحياة" أو يكاد.
وغير بعيدٍ عن العراق، كتب أحمد رائف روايته "البوابة السوداء" المنشورة سنة 1986 عن سجن أبي زعبل المصري. وكتب الصحفي اللبناني روكس معكرون عن التعذيب في المعتقل المصري سيّء الصيت "ليمان طُره" في كتابه "أقسمتُ أن أروي" سنة 1978، إذ تحدّث عن "مذبحة السجناء" في ذلك المعتقل سنة 1957. ولا تغيب سلسلة روايات الصحفي المصري مصطفى أمين الخمس عن سنوات اعتقاله في ظلّ حكم عبد الناصر. أولها "سنة أولى سجن" الصادرة سنة 1974، وآخرها "سنة خامسة سجن" الصادرة في بداية الثمانينيات.
وفي كلّ هذه الراويات تفاصيل قريبةٌ عن القهر والتعذيب في سجون مصر ما بعد ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952 وصعود عبد الناصر للسلطة رسمياً بعدها بسنواتٍ قلائل. وتشترك هذه الأعمال في ذكر شخصياتٍ تورطت في انتهاكاتٍ جسيمةٍ ضدّ المعتقلين السياسيين. أهمهم صلاح نصر، رئيس المخابرات. وكذلك اللواء حمزة البسيوني، مدير السجن الحربي، الذي تفنّن بأساليب تعذيب وقتل الضحايا المشكوك في ولائهم للنظام، من العنف الجنسي إلى تسليط الكلاب الجائعة عليهم، حسب ما يورد مصطفى أمين في كتبه.
وفي المغرب العربي لم يكن الوضع أقلّ بؤساً. فقد وثّقت مثلاً رواية "تلك العتمة الباهرة" المنشورة سنة 2001 للروائي الطاهر بنجلون، فظائع القتل البطيء والتعذيب في عهد الحسن الثاني في المغرب. ومثلها رواية "كان وأخواتها" لمحمد الراشق، التي تسرد بإيقاعٍ توثيقيٍ فظائع التعذيب في سجون الحسن الثاني.
القائمة تطول ولا يكاد يخلو نظام حكمٍ عربيٌ من فظائع ممارسات التعذيب في المعتقلات. غير أن الأنظمة كما تتنافس في قدرتها المفرطة على ممارسة التعذيب وإخضاع المواطنين وسحق كرامتهم الإنسانية، فإنها تتبارى في إخفاء تلك الجرائم. لكن في سوريا انتهت حقبة نظام الأسد وبدأت حقبةٌ جديدة. وإلى جانب التوجس والخوف من تكرار ممارسات الأسد في الحقبة الجديدة، صار السؤال الملحّ والأكبر عن ماذا بعد، وعن تداعيات عقودٍ من الظلم والعذابات وأثرها في نفس وحياة من خاضوها شخصياً، وانعكاس كلّ هذا على مجتمعٍ عُذّب عقوداً، وما زال يلعق جراحاً لم تندمل بعد.


لن تتوقف عقابيل ممارسات التعذيب الطويل عند الضحية أو الجلاد، وحتى لو تغير نظام الحكم بثورةٍ أو انقلاب. سيكون المخيال العميق لدى من سيستلم تلك السلطة ضحيةً لهذا التراكم المديد من الممارسات الجرميّة الشنيعة، وكأنها النمط الطبيعي الذي يحاسب به الحاكم وأعوانه من يخالفهم. وسنكتشف تالياً، كما ثبت بتجربتي وتجربة آخرين من رفاق سجني، أن الأمر في شطرٍ منه على الأقل لن يعدو مسألة تبادل مواقع وأدوارٍ، وأن من كان فيما مضى ضحيةً أصبح اليوم يمارس بعض ممارسات الجلاد الذي كان يجلده بالأمس القريب.
ومن مخازي العنف والتعذيب أن مرتكبه قد يعاني من تشوهاتٍ نفسيةٍ بفعل ممارسته الطويلة. قد يصبح عرضةً لزيارات أشباح الضحايا الذين أسرف في قتلهم وتعذيبهم كلّ ليلةٍ في أحلامه وكوابيسه، وسيتملكه إحساسٌ قاسٍ من الدونية والشعور بالانحطاط، وسيعيش شعور المجرم المتخفي المطارد، لا سيما لو غابت السلطة التي خضع لها واستمد شرعيته وحصانته منها. ولعله في بيئته الاجتماعية مضطرباً تتنازعه حالتان متنافرتان: حالة الجلاد الذي لا يستخدم إلا أفعال الأمر والزجر والتحقير والتعنيف، وبين إنسانٍ يحاول جاهداً أن يكون طبيعياً زوجاً أو أباً أو صديقاً.
سمعنا هذا تكراراً من بعض جلادين تحدثوا إلى رفقائهم وقد أسندوا أظهرهم إلى جدران مهجعنا في الساحة الثالثة في المعتقل، عادوا لتوّهم من إجازاتهم التي أمضوها بين الأهل والأصدقاء. وسمعنا كيف يشعرون بأنهم يمثلون حالة الإنسان الطبيعي بصعوبةٍ، وكيف يصعب عليهم تقبيل زوجاتهم أو شقيقاتهم باللطف القديم الذي كانوا عليه قبل انضمامهم لسرية التأديب التي تتولّى مهامّ التعذيب بسجن تدمر. بعضهم ذكر شكوى زوجته مراراً من عنفه الجسدي معها، والذي لم يكن موجوداً فيما سبق.
وقد قدم لنا التاريخ المعاصر من سجون النازية والمرحلة الستالينية في الاتحاد السوفييتي مثلاً حالاتٍ كثيرةً من الذين أمضوا بقية حياتهم في مصحّاتٍ نفسيةٍ وعقليةٍ أو أدمنوا تعاطي المخدرات وكلّ ما يغيب العقل بغية النجاة من مطارق الذاكرة ومما فعلته أيديهم. ولم يحتمل بعضهم كل هذا فأنهى حياته منتحراً. مثلما فعل ستيفان باريتسكي، الحارس في معسكر اعتقال اوشفيتز النازي في بولندا. إذ عبّر عن ندمه الشديد على أفعاله، وشهد ضد رؤسائه السابقين، ثم انتحر أثناء قضاء عقوبته.
وشهدنا في التجربة السورية مقدار التشوّه السلوكي والنفسي الذي يصيب الجلادين وممارسي التعذيب، وفي مقدمتهم "الشبيّحة"، أي الميليشيات التي تناصر أجهزة الأمن. واستمدت هذه المليشيات شرعيتها وأهليتها للانضمام إلى تلك الأجهزة القمعية رديفاً من مقدار العنف الذي مارسته تجاه المعارضين وحاضنتهم الاجتماعية. جرى هذا مع بعض رفقاء السجن في سجن تدمر، ممّن اعتُقِلوا رهائن عوضاً عن أشقاء لهم ليرغموا الفارّ من هذه الأجهزة على العودة وتسليم نفسه بدل معاقبة شقيقه أو قريبه. لم توجّه لهؤلاء "الرهائن" تهمةٌ بل وحتى لم يحقق معهم. وحدث أن احتفظت الأجهزة الأمنية بأحدهم في المعتقل أكثر من عشر سنواتٍ بالرغم من قتلها الشقيق المطلوب.
ما يزيد الأمر تعقيداً في حالات التعذيب، لاسيما بعد سقوط الأنظمة التي مارستها، أنها تترك خلفها جيشاً من الجلادين والوشاة. وهذه اللحظة في المواجهة بين الضحية والجلاد تخلق حالات من انفلات العنف الذي عمل ويعمل الكثيرون على ضبطه وتأطير سبل معالجته بما يسمى مسارات العدالة الانتقالية. وواقع الأمر أنه إلى اليوم لم يقدّم العالم نموذجاً متكاملاً تحققت فيه العدالة بما ينصف الضحايا تكاملياً. وهو ما أشارت إليه منظمة العفو الدولية في تقريرها لسنة 2022-2023، قائلةً إن مسارات العدالة الانتقالية غالباً ما تتقاعس عن تحقيق المساءلة الكاملة عن انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم إنصافٍ حقيقيٍ للضحايا. ففي رواندا ما بعد إبادة 1994 مثلاً، لم تقدّم أيٌّ من تلك النماذج سوى تسوياتٍ يراها البعض تجميليةً ألزمت الضحايا الصمت والكفّ عن البحث عن إنصافٍ حقيقيٍ للانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها. جلّ ما نالته الغالبية اعترافاتٌ لبعض المتورطين بالإبادة واعتذاراتٌ محدودةٌ وبرامج مصالحة.
وعن هذا الأمر تحدثت دراسةٌ قدّمها سايمون روبنز من جامعة يورك البريطانية سنة 2017 بعنوان "فايلينغ فيكتِمز" (غياب دعم الضحايا). تشير الدراسة إلى أنه بالرغم من تكرار الخطاب عن "التمحور حول الضحايا"، فإن العدالة الانتقالية لا تعالج فعلياً احتياجات الضحايا كما يحددونها هم. بل يبدو أن استحضار صورة الضحايا يستخدم لتبرير ضرورة العدالة الانتقالية وإظهارها ممارسةً تقنيةً غير سياسية. بينما يؤدي ذلك عملياً إلى رفع سقف توقعات الضحايا إلى مستوياتٍ لا تتحقق غالباً، فينتج عن ذلك شعورٌ واسعٌ بخيبة الأمل. وتشير الأدلة التجريبية إلى أن الخطاب العالمي للعدالة الانتقالية، مع تركيزه على المحاكمات والعمليات الوطنية للحقيقة، يفشل في تلبية الاحتياجات الأهم للضحايا.
شطرٌ من هؤلاء الضحايا قد لا يقبلون بهذه التسويات الشكلية ويصرون على إنفاذ العدالة التي يرونها إنصافاً لهم، ولو بأيديهم خارج مؤسسات العدالة والقانون الرسمية. لا سيما عندما لا تؤدي أدوات العدالة الانتقالية، من عقابٍ للمجرمين أو تعويضاتٍ ماديةٍ للضحايا، في رأب الصدع النفسي لديهم. ففي أوغندا، وبعد انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت من 1986 إلى 2006، لا يزال المجتمع ينظر بعين التعيير والاتهام لضحايا الاعتداءات الجنسية من النساء. وبغياب عدالةٍ حقيقيةٍ تكون الاضطرابات والفوضى، ولو بعد حينٍ، هي الحكم. كذلك سيخلق هذا الاضطراب مساحةً يتسلل منها كلّ انتهازيٍ وصاحب ثأرٍ شخصيٍ لتصفية حساباتٍ شخصيةٍ بذريعة البحث عن العدالة المهدورة.


في دراسةٍ ألمانيةٍ بعنوان "الآثار النفسية طويلة الأمد للسجن السياسي في ألمانيا الشرقية"، تبيّن أن نسبةً كبيرةً من السجناء السياسيين السابقين ظلّوا يعانون من اضطراباتٍ نفسيةٍ شديدةٍ، وعلى رأسها اضطراب ما بعد الصدمة، حتى بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على إطلاق سراحهم. وتشير الدراسة إلى أن هذه الأعراض المزمنة لا تقتصر على القلق والاكتئاب، بل تمتد لتشمل مشكلاتٍ في العلاقات الاجتماعية، وتراجع الثقة بالمجتمع. وبهذا ربما لن تبدأ مسيرة التعافي والاستشفاء من آثار التعذيب ما لم يواجه الناجي مخاوفه. قد تكون الكتابة سبيلاً إلى ذلك، حتى لو لم يجرؤ صاحبها على نشرها للعلن، وكأنها جلسة اعترافٍ تريح الضمير وتمنح السلام. أو يتعافى بسرد الحكايات ونشرها في محيطه الاجتماعي الأقرب، وسيكتشف أن سردها ينزع عنها مخالبها ويجعل الضحية تتصالح مع حكايتها. وهنا تكون الضحية قد نجت ولو جزئياً من سطوة تلك الذكريات والآلام المعششة في ثنايا الروح. وعلى مستوى المجتمع، لن يكون التعافي من هذه آثار الماضي سريعاً، بل ربما ستمتد العملية لأجيال.
وتبقى مسألة التعذيب وشرعنة هذه الممارسات الجرمية بحق الإنسان بذريعة ضبط الأمن أو القصاص من المفسدين، مسألة صراعٍ مستمر. وما دام مرتكب هذه الممارسات يتفرد بقدرته على امتلاك أدوات القوة والسلطة، وعلى تجاوز القوانين والقيم واحتقار الإنسان، فإن المعركة طويلةٌ لردع الأنظمة الفاسدة عن ممارسة التعذيب وتشويه الإنسان.

اشترك في نشرتنا البريدية