لم تكن قصة أونيغ أفيديسيان مجرد سيرة فردية لفنان، بل تجسيداً لمسار الشعب الأرمني. هو واحد من أمة وقعت ضحيةً للقتل الجماعي والطرد بدايات الحرب العالمية الأولى والسنوات التي تَلَتها مباشرةً، بسبب تصاعد التوجهات القومية التركية في الدولة العثمانية. ولكن من رحم المأساة وعلى وقع التشرّد، قاوم الأرمن بمحاولة استمرارهم شعباً وهويةً في البلدان التي لجأوا إليها فاستقروا وازدهروا، ومنها مصر. والفن أحد صور الاستمرارية، ومنها أعمال أفيديسيان الموجود بعضها اليوم في بطريركية الأرمن الأرثوذوكس وكنيسة القديس جريجوريس المستنير وسط القاهرة. فكان عمل الفنان مرآةً للتجربة الأرمنية على ما فيها من مآسٍ وأمل. هو عين على محيطه وتجربته، وفنّه وسيلة لنقل هذه التجربة للآخرين.
أثناء دراسته، كانت أوضاع الأرمن في تركيا تتدهور. فمع نهاية الحرب التركية اليونانية في سبتمبر 1922، حدث حريقٌ ضخمٌ قيل إنه متعمّد. استمرّ ما يقارب العشرة أيام، وتضرر منه الأرمن واليونانيون في مدينة سميرنا (إزمير حالياً). بدأت النيران في ميناء سميرنا ثم امتدت لهيباً في أرجاء المدينة، لتطال الأحياء الأرمنية واليونانية. فقتلت الآلاف وشرّدت مئات الألوف، في واحدةٍ من أسوأ الكوارث الإنسانية في تلك الحقبة. لم ينجُ من الحريق سوى الأحياء المسلمة واليهودية في المدينة. بعدها بدأت عائلة أونيغ أفيديسيان، والده ووالدته وشقيقتاه، رحلة النزوح. فانتقلوا إلى حلب في سوريا هرباً من التصعيد المتوقع مع اقتراب دخول قوات مصطفى كمال أتاتورك إلى إسطنبول سنة 1923. وكانت تركيا قد وقّعت معاهدة لوزان مع دول الحلفاء في يوليو 1923. وبموجب شروط المعاهدة، بدأت قوات الحلفاء – التي احتلّت أجزاءً من إسطنبول في 1918 بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى – بالانسحاب من المدينة. فمهّدت الطريق لدخول القوات التركية المدينة بقيادة أتاتورك.
أنهى أونيغ أفيديسيان دراسته في فيينا سنة 1925 ثم سافر إلى روما للالتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة. وسنة 1927، التحق بعائلته في سوريا رفقة زوجته النمساوية إرما وابنهما الصغير آرا. لكنّ زوجته لم تحتمل العيش هناك، فعادت سريعاً إلى فيينا مع طفلهما. وبقي أونيغ قريباً من عائلته ومن الشرق الذي شكّل مساراً فنياً جديداً في حياته.
في كتابه "تاريخ الجالية الأرمنية في مصر" الصادر سنة 1999، ينقل محمد رفعت الإمام عن المؤرخ الأرمني أرشاج ألبويجيان في كتابه "الإقليم المصري والطائفة الأرمنية" الصادر سنة 1960 في القاهرة أن الوجود الأرمني في مصر يعود إلى عصر الأسرات الفرعونية. ويبدو أن السفارة الأرمنية في مصر ترى بمصداقية هذه المعلومة وتضعها على موقعها الرسمي تعريفاً لعلاقة الأرمن التاريخية بمصر. بل إن دراسةً ألمانية سنة 2017 وجدت، بعد فحص المركب الجيني لعشرات المومياوات الفرعونية التي دفنت بين سنة 1400 وسنة 400 قبل الميلاد، أن هناك تشابهاً جينياً في بعض هذه المومياوات مع شعوب شرق المتوسط. وكذلك الشرق الأدنى، وهي المنطقة التي تحتلّ أرمينيا اليوم جزءاً منها. وبحسب الإمام في كتابه، فقد تزايدت الهجرات الأرمنية إلى مصر في العصر البيزنطي وشارك بعض الأرمن المسلمين في الفتح العربي لمصر، مثل القائد فارتان الرومي. تولى آخرون مناصب مهمة، مثل الأمير علي بن يحيى الذي حكم مصر في القرن التاسع الميلادي.
يقول فتحي الحديدي في كتابه "خطط القاهرة: مقالات في التطور العمراني" الصادر سنة 2025 إن الأرمن ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بالقاهرة منذ تأسيسها سنة 969 على يد الفاطميين. ويُعدّ بدر الجمالي، الوزير الأرمني الشهير في عهد الخليفة المستنصر بالله، أحد أعمدة الدولة الفاطمية. عزّز الجمالي دفاعات المدينة وشيّد أبوابها التاريخية الثلاثة، الفتوح والنصر وزويلة، مستقدماً ثلاثة بنّائين من مدينة الرها (التي تُسمّى أورفا في تركيا حالياً). بعد وفاته، تولى الوزارة ابنه شاهنشاه وتبعه عدد من الوزراء الأرمن حتى نهاية الدولة الفاطمية حين بدأ الأرمن يواجهون الاضطهاد في عهد صلاح الدين الأيوبي بسبب اتهامهم بالولاء للفاطميين.
في العصر المملوكي بالقرن الثالث عشر حتى السادس عشر، زاد عدد الأرمن في مصر بسبب الحملات العسكرية على أرمينيا الصغرى. فبعد انتصار المماليك على المغول سنة 1260 في معركة عين جالوت وتقهقر قوة المغول، قرر الظاهر بيبرس معاقبة الممالك والدويلات التي دعمت المغول، وكانت بينها مملكة أرمينيا الصغرى. انتصر المماليك وجلبوا آلاف الأرمن أسرى لمصر سنة 1266. مع مرور الزمن واستقرارهم في مصر، وصل بعض هؤلاء الأسرى إلى مناصب عالية كوزارة الدولة. وكان منهم محافظ الدين أبي الفرج، وزير السلطان الظاهر برقوق.
يبيّن رفعت الإمام أن الوجود الأرمني تراجعَ مع بدء الحكم العثماني في القرن السادس عشر، لكنه عاد للازدهار في القرنين السابع عشر والثامن عشر. اندمج الأرمن تدريجياً في المجتمع المصري، واعتنق كثيرون منهم الإسلام لأسبابٍ اجتماعية ووظيفية، مغيّرين أسماءهم إلى أسماءٍ عربية. مع وصول محمد علي باشا إلى الحكم سنة 1805، ازدهر الوجود الأرمني في مصر. كان محمد علي قد عمل في شبابه لدى تاجرٍ أرمني يُدعى قرة قهيا يراميان. ويُقال إنه تأثر بمعاملته الأبوية، ما جعله يميل لاحقاً إلى الاستعانة بالأرمن، بحسب ما يذكره الإمام في كتابه. عيّن محمد علي بوغوص بك يوسفيان وزيراً للخارجية. ويعتبر يوسفيان الأب الفعلي للجالية الأرمنية الحديثة في مصر، إذ جلب العديد من الأسر الأرمنية لتتولى مناصب إدارية في الدولة.
مع تصاعد اضطهاد العثمانيين للأرمن في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت موجات واسعة من الهجرة إلى مصر. فقد وجد الأرمن بيئةً آمنة وفرص عمل بدعم من الجالية الأرمنية المزدهرة هناك. وقبل ذلك، كانت الظروف والتغيّرات السياسية في منطقة آسيا الوسطى أدّت لتدهور وضع الأرمن هناك. يخبرنا الباحث الكندي هومان بيماني في كتابه "كونفليكت آند سيكيورتي إن سينترال إيجيا" (الصراع والأمن في آسيا الوسطى) الصادر سنة 2009 أنه منذ القرن السادس عشر خضع غرب أرمينيا للحكم العثماني، وشرقها للحكم الصفوي. ثم انتقلت أرمينيا الشرقية بعدها إلى الحكم الروسي في القرن التاسع عشر بعد الحروب الروسية الفارسية بين سنتي 1804 و1813، بينما بقيَ غربها تحت السيطرة العثمانية. ومع تصاعد النزعة القومية التركية في القرن التاسع عشر، بدأت العلاقة بين الأرمن والإمبراطورية العثمانية تتوتر، خاصة بعد مطالبة الأرمن بإصلاحات لضمان حقوقهم، ما أثار قلق السلطنة وأدى لاحقاً إلى موجات من القمع والمآسي.
في أوائل القرن العشرين، تبنّت جمعية الاتحاد والترقي المعروفة باسم "حركة تركيا الفتاة" سياسةً قوميةً متطرفة رأت في الأرمن تهديداً للدولة. خصوصاً بعد هزيمة العثمانيين أمام الروس في منطقة ساريقاميش الحدودية بين تركيا وأرمينيا سنة 1915. عُدّ الأرمن منحازين للروس. فبدأت حملة اعتقالاتٍ وإعداماتٍ وترحيلاتٍ قسرية تحوّلت إلى مذبحةٍ راح ضحيّتها نحو مليون ونصف المليون أرمني، في واحدةٍ من أفظع جرائم القرن العشرين التي صنّفتها الأمم المتحدة بأنها "جريمة إبادة"، في تقريرها الخاص سنة 1985 الذي خلص إلى أن "[. . .] لم تكن الجريمة النازية هي الحالة الوحيدة للإبادة الجماعية في القرن العشرين". وفي ظلّ كلّ هذه المآسي، أصبحت مصر ملاذاً آمناً للأرمن، ومن بينهم أونيغ أفيديسيان.
ومع بصمته الفنية الفريدة وبروزه اسماً فنيّاً معبّراً عن استمرارية الهوية الأرمنية، فإن أونيغ أفيديسيان ليس استثناءً في المساهمة الأرمنية بالحركة الفنية المصرية. وإن كان يُعتقد أنه آخر فنان أرمني هاجر إلى مصر قبل توقف موجات الهجرة بعد المذبحة الأرمنية. برز مثلاً الفنان يوحنا الأرمني المتوفى سنة 1786 الذي هاجر من القدس إلى القاهرة سنة 1740 وعاش في قنطرة الموسكي. وبحسب ماجد عزت في كتابه "الأرمن على ضفاف النيل" الصادر سنة 2022، برز يوحنا في رسم الأيقونات الكنسية والجدارية والزخرفة. تميّز أسلوبه بدمجٍ فريدٍ بين التقاليد الفنية الشامية ذات التأثيرات الغربية وروحانيات الفن القبطي. أنتج حوالي مئة وخمس عشرة أيقونة موزعة في كنائس وأديرة مصرية. وقد عُرف عنه كذلك أنه تعاون مع الفنان القبطي إبراهيم الناسخ – أحد أشهر رسامي الأيقونات المسيحية في مصر بالقرن الثامن عشر – في نحو ثلاثٍ وثلاثين من هذه الأيقونات.
واصل الفن الأرمني تأثيره في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين. وبحسب كتيّب المعرض الجماعي للفنانين الأرمن المصريين الصادر عن مركز الهناجر للفنون سنة 2009، اتسع ليشمل الرسم الحديث والنحت والرسم الساخر والتصوير الفوتوغرافي. يعدّ الرسام يرفاند دمرجيان المتوفى سنة 1938 أول فنانٍ أرمني عاش في مصر بصفة دائمة في العصر الحديث. وتبعه رسامون بارزون، نذكر منهم مثلاً بوزانت جوجامانيان المتوفى سنة 1993، وفهرام مانافيان المتوفى سنة 1952.
أما صهر أونيغ أفيديسيان وصديقه أليكسندر صاروخان، فبرز واحداً من أبرز رواد فن الرسم الساخر في مصر والعالم العربي. ومع أصوله الأرمنية ودخوله مصر في سنّ السادسة والعشرين، إلا أنه اندمج في النسيج المصري. وقد أصبح فنّه يعكس نبض الشارع المصري وهمومه وتطلعاته. بدأت رسومه في صحفٍ ومجلاتٍ بارزة، مثل "روز اليوسف" و"آخر ساعة" و"أخبار اليوم". ابتكر صاروخان شخصية "المصري أفندي" سنة 1929 التي جسّدت المواطن البسيط ومشاكله اليومية في عصر الاحتلال البريطاني. بالإضافة إلى شخصياتٍ أخرى، مثل "مخضوض باشا الفزعجي" و"إشاعة هانم"، التي لاقت رواجاً أثناء الحرب العالمية الثانية. عدّته مجلة "استوديو" الإيطالية سنة 1957 أحد أعظم فناني الرسم الساخر في القرن العشرين.
يحرص الأرمن على ثلاثة أعمدة رئيسة لمجتمعاتهم، وهي الكنيسة والمدرسة والنادي، لضمان التماسك والاستمرارية. هذه المؤسسات لم تلبِّ فقط حاجات السكان، بل جذبت عائلات أرمنية جديدة للضاحية. في مصر الجديدة توجد كنيسة القديسة تريزا للأرمن الكاثوليك، وقد أنشئت سنة 1931. وهناك ثلاثة نوادٍ: نادي جوجانيان الثقافي المُفتتح سنة 1949، ونادي هومنتمن نوبار الرياضي سنة 1958، ونادي هوسابير سنة 1962. بالإضافة إلى مدارس، مثل مدرسة نوباريان الأرمنية التي افتتحت في 1925، ومدرسة راهبات الأرمن الكاثوليك، والجمعية الخيرية الأرمنية، ودار إيدزمنيج لإيواء المسنين، وكذلك مقبرة الأرمن الأرثوذوكس.
في سنة 1933 بنى هاكوب أفيديسيان، والد أونيغ، منزلاً في مصر الجديدة. وبحسب تصريحات حفيدة صاروخان سيلفا نيريديان للفِراتس، فقد "انتقلت الأسرة إلى المنزل بعد اكتماله، واتخذ أونيغ مرسماً في الطابق الثاني. ووضعت عند مدخل الفيلا جدارية 'المرأة التي تستند إلى العازف'". ومن ذلك البيت خرجت كثير من إبداعات أونيغ أفيديسيان، منها ما بقي في بيئته المصرية وأخرى وجدت أمكنة أخرى حول العالم.
يحتفظ المعرض الوطني في أرمينيا اليوم بخمس لوحات زيتية وخمس منقوشات من أعمال أونيغ أفيديسيان. وفي بيروت، تزيّن لوحاته جدران كنيسة القديس نيشان الأرمنية الأرثوذكسية. أما في القاهرة حيث استقر، فتوجد عدة تماثيل، منها تمثال نصفي لجاربد أغا أبيكيان، المتبرع الرئيس لجمعية إيدزمنيج للأرمن في مدخل الجمعية بمصر الجديدة. بالإضافة إلى نسخةٍ أخرى فوق قبر أبيكيان في مقبرة مصر الجديدة، وتمثال نصفي لغارابيت آغا كالوسديان في مدرسته بالحيّ نفسه. كذلك يوجد تمثال نصفي للفنانة سيرانوش فوق قبرها بمدافن الأرمن الارثوذوكس بالسيدة زينب، وهي ممثلة مسرحية يعدّها الأرمن فخر المسرح الأرمني. وقد سُرق هذا التمثال منذ عدة سنوات، لكن أسرة الفنان صبّت مؤخراً قالباً آخرَ للتمثال ووضعته مرة أخرى فوق القبر.
تحفظ بطريركية الأرمن الأرثوذوكس وكنيسة القديس جريجوريوس المستنير في القاهرة أعمالاً بارزة لأونيغ أفيديسيان. منها اللوحة الزيتية الضخمة "موت الأم"، وثلاثة تماثيل نصفية لشخصيات أرمنية مؤثرة هم: كريكور يغيايان الدبلوماسي الأرمني، وديكران باشا دابرو وزير خارجية مصر في الفترة من 1891 وحتى 1894، وبوغوص باشا نوبار رجل الأعمال والشريك المؤسس لمصر الجديدة. وتحتفظ عائلة أونيغ كذلك بمجموعة من لوحاته وتمثالين نصفيّين، أحدهما لوالده والآخر لخادم الأسرة عباس، إضافةً إلى اللوحة الجدارية على مدخل منزله في مصر الجديدة التي قادتني إليه.
وعلى غزارة إنتاجه الفني، لم تقتصر شهرة أونيغ أفيديسيان على فنّه فقط. فخلف اللوحات والمجسّمات، كان هناك مبدع فكري له إسهامات بحثية في توثيق تاريخ الفن الأرمني. في سنة 1983 وبعد رحلةٍ في أوروبا، توجه أونيغ إلى القدس وأقام فيها عامين. أخذ على عاتقه آنذاك بحث مجموعة المخطوطات الأرمنية ودراستها، والتي قاربت الأربعة آلاف في دير الأرمن في المدينة. وكان هذا العمل محورياً في مسيرته المهنية. فالقدس كانت المكان الذي ساعده في استحداث أسلوبه الفني الخاص، إذ خلط الأسلوب البيزنطي الأرمني مع فن النهضة الإيطالي.
عاد أونيغ أفيديسيان إلى مصر بعد القدس واستقرّ فيها نهائياً. وفي سنة 1959، نشر دراسةً ضخمة بالفرنسية تعدّ مرجعاً في تاريخ الفن الأرمني بعنوان "رسامون ونحاتون أرمن". ساعدت اللغة الفرنسية الكتَاب على الوصول إلى جمهورٍ دوليّ واسع، ويوجد مشروع لترجمة الدراسة إلى اللغة العربية بحسب نيريديان.
من رماد التهجير ومن رحم معاناة الشعب الأرمني، يظلّ فن أونيغ أفيديسيان شاهداً حياً على الميراث التاريخي والثقافي الأرمني. ويظلّ أيضاً أداةً لحفظ هذا الميراث وضمان استمراريته حتى في مجتمعٍ جديدٍ انتقل إليه الأرمن، اندمجوا فيه وصاروا منه. وفي اندماجهم، صار هذا الفن اسهاماً كبيراً في الثقافة الأرمنية والمصرية، ومصدر فخرٍ وإلهامٍ للأجيال القادمة.
