ألكساندا كوتي.. من التمرّد على المجتمع إلى مقاتل في داعش

التقى كاتب هذه المطولة سجانه السابق ألكساندا كوتي، الذي كان قبل إلقاء القبض عليه جزءاً من آلة تعذيب وسيطرة عصبية على معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.

Share
ألكساندا كوتي.. من التمرّد على المجتمع إلى مقاتل في داعش
أراد ألكساندا كوتي أن يحتفظ بسلطة على معنى موت الآخرين | تصميم خاص بالفراتس

التقيتُ الجهادي البريطاني ألكساندا كوتي أولَ مرة حين كان حارساً في مكان احتجازي بأحد سجون تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف أيضاً باسم تنظيم داعش سنة 2013. وبعد قرابة عقد من الزمن، تحوّلت الأدوار وأصبح كوتي مسجوناً في أمريكا. طلبتُ اللقاءَ، ووددتُ أن ألقاه وجهاً لوجه لكن لم أوفق في ذلك فقابلته عبر الإنترنت سنة 2022.
قبل أن يظهر وجه كوتي على الشاشة، كنت أستعيد صوته كما كان يتردّد في الممرات الضيقة لسجن معمل الأخشاب، وهو أحد سجونِ "الدولة الإسلامية" بسوريا، داخل المنطقة الصناعية في الشيخ نجّار بمحافظة حلب. وعندما ظهر وجهه على شاشتي من زنزانته الأمريكية، بدا أقل خطراً وأكثر هشاشة. لكنه ظلّ عندي الرجل نفسه: سجّان قديم يخرج من ذاكرة لم تغلق بعد.
لم يكن لقاؤنا وليد صدفة، بل جاء نتيجة اتفاق قضائي عقده كوتي مع السلطات الأمريكية بعد اعترافه بالتهم الموجهة إليه، ألزمه أن يواجه بعض الناجين وأهالي ضحاياه. وكنت واحداً منهم. بدأت صلتي بكوتي في حلب صيف سنة 2013، حين اختطفتني مجموعة تابعة لتنظيم داعش بقيادة كوتي رفقة خطيبتي الأمريكية كايلا مولر. ومنذ تلك اللحظة صارت حياتنا تحت سلطة الرجل نفسه، الذي عُرف لاحقاً بأنه أبرز وجوه مجموعة "البيتلز" في التنظيم، وهي التسمية التي أطلقت على مجموعة من الجهاديين البريطانيين، استعارة من اسم فرقة الروك الإنجليزية الشهيرة.
لم يكن كوتي سجّاناً أو جهادياً بريطانياً وحسب، بل كان عنصراً داخل آلة جمعت بين السجن والدعاية، وبين الرصاص والكلمة. في حواري معه حاولتُ فهمَ شخصيته وتحولاتها من طفولته في نوتينغ هيل غرب لندن، إلى رحلته نحو سوريا وانضمامه إلى التنظيم سنة 2013، ثم محاكمته في الولايات المتحدة. إذ يتقاطع مسار حياته مع قصص ضحاياه مثل خطيبتي كايلا التي أعدمها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية مع أسئلة أوسع عن العنف والعدالة والذاكرة. يبدو كوتي نموذجاً مهماً لمنطقِ تفكير الجهاديين في تنظيم الدولة الإسلامية، وما دفعهم إلى تنفيذ جرائم جزّ الرقاب وحرق الضحايا وابتزاز عائلاتهم، إذ أوضحَ لي في حوارنا أنّه كان جزءاً من منظومة بيعة للبغدادي، تأمره بالطاعة في المنشطِ والمكره.


عرفتُ كايلا ابنة ولاية أريزونا الأمريكية في صيف 2010 حين التقينا في مصر، ثم اجتمعنا مجدداً في تركيا لأتقدم لخطبتها. كانت كايلا منخرطة في مساعدة اللاجئين السوريين على الحدود، فيما كنت أتنقّل باستمرار بين سوريا وتركيا لمساندة الإعلاميين والصحافيين وتغطية الأخبار للصحف والوكالات الإعلامية.
في صيف 2013 وردني اتصالٌ من مستشفى في حلب تابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" يطلبون تركيب إنترنت فضائي، إذ كنت صحبة عملي الصحافي أساعد في مثل هذه الأمور. رافقتني كايلا في تلك الرحلة. لم يكن استهداف الأجانب آنذاك خطراً شائعاً، لكن في طريق العودة تغيّر كل شيء. اعترضتنا سيارة نزل منها ملثمون واقتادونا إلى مستشفى العيون في حلب، الذي تبيّن لاحقاً أنه تحول الى مركزٍ أمنيٍ تابع لتنظيم الدولة الإسلامية. هناك اُتهمت بالتجسس والعمل لصالح أجهزة استخبارات أجنبية، وأجبرت تحت التعذيب على الاعتراف بما أرادوه.
استمر اعتقالي الأول شهرين. كان مبنى المستشفى يعج بجهاديين أجانب من جنسيات مختلفة، بينهم بريطانيون وفرنسيون. واحتجز فيه معتقلين من فرنسا وبريطانيا وأمريكا والدنمارك وألمانيا. أطلق سراحي لاحقاً بينما بقيت كايلا محتجزة. في الأسابيع اللاحقة، سألتُ إعلاميين وتواصلت مع قادة من قوات المعارضة المسلحة، وجربت طرقاً عبر جبهة النصرة، وهو فرع تنظيم القاعدة في سوريا الذي انفصل عنه لاحقاً وشكل مع فصائل أخرى هيئة تحرير الشام التي قادت عملية إسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024. كان هدفي الوحيد أن أجد خيطاً يقودني إلى كايلا. في النهاية دلّني أحدهم على أمير منطقة إدلب التابع للدولة الاسلامية، الذي استمع إلى قصتي ثم وعدني بأن ينقلها شخصياً إلى قاضٍ في المحكمة الإسلامية.
بعد أيام وصلتني دعوة رسمية لجلسة استماع قضيتي. لم تعقد الجلسة في قاعة محكمة، بل في مركز احتجاز سري، سميناه فيما بعد معمل الأخشاب. أُحضرت كايلا، وأُحضرْتُ أنا أيضاً. مثلنا أمام قاضٍ ملثم يحيط به أربعة حراسٍ مسلحين وملثمين. كنا قد اتفقنا أن نُقدَّم أمامه على أننا زوجيْن لعل ذلك يمنحنا فرصة أفضل، لكن حين وجدت كايلا نفسها وجهاً لوجه مع سلطة غامضة ومخيفة، تملّكها الخوف وقالت إننا مجرد أصدقاء. كان رد فعلها مفهوماً في تلك اللحظة. لكنّ القاضي أنهى الجلسة سريعاً وأبقانا رهن الاحتجاز فأعيدت هي إلى غرفتها، وأُرسلت أنا إلى زنزانة منفردة في القبو.
في ذلك القبو بدأتُ تجربةً شخصيةً ومخيفةً مع السجّانين الأجانب، بينهم البريطانيون الثلاثة ألكساندا كوتي ومحمد أموازي والشافعي الشيخ والفرنسي مهدي نموش. لم يكن المعتقلون يعرفون أسماءهم الحقيقية، لكن لهجتهم البريطانية الواضحة دفعت المعتقلين إلى استعارة أسماء فرقة الروك الشهيرة "البيتلز" لوصفهم. على رأسهم برز محمد أموازي أو كما كنا نسميه "الجهادي جون"، على اسم الفنان جون لينون، فيما عرف الشافعي الشيخ بلقب "جورج"، على اسم بعازف الغيتار جورج هاريسون، وألكساندا كوتي بلقب "رينغو" وهو ضارب الطبول بالبيتلز. هذه التسميات وجدت طريقها لاحقاً إلى الصحافة البريطانية والأمريكية، لتصبح علامة مميزة للخلية المسؤولة عن بعض الجرائم التي ارتكبها التنظيم.
في معمل الأخشاب لم يكن كوتي حارساً فقط، بل جزءاً من المجموعة المسؤولة مباشرة عن المعتقلين الأجانب وعن إدارة السجن السري بأكمله. كان حضوره يختلف عن الآخرين، إذ ارتبط اسمه بعلاقة وثيقة بأبي محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم التنظيم ونائب أميره أبي بكر البغدادي. رافق كوتي العدنانيَ في لقاءات حساسة، بينها الجلسة التي استُدعيت إليها للتحقيق في علاقتي بكايلا مولر.
ولم تقتصر مهمة "البيتلز" على حراسة المعتقلين. إذ نسبت تقارير للاستخبارات البريطانية، نقلتها شبكة "بي بي سي" سنة 2022 إلى الشافعي ومجموعة البيتلز، مسؤولية إعدام سبعة معتقلين أجانب وما لا يقل عن ثمانية عشر سورياً، في تقرير نشر بعنوان: "الشافعي الشيخ: ابن الأسرة اليسارية الذي أصبح جلاداً في 'الدولة الإسلامية'".
تحت سلطة "البيتلز" حرمنا من الطعام والشراب والدواء لأيام متواصلة، ومُنعنا من استخدام الحمام لفترات طويلة. كانوا يفرضون على البعض الوقوف ساعاتٍ تتجاوز العشرين ساعة متواصلة، يراقبونهم أثناءها عبر كاميرات المراقبة، ويجبرون آخرين على خوض جولات من الملاكمة حتى الإغماء. في أوقات أخرى كانوا يدفعون المعتقلين الأجانب إلى اعتناق الإسلام والصلاة وحفظ سورٍ من القرآن. ثم يقسمونهم أمام بعضهم: "مسلم جيد يستحق التعاطف" و"مسلم سيئ لا يستحقه".
امتدت القسوة إلى تفاصيل محسوبة بدقة لسحق أي ذرة كرامة للمعتقل. مرة سألوا الصحفي جيمس فولي، المعتقل الأمريكي، عما يشتهيه من الطعام، ثم أحضروا دجاجة مشوية وأجبَروا أحد المعتقلين على التهامها كاملة أمامه بينما لم يُسمح للبقية بلقمة.
حرص كوتي ومجموعته على إخفاء أي تفصيل قد يفضح هوياتِهم. كانوا يأتون دوماً ملثمين بالكامل، لا يظهرون وجهاً ولا يداً. يرتدون القفازات كي لا نعرف لون بشرتهم. كلما دخلوا الزنازين أجبرنا على الاستدارة نحو الحائط، فلا نرى إلا ظلالهم وهم يتحدثون من الخلف. لم يكن مسموحاً النظر إليهم مباشرة، وكان هذا الحرص المبالغ فيه جزءاً من منظومة الرعب التي زرعوها، أن يبقى الحارس بلا وجه أو اسم ومجرد سلطة مطلقة تتحرك في الظل. ومع كل تلك الأقنعة، تسللت تفاصيل صغيرة منها لهجته البريطانية وحبه للملاكمة. لاحقاً فقط اتضح أن هذا الملثم كان ألكساندا كوتي، وأن حياته لم تبدأ في زنزانة في مدينة حلب بل في حي بعيد غرب لندن.


ولد ألكساندا كوتي في لندن سنة 1983، ونشأ في حي نوتينغ هيل غرب المدينة. والده من أصل غاني توفي مبكراً قبل أن يتجاوز ألكساندا عامه الثاني. ربّته وشقيقَه الأكبر والدته ذات الأصول اليونانية. وبعد طفولته ومراهقته المضطربتين، شقَّ طريقه ليصبح من أخطر جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية.
بحسب تقرير نشرته صحيفة التلغراف البريطانية سنة 2018 عنوانه "هاو تو لندن سكول بويز بيكيم ذا ورلدز موست ونتد كريمنالز" (كيف أصبح تلميذان من لندن أخطر المجرمين في العالم)، عاش كوتي مراهقةً مضطربة بين بيئة متعددة الأعراق والأديان، لكنه لم يجد لنفسه مكاناً ثابتاً. انجذب إلى أصدقاء الحي وتورط معهم في مشاجرات متكررة وسرقات صغيرة وبيع المخدرات. جرب الحشيش والكوكايين وشرب الكحول، وبدا أنه يسلك الطريق نفسه الذي سلكه عمه المعروف في المنطقة بتجارة المخدرات. وكان، كما قال لي في حواري معه، "دائماً في منتصف الطريق بين عوالم مختلفة". ومع هذه الفوضى اليومية، أنهى كوتي دراسة الثانوية في مدرسة وستمنستر سنة 2000 بدرجة متوسطة، لم تفتح أمامه مستقبلاً واضحاً. لكن تلك المرحلة لم تكن سوى مقدمة لمسار آخر أحدّ، بدأ مع اقترابه شيئاً فشيئاً من الإسلام وابتعاده عن حياة الشارع التي طبعت سنوات مراهقته.
مع بلوغه التاسعة عشرة بدأ التحول الذي غيّر مسار حياته. وبحسب ما نشرته التلغراف، يروي كوتي أن الشرارة الأولى جاءت من مواقف بسيطة في الشارع. كان يشهد في المشاجرات تضامن الشباب المسلمين مع بعضهم، حتى لو لم يعرفوا بعضهم البعض من قبل. جذبته تلك الأخوّة السريعة التي بدَت له مختلفة عن عالمه المتفكك. ما أدهشه، على حد قوله، لم يكن الالتزام الديني وحده، بل "السكينة والتواضع في صلواتهم، وفي طريقة حديثهم عن الحياة والموت". بدأ يقترب منهم أكثر، فيزور المساجد ويستمع إلى الخطب ويشارك في أنشطة اجتماعية. تدريجياً اعتنق الإسلام وتخلى عن الكحول والمخدرات وابتعد عن حياة الشارع. لعِبَ الملاكمة وتدرّب على الفنون القتالية بانتظام، ووجد في الالتزام الديني انضباطاً شخصياً لم يعرفه من قبل.
مع بدايات العقد الثاني من الألفية الجديدة بدأ كوتي يبحث عن طريق للخروج من لندن. أُعجِب بالمقاتلين السلفيين العائدين من أفغانستان، سواءً من ارتبطوا بتنظيم القاعدة أو من قاتلوا في صفوف طالبان، ورأى في تجربتهم نموذجاً يحتذى. في سنة 2010 حاول السفر إلى الكويت بصحبة صديقه محمد أموازي، لكن سلطات المطار أوقفتهما بعد أن عثرتْ بحوزتهما على كتاب "أفغان غوريلا وارفير: إن ذا ووردز أوف ذا مجاهدين فايترز" (حرب العصابات الأفغانية كما يرويها مجاهدون) المنشور سنة 2002. في السنة نفسها اعتُقل كوتي والشافعي الشيخ في مظاهرة أمام السفارة الأمريكية في لندن نظمتها جماعة متطرفة محظورة تحت اسم "المسلمين ضد الصليبيين"، احتجاجاً على تأبين ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 التي دبرها تنظيم القاعدة في الولايات المتحدة. أفرج عن كوتي والشافعي لاحقاً، لكن اسميهما بدءا يظهران في قوائم تتبع الأجهزة الأمنية.
كنتُ شاهداً في محاكمة الشافعي الشيخ التي انعقدت سنة 2022. تظهر ملفات المحاكمة التي وردَ فيها اسم كوتي أنّ الإفراج عنهما لم يثنهما عن محاولات أخرى. ففي فبراير 2012، غادر كوتي بريطانيا متوجهاً إلى فرنسا ومنها إلى تركيا بصحبة ثلاثة من أصدقائه، لكن السلطات التركية منعته من الدخول وأعادته إلى لندن. ظلّ كوتي يكتب لاحقاً في نشرات إعلامية تابعة لتنظيم داعش منها منصة "الحياة"، عن صعوبة مغادرة بريطانيا آنذاك، وكيف اضطر إلى تجنب أي اتصال مع شرطة الحدود والموانئ. نشر تجربته تحت عنوان "رفيق الهجرة"، وهو اللقب الذي أطلقه على أموازي.
بعد محاولات متكررة نجح كوتي أخيراً في الوصول إلى سوريا منتصف 2012. استغرقت الرحلة أسابيع طويلة من التنقل بين المزارع والجبال، واعتُقِل مؤقتاً أكثر من مرة. ورغم معاناة كوتي من أزمة ربو قديمة وإصابة أموازي في ركبته، واصل الاثنان الطريق حتى وصلا. عندها لم ينضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية ابتداء، بل التحق أولاً بجبهة النصرة ثم انتقل إلى صفوف التنظيم لاحقاً بعد انشقاق الجبهة عن داعش. في محاكمة الشافعي قال كوتي إنّ أموازي سبقه إلى الانضمام التنظيم، وكُلّف من القادة بتشكيل خلية تتولى خطف الأجانب.
لم يجد أموازي خيراً من كوتي والشافعي الشيخ ليضمهما إلى فريقه. عمل الثلاثة جنباً إلى جنب في تعقب الأجانب الذين كانوا على الأراضي السورية بين سنتي 2012 و2014 وخطفهم. فكان كوتي والشافعي الشيخ مسؤولين عن التواصل مع عائلات المعتقلين عبر البريد الإلكتروني، إذ كان كوتي يكتب الرسائل بنفسه فيما يساعده الشيخ في صياغتها وإرسالها.


في مقابلة أجرتها معه إذاعة "يوروب 1" عقب إطلاق سراحه في إبريل 2014، وصف الصحفي الفرنسي ديدييه فرانسوا المجموعة، بأنها في غاية القسوة والسادية. شهادة فرانسوا تلاقت مع ما رواه معتقلون أوروبيون آخرون أفرج عنهم، قالوا إن أحد الحراس تفاخر أمامهم بأنه اعتُقل سابقاً في لندن لمشاركته في مظاهرة متطرفة. وهي المعلومة التي ساعدت المحققين على تضييق دائرة الاشتباه وكشف هويات أفراد المجموعة البريطانية.
لم تكن رسائل الخلية إلى عائلات المعتقلين مجرد تهديدات عابرة، بل نصوصاً مكتوبة بعناية تمزج بين خطاب ديني وسياسي، يظهر تصوراتهم أنّ ما يفعلونه جزء من معركة كبرى بين الإسلام والغرب. بين فبراير وأبريل 2014، كان كوتي وراء رسائل إلكترونية وصلت إلى عائلات المعتقلين. الأولى وصلت في فبراير لعائلة الأمريكي بيتر كاسيغ، وفيها طالبهم كوتي بالضغط على حكومتهم لإطلاق سراح المعتقلين المسلمين من السجون الأمريكية. وأضاف اتهامات لكاسيغ بأنه كان يعمل على "نشر العلمانية والديمقراطية بين السكان المسلمين الفقراء في لبنان وسوريا والأردن لقاء مبالغ مالية". بعد أسابيع تلقت عائلة الصحفي جيمس فولي رسالة مشابهة، لكن هذه المرة كان الطلب فدية ضخمة بلغت مئة مليون دولار. تضمنت الرسالة جملة صريحة حملت نبرة ازدراء، تتهم الحكومة الحكومة الأمريكية أنها تتعامل مع مواطنيها المختطفين وكأنهم "حشرات بلا قيمة"، بينما تصر الدولة الإسلامية على تكريم "إخوانها المسلمين القابعين في سجون الطواغيت".
لم تتوقف مهمة كوتي عند كتابة الرسائل لعائلات كاسيغ وفولي. في مايو سنة 2014 وصلت إلى عائلة كايلا، خطيبتي، رسالة أخرى صاغها كوتي، طالب فيها الحكومة الأمريكية بإطلاق سراح الباكستانية عافية صديقي عالمة الأعصاب التي درست في الولايات المتحدة. اعتُقلت عافية سنة 2008 في أفغانستان بعد اتهامها بمحاولة قتل جنود أمريكيين، ثم حُكم عليها بالسجن ستة وثمانين عاماً في محكمة أمريكية. وطالب كوتي بأن تدفع العائلة، إذا لم تقدر على تحرير عافية، فدية قدرها خمسة ملايين دولار.
وتظهر التسجيلات المعروضة في محاكمة الشافعي، أنّ كايلا أُجبرت على تسجيل رسالة صوتية لعائلتها تحاول فيها طمأنتهم، بينما كانت تكرر ما أراد سجانوها منها قوله. وفي رسالة لاحقة شدّد كوتي على أن شروط الإفراج عنها غير قابلة للتفاوض، مضيفاً عبارة باردة ورد استعراضها في محاكمة الشافعي لاحقاً: "لا شيء يسعدنا أكثر من وضع رصاصة في رأسها إن لم تلبوا مطالبنا. لن نسمح لها بالخروج مجاناً أبداً". كشفت هذه الرسائل عن جانب آخر من دور كوتي. لم يكن الرجل حارساً أو جلاداً فقط بل كاتباً يصوغ الخوف بلغةٍ مُحكمةٍ ويحوّل المعتقلين إلى أدوات في معركة دعائية.
في صيف 2014 بث التنظيم تسجيلاته المصورة التي وثّقت إعدام معتقلين أمريكيين وبريطانيين. وقتها تركزت الشكوك حول هوية الملثم الذي ظهر في تلك الإصدارات على ثلاثة أسماء إما أموازي أو الشافعي الشيخ أو ألكساندا كوتي. ظلّت كايلا رهينة لدى التنظيم حتى 6 فبراير 2015، إذ نشرت حينها منصات إعلامية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية خبراً عن مقتلها مرفقاً بمعلومات شخصية عنها. وأكدت أن وفاتها جاءت نتيجة غارة جوية نفذها سلاح الجو الأردني على مبنى كانت محتجزة فيه.
انحسر التنظيم بحلول سنة 2018 بعدما فقد نحو 98 بالمئة من الأراضي التي كان يسيطر عليها بحسب الخارجية الفرنسية. وانتهى الأمر بمجموعة "البيتلز" إلى السقوط. قبضت قوات سوريا الديمقراطية المعروفة أيضاً باسم "قسد" على كوتي والشافعي في يناير 2018 أثناء محاولتهما الفرار إلى تركيا متنكريْن بعباءات نسائية. أما محمد أموازي فلقي حتفه قبل ذلك سنة 2015، عندما استهدفت غارة جوية سيارتَه في مدينة الرقة السورية.
في أكتوبر 2020 سُلِّمَ كوتي والشافعي إلى القوات الأمريكية في العراق، بعدما جُرّدا من جنسيتهما البريطانية. ثم نقلا إلى ولاية فيرجينيا، حيث وجهت إليهما تهم احتجاز معتقلين والتآمر لقتل مواطنين أمريكيين ودعم تنظيم إرهابي أجنبي. اعترف كوتي بالتهم الموجهة له بعد اتفاق أبرمه مع السلطات الأمريكية يقتضي بتخفيف شروط سجنه، وألا يستدعى للشهادة ضد صديقه الشافعي الشيخ. واشتُرِطَ عليه مواجهة أهالي ضحاياه والناجين من السجون التي أشرف عليها. أما محاكمة الشافعي فلم تبدأ إلا بعد أن حصلت بريطانيا على ضمانات من الجانب الأمريكي بعدم إعدامه، مقابل تقديمها معلومات استخباراتية حساسة عنه.
كان ذلك الاتفاق القضائي هو ما أتاح لي، بعد سنوات من خروجي من السجن سنة 2014، أن ألتقي بكوتي. عندما نُقِل إلى سجن آخر تلقيت سنة 2022 اتصالاً عاجلاً من مكتب المدعي العام يخبرني بوجود فرصة سانحة للقاء. كانت تلك فرصة قد لا تتكرر، ولذلك لم أتردد في الموافقة.


في الأيام التي سبقت اللقاء لم أعرف كيف أستعد. لا يوجد دليلٌ يخبرك كيف تواجه سجّانك السابق، ولا كتابٌ يشرح لك كيف تنظر في عينيه دون أن تستعيد كل ما كان. هذه المرة لم يكن الأمر مجرد ذكرى، بل مواجهة رجل ارتبط اسمه بأكثر الفترات قسوة وظلامية في حياتي. حاولت أن أستعيد ملامحه، لا كما صار الآن مجرد رقم في نظام العقوبات الأمريكي، بل كما كان هناك حين بدا له كل شيء يقيناً لا يتزعزع. أردت أن أفهم، لا لأسامح ولا لأدين، بل لأرى إن كان هناك ما يضعف ذلك اليقين.
جلست أكتب أسئلتي. لكنها تكاثرت بسرعة أكبر مما توقعت. وددتُ أن أسأله عن كايلا، وعن الذين ماتوا من المعتقلين. لكنني وددتُ أيضاً سؤاله عن حياتِه قبل انضمامه للتنظيم، وعن لحظة مغادرته لندن نحو سوريا والزنازين التي مرّ بها. فكرت في سؤاله إن كان لا زال يعتقد أنه كان على حق، أم أن الشك بدأ يتسلل داخله. تراكمت الأسئلة كما تتراكم الذكريات حين تفتح بوابة قديمة للنسيان فجأة.
لم يكن في الأمر ما يشبه اللقاء الأول. سنوات مضت منذ كان يدخل الزنزانة ملثماً، صوته يأتي من خلف ظهري وأوامره لا تحتاج إلى تكرار. هذه المرة لم يكن هناك أقنعة ولا قفازات ولا جدران خشنة. ظهرَ على الشاشة بوجهٍ مكشوفٍ وملامح لم أرها من قبل، مع أنني أعرف ظلّه. كان جالساً بزيّ السجن إلى جانبه محاميه، وخلفه ممثل عن الادعاء العام الأمريكي. لم أعد أمام "رينغو" كما سمّيناه في السجن، بل أمام رجل محكوم عليه، لا سلطة له إلا ما تبقى من صوته.
لم يتردّد كوتي في القول إنه يتذكرني عندما بدأ اللقاء. لم يكن بحاجة إلى تعريف مطوّل حين قال: "لقد رأيتك في قصر التوحيد" قاصداً السجن المعروف بين السجناء باسم "معمل الأخشاب". أضاف أنه استغرب يومها وجودي في ذلك المكان، لأنه لم يعتد أن يرى أبا محمد العدناني نفسَه يتدخل في قضايا مثل هذه، حاضراً برفقة الشافعي الشيخ ومحمد أموازي. كانت جلسة التحقيق تلك استثناءً في نظره.
بحسب ما رواه كوتي، فقد وصله رسالةٌ من قادته، كتبتُها ورُفعت إلى المحكمة الإسلامية للتنظيم، عن مستشفى العيون الذي احتجزتُ فيه مع كايلا وبقيت هي محتجزة فيه. إحالة الرسالة إليه جعلته يعتقد أن العدناني أراد إغلاق الملف سريعاً. ثم أوضح أن "التنظيم لم يكن يرغب بوجود معتقلين نساء داخل سجونه"، وأن "هذا كان أحد الأسباب التي دفعت العدناني إلى التعامل مع القضية بجدية خاصة".
كانت مجموعة كوتي تأتمر بأمرِ العدناني، إذ لم يكونوا على اتصال مع أبي بكر البغدادي، أمير الدولة الإسلامية. قال لي كوتي إنه رأى البغدادي في مناسبات قليلة، لكن لم يتلقَّ أوامر منه شخصياً وأضاف: "كان يتنقّل بأسماء متعددة، ويحرص على ألا يكشف وجهه أبداً"، مشيراً إلى أن قادة مختلفين داخل التنظيم كانوا ينادونه بأسماء مختلفة تبعاً لمواقعهم. مصدر التعليمات اليومي كان محمد أموازي، قائد المجموعة والمسؤول المباشر عنه، الذي يأتمر بأوامر أبي محمد العدناني. جميع التقارير الخاصة بالمعتقلين الأجانب كانت ترفع إلى العدناني، الذي كان ينقلها إلى رأس التنظيم. قال لي كوتي: "عملي كان ضمن هذا الإطار [. . .] تنفيذ الأوامر القادمة من أموازي، الذي كان يتبع توجيهات العدناني".
اعترف كوتي أن بداية ملف المعتقلين الأجانب شابها كثير من الفوضى. من بين القرارات الأولى كان الحظر الصريح على احتجاز النساء، لكن مع وجود كايلا تعقّد الأمر. لم يكن البغدادي راضياً عن احتجازها، وكان يفضّل إطلاق سراحها لتجنب الانتقادات من الجماعات الجهادية الأخرى. إلا أن الملف لم يُغلق. قال كوتي: "كان يمكن أن يطلق سراحها بسهولة لو قالت إنها متزوجة، لكنها كانت خائفة. في النهاية، أصبح وجودها واقعاً لا يمكن التراجع عنه بلا مقابل".
في نظر كوتي لم تكن السجون مجرد أماكن احتجاز، بل جزءاً من مشروع أكبر. فقد أراد البغدادي أن ينشئ ما يشبه "غوانتانامو إسلامي" داخل سوريا، رمزاً للقوة وأداة ضغط على الحكومات الغربية ووسيلة دعائية في الوقت نفسه. أما تفاصيل الإدارة اليومية فتركها لرجاله العدناني وأموازي اللذين شكّلا السلسلة التي عمل كوتي ضمنها.
بدا واضحاً من حديث كوتي أنه رأى في مقاطع الإعدام المصورة التي نشرها التنظيم امتداداً لعمل السجون نفسها. لم تكن هذه المقاطع المصورة مجرد توثيق، بل جزءاً من إستراتيجية كاملة تقوم على تحويل القتل إلى صورة والصورة إلى سلاح. أوضح كوتي أن أموازي كان يقود تلك العمليات، لكنه أشار أيضاً إلى دوره هو والآخرين في الإشراف على المعتقلين وإعدادهم للظهور أمام آلة التصوير. قال: "لم يكن الهدف قتل شخص واحد فقط، بل إرسال رسالة تُشاهد في كل مكان. كل فيديو كان مصمماً ليعيش أطول من الضحية نفسها".
ما رواه كوتي يتقاطع مع ما وثّقه تشارلي وينتر، الباحث في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، في ورقته البحثية المعنونة "ذا فيرتشوال خليفة" (الخليفة الافتراضي) المنشورة سنة 2015. اعتبر وينتر أن داعش تتعامل مع الصورة امتداداً للمعركة العسكرية، وأن التسجيلات لم تُنتَج لتكون توثيقاً داخلياً، بل أداة دعائية تستهدف جمهوراً عالمياً. فحرب الدولة الإسلامية لا يمكن "أن تُربَح بالوسائل العسكرية والسياسية فقط، بل هي حرب معلومات ودعاية"، كما يقول وينتر. وقد وصفَ هارورو إنغرام الباحث في جامعة جورج واشنطن، في دراسته "ذا ستراتيجك لوجك أوف إسلاميك ستيت إنفورميشن أوبريشنز" (المنطق الاستراتيجي لعمليات الدولة الإسلامية المعلوماتية)، المنشورة سنة 2015، هذه المقاطع بأنها شكل من "العنف الأدائي" يتحول القتل فيها من فعلٍ موجّه إلى الضحية إلى خطابٍ موجهٍ لجمهورٍ واسع، يعيش في مخيلته أطول مما عاشه المعتقل نفسه.
لم يقدّم كوتي العنف فعلاً استثنائياً يقتحم الحياة فجأة، بل شيئاً يتراكم حتى يصبح عادة. قال لي وهو يصف كيف غابت الصدمة تدريجياً: "أنت لا تستيقظ في يوم وتصبح قادراً على فعل كل شيء". في لندن عاش شجارات الشارع والمخدرات والجريمة، ثم جاءت سوريا لتمنحه شكلاً منظماً للعنف الذي كان يعرفه مسبقاً. لم يرَ كوتي نفسه ضحية مسار العنف، بل كان جزءاً منه منسجماً معه يؤدي دوراً داخله. وربما فقط من داخل زنزانته اليوم يستطيع أن يرى كيف انتهى به الطريق، أما وقتها في قلب التجربة، فلم يكن يرى سوى الخطوة التالية.
رأى كوتي نفسه جزءاً واعياً من منظومة كاملة، لا ضحية لمسار قادَه قسراً. قال لي بلهجة ثابتة: "لا أحد يدخل في هذا الطريق وهو يتوقع أين سينتهي به. في البداية، يبدو كل شيء وكأنه سلسلة من الاختيارات المنطقية. كل خطوة تقودك إلى الأخرى دون أن تدرك قدر المسافة التي قطعتها. عندما بدأت لم أفكر في نفسي كوني جزءاً من آلة عنف متكاملة. كنت أرى الأمر صراعاً، وأفعالي طريقة للدفاع عن قضية رأيتها عادلة". الانتماء إلى التنظيم لم يكن عند كوتي تخلياً عن الارادة الفردية، إنّما انتقالٌ إلى جماعة تمنح معنى أكبر وتُعرّف السلوك بالعقيدة. لكن حديثه هذا لم يشفِ رغبتي في معرفة ما حدث إلى كايلا.
لم يقل كوتي إنّه قرر مصير كايلا، بل أرجع الأمر إلى "رؤية البغدادي" و"تعليمات العدناني". قال إنّه لم يكن هناك وقت للتفكير الفردي، فالقرارات كانت تأتي من الأعلى، "وأنا كنت أنفذها". حتى في أكثر القضايا حساسية مثل احتجاز امرأة غربية وما رافقه من جدل داخل التنظيم، ظل الخطاب عنده واحداً: هناك قرارات كبرى وهو مجرد ترس في آلة أكبر. حين تحدّث عن كايلا، لم يردّد الرواية الرسمية التي نشرها التنظيم سنة 2015، والتي زعمت أنها قُتلت في غارة جوية أردنية. قال بوضوح: "لم تُنفَّذ أي غارة في ذلك اليوم، كانت مجرد قصة صالحة للتصديق". في روايته، جاء القرار بقتلها انتقاماً لإعدام الحكومة الأردنية لساجدة الريشاوي، العراقية التي جندها زوجها لتفجير حزام ناسف في العاصمة الأردنية عمان. ومع إدراك المسؤولين في الدولة الإسلامية أن المفاوضات بشأن الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي أعدمه التنظيم حرقاً في ديسمبر 2014 لن تصل إلى نتيجة، تقرر التخلص منها وإلصاق التهمة بطيران التحالف. أضاف كوتي: "سألتُ محمد أموازي عنها وكان جوابه مقتضباً، اهتممنا بأمرها، ولا داعي للقلق".
هذه الطريقة في توصيف الذات ليست استثناءً. تناولت دراسات عدة مسارات المقاتلين الأجانب إلى التنظيمات الجهادية، وأشارت إلى أن كثيرين منهم لم يروا أنفسهم أسرى دعاية أو ضحايا ظروف، بل عناصر فاعلة داخل "مشروع أكبر". في بحث نشره المركز الدولي لدراسات التطرف سنة 2016 بعنوان "فيكتمز، بيربتراتورز، أسيتس، ذا ناراتيف أوف إسلاميك ستيت ديفيكتورز" (ضحايا، جناة وأدوات: روايات المنشقّين عن تنظيم الدولة الإسلامية)، خلص الصحفي الألماني بيتر نيومان، إلى أن الانتماء إلى داعش لم يكن هروباً من هوية سابقة، بل هُويةً مكتسبة عبر الانخراط في جماعة تقدّم نفسها على أنّها دولة، وتفرض على الفرد أن يرى أفعاله امتداداً لقوانينها. يقول نيومان: "اقتنع العديد من المنشقين بأن تنظيم الدولة الإسلامية يمثل دولة إسلامية مثالية، وأن من واجب كل مسلم دعمها والمساعدة في إنجاحها. في رأيهم، أتيحت لهم الفرصة للعيش وفقاً للشريعة والقتال من أجل قضية مقدسة".
بين حواري مع كوتي ونتائج هذه الدراسات تبرز المفارقة: كوتي لا ينفي مسؤوليته، لكنه يذيبها داخل سياق أوسع. لا يقول "ارتكبت"، بل "كنا نفعل". يرى نفسه جزءاً من آلة منسجماً مع منطقها الداخلي، لا فرداً متورطاً في فعل جرمي مستقل. فما رآه كوتي في مدينة الرقة في سوريا، التي كانت الملجأ الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية، لم يكن خروجاً عن المألوف، بل امتداداً لفوضى عامة غمرت سوريا كلها. وهو ما أخبرني به بنفسه. لم يقدم كوتي نفسه كمن جاء ليبتكر العنف، لكنه وُجد في بيئة تعجّ به من كل الأطراف. رأى أن الدولة الإسلامية لم تكن الأولى في قطع الرؤوس أو تنفيذ الإعدامات الميدانية أو تفخيخ الطرقات، قال لي: "لا تستطيع أن تلوم الدولة الإسلامية على كل الفوضى في سوريا". قالها وهو يعيد تعريف ما فعله انعكاساً لا استثناءً.
أثناء الحوار مدّ كوتي منطقه إلى خارج سوريا، فالغرب في نظره كان يمارس ازدواجية معايير فاضحة. يهاجم التنظيم على ما يسميه "أفعالاً بربرية"، بينما يغض الطرف عن ممارسات حلفائه، و"في مقدمتهم المملكة العربية السعودية". استشهد بأمثلة مثل عقوبة بتر اليد أو تجريم المثلية في المملكة ليقول إن ما يُمارَس هناك هو ذاته ما أخذه الغرب على تنظيم الدولة الإسلامية. وبنبرة لا تخلو من التحدي، صاغ المسألة معركةً بالمثل، إذ قال: "لقد اتبعنا معهم سياسة العين بالعين والسن بالسن. أردناهم أن يشربوا من نفس الكأس".
حين وصل الحديث إلى موقفه الشخصي، كان كوتي حذراً في صياغته. لم ينكر أنه لم يكن موافقاً على كل ممارسات الدولة الإسلامية العنيفة، لكنه أعاد الأمر إلى منطق البيعة والولاء للجماعة. قال إن مبايعة البغدادي جعلته ملزماً بالطاعة في المنشط والمكره، تماماً كما ينتمي فرد لحزب سياسي دون أن يتفق مع كل تفصيلة من سياساته. الطاعة عنده كانت فوق الرأي الفردي.
أما الضحايا، فاختزل مصيرهم في ما يشبه المصطلحات العسكرية الحديثة التي لا تعتبر إنسانية الضحايا، قال: "هؤلاء الرهائن الذين قُتِلوا هم أضرار جانبية". هكذا برر عمليات الإعدام، مقارناً إياها بخطاب الجيوش الغربية حين تعلن عن مقتل مدنيين في غارة جوية، ثم تمضي كأن شيئاً لم يكن. وفي نفس الوقت لا ينكر كوتي أنّ منطق "العين بالعين" يضعه في موقفٍ صعب لكنه أصر أن الأمر لا يمكن فصله عن السياق. قال: "عندما ترى القصف الجوي يقتل العشرات في لحظة، وعندما تُعرض أمامك صور أطفال ممزقي الأجساد بفعل الصواريخ، فإنك لا تعود تفكر في العنف مجرد خيار، بل بوصفه حتمياً".
هكذا صاغ كوتي رؤيته. لقد كان في حرب مشوشة لا خطوط واضحة فيها بين الخير والشر، الجميع فيها متورط. الدولة الإسلامية، على حد وصفه، كانت طرفاً آخر اعتبر أن العنف ضروري لحماية مشروعه، خصوصاً في مواجهة قوى عسكرية كبرى لم تتردد في استخدام أقسى الوسائل. الغرب كان محركاً رئيساً للمشهد كله: من الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، إلى دعم أنظمة عربية مستبدة، وصولاً إلى التغاضي عن الجرائم بحق المسلمين حول العالم. لكن حين واجه سؤالاً أكثر تحديداً عن استخدام الوسائل ذاتها التي نسبها لمن كان يصفهم بالطغاة، انزاح خطابه خطوة أخرى. اعتبر أن السؤال نفسه يفترض توفّر خيارات لم تكن ممكنة. قال لي: "الحرب لا تمنحك رفاهية اختيار الأدوات المثالية". وأضاف أن ما بدا من الخارج تقليداً لخصومه، كان عنده مختلفاً في الدافع والغاية. لم يرَ أن الهدف مجرد الهيمنة أو المكاسب السياسية، بل العدالة كما صاغها هو وأمثاله آنذاك.
اعترف كوتي أن التفكير بهذه الطريقة فتح الباب لدوامة من القسوة المتزايدة. ربما في البداية بدت وسيلةً دفاعية أو رد فعل مبرَّر، لكن شيئاً فشيئاً صارت جزءاً من العمل اليومي وتجاوزت بسهولة خطوطاً كان يظنها ثابتة. أضاف: "لم يكن كل شيء مبرراً، ولم يكن كل فعل نابعاً من قناعة حقيقية". ثم عاد إلى ما يعده جوهر المسألة، فالخيارات في رأيه لم تكن مفتوحة كما يراها الآخرون من بعيد. في النهاية، لم يكن الرد بالمثل خياراً من بين بدائل، بل الخيار الوحيد الذي بدا واقعياً. كانت معركة الدولة الإسلامية عنده معركة وجودية لا تسمح بترف التفاوض أو الانتظار. قال لي: "كنا نرى أنفسنا في معركة بقاء. وعندما تكون في معركة كهذه، لا تفكر كثيراً في البدائل، بل تفكر في أن تبقى".


كان اللقاء يقترب من نهايته حين توقف كوتي فجأة، كما لو أنه تذكّر شيئاً ظلّ عالقاً في داخله. رفع رأسه وقال بنبرة باردة أكثر منها اعترافاً: "عندي ما أقوله لك قبل أن نغلق". لم يكن تعليقاً عابراً. ذكر ثلاثة شبان أرمن قتلهم التنظيم في مدينة حلب، كنت التقيتهم في معمل الأخشاب ثم في السجون اللاحقة. قال إنه يعرف مكان دفنهم، وإنهم ماتوا "مسلمين"، عندما سمعهم يرددون الشهادة في اللحظة التي أطلق فيها النار عليهم بنفسه. وحمل إليّ تعليمات دقيقة بأن أنقل لعائلاتهم مكان القبور.
حتى من داخل سجنه، أراد ألكساندا كوتي أن يحتفظ بسلطة على معنى موت الآخرين. قدّم ما قاله رسالة مُوجّهة مشروطة تمرّ عبر لساني إلى عائلات الضحايا. كأنه لا يزال يكتب نهايات الآخرين بعد أن سلب حياتهم، يقرر لهم كيف يُتذكَّرون وتحت أي هوية يدفنون.
لم يكن الكشف عن القبور محاولةً لطيّ صفحة، بقدر ما كان استمراراً للمنطق نفسه الذي حكم سنوات سجنه إياهم، أي أن يظل هو من يملك الكلمة الأخيرة. ذلك التصرّف، أكثر من أي شيء آخر، يلخص شخصيته كما ظهرت لي. كوتي رجلٌ يذيب مسؤوليته داخل جماعة أكبر حين يتحدث عن الماضي، لكنه في التفاصيل الصغيرة يظل متمسكاً بالسيطرة الفردية. يعترف بما فعل، لكنه يعترف بشروطه. يفتح نافذة على الحقيقة، لكنه يقرر إطارها وحدودها.
خرجت من اللقاء حاملاً هذه المفارقة أكثر من أي معلومة أخرى. لم يكن ثِقلها في تفاصيل القبور أو الأسماء، بل في إدراك أن كوتي، حتى وهو مجرّد من حريته، ظلّ يرى نفسه صاحب سلطة على مصائر غيره وعلى السردية التي ستبقى بعده.

اشترك في نشرتنا البريدية